• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حقيقة التشيّع ومنشؤه 6

 

حقيقة التشيّع ومنشؤه 6

مسيرة التشيّع

لقد أدرك أئمّة أهل البيت(ع) بعد استشهاد الحسين(ع) ، أنّ من بقي من الشيعة ـ بعد ذهاب الجيل العقائدي الاوّل ـ لم يصلوا إلى مرحلة من النضج في العقيدة تؤهّلهم للقيام بدورهم المطلوب، وتحمّل التضحيات الجسيمة التي يتطلبها ذلك، فانصرفوا إلى مرحلة جديدة تتولى تثقيف هؤلاء الشيعة، وترسيخ العقيدة في نفوسهم وحمايتهم من الخطوط المنحرفة، التي بدأت تغزو الساحة الاسلامية في ظلّ حكم الاُمويين، فبدأ الامام عليّ بن الحسين(ع) هذه المهمة عن طريق بثّ التعاليم الاسلامية الحقيقية، ومحاولة الحفاظ على المسار الصحيح للاسلام، والسنّة النبوية الشريفة، إلاّ أنّ صعوبة الظروف التي تلت استشهاد الامام الحسين(ع)، وتضييق الاُمويين الخناق على الشيعة ورصد تحركات أهل البيت(ع) ، جعلت مهمته صعبة بعض الشيء، حتى إذا تولى الامامة إبنه محمدبن علي الباقر (ع)، كانت الاُمور قد انفرجت قليلاً، وبدأت قبضة الاُمويين بالارتخاء بعض الشيء ممّا مكّن الامام من نشر العلوم الاسلامية عن طريق الالتقاء بالشيعة بشكل أكثر من ذي قبل، حتى إذا حان عصر إمامة ابنه جعفر بن محمد الصادق(ع)كانت شمس دولة الاُمويين قد آذنت بالمغيب، وكان انشغال الاُمويين باخماد الثورات الداخلية وظهور خطر العباسيين قد أتاح فرصة جيدة للامام الصادق(ع)للبدء بحملة واسعة لبث العلوم الاسلامية، فكان يجلس في المسجد النبويّ ويأتيه طلاب العلم من مختلف البلاد حتى بلغ عدد تلاميذه الاُلوف، وكانت تلك فرصة جيدة للشيعة للالتقاء بالامام والانتهال من علوم أهل البيت(ع) ، وبثّها في مقابل ما كان يفعله أتباع المدرسة الاُخرى في بث الانحراف الذي نشره الاُمويون في الشريعة.

لقد كان الائمة من أهل البيت(ع) قد قرّروا الابتعاد عن الثورة المسلّحة للاطاحة بأنظمة الحكم المنحرفة، بسبب قناعتهم أن الشيعة في تلك المرحلة لم يكونوا على درجة كافية من الوعي المطلوب، لتحمّل مسؤولية الثورة والحفاظ عليها، وما يترتب على ذلك من تضحيات، فكان الانصراف للتوعية والتثقيف أكثر أهمية من الثورة غير المتكاملة الشروط، وقد تأكّدت صحة هذا الرأي عند قيام زيد بن عليّ بثورته المسلّحة على الاُمويين والتي انتهت بمقتله، بعد أن تخلى عنه أهل الكوفة، كما تخلّوا عن آبائه من قبل، ممّا يؤكد أنّهم لم يكونوا على درجة من الوعي كافية لتحمل أعباء الثورة.

لقد تحقق الانفراج النسبي في بداية قيام الدولة العباسية، وكانت تلك الفترة مؤاتية بالنسبة للشيعة لتلقي العلوم الاسلامية من أئمة أهل البيت(ع) ،وبخاصة من الامام جعفر الصادق(ع) الذي سمّي مذهب أهل البيت(ع) باسمه (المذهب الجعفري). إلاّ أنّ ذلك الانفراج قد بدأ بالاُفول من جديد بسبب قلق العباسيين من ميل الناس إلى أهل البيت(ع)، خاصة بعد ما تكشف زيف الدعوة العباسية، التي قامت أساساً في ظاهرها على الدعوة إلى الرضا من آل محمد.

ولمّا انكشف للناس زيف دعواهم وخافوا من انقلاب الناس والثورة عليهم تحت راية أهل البيت(ع)، بدأُوا يشددون الخناق على أئمة أهل البيت(ع) وأتباعهم، وقمعوا بقسوة جميع الثورات التي قام بها بعض السادة العلويين، وشدّدوا الخناق على الشيعة وراقبوا أئمّة أهل البيت(ع) مراقبة شديدة حتى أودعوهم السجون سنوات طويلة، كما فعل الرشيد مع الامام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، أو فرضوا الحجر عليهم من خلال فرض الاقامة الجبرية عليهم في عاصمة الدولة العباسية، بعد حملهم من منازلهم في المدينة المنورة، كما حدث لباقي أئمة أهل البيت بدءاً بالامام الرضا(ع)، وانتهاءً بالامام الهادي والحسن العسكري(ع) .

لقد كانت تلك الفترة عصيبة جداً، حيث لم يكن باستطاعة الشيعة الالتقاء بأئمّتهم(ع)بحرية تامة، بسبب الارصاد التي وضعها العباسيون عليهم، وقد استمرت تلك الفترة حتى واغتيال الامام الحسن العسكري (ع)، حيث جدّ العباسيون في الوقوف على خبر ولده المهدي(ع) ، الذي غاب عن الابصار بتدبير ربّاني، واستمرت غيبته الاُولى مدة قاربت السبعين عاماً وكان الاتصال بينه وبين شيعته يتمّ عن طريق وكلائه الاربعة الذين تناوبوا على الوكالة، حتى وقعت الغيبة الكبرى، وأصبح الفقهاء هم مراجع الشيعة علمياً ودينياً وسياسياً بعد أن أرسى الائمة الاطهار(ع) قواعد هذه المرجعية الشامله بشكل كامل .

الفرق الاسلامية وانحرافات الغلاة:

لم تكن مسيرة التشيّع خالية من العقبات والمصاعب ، إذ إنّ تضييق السلطات على الشيعة وأئمتهم ـ كما مرّ ـ واضطرارهم للتقية إبقاء على أنفسهم، وعدم قدرة الائمة على التصريح بكلّ الحقائق دائماً وبشكل علني ـ نتيجة للرقابة الحكومية الشديدة ـ خوفاً على شيعتهم من الملاحقة والاضطهاد، قد أدى الى وقوع بعض الشيعة أحياناً في الحيرة والارتباك، وقد استغلها بعض أصحاب النفوس المريضة والاهداف المشبوهة، بالاضافة الى أسباب اُخرى كجهل بعض العوام، ممّا أدى الى ظهور خطوط منحرفة عن المسيرة الصحيحة للتشيع، تماماً كما حدث لباقي المسلمين، حيث ظهرت فرق الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرها بسبب اختلاف المسلمين في تأوّل بعض الايات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة، فضلاً عن الدور الخطير الذي لعبه بعض المتمسلمين من أهل الكتاب والديانات الاُخرى وإدخالهم الاسرائيليات وبثّها بين المسلمين، الى جانب انتشار الوضع في الحديث، والذي تفاقم بعد ظهور هذه الفرق حيث كان بعض أفرادها يضع الاحاديث ويتأوّل الايات انتصاراً لمذهبه، مع تطرّف البعض في دعواه، واعتقاد أنّ فرقته هي الفرقة الوحيدة المحقّة وأنّ باقي الفرق كلّها في ضلال.

وانطلاقاً من هذا الاُفق الضيّق قام بتكفير جميع المسلمين وأباح أعراضهم بالسيف وقَتلَ الذريّة وسبى النساء، واشتدّت المعارك الكلامية أيضاً بين هذه الفرق، وأدى التعصب البغيض الى اختلاط الكثير من المفاهيم والتباس المصطلحات ممّا أدّى الى تسمية البعض باسماء لا تليق به.

وقد عانى مذهب أهل البيت(ع) أشدّ المعاناة من هذه المسألة، حيث اُلحقت كثير من الفرق وأصحابها من ذوي الاعتقادات الفاسدة، بالمذهب الحقّ، لا لسبب إلاّ لانّ بعض هذه الفرق كانت تنتحل الولاء لاهل البيت(ع) ، رغم مخالفتها لمبادئهم بشكل كلّي، ومن هؤلاء فرق الغالية التي نسبت الى الائمة(ع) ما لا يقرّه الشرع والعقل ولا الائمة أنفسهم، وقالوا فيهم ما لم يقولوا هم في أنفسهم.

وكان السبب في نسبة هؤلاء الى التشيع تظاهرهم بالتمسّك بمذهب أهل البيت(ع)، رغم عقائدهم المنحرفة التي نشأت نتيجة الغلوّ وفي ظروف خاصة من القمع والقهر لاهل البيت(ع) .

لقد أدت هذه الاسباب مجتمعة بالاضافة الى أسباب اُخرى منها الصراع على السلطة الى خلط في المفاهيم، كان من نتيجتها تضارب كبير في أقوال المؤلفين في الفرق، وبخاصة فيما يتعلق بالشيعة ، حيث إننا لا نكاد نجد اتفاقاً بين هؤلاء المؤلفين حول عدد فرق الشيعة، فبعضهم يقلل العدد الى ثلاث فرق وآخر يربو بهم عن العشرين فرقة وهكذا دواليك. وبعض هذه الفرق لا وجود لها أساساً، وبعض المؤلفين جعل من بعض الافراد فرقاً، فالشهرستاني مثلاً يخترع فرقاً للشيعة باسم الهشامية واليونسية والزرارية نسبة الى هؤلاء الاشخاص مع كونهم أفراداً لم يُعرف أنّ لهم فرقاً قائمة بذاتها لها نظرياتها الخاصة بها، وبعض المؤلفين يدفعه التعصب لمذهبه الى الحطّ من الاخرين وتجريدهم من كلّ فضل أو علم، كالبغدادي مثلاً الذي يقول: ولم يكن ـ بحمد الله ومنّه ـ في الخوارج ، ولا في الروافض، ولا في الجهمية، ولا في القدرية، ولا في المجسّمة، ولا في سائر أهل الاهواء الضالة، إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتاريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام في التأويل والتفسير، وإنمّا كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة!!([133])

وهذا الكلام الذي يحمل كلّ معاني التعسف والاجحاف بحقّ الاخرين لا يقرّه أيّ مطّلع على التراث الاسلامي وهو يعجّ بمؤلفات علماء المسلمين ومحدّثيهم ومؤرّخيهم من جميع الفرق والطوائف.

ومن الامثلة على الخلط الشديد ـ لدى بعض المؤلفين : التقسيم الذي وضعه الامام أبو الحسن علي بن اسماعيل الاشعري المتوفى سنة (324 هـ ) في كتابه: (مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين) الذي يقسم الشيعة ابتداءً الى ثلاث فرق رئيسية، ثم يفرّع فيها فرقاً اُخرى، فيجعل فرقة الغلاة خمس عشرة فرقة، ثم يذكر الامامية ويرمز إليها بالرافضة ويقسّمها الى أربع وعشرين فرقة، ويعد الكيسانية من فرق الامامية بينما هي من فرق الغلاة في الحقيقة ولا علاقة لها بالامامية، ثم يذكر الزيدية ويقسّمها بدورها الى ثلاث طوائف هي الجارودية والبترية والسليمانية، ثم يقسّم هذه الفرق الى فرق اُخرى، وقد وقع الكثيرون في خطأ عدّ السليمانية من فرق الزيدية، بينما عقيدتهم مشابهة تماماً لعقيدة جمهور أهل السنّة ، كما سوف يتّضح فيما بعد.

ومن المؤسف أنّ الكثير من المؤلفين المعاصرين قد ساروا على نفس النهج، واعتمدوا على كتب هؤلاء القدامى دون تمحيص أو تحقيق ، ودون الرجوع الى مصادر كلّ فرقة أو طائفة لمعرفة منهجها الفكري من لسان أصحابها، بل اكتفوا بمقالة خصوم كل فرقة وما لفّقوه عنها.

إنّ ما يهمّنا من هذا كلّه أن نتعرف على تكوّن فرق الشيعة المرتبط بموضوعنا (نشأة التشيّع)، لذا سوف نحاول استقصاءها جهد الامكان لتوضيح أثر الظروف العصيبة التي مرّت على الشيعة من جهة، والكشف عن الخلط الذي وقع فيه المؤلفون في عقائد الشيعة حين عدّوا منهم من ليس منهم، ومن لا يعتبره الشيعة أنفسهم جزءاً منهم من جهة اُخرى .

وسنبدأ أولاً بمفهوم التشيع نفسه. ثم نشير الى أهم الاتجاهات الشيعية بايضاح، ثم نعرّج على بيان موقف الشيعة وأئمتهم من الغلوّ والغلاة.

مفهوم التشيّع

لقد أورد المؤلفون عن الشيعة والتشيّع عدة تعاريف ، نحاول استعراض أهمّها:

1 ـ قال أبو الحسن الاشعري: إنّما قيل لهم الشيعة لانهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله(ص)([134]).

2 ـ أما ابن حزم فيحدّد مفهوم التشيع بقوله: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول الله(ص) وأحقّهم بالامامة، وولده من بعده، فهو شيعيّ وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّاً([135]).

3 ـ وعرّفهم الشهرستاني بقوله: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً(رضي الله عنه)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصيّة، إما جليّاً وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أنّ الامامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقيّة من عنده، وقالوا: ليست الامامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، وينتصب الامام بنصبهم، بل هي قضية اُصولية، هي ركن الدين، لا يجوز للرسل(ع)إغفاله وإهماله ولا تفويضه الى العامة وإرساله .

وأضاف قائلاً : ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت العصمة للانبياء والائمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولّي والتبرّي ، قولاً وفعلاً وعقداً، إلاّ في

حالة التقية([136]).

4 ـ وقال محمد فريد وجدي: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً(ع)في إمامته، واعتقدوا أنّ الامامة لا تخرج عن أولاده، قالوا: ليست الامامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، بل هي قضية اُصولية، هي ركن الدين، ولابدّ أن يكون الرسول قد نصّ على ذلك صريحاً، والشيعة يقولون بعصمة الائمة من الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبرّي قولاً وفعلاً، إلاّ في حال التقية إذا خافوا بطش الظالم([137]).

5 ـ ومن المؤلفين الشيعة الذين حدّدوا مفهوم التشيع، النوبختي، الذي يقول: فأول الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب(ع) المسمّون بشيعة علي(ع) في زمان النبي(ص) وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته، فهم: المقداد بن الاسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمّار بن ياسر، ومن وافق مودّته مودّة علي(ع) ، وهو أوّل من سمّي باسم التشيع من هذه الاُمة، لانّ اسم التشيّع قديم، شيعة إبراهيم وموسى وعيسى والانبياء صلوات الله عليهم أجمعين([138]).

6 ـ أما الشيخ المفيد فيعرّف الشيعة بأنّهم: من شايع عليّاً وقدّمه على أصحاب رسول الله صلوات الله عليه ، واعتقد أنّه الامام بوصية من رسول الله(ص) وبإرادة من الله تعالى أيضاً ، كما يرى الامامية، أو وصفاً كما يرى الجارودية([139]).

7 ـ أما الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ، فيتناول الكلام عن النص والوصية ويربط التشيّع بالاعتقاد بكون عليّ إماماً للمسلمين بوصية من الرسول ، وبإرادة من الله، ثمّ يقسم النصّ الى نوعين: الجلي والخفي.

أما النصّ الجلي فقد تفرد بنقله الشيعة الامامية خاصة، وإن كان من أصحاب الحديث من رواه على وجه نقل أخبار الاحاد.. أما النص الخفي فيرى الطوسي أيضاً أنّ جميع الاُمّة تلقته بالقبول وإن اختلفوا في تأويله والمراد منه، ولم يقدم أحد منهم على إنكاره ممن يعتد بقوله.

ويخرج الطوسي السليمانية من الزيدية من فرق الشيعة لانّهم لا يقولون بالنص، وإنما يقولون إنّ الامامة شورى، وأنّها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنّها تصلح في المفضول. ولما كان قول الصالحية والبترية من الزيدية في الامامة كقول السليمانية، ينطبق عليهم ـ على رأي الطوسي ـ ما ينطبق على السليمانية([140]).

هذه هي أهم الاراء التي استعرضت مفهوم التشيّع من بعض القدامى والمعاصرين من كلا الفريقين ويمكننا أن نستنتج من كلماتهم في تبيين مفهوم التشيع أنّ لهم اصطلاحين، أحدهما: التشيع بالمعنى العام، وثانيهما التشيع بالمعنى الخاص.

وقد وقع الخلط بين هذين المفهومين عند كلّ من تطرق الى هذا الموضوع، ويمكننا من خلال مراجعتنا لاقوال المؤلفين

الذين استعرضنا آراءهم ، أن نعرف أنّهم يكادون يعبّرون عن التشيّع بمفهومه الخاص دون التطرق الى مفهومه العام، وهذا ما سنحاول توضيحه مع ذكر التقسيمات التي تتفرع عن كلّ من المفهومين:

أ ـ التشيّع بالمعنى العام

1 ـ من هذا الضرب القول بتفضيل علي بن أبي طالب(ع)على عثمان بن عفّان فقط ، دون الشيخين أبي بكر وعمر.

وهذا النوع من التشيّع كان يضمّ شريحة كبيرة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما يعترف بذلك شمس الدين الذهبي في ترجمة «أبان بن تغلب» رداً على من اعترض على توثيقه مع تشيّعه ، قائلاً: إنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الاثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرفهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب علياً(رضي الله عنه)وتعرّض لسبّهم([141]).

2 ـ القائلين بتفضيل علي بن أبي طالب(ع) على جميع

الصحابة، ومن بينهم الشيخان أبو بكر وعمر، ولكن

مع الاعتراف بصحة خلافتهما وعدم الاعتراف بوجود نص

على خلافة علي(ع)أو أحد غيره.

ويمثّل المعتزلة البغداديون وبعض البصريين منهم هذا الاتجاه بشكل واضح، وقد فصّل ابن أبي الحديد المعتزلي القول في ذلك في بداية شرحه لكتاب نهج البلاغة، قائلاً:

اتفق شيوخنا كافّة رحمهم الله، المتقدّمون منهم والمتأخّرون، والبصريّون والبغداديّون على أنّ بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص، وإنّما كانت بالاختيار الذي ثبت ـ بالاجماع وبغير الاجماع ـ كونه طريقاً الى الامامة.

واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عُبيد، وأبي إسحاق إبراهيم بن يسار النظام، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبي معن ثمامة بن أشرس، وأبي محمد هشام بن عمور الفُوطي، وأبي يعقوب يوسف بن عبدالله الشحّام، وجماعة غيرهم: إنّ أبا بكر أفضل من علي(ع)، وهؤلاء يجعلون ترتيب الاربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

وقال البغداديون قاطبة ـ قدماؤهم ومتأخروهم ـ كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى بن صبيح، وأبي عبدالله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الاسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم عبدالله بن محمود البلخي وتلامذته: إنّ علياً(ع) أفضل من أبي بكر.

والى هذا المذهب ذهب من البصريين، أبو علي محمد بن عبدالوهاب الجبّائي أخيراً، وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل الى التّفضيل ولا يصرّح به، وإذا صنّف ذهب الى الوقف في مصنفاته. وقال في كثير من تصانيفه : إن صحّ خبر الطائر

فعليٌّ أفضل([142]).

ثم إن قاضي القضاة (رحمه الله)، ذكر في شرح المقالات لابي القاسم البلخي، أنّ أبا علي(رحمه الله) ما مات حتى قال بتفضيل علي(ع) ، وقال: إنّه نقل ذلك عنه سماعاً، ولم يوجد في شيء من مصنّفاته.

وقال أيضاً: إنّ أبا عليّ (رحمه الله) يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وكان قد ضعف عن رفع الصوت ، فألقى إليه أشياء، ومن جملتها القول بتفضيل علي(ع) .

وممّن ذهب الى تفضيله(ع) من البصريين: الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري(رضي الله عنه)، كان متحقّقاً بتفضيله ومبالغاً في ذلك، وصنّف فيه كتاباً مفرداً.

وممّن ذهب الى تفضيله(ع) من البصريين: قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبار بن أحمد(رحمه الله) ، ذكر ابن متّويه عنه في كتاب (الكفاية) في علم الكلام أنّه كان من المتوقّفين بين عليّ(ع)وأبي بكر، واحتجّ لذلك وأطال في الاحتجاج. فهذان المذهبان كما عرفت.

وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله الى التوقف فيهما; وهو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء، وأبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاّف ، من المتقدمين، وهما ـ وإن ذهبا الى التوقف بينه(ع)وبين أبي بكر وعمر ـ قاطعان على تفضيله على عثمان.

ومن الذاهبين الى الوقف : الشيخ أبو هاشم عبدالسلام بن أبي عليّ رحمهما الله، والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري (رحمه الله) .

وأما نحن فنذهب الى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله(ع)، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الافضل، وهل المراد به الاكثر ثواباً، أو الاجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبيّنا أنه (ع) أفضل على التفسيرين معاً([143]).

ب ـ التشيّع بالمعنى الخاص

وهو القول بتفضيل عليّ بن أبي طالب(ع) على الاُمة كلّها بعد النبي(ص) مع القول بوجود نصّ صريح من النبيّ(ص) على إمامته، وبأمر من الله سبحانه وتعالى، وأنّ الامامة من بعده في عقبه.

وهذا هو المفهوم الذي تكوّن منذ عهد الرسالة النبوية الشريفة وحمل أعباءه عدد من الصحابة المقرّبين للنبي(ص)وأوصلوه الى غيرهم وامتدّ خطّه بعد ذلك وتعاظم على مرّ الايام وكُتب له الخلود الى يومنا هذا والى ما شاء الله، قد تمثّل في الشيعة الامامية الاثني عشرية التي تتلخّص اُصول عقائدها فيما يأتي.

عقيدة الاثني عشرية:

يعتقد الشيعة الاثنا عشرية بإمامة الائمة الاثني عشر(ع) ، وهم: علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن بن علي، ثم أخوه الحسين بن علي، ثم ابنه علي بن الحسين السجّاد، ثم ابنه محمد بن علي الباقر، ثم ابنه جعفر بن محمد الصادق، ثم ابنه موسى بن جعفر الكاظم، ثم ابنه علي بن موسى الرضا، ثم ابنه محمد بن علي الجواد، ثم ابنه

علي بن محمد الهادي، ثم ابنه الحسن بن علي العسكري، ثم

ابنه محمد بن الحسن المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه

عليهم أجمعين.

ويستندون في عقيدتهم هذه الى النصوص المتفق عليها من الفريقين على ولاية علي بن أبي طالب (ع) بأمر من الله ورسوله ، والتي مرّ بعضها فيما سبق، وأهمّها حديث الغدير، وكذلك حديث الثقلين الذي نصّ فيه النبي(ص) على ضرورة التمسك بأهل بيته.

وقد بيّنا فيما سبق من هم أهل بيته، وأما باقي الائمة، وتمامهم اثنا عشر إماماً فيعتمدون ـ فضلاً عن النصوص التي ينفردون بها ـ على النص المتفق عليه عند الفريقين، والذي أخرجه كبار أئمة الحديث من الجمهور، وفي مقدمتهم الشيخان البخاريومسلم، فضلاً عن باقي أصحاب الصحاح والمسانيد والمعاجم الحديثية وغيرها ، فقد أخرجوا ـ واللفظ للبخاري ـ عن جابر بن سمرة ، قال: سمعت النبيّ(ص)يقول: «يكون اثناعشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي، إنّه قال: «كلّهم من قريش»..

وأخرجها غيره من المحدثين بألفاظ، منها: «يكون اثنا عشرخليفة»،«ويكون اثنا عشر رجلاً» و «اثنا عشر قيّماً»([144]).

وقد تحيّر علماء الجمهور في المقصود بهؤلاء الاثني عشر ، فقال ابن كثير في باب : «الاخبار عن الائمة الاثني عشر(ع) الذين كلّهم من قريش»: وليسوا بالاثني عشر الذين يدّعون إمامتهم الرافضة، فإنّ هؤلاء الذين يزعمون لم يلِ اُمور الناس منهم إلاّ عليّ ابن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر الذي غاب بسرداب في سامراء، وليس له وجود، ولا عين ، ولا أثر، بل هؤلاء من الائمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث: الائمة الاربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبدالعزيز بلا خلاف بين الائمة على كلا القولين لاهل السنّة في تفسير الاثني عشر.

ثم ينقل ابن كثير أقوال العلماء كالبيهقي ـ بعد إيراد نصوص الحديث ـ ولكن العدد لا يستقيم لانّهم يحاولون إلحاق بني اُمية بالخلفاء الراشدين فيضطرون الى ادخال يزيد بن معاوية، والوليد ابن يزيد بن عبدالملك، الذي يصفه ابن كثير بقوله: «الفاسق الذي قدّمنا الحديث فيه بالذم والوعيد»، كما وأنّ العدد يربو على اثني عشر فيضطرون الى حذف بعضهم بحجة عدم الاجتماع عليهم دون الوصول الى نتيجة حاسمة، وأخيراً يقرر ابن كثير أنّ رواية أبي الجلد هي الاقرب الى الصحة لان أبا الجلد كان قد نظر في الكتب القديمة، وفي التوراة وجد ما معناه: إنّ الله تعالى

بشّر إبراهيم بإسماعيل، وإنّه ينمّيه ويكثره ويجعل من ذريّته

اثني عشر عظيماً!

ثم ينقل ابن كثير قول شيخه ابن تيمية الحراني الذي مفاده: وهؤلاء المبشّر بهم في حديث جابر بن سمرة، وقرّر انّهم يكونون مفرّقين في الاُمة! ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا، وغلط كثير ممّن تشرف بالاسلام من اليهود فظنّوا أنّهم الذين تدعو إليهم فرقة الرافضة فاتّبعوهم([145]).

وفي هذا اعتراف منهم بأنّ أهل الكتاب قد عرفوا من كتبهم أنّ هؤلاء الاثني عشر هم الائمة من أهل البيت(ع) كما تقول الشيعة الاثنا عشرية، فدخلوا في الاسلام وتشيّعوا. ولا عبرة بمزاعم ابن تيمية وغيره حيث قالوا بأن اُولئك الخلفاء يكونون مفرّقين في الاُمة، إذ ليس في الحديث ما يدل على ذلك، كما أن عدّة اُولئك لم تتّم لحين هذه الساعة بعد سقوط الخلافة الاسلامية.

وينقل ابن حجر العسقلاني آراء عدد من العلماء كابن الجوزي وابن البطال وغيرهم في هذا الحديث الذي قال فيه ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود به; لانّ ألفاظه مختلفة، ولا شك أنّ التخليط فيها من الرواة([146]).

ويتّضح من ذلك: إنّ اضطراب القوم في تفسير الحديث يعود الى ألفاظ، مثل : (خليفة وأمير) وغيرها فيه، فظنّوا أنّ المقصودين بذلك هم خلفاء بني اُمية وبني العباس وغيرهم من الطواغيت، وقد فاتهم أنّ الخلافة والامارة المقصودة هي الامامة التي هي أوسع اُفقاً من الحكم .

وأما باقي عقائد الامامية واُصولهم فتتركز في:

____________________________________________

([133]) الفَرق بين الفِرَق : 282.

([134]) مقالات الاسلاميين: 1/65 ط القاهرة 1950 م.

([135]) الفصل في الملل والاهواءوالنحل: 2/113 ط . بغداد.

([136]) الملل والنحل: 131.

([137]) دائرة معارف القرن العشرين: 5/424.

([138]) فرق الشيعة: 17.

([139]) هوية التشيّع، الشيخ أحمد الوائلي: 12 ، عن موسوعة العتبات المقدسة المدخل: 91.

([140]) د . عبدالله فياض: تاريخ الامامية: 32 ـ 33.

([141]) ميزان الاعتدال: 1/6.

([142]) قال ابن كثير في البداية والنهاية: 7/387، وهذا الحديث قد صنّف الناس فيه وله طرق متعددة، ثم أورد الروايات التي جاءت فيه، فعن الترمذي بإسناده عن أنس، قال: كان عند النبي(ص) طير فقال: «اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء علي فأكل معه، ثم يورد ابن كثير روايات متعددة في هذا الشأن بطرق مختلفة، وقال إنها تصل الى بضع وتسعين، وقال: وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر بن مردويه والحافظ أبو ظاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي، ورأيت فيه مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لابي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم، وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه...

لكن ردّ هذا الحديث رغم كثرة طرقه كان بسبب مخالفته لعقيدة الجمهور في التفضيل، لان الحديث يدل على أفضلية علي(ع) على جميع الخلق بعد النبي(ص) ، وقد أخرج الحديث بألفاظ متعددة عدد كبير من الحفاظ والمحدثين، مثل: الترمذي: ح3721، الطبري: 1/226، 7/96، 10/343، الذهبي في ميزان الاعتدال: 2280، 2633، 7671، 8506، وابن حجر في لسان الميزان: 1/71، 85، والحديث مذكور أيضاً في كنز العمال: 46507، 3964، والمشكاة : 6085، مجمع الزوائد: 9/125، والاتحاف: 7/120، والتذكرة: 9696، وتاريخ دمشق : 5/222، 7/342، تاريخ جرجان: 176 وغيرها.

([143]) شرح نهج البلاغة: 1/7.

([144]) انظر صحيح البخاري : 9/101، كتاب الاحكام، باب الاستخلاف ، جامع الترمذي: 4/501، سنن أبي داود: 4/106 ، المعجم الكبير للطبراني: 2/196 وغيرها.

([145]) البداية والنهاية : 6/278 ـ 280، 2/176 ذكر مولد إسماعيل (ع) من هاجر.

([146]) فتح الباري: 13/181.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page