تاريخ الطبري : فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان والى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإلى سعيد بن العاص بن وائل السهمي والى عبد الله بن عامر ( ولم يزل والياً لعثمان على البصرة وكان ابن عّمته ـ الاستيعاب ) ، فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طُلب إليه وما بلغه عنهم ، فلمّا اجتمعوا عنده قال لهم : إنّ لكلّ امريء وزراء ونصحاء ، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّا لي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون ، فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليّ ! فقال له عبد الله بن عامر : رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلّوا لك ، فلا تكون همّة أحدهم إلاّ نفسه وما هو في من دبرة دابته وقمل فروه .
ثمّ أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال : ما رأيك ؟ قال يا أمير المؤمنين إن كنت تريد رأينا فاحسم عنك الداء وأقطع عنك الذي تخاف واعمل برأيي تُصيب ، قال : وما هو ؟ قال : إنّ لكلّ قوم قادة متى يهلك يتفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر ، فقال عثمان : إنّ هذا الرأي لولا ما فيه .
ثمّ أقبل على معاوية فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قِبلهم ، وأنا ضامن لك قِبلي . ثمّ أقبل على عبد الله بن سعد فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم .
ثمّ أقبل على عمرو بن العاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : أرى أنّك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل ، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل ، فأن أبيت فاعتزم عزماً وامض قُدما . فقال عثمان : ما لك قَمُل فروك ، أهذا الجد منك ؟! فأسكت عنه دهراً حتى إذا تفرّق القوم ، قال عمرو : لا والله يا أمير المؤمنين ، لأنت أعز عليّ من ذلك ، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منّا ، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شراً . (1)
ويروي : قريباً من هذه الأقوال ، وفيه فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قِبلهم وأمرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه ، ورد سعيد بن العاص أميراً على الكوفة ، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقّوه فردّوه ، وقالوا : لا والله لا يلي علينا حكماً ما حملنا سيوفنا . (2) (التجمير = الجمع)
أقول : وفي هذه الكلمات اعتبارات لمن اعتبر .
1 ـ ينبغي أن يُلفت النظر إلى ولاته وعماله ، بل ووزرائه ونصحائه ، وأن يُحقّق في سوابقهم ولواحق حالاتهم وأعمالهم .
2 ـ إرجاع البصر والنظر إلى هذه الكلمات المتخالفة والأقوال السخيفة والآراء الباطلة المخالفة للحق والبعيدة عن الحقيقة في حق الرعية المسلمين من الصحابة والتابعين .
3 ـ اتباع الخليفة من آرائهم الباطلة وأمرهم بالتضييق والتجمير في البعوث وتحريم أعطياتهم حتى يطيعوه ويحتاجوا إليه ، فهل ينبغي ممن يدّعي خلافة الرسول (ص) أن يعمل هكذا .
4 ـ العجب من هؤلاء النصحاء ووزرائه المسلمين ، حيث لم يتكلموا بكلمة تُرضي الله ورسوله ، ولم ينصحوا بما هو خير وصلاح له وللمسلمين ، ولم يتوجهوا إلى واجب وظيفتهم في مقام النصيحة ! ونتعجّب كثيراً من عثمان حيث شاور هؤلاء الخائنين الفسّاق ، وترك مشاورة أفاضل الصحابة وأتقيائهم الصالحين المؤتمنين .
الاستصحاب : عبد الله بن سعد بن أبي السرح أسلم قبل الفتح ثم ارتد مشركاً وصار إلى قريش بمكة ، فقال لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله (ص) بقتله ولو وُجد تحت أستار الكعبة ، ففرّ عبد الله إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة ، فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله (ص) بعد ما اطمأنّ أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله (ص) طويلاً ثم قال : نعم . فلما انصرف عثمان قال رسول الله (ص) لمن حوله : ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه . ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر وعزل عنها عمرو بن العاص . وكان ذلك بدء الشر بين عثمان وعمرو بن العاص ... انتهى ملخصاً . (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 94 .
2 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 95 .
3 ـ الاستيعاب ، ج 3 ، ص 918 .
مشاورة عثمان مع عماله
- الزيارات: 3102