طباعة

فتنة : قتل عثمان

الفائق : عليّ (رضي الله تعالى عنه) : أن قوماً أتوه فاستأمروه في قتل عثمان ، فنهاهم وقال : إن تفعلوا فبيضاً فلَتفرخنّه . (1)
قال الزمخشري : أراد أن تقتلوه تُهيّجوا فتنة يتولد منها شر كثير . كما قال بعضهم :
أرى فتنة هاجت وباضت وفرّخت = ولو تُركتْ طـارت إليك فراخهــا
ويروي أيضاً : ومنه حديث عليّ (رضي الله تعالى عنه) : لوددت أن بني أمية رضوا ونفّلناهم خمسين رجلاً من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان ولا نعلم له قاتلاً . (2)
قال الزمخشري : نفّلته : أي حلفته . يريد نفّلنا لهم .
تاريخ الطبري : كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيّء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو جالس في نديّ قومه ، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة ، فلما مر عثمان سلّم ، فرد القوم ، فقال جبلة : لِمَ تردون على رجل فعل كذا وكذا ، قال : ثم أقبل على عثمان فقال : والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه ! قال عثمان : أيّ بطانة ! فوالله إني لأتخير الناس ، فقال : مروان تخيّرته ومعاوية تخيّرته وعبد الله بن عامر تخيرته وعبد الله بن سعد تخيرته ؟! منهم من نزل القرآن بذمّه وأباح رسول الله (ص) دمه ، قال : فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم . (3)
ويروي : لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي (ص) إلى من بالآفاق منهم ، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور : إنكم خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ تطلبون دين محمد (ص) فإن دين محمد قد أُفسد من خلفكم وتُرك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمد (ص) ! فأقبلوا من كل أفق حتى قتلوه . (4)
أقول : الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ، وهؤلاء أصحاب رسول الله (ص) المقيمون بالمدينة يكتبون إلى من بالآفاق : (فهلموا فأقيموا دين محمد (ص) فإنه قد أفسد وترك) وكفى في هذه القضية نفوذ مروان بن الحكم وسلطانه على عثمان ، وقد قال رسول الله (ص) فيه : إنه الملعون ابن الملعون ، وقال أيضاً : ويل لأمتي من هذا وولد هذا .
ويروي أيضاً : إنما رد أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلّب بعضهم ، فلما أتوا عثمان قالوا : هذا غلامك ؟ قال : غلامي انطلق بغير علمي . قالوا : جملك ؟ قال : أخذه من الدار بغير أمري . قالوا : خاتمك ؟ قال : نقش عليه ... فلما رأى عثمان ما قد نزل وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مُقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول . فلما جاء معاوية الكتاب : تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله (ص) وقد علم اجتماعهم . فلما أبطأ أمره على عثمان : كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز ـ والي أهل الشام ـ يستنفرهم ويعظم حقه عليهم ، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عَزَّ وجَلَّ به من طاعتهم ومناصحتهم ووعدهم أن يُنجدهم جندٌ أو بطانة دون الناس ، وذكّرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم مُعاجليَّ .
أقول : في هذه العبارات المنقولة موارد للنظر :
1 ـ من أعجب الأمور نهي علي (ع) ومنعه عن قتل عثمان ، بل وبعثه الحسنين لنصرته وحفظه ، ورده لوفد المصريين ، ومع هذا فقد أظهر وأشاع معاوية في الخارج أن علياً هو قاتل عثمان ! وبهذا العنوان تخلّف عن بيعته وادّعى أنه طالب لدم عثمان ، وقد رأيت الطبري يروي أن معاوية تربص به وكره إظهار مخالفة الأصحاب ! وأبطأ في بعث مقاتلي أهل الشام لنصرة عثمان ، حتى كتب عثمان إلى يزيد بن أسد والي الشام يستنصره .
2 ـ ومن عجائب أمر عثمان أنّ غلامه على جمله بصحيفة مختومة بخاتمه ! ويبعث إلى مصر أن يُقتل بعض ، ويُصلّب بعض آخر من المخالفين ! وهو يدّعي أن غلامه سار وانطلق بغير علمه ، وأخذ جمله من داره بغير أمره ، ونُقش خاتمه بغير اطلاعه . ومع هذا يكتب إلى معاوية أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة .
3 ـ فهل حكومة عثمان كانت أصلاً من أصول الديانة الإسلامية حتى يكون المتخلف كافراً ! ومستوجباً للقتل والصلب !؟ وهل كان عثمان منصوباً من جانب الله ورسوله ، حتى يجب اتباعه وطاعته !؟ وهل كانت أعماله وأوامره بإلهام الله وبنظر الحق ! فكيف يتخير من نزل القرآن بذمة وأباح رسول الله (ص) دمه !؟
ويروي الطبري : أن المصريين بعد أن لم يُغيِّر عثمان شيئاً مما كرهوا ، ولم يعزل عاملاً ولم يعمل بما أعطاهم عهد الله وميثاقه عليه ؛ قالوا : فإنا لا نُعجّل عليك وإن كنا قد اتّهمناك . أعزل عنا عُمالك الفسّاق واستعمل علينا من لا يُتهم على دمائنا وأموالنا وأردد علينا مظالمنا ! قال عثمان : ما أراني إذاً في شيء إن كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم ، الأمر إذاً أمركم . (5)
أقول : فليقض في هذا الجواب الاستبدادي والكلام الموهون كل قارئ كريم ، ويا ليت ! أن لو كان هذا الاستبداد والنظر الموهون منبعثاً من إرادة الخليفة نفسه ، لا من تدبير مروان وغيره .
كما يروي الطبري : فقال مروان : يا أمير المؤمنين ، مقاربتُهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ! فأعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك فإن هم بغوا عليك فلا عهد لهم . (6)
ولنعم ما قال بعض المصريين لعثمان كما في الطبري قالوا : فالكتاب كتاب كاتبك ؟ قال : أجل ولكنه كتبه بغير أمري . قالوا : فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلام ؟ قال : أجل ولكنه خرج بغير أذني . قالوا : فالجمل جملك ؟ قال : أجل ولكنه أخذ بغير علمي . قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تُخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يُقتطع مثل الأمر دونه لضعفه وغفلته . وقالوا له : إنك ضربت رجالاً من أصحاب النبي (ص) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحق عند ما يستنكرون من أعمالك ، فأقد من نفسك من ضربته وأنت ظالم له . فقال : الإمام يخطئ ويُصيب فلا أقيد من نفسي ؛ لأني لو أقدت كل من أصبتُه بخطإ آتي على نفسي ، قالوا : إنك قد أحدثت أحداثاً عظاماً فاستحققت بها الخلع فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عُدت إليها وإلى مثلها ، ثم قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق ، ولامنا فيك محمد بن مسلمة وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته فتبرأ منك وقال : لا أدخل في أمره ، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك نستظهر بالله عَزَّ وجَلَّ عليك ، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب ، وزعمت أنه كُتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك ، فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم والأَثَرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس والإظهار للتوبة ... فقال عثمان :... أما قولك تخلع نفسك : فلا أنزع قميصاً قمَّصنيه الله عَزَّ وجَلَّ وأكرمني به وخصّني به على غيري ، ولكني أتوب وأنزع ولا أعود بشيء عابه المسلمون فأني والله الفقير إلى الله ... قالوا : إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تُقم عليه لكان علينا أن نقبل منك وأن ننصرف عنك . (7)
أقول : وفي هذه المكالمة دقائق تاريخية للمعتبر .
1 ـ (الإمام يخطئ ويصيب) : عقيدتنا أن الإمام إذا كان منصوباً من الله ورسوله فهو خليفة الله وخليفة رسوله ولا يخطئ ، فإن قول الإمام وفعله حجتان للناس ، وللناس أن يُطيعوا الإمام ويتبعوه ، وإذا جاز له الخطأ والعمل بخلاف ما جاء به الرسول فكيف يكون حجة بين الله وبين الناس !؟
2 ـ (فلا أقيد من نفسي) : فإذا كان عثمان مُخطأ فهو كأحد من الناس ، مضافاً إلى أن أحكام الديات والقصاص كسائر الأحكام الدينية غير مخصوصة بجماعة دون آخرين ، حتى إن رسول الله (ص) قال في آخر أيامه : من كان له عليّ حق أو قصاص فليأخذه .
3 ـ (فلا أنزع قميصاً قمَّصنيه الله) : هذه دعوى يدّعيها كل من له مقام أو عنوان دنيوي ، فهل يصح هذا القول ممن يُنتخب من جانب الرعية لمقام من أنواع الرئاسات والحكومات ؟ أو يُنتخب من جانب هيئة الوكلاء أو الوزراء ؟ فهل كان حيازة عثمان لهذا المقام من طريق آخر سماوّي ؟!
4 ـ (ولكنِّي أتوب وأنزع ولا أعود) : هذا ينافي ما ادعاه من أن مقامه قميص قمّصه الله ، فكيف يجوز التوبة من آثار ذلك القميص والأعمال اللاحقة به والمنتزعة منه !؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الفائق ، ج 2 ، ص 269 .
2 ـ نفس المصدر ، ج 3 ، ص 116 .
3 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 114 .
4 ـ نفس المصدر السابق ، ص 115 .
5 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 117 .
6 ـ تاريخ الطبري ، ج 5 ، ص 116 .
7 ـ نفس المصدر السابق ، ص 120 .