• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التبرك 2

 

التبرك 2

 

التبرّك بمنبره (صلى الله عليه وآله) :

لقد أوضح النبي(صلى الله عليه وآله) لاُمّته أن لمنبره قدسية خاصة لا ينبغي التجاوز عليها، لذا فقد سنّ(صلى الله عليه وآله)تحريم اليمين على منبره كذباً، فقال: «من حلف على منبري كاذباً ولو على سواك أراك فليتبوّأ مقعده من النار» [1] .

وعن جابر (رضي الله عنه): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أيما امرئ من المسلمين حلف عند منبري على يمين كاذبة يستحق بها حق مسلم، أدخله الله النار وإن كان على سواك أخضر» [2] .

وقد أدرك الصحابة ذلك، فنجد زيد بن ثابت يأبى أن يحلف على المنبر عندما قضى عليه مروان بذلك، وقال: احلف له مكاني، فجعل زيد يحلف وأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب منه [3] .

لذا نجد الصحابة الكرام يعرفون لهذا المنبر قدسيته وبركته، فنجدهم يقصدونه ويمسحون أيديهم برمانته وبمقعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)منه، ويضعونها على وجوههم تبرّكاً بها.

فعن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبدالقاري: أنه نظر الى ابن عمر وضع يده على مقعد النبي(صلى الله عليه وآله)من المنبر ثم وضعها على وجهه [4] .

وعن يزيد بن عبدالله بن قسيط قال: رأيت ناساً من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) إذا خلا المسجد أخذوا برمانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون [5] .

تبرّكهم بقبره الشريف(صلى الله عليه وآله) :
لقد كان دأب المسلمين منذ وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) على مرّ العصور والى يومنا هذا، هو التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله) والاستسقاء به والاستشفاء بتربته، على ذلك تصافق المسلمون بكافة طوائفهم جيلاً بعد جيل، ولم يشذ عن ذلك إلاّ دعاة السلفية، وفي طليعتهم ابن تيمية الحراني الذي ادّعى بأن السلف الصالح لم يعرفوا ذلك ولم يقرّوه!

إلاّ أن عمل المسلمين ـ وفيهم كبار الصحابة والتابعين وعدد لا يستهان به من علمائهم الأفذاذ ومحدّثيهم ـ ينفي تلك الادعاءات ويبطلها، فمن الشواهد على دأب المسلمين ـ وفي مقدمتهم الصحابة الكرام ـ على التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله) :

1 ـ عن داود بن صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع! فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب! فقال: نعم، جئت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم آتِ الحجر، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله» [6] .

2 ـ عن علي(عليه السلام) قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله(صلى الله عليه وآله)بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك...الآية). وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر «قد غفر الله لك» [7] .

3 ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في التحفة من طريق طاهر بن يحيى الحسيني قال: حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي(رضي الله عنه) عنه قال: لما رُمس رسول الله(صلى الله عليه وآله)جاءت فاطمة(عليها السلام)فوقفت على قبره(صلى الله عليه وآله) وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها على عينيها، وبكت وأنشأت تقول:

 

·                     ماذا على من شمَّ تربة أحمد صُبّت عليَّ مصائب لو أنها صُبّت على الأيام عُدن لياليا [8]

·                     أن لا يشم مدى الزمان غواليا صُبّت على الأيام عُدن لياليا [8] صُبّت على الأيام عُدن لياليا [8]

4 ـ ذكر الخطيب ابن جماعة أن عبدالله بن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالاً(رضي الله عنه) وضع خديه عليه أيضاً. ورأيت في كتاب السؤالات لعبدالله ابن الإمام أحمد ـ وذكر ما تقدّم عن ابن جماعة ـ ثم قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته، فاُناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، واُناس فيهم أناة يتأخرون، والكل محل خير [9] .

4 ـ عن أبي الدرداء قال: إن بلالاً مؤذن النبي(صلى الله عليه وآله) رأى في منامه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟!» فانتبه حزيناً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي(صلى الله عليه وآله) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين(عليهما السلام)فجعل يضمّهما ويقبّلهما [10] .

5 ـ قال السمهودي: كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فسدّت [11] .

6 ـ ذكر السمهودي أن الناس كانوا يتبركون بالصلاة الى القبر [12] ، قال: عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال كان الناس يصلّون الى القبر، فأمر به عمر بن عبدالعزيز فرفع حتى لا يصل إليه أحد [13] .

7 ـ كان ابن المنكدر ـ وهو أحد أعلام التابعين ـ يجلس مع أصحابه، قال: وكان يصيبه الصمات، فكان يقوم كما هو ويضع خده على قبر النبي(صلى الله عليه وآله) ثم يرجع، فعُوتب في ذلك فقال: إنّه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي(صلى الله عليه وآله)، وكان يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إنّي رأيت النبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الموضع. يعني في النوم [14] .

قال ابن قدامة الحنبلي في المغني : ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة.

هذه هي السنّة التي دأب عليها الصحابة والتابعون في التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله)والاستشفاء بتربته، ولم يخالفهم فيها إلاّ ولاة بني اُمية الظلمة من أمثال مروان بن الحكم طريد رسول الله(صلى الله عليه وآله)الذي لعنه الله وهو في صلب أبيه، كما أخبرت بذلك عائشة وعبدالله بن الزبير [15] .

شبهة للعلياني
قال علي بن نفيع العلياني: وعلى هذا فإن أهل الجاهلية كحال أي إنسان، يرغبون في النماء والزيادة في أموالهم وأبدانهم وقبائلهم وأولادهم، وكل ما يحتاجونه في هذه الحياة الدنيا، وهذا النماء والزيادة الذي هو جوهر البَرَكة إنّما يطلبونه من أصنامهم لاعتقادهم أن هذه الأصنام يأتي من قبلها الخير الكثير وأنّها مباركة، وحتى الذين ينسبون الفعل الى الله عزّ وجل، فهم يعتقدون أن هذه الأصنام وما يسكنها من روحانيات لها تأثير في التأثير على الله... لكي يحقق لهم ما يريدون، وهذا معنى قولهم (ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى) ولأجل ذلك كان التبرّك مظهراً من مظاهر الوثنية في الجاهلية الاُولى! [16]

إنّ هذا الكلام البعيد عن المنطق يريد أن يساوي بين نيّة وعمل المسلمين وما يقابلها عند المشركين، فهو يحتجّ بقوله تعالى في الآية التي أوردها، متناسياً أن سياق الآية يقول على لسان المشركين (ما نعبدهم)، ولم يقل ما نتبرّك بهم، فأهل الجاهلية من المشركين كانوا يطلبون الأشياء التي ذكرها العلياني لاعتقادهم بأنّ هذه الآلهة تضرّ وتنفع بمعزل عن قدرة الله تعالى، فالجاهلي لم يكن يعتقد بالبعث والنشور والثواب والعقاب، لذا كان يتعبّد هذه الأصنام لاعتقاده بأنّها تستطيع أن تلحق به الضرّر المادّي في الدنيا كإهلاك ماشيته وزرعه أو إصابته بمرض عضال وغير ذلك، وفي نفس الوقت كان يعتقد قدرتها على منحه ما يحتاج إليه من خيرات، لذا كان يعبدها ويقدّم لها القرابين، وأين عمل المشركين هذا من عمل المسلمين الموحدين الذين يعتقدون أن الخير كلّه من عند الله سبحانه وتعالى. وأن بركاته تنزل بإذنه هو، مع إخباره في كتابه العزيز عن وجود مخلوقات له جعل فيها خصوصية وجعلها مباركة، ولأنه سبحانه يحب هذه المخلوقات المباركة، فقد أكرمها بأن جعلها سبباً لاستجابة دعاء المخلوقين بتوسلهم بها لكرامتها عند الله؟! ولعل خير ما يمثل عقيدة المسلمين في التبرّك هو قول الخليفة العباسي المأمون للقاضي يحيى ابن أكثم:

وإنّ الرجل ليأتيني بالقطعة من العوذ أو بالخشبة أو بالشيء الذي لعل قيمته لا تكون إلاّ درهماً أو نحوه، فيقول: إن هذا كان للنبي(صلى الله عليه وآله)، أو قد وضع يده عليه، أو بأسافله، أو مسّه، وماهو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلاّ أني بفرط النيّة والمحبّة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثم أضعه على وجهي وعيني وأتبرّك بالنظر إليه وبمسّه، فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتم به، فأصونه كصيانتي لنفسي، وإنّما هو عود لم يفعل هو شيئاً ولا فضيلة له تستوجب به المحبّة إلاّ ما ذكر من مسّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) له [17] .

فالمأمون يعلم أن هذا العود لا ينفع ولا يضرّ بذاته، ولكنه يقدّسه إكراماً للنبي(صلى الله عليه وآله)، وكذلك هي عقيدة المسلمين، فأين من ذلك عقيدة المشركين!

تبرّك الصحابة بأماكن صلّى فيها النبيّ(صلى الله عليه وآله)
وهذا أيضاً من الاُمور التي خالفت فيها السلفية، ثمّ الوهابية جمهورَ المسلمين فيه، فسيرة المسلمين على وجه العموم وعلى مرّ الأعصار هو التبرّك بكل مكان حلَّ فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)واعتباره مكاناً مباركاً، وبخاصة الأماكن التي كان يكثر المكث فيها، كمجلسه من منبره، وغار حراء، ومسكنه وغير ذلك، باعتبارها أماكن قد اكتسبت بركتها من جسم النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله)، فكما كان الصحابة يتبرّكون بملامسة جسده الشريف ، فإن المسلمين ـ ومنهم الصحابة الكرام ـ كانوا يتبركون بالأماكن التي لامسها جسده الشريف أيضاً.

ولا يخالف المسلمين في ذلك غير الفرقة الوهابية فيمنعون من التبرّك بتلك الأماكن المباركة، أو بالأماكن التي صلّى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)ويحتجّون بأدلة واهية، كقول ناصر بن عبدالرحمن ابن محمد الجديع محتجّاً بدليلين، أحدهما: أ نّه لا يوجد دليل من النصوص الشرعية يفيد جواز ذلك الفعل أو استحبابه. وثانيهما: أنّ الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنّه تبرّك بشيء من المواضع التي جلس فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو البقع التي صلّى عليها عليه الصلاة والسلام اتفاقاً، مع أنّهم أحرص الاُمّة على التبرّك بالرسول(صلى الله عليه وآله)، ومع علمهم بتلك المواضع وشدّة محبّتهم للرسول(صلى الله عليه وآله)وتعظيمهم له، واتّباعهم لسنّته [18] .

هذان الدليلان اللّذان يسوقهما الجديع معتقداً بأنّه قد فتح فتحاً في هذا الشأن، هما في الحقيقة أوهى من خيط العنكبوت، إذ إن عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بجواز ذلك أو استحبابه، يقابله من الجهة الاُخرى عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بعدم جواز ذلك أو كراهته، والقاعدة أ نّه إذا لم يوجد دليل على التحريم، دل ذلك على الإباحة.

أما ادعاؤه بأنّه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنّه تبرّك بشيء من ذلك، فهو أسقط من حجّته الاُولى، فقد أخرج المحدّثون ما ينقض هذا الإدّعاء، وقد مرّ مثله الشيء الكثير، وأيضاً:

فعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبدالله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها. ويحدّث أنّ أباه كان يصلي فيها، وأنّه رأى النبي(صلى الله عليه وآله) يصلّي في تلك الأمكنة. وحدّثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلاّ وافق نافعاً في الأمكنة كلّها إلاّ أ نّهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء [19] . قال ابن حجر في شرحه للحديث: عُرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي(صلى الله عليه وآله) والتبرّك بها [20] .

وقال ابن عبدالبرّ: كان ]ابن عمر[; كثير الاتّباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله)... وكان يتقدّم في المواقف بعرفة وغيرها الى المواضع التي كان النبي(صلى الله عليه وآله) وقف بها [21] .

وقال ابن الأثير: إنّ عبدالله بن عمر كان كثير الاتّباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى أنّه ينزل منازله ويصلي في كل مكان صلّى فيه، وحتّى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس [22] .

وعن نافع: أنّ عبدالله بن عمر كان ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)ينيخ بها ويصلّي بها [23] .

وقال الواقدي: وعن أفلح بن حميد، عن أبيه قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي(صلى الله عليه وآله)جلس تحت السمرة، وأن ابن عمر كان يصب الأدواة تحتها في أصل السمرة يريد بقاءها [24] .

فلو كان عمل ابن عمر غير جائز، لأنكر عليه الصحابة ذلك ونهوه عنه.

وقال العلياني ـ في التبرّك الممنوع بالأمكنة والجمادات ـ :

... ولا يعكر على هذا ما رواه البخاري في صحيحه: أن عتبان ابن مالك ـ وهو من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ممن شهد بدراً من الأنصار ـ أنّه أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا اُصلّي لقومي، فإذا كانت الأمطار ، سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فاُصلي بهم، وددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي، فأتّخذه مصلى. قال: فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «سأفعل إن شاء الله». قال عتبان: فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله(صلى الله عليه وآله)فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن اُصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له الى ناحية من البيت، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكبّر، فقمنا فصففنا، فصلّى ركعتين ثم سلّم [25] .

وذلك لأنّه ليس قصد عتبان أن يتبرّك بالموضع الذي صلّى فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله). وإنّما قصده أن يقرّه الرسول(صلى الله عليه وآله) على الصلاة جماعة في داره عند عدم استطاعته حضور الجماعة عندما يسيل الوادي، فأراد أن يفتتح له رسول الله(صلى الله عليه وآله)مسجداً في منزله، ولأجل هذا بوّب البخاري في صحيحه بعنوان: باب المساجد في البيوت. وصلّى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة ـ وهذا من فقهه يرحمه الله ـ فالمقصود هو أن يسنّ له الرسول(صلى الله عليه وآله)الصلاة جماعة في منزله عند الحاجة. كما أن الصحابي الآخر البراء بن عازب فعل الجماعة في مسجده في داره ولم ينكر عليه، وهو في زمن التشريع. وقد يكون من مقصود عتبان اصابة عين القبلة، فإن الرسول(صلى الله عليه وآله)لا يقرّ على خطأ لو صلّى الى غير جهة القبلة [26] .

أقول: لا شكّ أن رغبة الصحابي عتبان في تأدية الصلاة جماعة في بيته هو أحد الأسباب لذلك، ولكن ليس كلّها، فإن رغبته في التبرّك بموضع صلاة الرسول(صلى الله عليه وآله) واضحة. وقد فهم النبي(صلى الله عليه وآله)رغبة عتبان هذه، لذا ابتدره بالسؤال عن المكان الذي يحبّ أن يصلّي له فيه من بيته، ولو أن الأمر كما يقول العلياني، لصلّى النبي(صلى الله عليه وآله) في أي مكان من البيت يصلح لذلك.

ومن جهة ثانية، فإن ادّعاء العليان أن رغبة الصحابي عتبان في إصابة عين القبلة لا ينهض بحجّة، فإذا كان عتبان لا يبصر جيداً فقد كان في مقدور أهله أو غيره من الصحابة أن يدلّوه عليها، ولما احتاج الأمر لأن يصلي النبي(صلى الله عليه وآله) ركعتين في ذلك الموضع ـ ممّا يدل على أنها لم تكن فريضة ـ وكان يكفيه أن يشير الى مكان القبلة ليستدل بها الصحابي عليها!

ولا أظن أن العليان كان أقدر على الفهم من العلاّمة ابن حجر العسقلاني الذي قال في شرحه للحديث:

وإنّما استأذن النبي(صلى الله عليه وآله) لأنه دُعي للصلاة ليتبرّك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلّي في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك [27] ...

وقال أيضاً: في حديث عتبان وسؤاله النبي(صلى الله عليه وآله) أن يصلي في بيته ليتّخذه مصلّى وأجابه النبي(صلى الله عليه وآله)الى ذلك، فهو حجة في التبرّك بآثار الصالحين [28] .

وإذا كان طلب عتبان من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيته للأسباب التي ادّعاها، فبماذا نفسّر طلب اُمّ سليم وغيرها من الصحابة من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيوتهم، فيما أخرج المحدثون، وكما يأتي:

1 ـ عن أنس بن مالك: أنّ اُمّ سليم سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يأتيها فيصلّي في بيتها فتتّخذه مصلّى، فأتاها، فعمدت الى حصير فنضحته بماء فصلّى عليه وصلّوا معه [29] .

2 ـ وعنه أيضاً قال: صنع بعض عمومتي طعاماً فقال للنبي(صلى الله عليه وآله): إنّي أحب أن تأكل في بيتي وتصلّي. قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكنس ورش، فصلّى وصلّينا معه [30] .

3 ـ وعنه أيضاً، قال: كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال للنبي(صلى الله عليه وآله):

إنّي لا أستطيع أن اُصلّي معك، فلو أتيت منزلي فاقتدي بك. فصنع الرجل طعاماً ثم دعا النبي(صلى الله عليه وآله)، فنضح طرف حصير لهم فصلّى النبي (صلى الله عليه وآله) ركعتين [31] .

فهل كان مقصود اُم سليم أنّ تؤم المسلمين في بيتها مثل عتبان عندما طلبت من النبي(صلى الله عليه وآله)أن يصلّي في بيتها، أم أنّها طلبته للتبرّك بالصلاة في الموضع الذي يصلي فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ؟

وهل كان عمومة أنس والرجل الآخر ـ الذي لم يذكر اسمه ـ عمياناً أيضاً فجاء النبي(صلى الله عليه وآله)ليحدد لهم القبلة! وإذا لم يكن قصد الرجل التبرّك بموضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله)، أفلم يكن في استئذانه النبي بعدم الحضور الى المسجد ـ لتعذر ذلك عليه ـ كافياً دون الحاجة الى الطلب منه(صلى الله عليه وآله)أن يحضر ليصلي في بيته.

التبرّك بالصحابة والصالحين
تبيّن ممّا سبق أن لا خلاف بين طوائف المسلمين في جواز التبرّك بالنبي(صلى الله عليه وآله) في حياته، وبآثاره بعد موته. وأن ما احتجّ به الشاذّون في ذلك مردود، يكذبه فعل الصحابة أنفسهم. إلاّ أنّ الخلاف هل هو في جواز التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله) من الصحابة والتابعين والصالحين أم لا؟

لقد جوّز بعض علماء المسلمين ذلك، بينما منعه آخرون، ومن المانعين له: الشاطبي، حيث يقول: الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة الى من خلفه، إذ لم يترك النبي(صلى الله عليه وآله) بعده في الاُمّة أفضل من أبي بكر الصديق، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر، وهو كان أفضل الاُمّة بعده، ثم كذلك عثمان ، ثم علي ، ثم سائر الصحابة الذي لا أحد أفضل منهم في الاُمّة ، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أنّ متبرّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتّبعوا فيها النبي(صلى الله عليه وآله)، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء [32] .

وقال أيضاً: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة [33] ...

ومن المانعين أيضاً ابن رجب، إذ قال: وكذلك التبرّك بالآثار، فإنّما كان يفعله الصحابة مع النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم.. ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علوّ قدرهم، فدلّ على أن هذا لا يفعل إلاّ مع النبي(صلى الله عليه وآله)، مثل التبرّك بوضوئه وفضلاته وشعره، وشرب فضل شرابه وطعامه [34] .

فأدلّة المانعين تقوم على أساس أن الصحابة لم يتبرّكوا ببعضهم، ولا يتبرّك التابعون بهم، فدلّ تركهم ذلك على عدم جوازه.

إلاّ أنّ الادّعاء بعدم تبرّك الصحابة ببعضهم، وكذلك بآل الرسول(صلى الله عليه وآله) غير صحيح، فهناك شواهد صحيحة على حدوث ذلك، وقد استند بعض كبار علماء المسلمين الى ذلك في تجويز التبرّك ليس بالصحابة والتابعين فحسب، بل بكل أهل الخير والصلاح.

ومن المجوزين القائلين بذلك، الإمام النووي الذي استند الى بعض الروايات الصحيحة في استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس واستسقاء بعض الصحابة ببعض من صالحيهم، قال:

ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأن عمر استسقى بالعباس وقال: اللهم إنّا كنّا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسل بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون.

ويستسقى بأهل الصلاح لما رُوي أن معاوية استسقى بيزيد ابن الأسود فقال: اللهم إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا، اللّهم إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود. يا يزيد ارفع يديك الى الله تعالى، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابة من المغرب كأ نّها ترس، وهبّ لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم [35] .

ولقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بحادثة استسقاء عمر بالعباس على جواز التبرّك والاستشفاع ببعض الأخيار فقال:

ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة [36] .

ومن أمثلة تبرّك الصحابة ببعضهم وتبرّك التابعين بهم:

1 ـ روى عبدالله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس فقال: اللّهم إنا نتقرب إليك بعم نبيّك وقفية آبائه وكبر رجاله، فإنّك قلت وقولك الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة... الآية)، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ الله نبيّك بعمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين... الحديث [37] .

وفي لفظ: وروينا من وجوه عن عمر أنّه خرج يستسقي وخرج معه العباس فقال: اللّهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيّك(صلى الله عليه وآله)ونستشفع به فاحفظ فيه لنبيّك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وأتيناك مستغفرين ومستشفعين.

ثم أقبل على الناس فقال: استغفروا ربّكم انّه كان غفارا ـ الى أن قال ـ فنشأت طريرة من سحاب فقال الناس: ترون ترون! ثم تلاءمت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هزت ودرّت، فوالله ما برحوا حتى اعقلوا الجدر وقلصوا المآزر وطفق الناس بالعباس يتمسحون أركانه ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.

وفي لفظ ابن الأثير: ولما سقى الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين، وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه [38] .

2 ـ الحسن البصري، حنّكه عمر بيده، وكانت اُمّه تخدم اُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله) فربّما غابت فتعطيه اُمّ سلمة ثديها تعلله بها الى أن تجيء اُمّه، فيدر عليه ثديها فيشربه، فكانوا يقولون فصاحته ببركة ذلك [39] .

3 ـ قال السمهودي ـ عند ذكره لاسطوانة المحرس :

كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلقي القبر ممّا يلي باب رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو مقابل الخوخة التي كان النبي(صلى الله عليه وآله)يخرج منها إذا كان في بيت عائشة الى الروضة للصلاة، وهي الاسطوان الذي يصلّي عندها أمير المدينة، يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إنّ اسطوان مصلّى علي(عليه السلام) اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الاُمراء الجلوس والصلاة عندها الى اليوم، وذكر أنّه يقال لها: مجلس القادة، لشرف من كان يجلس فيه [40] .

ونقل عن مسلم بن أبي مريم وغيره، أنّه كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المربعة التي في القبر. قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظّك من الصلاة إليها فإنّها باب فاطمةرضي الله عنها الذي كان علي يدخل عليها منه [41] .

وفي حديثه عن اسطوان التهجد قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يخرج حصيراً كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي ثم يصلّي صلاة الليل...

وحدثني سعيد بن عبدالله بن فضيل قال: مرّ بي محمد بن الحنفية وأنا اُصلي إليها فقال لي: أراك تلزم هذه الاسطوانة، هل جاءك فيه أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها فإنّها كانت مصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله)من الليل...

قال ابن النجار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)يستحب الصلاة عندها لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلّوا إليها [42] .

4 ـ لما خطب عمر بن الخطاب اُم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)ـ على ما رُوي عن بعضهم ـ قال: إني اُحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) [43] .

5 ـ لما خرج الحسين بن علي من المدينة يريد مكة، مرّ بابن مطيع وهو يحفر بئره، فقال له:

أين فداك أبي واُمي؟! قال: أردت مكة ـ وذكر أنه كتب إليه شيعته بالكوفة ـ ، فقال له ابن مطيع: فداك أبي واُمي، متّعنا بنفسك ولا تسرِ إليهم. فأبى الحسين. فقال له ابن مطيع: إن بئري هذه قد رشحتها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء، فلو دعوت الله لنا بالبركة. قال: هات من مائها، فأتى من مائها فشرب منه ثم مضمض ثم ردّه في البئر فاعذب وأمهى [44] .

6 ـ لما بلغ الرضا ـ علي بن موسى(عليه السلام) ـ نيسابور، واجتمع الناس حول دابته، أخرج رأسه من المحمل وشاهده الناس، فهم بين صارخ وباك وممزق ثوبه ومتمرغ في التراب ومقبّل لحافر بغلته أو مقبّل حزام بغلته [45] ...

بل إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد تبرّك بوضوء المسلمين، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة:

فعن ابن عمر، قال: قلت يا رسول الله، أتوضأ من جرّ جديد مخمّر أحبّ إليك، أم من المطاهر؟ قال: «لا ، بل من المطاهر، إن دين الله يسّر الحنيفية السمحة». قال: وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يبعث الى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين [46] .

هذه إذاً بعض الأخبار التي تثبت أن الصحابة والتابعين ـ من أهل القرون الثلاثة الاُولى ـ كانوا يتبرّكون ببعضهم البعض، خلافاً لما يدّعيه البعض من أمثال الجديع، إذ يقول:

الحق أنّه لم يؤثر عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، سواء بذواتهم أو بآثارهم، أو أرشد الى شيء من ذلك، وكذا فلم ينقل حصول هذا النوع من التبرّك من قبل الصحابة رضي الله عنهم بغيره(صلى الله عليه وآله)، لا في حياته ولا بعد مماته... [47] .

وقال في تعليل ذلك: إن السبب الرئيسي في ترك الصحابة رضي الله عنهم ذلك التبرّك مع بعضهم ـ والله أعلم ـ هو اعتقاد اختصاص الرسول(صلى الله عليه وآله) به دون سواه ما عدا سائر الأنبياء...

وقال نقلاً عن الشاطبي : فعلى هذا المأخذ ، لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرّك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة [48] .

أقول: بعد أن أثبتنا تبرّك الصحابة والتابعين ببعضهم وبالصالحين من الاُمّة، فإن عدم أمر النبي(صلى الله عليه وآله)بالتبرّك بغيره ، يقابله أيضاً عدم نهيه عن ذلك، فلو كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة على عقائد المسلمين لما أغفل النبي(صلى الله عليه وآله) هذا الأمر ولكان نهى عنه بكل شدّة. وذلك بيّن في قول النبي(صلى الله عليه وآله)عن عمرو بن العاص، أن النبي(صلى الله عليه وآله)قال: «إنّه لم يكن نبي قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدل اُمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم...» [49] .

فهل يناقض النبي(صلى الله عليه وآله) ـ حاشاه ـ نفسه ويخفي هذا الأمر الذي فيه فساد الاُمّة دون أن يبيّنه لهم!

أما إنّه لا يجوز الاقتداء بغيره في التبرّك قياساً على عدم جواز الزيادة على أربع نسوة فالقياس باطل ـ لما تقدم ـ فالنبي(صلى الله عليه وآله)قد أعلم اُمّته الحكم الشرعي في ذلك، فليس هناك مسلم على وجه الأرض ـ منذ زمن النبي والى اليوم ـ إلاّ وهو يعلم حرمة ذلك لغيره(صلى الله عليه وآله) ، وهذا أكبر دليل على صحة ما نقول، وتهافت استدلال الشاطبي، فلو كان التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله) محرّماً لبيّنه لاُمّته كما بيّن حرمة الزيادة في التزوج على أربع نسوة.

ومن الحجج الاُخرى المتهافتة التي يحتجّ بها الجديع على عدم جواز التبرّك بغير النبي(صلى الله عليه وآله)إدعاؤه بأن ذلك لسد ذريعة الشرك، لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي الى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، فوجب المنع من ذلك.. وهكذا تبيّن لنا عدم جواز قياس الصالحين على النبي(صلى الله عليه وآله). وعليه فلا يجوز التبرّك بذوات الصالحين أو بآثارهم فضلاً عن غيرهم، وأن تعظيم الشيء والتبرّك به لا يجوز إلا بدليل شرعي [50] .

أقول: أثبتنا أنه لا ينبغي أن يترك النبي(صلى الله عليه وآله) اُمّته دون أن ينبههم الى خطورة هذا الأمر، لأنه بذلك يكون قد قصّر في أداء رسالته وترك اُمّته تتردى في مهاوي الضلال، وتكون الاُمّة ـ على مرّ الأزمنة السابقة ـ قد وقعت في الشرك، وهو أمر لا يجوز عقلاً ولا شرعاً، وكيف يستقيم ذلك مع قوله(صلى الله عليه وآله): «تركتكم على الواضحة»!

التبرّك بقبور الصالحين وآثارهم
لم يقتصر عمل المسلمين على التبرّك بقبر النبي(صلى الله عليه وآله)وآثاره من بعد موته، بل كان ديدنهم هو التبرّك بقبور الصحابة والتابعين وصلحاء الاُمّة وآثارهم، والاستشفاء والاستسقاء بها أيضاً، ومن ذلك:

1 ـ بلال الحبشي:

مؤذن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، قبره بدمشق، وفي رأس القبر المبارك تاريخ باسمه(رضي الله عنه)، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، وقد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم [51] .

2 ـ أبو أيوب الأنصاري:

قال الحاكم: يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به إذا قحطوا [52] .

3 ـ صهيب الرومي:

قال السمهودي: إنهم جربوا تراب قبر صهيب للحمى.

4 ـ حمزة بن عبدالمطلب:

نقل السمهودي قول الزركشي: ثمّ استثني في عدم جواز حمل تراب المدينة الى غيرها ـ لكونها حرماً ـ تربة حمزة (رضي الله عنه) ، لاطباق الناس على نقلها للتداوي.

ثم قال: حكى البرهان بن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبدالسلام بن إبراهيم بن مصال الحاحاني قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهرمزي قال: قال صالح بن عبدالحليم: سمعت عبدالسلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت ابن بكون عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرّك، هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، ومازال الناس يتبرّكون بقبور العلماء والشهداء والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبدالمطلب في القديم من الزمان [53] .

5 ـ الحسين بن عليّ(عليه السلام):

عقد الشبراوي باباً كبيراً في مشهد رأس الحسين بن علي(عليهما السلام)، وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له وإحياء يوم الثلاثاء بزيارته، قال:

والبركات في هذا المشهد مشاهدة مرئية، والنفحات العائدة على زائريه غير خفية، وهي بصحة الدعوى ملية والأعمال بالنية، ولأبي الخطاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلف، واستفتي القاضي زكي الدين عبدالعظيم في ذلك، فقال: هذا مكان شريف وبركته ظاهرة والاعتقاد فيه خير، والسلام.

وما أجدر هذا المشهد الشريف والضريح الأنور المنيف بقول القائل:

 

·                     نفسي الفداء لمشهد أسراره ورواق عزّ فيه أشرف بقعة تفضي لجبهته النواظر هيبة حسدت مكانته النجوم فودّ لو وسما علوّاً أن تقبّلَ تربَهُ شفةٌ فأضحى بالجباه يقبّل

·                     من دونها ستر النبوة مسبكُ ظلّت تحار لها العقول وتذهلُ ويرد عنه طرفه المتأمل أمسى يجاوره السماك الأعزل شفةٌ فأضحى بالجباه يقبّل شفةٌ فأضحى بالجباه يقبّل

5 ـ عمر بن عبدالعزيز، الخليفة الاُموي ـ المتوفّى سنة 101 هـ ـ :

قال الذهبي: قبره بدير سمعان يُزار [54] .

6 ـ عليّ بن موسى الرّضا(عليهما السلام):

قال أبو بكر محمد بن المؤمل: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافدون الى زيارة علي بن موسى الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا [55] .

كما وأخرج الخطيب البغدادي باسناده عن أحمد بن جعفر ابن حمدان القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال شيخ الحنابلة في عصره يقول: ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلاّ سهّل الله تعالى لي ما أحب! [56] .

7 ـ قال العلاّمة أحمد بن محمد المقري المالكي ـ المتوفّى سنة 1041 هـ ـ في فتح المتعال بصفة النعال ، نقلاً عن ولي الدين العراقي، قال: أخبر الحافظ أبو سعيد بن العلا، قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر [57] . وغيره من الحفّاظ : أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وتقبيل منبره، فقال:

لا بأس بذلك!

قال: فأرينا التقي ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت من أحمد عندي جليل! هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به [58] .

وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فما بالك بمقادير الصحابة! وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما أحسن قول مجنون ليلى:

 

·                     أمرُّ على الديار ديار ليلى وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار [59]

·                     اُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا ولكن حب من سكن الديار [59] ولكن حب من سكن الديار [59]

قال القاضي عياض المالكي في الشفا: وجدير بمواطن عمّرت بالوحي والتنزيل وتردد بها جبرئيل وميكائيل ، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنّة نبيّه ما انتشر، مدارس وآيات ومساجد وصلوات ومشاهد الفضائل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات ، ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوّأ خاتم النبيّين، حيث انفجرت النبوّة، واين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأوّل أرض مسّ جلد المصطفى ترابها، أن تعظم عرصاتها وتنسّم نفحاتها وتقبّل ربوعها وجدرانها [60] ...

فهذه هي سيرة المسلمين خلفاً عن سلف، وهذه مواقف شيخ الحنابلة الذي يدّعي ابن تيمية وأتباعه أنهم تلاميذه في التبرّك بآثار الصالحين والأولياء، وليس لهم من حجة يحتجّون بها، سوى أن ذلك التبرّك ربّما يقود الى الشرك وتأليه الشخص المتبرّك به !


--------------------------------------------------------------------------------

[1] مسند أحمد: 4/357، ح 14606، فتح الباري: 5/210، الطبقات: 1 / 1 / 10.

[2] كنز العمال: 16/697، ح 46389، وفيه عن أبي هريرة أيضاً.

[3] صحيح البخاري: 3/234.

[4] الطبقات: 1/254، ذكر منبر الرسول، الثقات لابن حبان: 9.

[5] الطبقات الكبرى: 1/254، ذكر منبر الرسول.

[6] المعجم الأوسط: 1/94، الجامع الصغير للسيوطي: 728، كنز العمال: 6/88، ح 14967، والذهبي في تلخيصه مجمع الزوائد: 4/22، وفاء الوفا للسمهودي: 2/410، شفاء الأسقام للسبكي: 152.

[7] الروض الفائق: 380، المواهب اللدنية للقسطلاني: 4/583، مشارق الأنوار: 1/121، وفاء الوفا: 4/1399، كنز العمال: 2/386، ح 4322 و 4/ 259، ح 10422.

[8] رواه كل من: ابن الجوزي في وفاء الوفا في فضائل المصطفى: 819 ح 1538، وابن سيد الناس في السيرة النبوية: 2/432، والقسطلاني في المواهب اللدنية مختصراً: 4/563، والقاري في شرح الشمائل: 2/210، والشبراوي في الاتحاف: 330، والسمهودي في وفاء الوفا: 4/1405 ، سير أعلام النبلاء: 2/134 وغيرهم.

[9] وفاء الوفا للسمهودي: 4/1405.

[10] تاريخ دمشق لابن عساكر: 7/137، مختصر تاريخ دمشق: 4/118، 5/265، تهذيب الكمال: 4/289، اُسد الغابة: 1/244، وفاء الوفا للسمهودي: 4/1356، شفاء السقام: 53، مشارق الأنوار: 1/121.

[11] وفاء الوفا: 1/544.

[12] يعني قبر النبي(صلى الله عليه وآله) .

[13] وفاء الوفا: 2/547.

[14] وفاء الوفاء : 2/444 عن أبي خيثمة زهير بن حرب قال: حدثنا مصعب بن عبدالله، حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي.

[15] مجمع الزوائد: 5/241، الاستيعاب: 3/425، ترجمة مروان بن الحكم، وترجمة مروان بن الحكم من اُسد الغابة: 5/144، رقم 4841 ، السنن الكبرى للنسائي: 6/485.

[16] التبرّك المشروع: 53.

[17] تاريخ بغداد لابن طيفور: 45.

[18] التبرّك أنواعه وأحكامه: 243 ـ 244.

[19] صحيح البخاري: 1/130، كنز العمال: 6/247، الإصابة: 2/349، حرف العين ، القسم الأوّل ، ترجمة عبدالله بن عمر، رقم 4834، البداية والنهاية: 5/149.

[20] فتح الباري: 1/469، وفي الصارم: 108 عن الإمام مالك انّه يستحب الصلاة في مواضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله) .

[21] الاستيعاب: 2/342 بهامش الإصابة، ترجمة عبدالله بن عمر.

[22] اُسد الغابة: 3/340، ترجمة عبدالله بن عمر، رقم 3080.

[23] مسند أحمد: 2/269، ح 5968، صحيح البخاري: 3/140، صحيح مسلم: 2/1981.

[24] مغازي الواقدي : 2/1096 ، باب حجة الوداع.

[25] صحيح البخاري: 1/ 115، 170، 175، صحيح مسلم: 1/445، 61، 62.

[26] التبرّك المشروع: 68 ـ 69.

[27] فتح الباري: 1/433.

[28] المصدر السابق: 1/469.

[29] سنن النسائي: 1/268، كتاب المساجد، باب 43 الصلاة على الحصير، ح 816.

[30] سنن ابن ماجة: 1/249، كتاب المساجد ، باب المساجد في الدور، ح 756، والفحل هو الحصير الذي قد اسود، مسند أحمد: 3/130 بسندين ، مسند أنس بن مالك، ح 11920.

[31] مسند الإمام أحمد : 3/586، ح 11920، ط مؤسسة التاريخ العربي.

[32] الاعتصام: 2/8.

[33] الاعتصام: 2/10.

[34] الحكم الجديرة بالاذاعة: 55.

[35] المجموع شرح المهذب للإمام النووي: 5/68 كتاب الصلاة، باب صلاة الاستسقاء، وقال ابن حجر: أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند صحيح، ورواه أبو القاسم الكلالكائي في السنّة في كرامات الأولياء.

[36] فتح الباري: 2/399.

[37] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7/274، شرح الخطبة 114، باب أخبار وأحاديث في الاستسقاء، اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: 338.

[38] اُسد الغابة: 3/167، ترجمة عباس بن عبدالمطلب، رقم 2797.

[39] صفة الصفوة: 3/47.

[40] وفاء الوفا: 2/448.

[41] المصدر السابق: 2/450.

[42] وفاء الوفا: /452.

[43] ذخائر العقبى: 169، الفصل الثامن في ذكر اُمّ كلثوم بنت فاطمة وعلي(عليهما السلام) .

[44] الطبقات الكبرى: 5/107.

[45] الصواعق المحرقة: 310 ، الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في بغض أهل البيت(عليهم السلام) ، نور الأبصار للشبلنجي: 168، فصل في مناقب سيد علي الرضا بن موسى الكاظم.

[46] مجمع الزوائد: 1/214، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثّقون، كنز العمال: 7/112، ح 18231.

[47] التبرّك أنواعه وأحكامه: 261.

[48] المصدر السابق: 264 نقلاً عن الاعتصام : 2/9.

[49] صحيح مسلم: 3/1472 كتاب الامارة، باب وجوب الوفا ببيعة الخلفاء الأوّل فالأوّل.

[50] التبرّك أنواعه وأحكامه: 268.

[51] رحلة ابن جبير: 251.

[52] المستدرك: 3/518، وابن الجوزي في صفة الصفوة: 1/407.

[53] وفاء الوفا: 1/69.

[54] تذكرة الحفّاظ: 1/121.

[55] تهذيب التهذيب: 7/339.

[56] تاريخ بغداد: 1/120.

[57] هو الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل البغدادي ـ المتوفى سنة 505 هـ ـ قال: ابن الجوزي في المنتظم: 18/103 رقم 4201: كان حافظاً متقناً ثقة لا مغمز فيه.

[58] مناقب أحمد لابن الجوزي : 609، البداية والنهاية لابن كثير: 10/365 حوادث سنة 241 هـ .

[59] فتح المتعال: 329.

[60] الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: 2/131.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page