لا ريب أنّ الذي يدعو الإنسان ويبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية ، أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري ، تنبِّهه لحوائج الحياة وتوسّله بوضعها ، والعمل بها إلى رفعها .
وكلّما كانت الحاجة أبسط ، وإلى الطبيعة الساذجة أقرب ، كان التوسّل إلى رفعها أوجب والإهمال في دفعها أدهى وأضرّ ، فما الحاجة إلى أصل التغذّي والحياة تدور معه ، كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام وأنواع الفواكه وهكذا ؟!
ومن الحوائج الأولية الإنسانية حاجة كل من صنفيه ـ الذكور والإناث ـ إلى الآخرين بالنكاح والمباشرة ، ولا ريب أنّ المطلوب بالنظر إلى الصنع والإيجاد بذلك بقاء النسل ، وقد جُهِّز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسُّل به إلى ذلك .
ولذلك تجد المجتمعات الإنسانية ، التي نُشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنّة بسنّة الازدواج وتكوين البيت ، وعلى ذلك كانت منذ أقدم عهودها ، فلم يُضمن بقاء النسل إلاّ الازدواج .
ولا يدفع هذا الذي ذكرنا أنّ المدنيّة الحديثة وضعت سنّة الازدواج ، على أصل الاشتراك في الحياة ، دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة . فإنّ هذا البناء ـ على كونه بناء مُحدَثاً غير طبيعي ـ لم يبعث حتى الآن شيئاً من المجتمعات المستنّة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم ، أو النساء أنفسهنّ ، وليس إلاّ لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانية .
وبالجملة ؛ الازدواج سنّة طبيعيّة ، لم تزل ولا تزال دائرة في المجتمعات البشرية ، ولا يزاحم هذه السنّة الطبيعية في مسيرها إلاّ عمل الزنا ، الذي هو أقوى مانع من تكوّن البيوت ، وتحمُّل كُلفة الازدواج ، وحمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه ، المستلزم لانهدام البيت وانقطاع النسل .
ولذا ؛ كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعة الساذجة تستشنعها وتعدُّها فاحشة منكرة ، وتتوسّل إلى المنع عنه بأيّ وسيلة ممكنة ، والمجتمعات المتمدّنة الحديثة ، وإن لم تسدّ سبيله بالجملة ، ولم تمنع عنه ذلك المنع ، لكنّها مع ذلك لا تستحسنه ؛ لما ترى من مضادّته العميقة لتكوّن البيوت وازدياد النفوس وبقاء النسل ، وتحتال إلى تقليله بلطائف الحيل ، وتروِّج سنَّة الازدواج ، وتدعو إلى تكثير الأولاد ، بجعل الجوائز وترفيع الدرجات ، وغير ذلك من المشوقات .
غير أنّه على الرغم من كون سنّة الازدواج الدائم سنّة قانونية ، متّبعة في جميع المجتمعات الإنسانية في العالم ، وتحريض الدول عليها واحتيالها لتضعيف أمر الزنا ، وصرف الناس ـ لا سيّما الشبّان والفتيات ـ عنه لا ، يزال يوجد في جميع البلاد ـ صغيرتها وكبيرتها ـ معاهد لهذا العمل ، الهادم لبنية المجتمع علنيّة أو سرّية ، على اختلاف السنن الجارية فيها .
وهذا أوضح حجّة ؛ على أنّ سنّة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع ، وأنّ الإنسانية بعدُ في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه ، وأنّ من الواجب على مَن بيده زمام التقنين ، أن يتوسّع في أمر الازدواج .
ولذلك شفع شارع الإسلام سنّة الازدواج الدائم بسنّة الازدوج المؤقّت ؛ تسهيلاً للأمر ، وشرط فيه شروطاً ترتفع بها محاذير الزنا ، من اختلاط المياه ، واختلال الأنساب ، والمواريث ، وانهدام البيوت ، وانقطاع النسل ، وعدم لحوق الأولاد ، وهي اختصاص المرأة بالرجل ، والعدّة إذا افترقا ، ولحوق الأولاد ، ثمّ لها ما اشترطت على زوجها ، وليس فيه على الرجل شيء من كُلفة الازدواج الدائم ومشقّته .
ولعمر الحق ، إنّها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة ، نظير الطلاق وتعدُّد الزوجات ، وكثير من قوانينه ، ولكن ما تُغني الآيات والنُّذر عن قوم لا يسمعون ، يقول القائل : لأن أزني أحبُّ إليَّ من أن أتمتّع أو أُمتِّع .
سنّة الزواج في العالم الحديث
- الزيارات: 1892