• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حقيقة التشيّع ومنشؤه5

 

 

بعد البيعة :

ما بعد البيعة :

لقد كان لهذه الدعوات المستمرة من اُولئك الصحابة الممثّلين لخطّ التشيّع لعليّ(ع)صدىً كبيرٌ أدّى إلى اتساع نطاق التشيّع يوماً بعد يوم، ليشمل عدداً آخر من الصحابة ومن ثم التابعين لهم. لهذا لا نستغرب أن نجد مالك الاشتر يوم بيعة علي(ع)، يقول: أيّها الناس، هذا وصيّ الاوصياء، ووارث علم الانبياء، العظيم البلاء، الحسن الغناء، الذي شهد له كتاب الله بالايمان، ورسوله بجنّة الرضوان، من كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الاواخر ولا الاوائل.

وقد بايع الاشتر عليّاً(ع) نيابة عن أهل الكوفة، وبايعه طلحة والزبير نيابة عن المهاجرين، وقام أبو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب فقالوا: نبايعك على أنّ علينا بيعة الانصار وسائر قريش.

وقام قوم من الانصار فتكلّموا، وكان أوّل من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الانصاري، وكان خطيب الانصار فقال: والله يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدّموك في الولاية، فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.

ثم قام خزيمة بن ثابت الانصاري، وهو ذو الشهادتين، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبنا لامرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلانت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.

وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد زَيّنتَ الخلافة وما زانتك، ورفَعتَها وما رفَعتْك، ولهي إليكَ أحوج منك إليها.([116])

تعثّر المسيرة:

بلغ اتّجاه التشيّع لعليّ (ع) أوجه خلال فترة حكم عثمان، وبعد تسنّم علي سدّة الحكم بعد البيعة الجماهيرية العظيمة التي تمّت له، والتي يصفها هو نفسه بقوله: «فتداكّوا عليَّ تداكّ الابل الهيم يوم وردها وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتى ظننت أنّهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض ولدي...»([117])

إلاّ أنّ الاُمور بدأت تسير عكس المسيرة، عندما عارض بعض الصحابة عليّاً(ع)، بعدما تبيّن لهم أنّه يريد أن يعيد الاُمور إلى ما كانت عليه في زمن النبي(ص)، من مساواتهم مع سائر الناس في العطاء ـ وهو الامر الذي كان عمر قد سنّه وغيّره وتابعه عليه عثمان ـ بالاضافة إلى تغيير بعض الولاة ممّن اشتهروا بسوء سيرتهم خاصة في زمن عثمان، فتأججت نيران الحرب واستمرت حتى نهاية خلافة علي(ع) والتي دامت ما يقرب من خمسة أعوام، وكانت من افرازات هذه المعارك الطاحنة في أيام الجمل وصفين أنّها أكلت عدداً لا يستهان به من أكثر شيعة علي(ع) إخلاصاً وتفانياً، وأصحهم عقيدة، وأكثرهم تسليماً له، ولم يبق منهم إلاّ أقل القليل، فكانت النتيجة وخيمة، إذ إنّ من تبقّى معه لم يكونوا في أغلبهم ممّن أخلص في تشيّعه واتّباعه والاحتفاف به، وكانت الحرب قد أنهكتهم، لذا فإنّ الكثير منهم ما لبثوا أن استجابوا لاوّل دعوة خادعة بإيقاف الحرب.

ولمّا حاول عليّ (ع)أن يثنيهم عن عزمهم كاشفاً وجه الخداع في المسألة، نجدهم يبادرون إلى عصيانه إلى درجة تهديده بالقتل أو بالتسليم لعدوّه، فلم يجد بدّاً من النزول عند رغبتهم، ولم يكن ذلك نهاية المطاف، إذ إنّهم سرعان ماندموا على قبول التحكيم، وتبيّن لهم خطأهم، ولكنهم عالجوا الامر بسلبية أكثر، فطلبوا منه التحلل من عهوده التي قطعها على نفسه والعودة إلى الحرب، وهذا ممّا يدلّل على أنّ هؤلاء لم يكونوا أصحاب بصيرة، ولا كان تشيّعهم لعليّ(ع) إلاّ تشيّعاً ظاهرياً غير نابع من عقيدة راسخة، كما ويدلّنا تصرّفهم ذاك على مدى عمق ترسّخ المنهج الذي اتّبعه أصحاب الخط الاجتهادي، ممّا جعل الخروج على أمر أولياء الاُمور ظاهرة اعتيادية، طالما كان الخروج على أمر النبيّ(ص)ذاته ممكناً.

لقد أدّى تمرّد هذه الفئة إلى زيادة الاُمور تعقيداً، إذ إنّ علياً(ع)قد وجد نفسه في نهاية الامر مضطراً إلى خوض الحرب معهم بعدما أفسدوا في بعض النواحي وقتلوا بعض الابرياء دون ذنب، وكانت نتيجة ذلك أكثر وبالاً، فإنّ المعركة قد أنهكت قوى مؤيديه، وأدت إلى تقاعسهم أكثر فأكثر، ولم يفلح تحريضه ومن بقي معه من خواصّ شيعته في استنهاض هممهم من جديد.

ثم جاءت الطامة الكبرى حينما تجرّأ أحد المتمرّدين عليه وقتله في محراب عبادته، لينهي صفحة من الكفاح الدؤوب لتنشئة جيل من الشيعة متشرّب بالقيم التي تؤهّله للنهوض بأعباء المرحلة العصيبة التي واجهها منذ وفاة النبي (ص)، وحتى لحظة سقوطه في محرابه بسيف ابن ملجم.

إنّ هذه النهاية المأساوية التي جاءت في هذا الوقت العصيب، قد أثّرت على المسيرة بشكل واضح، ولهذا فإنّ ابنه الحسن(ع) لم يجد بُدّاً من القيام بدوره التكميلي في الاصلاح أمام هذه الاعباء الثقيلة، مع الافتقار إلى العدد الكافي من الاعوان ذوي العقائد الصحيحة، وتخاذل الجزء الاكبر من الباقين، فلم يجد بدّاً من مهادنة معاوية بن أبي سفيان، بعد أن أدرك عدم جدوى الاستمرار في القتال في ظلَّ تلكم الظروف.

وباستلام معاوية زمام الاُمور دخل التشيّع في أصعب مراحله، إذ بدأ معاوية بملاحقة الشيعة والانتقام منهم بكلّ تعسّف، ولم يكن قد بقي من خلّص الشيعة إلاّ عدد ضئيل، التقطهم معاوية وأوردهم موارد الهلاك، من أمثال: حجر بن عدي وأصحابه، وعانى البقية ظروفاً شديدة من القهر والملاحقة والتضييق على مدى عشرين عاماً من حكم معاوية الذي افتتح ولايته على الاُمة الاسلامية بقهر الشيعة واضطهادهم بكلّ صنوف العذاب، فقد نقل ابن أبي الحديد المعتزلي عن كتاب «الاحداث» للمدائني، قائلاً: كتب معاوية نسخة واحدة الى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي(ع) ، فاستعمل عليها زياد بن سميّة ، وضمّ اليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف; لانه كان منهم أيّام عليّ(ع)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الايدي والارجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية الى عمّاله في جميع الافاق: ألاّ يجيزوا لاحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثم كتب الى عمّاله: أنّ الحديث في عثمان قدكثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعو الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ اليَّ وأقرّ لعينيوأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقُرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي الى معلمّي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب الى عمّاله نسخة واحدة الى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة، أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي(ع) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمنّ عليه.

فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة; وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنُّسك، فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث الى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها.

فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي(ع) ، فازداد البلاء والفتنة، لم يبق أحدٌ من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الارض.

ثم تفاقم الامر بعد قتل الحسين(ع) ،وولي عبدالملك بن مروان، فاشتد على الشيعة ، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النّسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضهلم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي(ع) وعيبه والطعن فيه والشنآن عليه، حتى إنّ إنساناً وقف للحجّاج ـ ويقال إنه جدّ الاصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به: أيها الامير : إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإني فقير بائس ، وأنا الى صلة الامير محتاج! فتضاحك له الحجاج وقال: لِلُطفِ ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا!

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ أكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة، اُفتعلت في أيام بني اُمية تقرّباً إليهم بما يظنون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم([118]).

كما وأورد ابن أبي الحديد رواية اُخرى عن الامام الباقر(ع)في هذا المعنى ، يُحدّث بعض أصحابه ، قال (ع): يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس! إن رسول الله(ص) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس، فتمالات علينا قريش حتى أخرجت الامر عن معدنه، واحتجّت على الانصار بحقّنا وحجّتنا، ثم تداولتها قريش واحدٌ بعد واحد ، حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الامر في صعود كؤود حتى قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غُدر به واُسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه، ونُهبت عسكره، وعولجت خلاخيل اُمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل، ثم بايع الحسين(ع) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثم غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونُستضام، ونقصى ونُمتهن ، نحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالاحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغّضونا الى الناس، وكان عُظم ذلك وكبره زمان معاوية بعد موت الحسن(ع)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الايدي والارجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله، أو هُدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد الى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(ع)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة، وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال : شيعة عليّ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صادقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع ([119]).

إنّ هاتين الوثيقتين المهمتين تكشفان عن حال الشيعة في العصر الاُموي، إلاّ أنّ سقوط الدولة الاُموية بعد أكثر من قرن وربع من الزمان، وقيام الدولة العباسية، لم يكن بأقلّ شدّة وسوءاً على الشيعة ، فإنّ العباسيين الذين قاموا بثورتهم على الاُمويين باسم الدعوة للرضا من آل محمد(ص) ، سرعان ما كشفوا عن نواياهم في الاستئثار بالسلطة التي تحولت الى امتداد للملك الاُموي، فقلبوا لاهل البيت(ع)ظهر المجن وهم أبناء عمومتهم، إذ إنّه وبعد فترة وجيزة من الانفراج في أواخر عهد الاُمويين وبداية عهد العباسيين، تنفّس فيها أهل البيت(ع) وشيعتهم قليلاً من نسائم الحرية، سرعان ما أحسّ العباسيون ـ وبخاصة في زمن المنصور ـ بخطورة اتساع قاعدة التشيع ، بسبب التفاف الجماهير حول أهل البيت(ع) عندما بدأوا يلمسون تنكّر العباسيين لمبادئهم المعلنة، وراحوا يقتفون أثر الاُمويين في الطغيان والارهاب على سبيل تدعيم ملكهم الغاشم، فبدأُوا بالتضييق على أئمة أهل البيت(ع) وشيعتهم، مما أدى الى قيام انتفاضات شعبية تزعّمها عدد من السادة العلويين، من بينهم محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية، والذي أشار في رسالة بعثها الى الخليفة العباسي المنصور الى الاُسلوب الذي اتبعه العباسيون في استلاب حقّ آل البيت عن طريق إعلان الثورة على الاُمويين باسمهم ثم الاستئثار بالسلطة دونهم، فكان ممّا قال فيها: ... فإنّ الحقّ حقّنا، وإنّما ادّعيتم هذا الامر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإنّ أبانا عليّاً كان الوصيّ وكان الامام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الامر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللّعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل... إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد(ص)، ومن السلف أوّلهم إسلاماً علي، ومن الازواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، ومن المولودين في الاسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة([120]).

وعندما خاب المنصور بالظفر بالنفس الزكية، وجّه سهام حقده الى أهله وعشيرته الاقربين، وقد وصف الجاحظ ما فعل المنصور بهم، فقال: ومضى المنصور ببني حسن الى الكوفة فسجنهم بقصر ابن هبيرة، وأحضر محمد بن إبراهيم بن حسن وأقامه، ثم بنى عليه اسطوانة وهو حيّ، وتركه حتى مات جوعاً وعطشاً ثم قتل أكثر من معه من بني حسن، وكان إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فيمن حُمل مصفّداً بالحديد من المدينة الى الانبار، وكان يقول لاخويه عبدالله والحسن: تمنّينا ذهاب سلطان بني اُمية، واستبشرنا بسلطان بني العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال الى ما نحن عليه([121]).

وبعد فشل ثورة النفس الزكية ومقتله في المدينة، ومصرع أخيه إبراهيم بن عبدالله الذي ثار في البصرة وقُتل في باخمرى قرب الكوفة في الوقعة التي أسماها الناس: بدر الصغرى([122]).

واستمرّت الثورات ضد العباسيين، ففي عهد المهدي بن جعفر المنصور، خرج عليّ بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب](ع)[، ولكن المهدي نجح في القبض على الثائر العلوي، ثم أطلق سراحه بشفاعة الحسن بن علي له، ولكنه دسّ له السم في شربة عسل، فعملت فيه، فلم يزل ينتقض عليه في الايام حتى قدم المدينة، فتفسّخ لحمه، وتباينت أعضاؤه، فمات بعد دخوله المدينه بثلاثة أيام([123]).

وفي عهد الخليفة موسى الهادي خرج الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب(ع) ثائراً، وانتهت ثورته بمصرعه في فخ، وهو المعروف بشهيد فخ.

وعندما تولى الرشيد الحكم بعد الهادي، ألقى القبض على يحيى بن عبدالله بن الحسن، فبنى عليه اسطوانة وهو حيّ([124]).

وعندما تولى المأمون بن الرشيد الحكم تظاهر بمحبة العلويين، ودعا الامام علي بن موسى الرضا(ع) وأسند إليه ولاية العهد قسراً، ثم دسّ له السَّم فمات منه.

وتوالت أعمال العباسيين الفظيعة تجاه أئمة الشيعة، وتجاوزوا الاحياء الى الاموات، حين كرب المتوكّل قبر الحسين(ع)وأغرقه بالماء، ومنع الناس من زيارته، وأقام المسالح([125]) على طريقه للقبض على كل من تسوّل له نفسه بزيارة قبر الامام الحسين(ع) .

واتّبع المتوكل سياسة التجويع مع أهل البيت(ع) ، فقد استعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس، ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ، إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقّعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر([126]).

وعندما قام المستعين بالامر قتل يحيى بن عمر بن الحسين، الذي قال فيه أبو الفرج الاصفهاني: وكان (رضي الله عنه) رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً عن رهق الشباب وما يُعاب به مثله. ولما اُدخل رأسه الى بغداد، جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له. ودخل أبو هاشم على محمد بن عبدالله بن طاهر، فقال: أيها الامير، قد جئتك مهنّئاً بما لو كان رسول الله حياً يعزّى به! وأدخل الاُسارى من أصحاب يحيى الى بغداد، ولم يكن رؤي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه([127]).

لم ينعم الشيعة بشيء من الراحة والامان على مدى قرون عديدة حتى جاء البويهيون في سنة (320 هـ)، فتولوا مقاليد السلطة في بعض أرجاء الدولة الاسلامية، وكانت سيرتهم حسنة جداً، وازدهرت الثقافة في عصرهم، حتى إذا جاء السلاجقة واستولوا على بغداد سنة (447 هـ)، قام زعيمهم طغرل بك باحراق مكتبة مرجع الشيعة وزعيمهم الشيخ الطوسي(رحمه الله) وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس، وأحرق المكتبة التي انشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، وكانت من دور العلم المهمة في بغداد، بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة (381) هـ على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد، وكانت مهمة للغاية، وقد جمع فيه هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق، واستكتب تآليف أهل الهند والصينوالروم،ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الاثار ومهام الاسفار، وأكثرها

نسخ الاصل بخطوط المؤلفين، وكان من جملتها مصاحف بخط ابن مقلة([128]).

ووصفها ياقوت الحموي قائلاً: ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الائمة المعتبرة واُصولهم المحررة([129]).

وفي عهد العثمانيين لم يكن الامر أقلّ ضرراً على الشيعة، فقد كان تناهى الى مسامع السلطان سليم العثماني أنّ بعض تعاليم المذهب الشيعي قد انتشرت بين رعاياه، وقد تمسك بها بعض الاهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كلّ من يدخل في هذه الشيعة([130]). فقتلوا نحو أربعين ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الاسلام بأنه يؤجر على قتل الشيعة واشهار الحرب ضدهم([131]).

وقد ذهب آلاف من الشيعة في مذبحة اُقيمت لهم في مدينة حلب بفتوى أصدرها الشيخ نوح الحنفي في جواب من سأله عن السبب في وجوب مقاتلة الشيعة وجواز قتلهم، قال: اعلم أسعدك الله أنّ هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد وأنواع الفسق والزندقة والالحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم.. (الى أن قال): فيجب قتل هؤلاء الاشرار الكفّار تابوا أو لم يتوبوا. وحكم باسترقاق نسائهم وذراريهم([132]).

هذا غيض من فيض ممّا لقيه الشيعة على مرّ تاريخهم من الاضطهاد والقهر، أوردناه على وجه الاختصار، للكشف عن بعض الاسباب التي دفعت بالسلطات الحاكمة ومن يلفّ لفَّها الى تشويه صورة الشيعة في أذهان الناس، لانّ الشيعة كانوا على مرّ التاريخ شوكة في أعين سلاطين الجور والحكام الظالمين، كما وأنّ ذلك يعطينا فكرة عن المقدمات التي أدت الى تفرّق الشيعة في بعض الاحيان تبعاً لهذه الظروف الضاغطة ممّا كان يؤدي بالكثير منهم الى الوقوع في الحيرة، الامر الذي كان يهىّء الظروف المؤاتية لنشوء بعض الفرق المنحرفة عن خط التشيّع الاصيل، والذي كان في بعض الاسباب الموجبة لنشوئها دخول بعض المنحرفين والمشبوهين في صفوف الشيعة وإظهار بعض المقالات الفاسدة وإلصاقها بالتشيّع بهدف تشويه صورته أمام الناس بما يتيح الفرصة للحكام الغاشمين وأعوانهم في القضاء على هذا الخطّ الاسلامي الثوري الاصيل، الذي يريد المحافظة على القيم الاسلامية التي جاء بها النبيّ الاكرم (ص)، وتولّى حفظها وصيانتها أهل بيته الطاهرون الذين اعتبرهم الرسول(ص) أعدال القرآن وقرناؤه.


--------------------------------------------------------------------------------

([116]) تاريخ اليعقوبي: 2/75.

([117]) شرح نهج البلاغة: 4/6.

([118]) شرح نهج البلاغة: 11/44 ـ 46، ذكربعض ما مني به آل البيت من الاذى والاضطهاد.

([119]) شرح نهج البلاغة: 11/43.

([120]) تاريخ الطبري: 7/567.

([121]) النزاع والتخاصم: 74.

([122]) مقاتل الطالبيين لابي فرج الاصفهاني: 365 .

([123]) المصدر السابق: 403.

([124]) مقاتل الطالبيين: 403 .

([125]) نقاط تفتيش مسلّحة.

([126]) مقاتل الطالبيين: 403.

([127]) مقاتل الطالبيين: 403 .

([128]) خطط الشام 3/185، الكامل في التاريخ: 10/3.

([129]) معجم البلدان: 2 /342.

([130]) كذا في المصدر.

([131]) الامام الصادق والمذاهب الاربعة لاسد حيدر: 1/244.

([132]) الفصول لمهمة في تأليف الاُمة للسيد عبدالحسين شرف الدين: 195 ـ 196،

عن الفتاوى الحامدية: 1/ 104، تاريخ الشيعة للشيخ المظفر: 147، التقية في فقه أهل البيت: 1/51 .

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page