طباعة

الصحابة في حدود الكتاب والسنَّة

وهل تجاوزت الشيعة في نقد أعمال بعض الصحابة حدود الكتاب والسنَّة ؟ إذ وجدوا في أعمالهم مخالفة ظاهرة ، لا يُمكن لها التأويل والتسامح ؛ لأنَّ عموم الصحبة لا يمنحهم سلطة التصرف بالأحكام ، ولا تسوِّغ لهم مخالفة تلك الحدود ، وإنَّ الاجتهاد في مقابلة النصِّ هو في الحقيقة طرح للأحكام ، ونبذ للقرآن وراء الظهور ، وإنَّ كثيراً منهم حديثو عهد في الإسلام ، قد ألَّفت نفوسهم أشياء وطُبعت عليها ، ومِن الصعب أنْ تتحلَّل منها بسرعة .
وليس مِن الإنصاف أنْ يكون هؤلاء بمنزلة أهل السبق ، ومَن رسخ الإيمان في قلوبهم فنشروا الإسلام ، وحملوا ألوية العدل ، ونشروا العقيدة الإسلامية ، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم عن نيَّة صادقة ، وهاجروا عن إيمان خالص .
وقد قال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنَّما الأعمال بالنيَّات ، وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (1).
وسأله ناس مِن أصحابه فقالوا : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟
فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أمَّا مَن أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ به ، ومَن أساء أُخذ في الجاهلية والإسلام ) (2) .
وعن صهيب مرفوعاً : ( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ) (3) .
وعنه ( صلّى الله عليه وآله ) بلفظ : ( مَن أحسن في الإسلام لم يؤاخَذ بما عمل في الجاهلية ، ومَن أساء في الإسلام أُخذ في الأوَّل ، والأخر ) (4).
وعن ابن عمر قال : صعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : ( يا معشر مَن أسلم بلسانه ، ولم يُفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ، ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوراتهم . مَن تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته ، ومَن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ) (5).
وهكذا يتَّضح لنا ـ على ضوء الأحاديث النبوية وآي القرآن الكريم ـ مساواة الناس وشمول الأحكام لهم ، وأنَّ ثبوت العدالة بالعمل ، ولا أثر لها بدونه ، والصحابة هم أولى بتنفيذها ، والقول في اجتهادهم مطلقاً يحتاج إلى مشقَّة في الإثبات ، والنتيجة عقيمة لا تُثمر كثير فائدة ، والتأويل في مقابلة النصِّ معناه طرح للأحكام . فلا يصحُّ أنْ يتأوَّلوها على خلاف ظاهرها ، ثمَّ يستبيحوا لأنفسهم مخالفة الظاهر منها ، بلْ الأحكام شُرِّعت واحدة بين الناس لتشملهم عدالتها . فلا مجال لأحد عن الخضوع لها وتطبيقها .
ولنا في سياسة الإمام علي بن أبي طالب ، وسيرته في عصر الخلفاء وفي عصره ، لأكبر دليل على ما نقول :
فقد كان يُقيم الحدَّ على مَن تعدَّى حدود الله ، ويعامل كلَّ واحد بما يقتضيه عمله ، وبقدر منزلته عند الله تعظم منزلته عنده .
وكم كان يدعو على أولئك الذين وسمُّوا بالصحبة ، وخالفوا كتاب الله وسنَّة رسوله ، ونصبوا له الحرب .
وقد أعلن ( عليه السلام ) البراءة منهم على منبره ؛ لأنَّهم خالفوا كتاب الله وسنَّة نبيِّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
ومَن وقف على عهوده ( عليه السلام ) لعمَّاله ، ووصاياه لأُمراء جيشه ، ورسائله لولاة أمره ، يعرف هناك عدم الالتزام بما ألزموا الأُمَّة به ، مِن القيود التي فرضتها ظروف خاصة ، وهو القول بعدالة الصحابي ، وإنْ ارتكب ما حرَّم الله .
والتحدُّث عن سيرة علي لا يتَّسع له مجال هذا الموضوع الذي خضناه بهذه العجالة ، والغرض أنَّ أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله ) لا بدَّ أنْ يلتزموا باجتناب ما حرَّم الله تعالى ، ويهتدوا بهدي رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يفتحوا المجال لمتأوِّل في مقابلة النصِّ ، وللاجتهاد شروط ، ولعلَّ في قصَّة قدامة أكبر دليل على ذلك .
قدامة بن مضعون :
قدامة بن مضعون بن حبيب المتوفَّى ( سنة 36هـ ) كان مِن السابقين الأوَّلين ، وهاجر الهجرتين ، واستعمله عمر بن الخطاب على البحرين ، فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر بن الخطاب مِن البحرين ، وشهد على قدامة أنَّه شرب الخمر فسكر ، فقال : مَن يشهد معك ؟
فقال الجارود : أبو هريرة .
فقال عمر لأبي هريرة : بم تشهد ؟
قال : لم أره شرب الخمر ، ولكنْ رأيته سكران يقيء .
فقال عمر : لقد تنطَّعت في الشهادة ، ثمَّ كتب إلى قدامة أنْ يَقدم عليه مِن البحرين ، فقدم .
فقال الجارود : أقم على هذا حدَّ الله .
فقال عمر : أخصمٌ أنت أم شهيد ؟!
فقال : شهيد .
فقال : قد أدَّيت شهادتك .
ثمَّ غدا الجارود على عمر فقال : أقم على هذا حدّ الله .
فقال عمر : ما أراك إلاَّ خصماً ، وما شهد معك إلاَّ رجل واحد .
فقال الجارود : أُنشدك الله .
فقال عمر : لتمسكنَّ لسانك أو لأسوأنَّك .
فقال : يا عمر ، ما ذلك بالحقِّ أنْ يشرب ابن عمِّك الخمر وتسوءني .
فقال أبو هريرة : يا أمير المؤمنين ، إنْ كنت تشكَّ في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فأسألها ـ وهي امرأة قدامة ـ فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها ، فأقامت الشهادة على زوجها .
فقال عمر لقدامة : إنِّي حادُّك .
فقال قدامة : لو شربت ـ كما تقول ـ ما كان لكم أنْ تحدَّني .
فقال عمر : لم ؟!
قال قدامة : قال الله عز وجل : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ... ) الآية .
فقال عمر : أخطأت التأويل ! أنت إذا اتَّقيت الله اجتنبت ما حرَّم الله .
ثمَّ أقبل عمر على الناس فقال : ما ترون في جلد قدامة ؟
فقالوا : لا نرى أنْ تجلده ما دام مريضاً . فسكت على ذلك أيَّاماً ، ثمَّ أصبح وقد عزم على جلده ، فقال : ما ترون في جلد قدامة . فقالوا : لا نرى أنْ تجلده ما دام وجعاً .
فقال عمر : لأنْ يلقى الله تحت السياط أحبُّ إليَّ مِن أنْ ألقاه وهو في عنقي ، ائتوني بسوط تامٍّ . فأمر به فجُلد (6) .
هذه قصة قدامة ، وإقامة الحدِّ عليه ، وتأويله فيما ارتكبه ، ولم نوردها لنحطَّ مِن كرامته ، أو نطعن عليه في دينه ، فله شرف الهجرة والسبق ، ولكنَّا ذكرناها ليتَّضح لنا عدم صحة ما يقولون ، بعدم مؤاخذة المتأوِّل ، وإنْ خالف الإجماع ، وما هو معلوم بالضرورة ، كقضيَّة أبي الغادية وقتله لعمار بن ياسر ، مع اعترافه بأنَّ ما ارتكبه جريمة توجب دخول النار .
وهناك جماعة مِن الصحابة تأوَّلوا فأخطأوا ، فلم يدرأ تأويلهم الحدّ لوقوعهم في الخطأ . منهم :
أبو جندل ، وضرار بن الخطاب ، وأبو الأزور ، فقد وجدهم أبو عبيدة قد شربوا الخمر فأنكر عليهم . فقال أبو جندل :
( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ... ) الآية ، ولم ينفعهم ذلك وأقام عليهم الحدَّ .
فأين العدالة مِن إقامة الحدِّ عليهم .
وكان عبد الرحمان بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر بمصر ، فأقام الحدَّ عليه عمرو بن العاص إلى كثير مِن ذلك (7) .
____________
(1) صحيح مسلم : 6/48 .
(2) صحيح مسلم : 1/ 77 .
(3) صحيح الترمذي : 2/151 .
(4) صحيح مسلم : 1/77 .
(5) صحيح الترمذي : 1/365 .
(6) الإصابة في تمييز الصحابة : 3/228 .
(7) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1/602ـ 05