طباعة

نقد الصحابة بعضهم لبعض

لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار مِن إخوانهم في الصحبة كما أسلفنا ، ولكنَّه تجاوز ذلك إلى أنْ ينقد بعضهم بعضاً .
ولقد كان عمر ، وعلي ، وعثمان ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم مِن الصحابة ، يتصفَّحون على إخوانهم في الصحبة ، ويشكُّون في بعض ما يروونه عن الرسول ، ويردُّونه على أصحابه .
عن محمود بن الربيع ـ وكان ممَّن عقل عن رسول الله وهو صغير ـ أنَّه سمع عثمان بن مالك الأنصاري ، وكان ممَّن شهد بدراً ، أنَّ رسول الله قال :
( إنَّ الله حرَّم النار على مَن قال : لا إله إلا الله يبغي بها وجه الله ) ، وكان الرسول في دار عتبان ، فحدَّثها قوماً فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله ، فأنكرها على ( أبو أيوب ) وقال : والله ما أظنُّ رسول الله قد قال ما قلت ! وقد استدلَّت المرجئة (1) بهذا الحديث ونحتوه على مذهبهم .
وردَّت عائشة حديث عمر ، وابن عمر :
( إنَّ الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه ) فقالت :
إنَّكم لتحدِّثون عن غير كاذبين ولكنْ السمع يُخطئ . والله ، ما حدَّث رسول الله : أنَّ الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ! وقالت :
حسبُكم القرآن (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... ) .
وفي رواية أنَّها لمَّا سمعت أنَّ ابن عمر يحدِّث بهذا الحديث قالت :
وهل ! إنَّما قال : ( إنَّه ليعذب بخطيئته ، وذنبه ، وإنَّ أهله ليبكون عليه ) .
وفي رواية ثالثة : إنَّه لم يَكذِب ولكنَّه نسي أو أخطأ . وقالت مثل قوله ( ابن عمر ) :
إنَّ رسول الله قال ـ على القليب وفيه قتلى بدر مِن المشركين فقال ـ :
( إنَّهم ليسمعون ما أقول ) . وقالت : إنَّما قال :
إنَّهم الآن يعلمون أنَّ ما كنت أقوله لهم حقٌّ ثمَّ قرأت :
( إنَّك لا تُسمع الموتى . وما أنت بمُسمع مَن في القبور ) حين تبوأوا مقاعدهم مِن النار . والحديثان في البخاري ومسلم وغيرهما .
وردَّت عائشة كذلك حديث رؤية النبي لربِّه ليلة الإسراء ، الذي رواه الشيخان عن عامر بن مسروق الذي قال لعائشة : يا أمتاه : هل رأى محمد ربَّه ؟ فقالت : لقد قفَّ شعري ممَّا قلت ! أين أنت مِن ثلاث ؟ مَن حدَّثكم فقد كَذَب (2) :
مَن حدَّثك أنَّ محمداً رأى ربَّه فقد كَذَب ، ثمَّ قرأت :
(لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ... ) .
ومَن حدَّثك أنَّه يعلم ما في غد فقد كَذَب ، ثمَّ قرأت :
( ... وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ... ) .
ومَن حدَّثك أنَّه كتم شيئاً فقد كَذَب ، ثمَّ قرأت :
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... ) .
وفي مسلم : وكنت متَّكئاً فجلست فقلت :
ألم يقل الله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) . فقالت :
أنا أول مَن سأل رسول الله عن هذا ، فقلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربَّك ؟ فقال :
( لا ، أنا رأيت جبريل منهبطاً ) .
وفي حديث أبي ذر عن مسلم أنَّه سأل النبي عن ذلك .
فقال : ( نور أنَّى أراه ) .
ولأحمد : ( رأيت نوراً ) .
وردَّت خبر ابن عمر وأبي هريرة :
إنَّ الشؤم في ثلاث ، فقال : إنَّما كان رسول الله يُحدِّث عن أحوال الجاهلية ، وذلك لمُعارضته الأصل القطعي مِن : ( ... إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ... ) .
ولمَّا بلغها قول أبي الدرداء : مَن أدرك الصبح فلا وتر له . قالت : لا ، كذب أبو الدرداء ، كان النبي يُصبح فيوتر .
ولمَّا سمعت أنَّ ابن عمر قال :
اعتمر رسول الله عمرة في رجب ، قضت عليه بالسهو ، وقالت : عن أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري : ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله ؛ وإنَّما كانا غلامين صغيرين !
وكانت عائشة تردُّ كلَّ ما روي مُخالفاً للقرآن ، وتحمل رواية الصادق مِن الصحابة على خطأ السمع ، أو سوء الفهم : وكَذَّب عمران بن حصين سمرة في حديث : أنَّ للنبي سكتتين في الصلاة عند قراءته .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، وقد أتينا في تاريخ أبي هريرة بطائفة مِن الأحاديث التي انتقدوه فيها ، وردُّوها عليه ، فراجعها هناك (3) (*) .
___________
(1) المرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول . لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة .
(2) في مسلم : فقد أعظم على الله الفرية . وأحاديث الرؤية بلغت كما ذكر ابن القيم في ( حادي الأرواح ) ثلاثين حديثاً ، والمرفوع منها أكثر مِن عشرين حديثاً ، دَعْ الموقوف والآثار .
(3) راجع كتاب شيخ المضيرة ، الطبعة الثالثة لدار المعارف بمصر .
(*) أضواء على السنَّة المحمدية ص 68ـ 75 ، الطبعة الثالثة ط دار المعارف بمصر .