• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الرؤية 1

 

الرؤية 1

  

«رؤية الله»
بين التنزيه والتشبيه [1]
مقدّمة:
الإتجاهات والآراء في مسألة الرؤية
منهج البحث
أدلّة الاتّجاه الأوّل القائل بالتجسيم والرؤية
أدلّة الاتجاه الثاني القائل بالرؤية بلا كيفية
المرحلة الاُولى
المرحلة الثانية
أدلّة الاتّجاه الثالث القائل بالتنزيه واستحالة الرؤية
الأدلّة العقلية على استحالة الرؤية:
الأدلّة القرآنية على انتفاء الرؤية البصرية
عوامل ظهور القول بالرؤية
خلاصة البحث

«رؤية الله»
بين التنزيه والتشبيه [1]
مقدّمة:
تعتبر مسألة رؤية الله من المسائل الكلامية المهمة التي حظيت بنطاق واسع من البحث والتحقيق والأخذ والرد بين المسلمين منذ الصدر الأوّل للإسلام وحتى الآن، وذلك لما لها من مدخلية كبيرة في أصل قضية التوحيد من جهة، وإلحاح العقل في استيضاحها من جهة ثانية، ولعلّ أهميتها في هاتين الجهتين جعلها عرضة للتأثر السلبي بالتراث اليهودي من جهة، والمشارب الفلسفية من جهة ثانية، بحثاً عن أسباب إضافية تستكمل بها حاجتها الى الاشباع الكافي.

وهذه الدراسة عبارة عن محاولة لتسليط الأضواء على هذه المسألة ، ورائدنا فيها هو البحث عن الحقيقة التي يثبتها العقل ويدلّل عليها النقل.

وقبل أن ندخل في صميم البحث، لابدّ لنا من التنويه بأنّ مسألة الرؤية تتداخل مع مسألة التجسيم تداخلاً صميمياً، وليس بإمكاننا الفصل بين المسألتين، ولذا فدراستنا هذه تتناولهما معاً في آن واحد، لأجل التلازم القائم بينهما الذي يجعل البحث في أيٍّ منهما بحثاً فيهما معاً ، وإن كان العنوان مقتصراً على واحد منهما فقط .

الإتجاهات والآراء في مسألة الرؤية
لقد تشتتت الآراء والاتجاهات في هذه المسألة حتى بلغت حد الافراط ، بحيث إنّك حينما تطالع كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري تجده يعرض في هذه المسألة تسعة عشر رأياً. فقد كتب يقول:

«واختلفوا في رؤية البارئ بالأبصار على تسع عشرة مقالة ; فقال قائلون: يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.

وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه.

وأجاز كثير ممّن أجاز رؤيته في الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم، وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك، حُكي ذلك عن بعض أصحاب مضر وكهمس. وحُكي عن أصحاب «عبدالواحد بن زيد» أنّهم كانوا يقولون: إنّ الله سبحانه يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن. وقد قال قائلون: إنّا نرى الله في الدنيا في النوم فأمّا في اليقظة فلا. ورُوي عن رَقَبة بن مَصقلة أ نّه قال: رأيت ربّ العزّة في النوم فقال: لأكرمنّ مثواه ـ يعني سليمان التيمي ـ صلّى الفجر بطُهر العشاء أربعين سنة. وامتنع كثير من القول إنّه يُرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه، وقالوا: إنّه يُرى في الآخرة.

واختلفوا أيضاً في ضرب آخر، فقال قائلون: نرى جسماً محدوداً مقابلاً لنا في مكان دون مكان.

وقال زهير الأثري : ذات الله عزّ وجلّ في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه بلا كيف، وكان يقول: إنّ الله يجيء يوم القيامة الى مكان لم يكن خالياً منه، وأ نّه ينزل الى السماء الدنيا ولم تكن خالية منه. واختلفوا في رؤية الله عزّ وجل بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا؟ فقال قائلون: هي إدراك له بالأبصار وهو يُدرك بالأبصار. وقال قائلون: يُرى الله سبحانه بالأبصار ولا يُدرك بالأبصار. واختلفوا في ضرب آخر: فقال قائلون: نرى الله جهرة ومعاينة، وقال قائلون: لا نرى الله جهرة ولا معاينة. ومنهم من يقول : اُحدّق إليه إذا رأيته، ومنهم من يقول: لا يجوز التحديق إليه. وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد: إن الله لا يُرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا هذه فندركه بها، وندرك ما هو بتلك الحاسّة. وقالت البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويكلّم خلقه منها. وقال الحسين النجّار: إنّه يجوز أن يحوّل الله العين الى القلب، ويجعل لها قوّة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤيةً له، أي علماً له. وأجمعت المعتزلة على أنّ الله لا يُرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: إن الله يرى بقلوبنا بمعنى إنّا نعلمه بها، وأنكر ذلك الفوطي وعبّاد. وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية: إن الله لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، ولا يجوز ذلك عليه. واختلفوا في الرؤية لله بالأبصار ـ هل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محال ـ على مقالتين:

فقال قائلون: يجوز أن يُرى الله سبحانه في الآخرة بالأبصار وقال(؟) نقول: إنّه بتاتاً وقال(؟) نقول: إنّه يرى بالأبصار. وقال قائلون: نقول بالأخبار المرويّة وبما في القرآن أ نّه يُرى بالأبصار في الآخرة، بتاتاً يراه المؤمنون. وكل المجسمة إلاّ نفراً يسيراً يقول بإثبات الرؤية، وقد يُثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم» [2] .

هذا ما قاله أبو الحسن الأشعري، ولكننا يمكننا أن نرجع بعض الآراء الى بعض ونختصرها جميعاً في ثلاثة اتجاهات أساسية هي:

1 ـ اتّجاه يقول بإمكان الرؤية الحسّية في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المجسّمة الذين جعلوا الله سبحانه وتعالى على صفة سائر مخلوقاته من حيث الجسمية، فلما جعلوه جسماً كسائر الأجسام كان من الطبيعي أن يؤمنوا برؤيته كما يحصل ذلك لأي جسم آخر بلا فرق بين الدنيا والآخرة.

2 ـ واتّجاه آخر حاول التوسط فمنع الرؤية في الدنيا وأجازها في الآخرة مع نفي الكيفية، وهو رأي الجمهور المتمثل بأهل السنّة والجماعة من أتباع المذاهب الأربعة الذين حاولوا التخلص من التجسيم مع الاحتفاظ بالرؤية بهذه الكيفية.

3 ـ واتّجاه ثالث آمن باستحالة الرؤية في الدنيا والآخرة، وهو ما عليه المعتزلة والإمامية وآخرون.

فالأوّل تجسيم محض ، والثالث تنزيه محض، والثاني متوسط بينهما حاول أن يأخذ من كل طرف طرفاً.

ولابدّ من التذكير هنا بأن البحث كل البحث يقع في الرؤية البصرية، أما ما يتحدث عنه الوالهون بحب الله سبحانه وتعالى من الرؤية القلبية الوجدانية فخارج عن محل البحث، كقول الإمام علي(عليه السلام) : «ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وفيه وبعده» [3] ،أو قول الإمام الحسين(عليه السلام): في دعاء عرفة: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً» [4] .

منهج البحث
وقبل أن نخوض في المسألة واتّجاهاتها الثلاثة لابدّ لنا من التذكير بنقطة مهمة وهي أن طريق النفي والإثبات في هذه المسألة منحصر بالعقل، وليس للنصوص الشرعية إلاّ دور الكشف عن حكم العقل فيها، لبداهة أن حجية النصوص الشرعية لا تتم إلاّ بعد اثبات أصل التوحيد والمسائل المتعلقة به، ولو جعلنا النصوص الشرعية هي الحجة في المسائل التوحيدية للزم من ذلك الدور، ولتوقفت حجية النصوص الشرعية على نفسها وهو باطل، ولافتقرت الى دليل يثبتها، ولتعطلت بذلك حجيتها، ولم يعد بوسعنا اثبات أيّ شيء بها، ولا تكون حينئذ حجة لا في مسألة شرعية ولا عقائدية.

نعم، إذا أجاز العقل صفة معينة في مرحلة الثبوت ولم يدلّل على اتّصاف أو عدم اتّصاف التوحيد بها في عالم الإثبات احتجنا الى الشرع في اثباتها أو نفيها عن الله سبحانه وتعالى، وهذا انّما يصح في مرحلة الإثبات بعد اجازة العقل في مرحلة الثبوت، وفيما عدا ذلك تناقش أدلّة السمع بما هي كاشفة عن حكم العقل ومتطابقة معه ومشيرة إليه، وإذا وجد ظاهر من ظواهر الكتاب والسنّة يتقاطع مع دليل عقلي قطعي في مسألة توحيدية فاللازم حينئذ تأويل هذا الظهور بنحو يرفع التقاطع بينهما، وهذا التأويل لا يعني التصرف الكيفي في معاني الكتاب والسنّة، وإنّما يعني البحث عن المعنى الصحيح بالطريقة التي أمرنا القرآن الكريم أن نبحث بها عن معانيه التي يقصدها هو . وذلك في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هنّ اُم الكتاب واُخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ اُولوا الألباب) [5] .

فهناك تأويل كيفي مرفوض، وآخر منهجي يسير طبق ضوابط معينة هدفه منع التصرف الكيفي بظواهر القرآن واتّباع الطريقة القرآنية في التوصل الى المعاني التي يقصدها.

ومن هنا يمكننا أن نناقش القاضي عبدالجبار في قوله: «ويمكن أن نستدل على هذه المسألة بالعقل والسمع جميعاً، لأن صحة السمع لا تقف عليها، وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن ولهذا جوّزنا الاستدلال بالسمع على كونه حياً لما لم تقف صحة السمع عليها ، يبيّن ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعاً حكيماً وإن لم يخطر بباله أ نّه هل يُرى أم لا؟» [6]

فإنّ المعيار في المسألة ليس عدم خطور الرؤية في الذهن لدى الاعتقاد بوجود صانع للعالم، فإنّ الذهن لدى انشغاله بجهة معينة قد ينصرف عن جهة اُخرى ملازمة لها، ومثل هذا الانصراف لا يكون دليلاً على عدم تلازم الجهتين، إنّما الدليل يظهر حينما يلتفت العقل الى الجهة الثانية، ويصدر حكمه بالتلازم وعدم التلازم مع الجهة الاُولى، ولو فرضنا أن العقل حكم بتلازم الاُلوهية مع عدم الرؤية وتلازم الجسمية والرؤية مع الممكنات المادية، في مثل هذه الحالة يكون ذلك التلازم العقلي هو الدليل في اثبات عدم جواز رؤية الله، وتكون أدلّة السمع مؤيدة ومؤكدة له وكاشفة عنه، وليست دليلاً مستقلاً عنه ولوفرض وجود ظهورات سمعية معارضة فسوف تعتبر من جملة متشابهات القرآن والسنة التي يجب ارجاعها الى المحكمات، طبقاً لمفروض القرآن الكريم.

وحينئذ، إذا اعتقد الإنسان بالصانع الحكيم والتفت الى عدم جواز رؤيته عقلاً، اصبحت صحة السمع متوقفة على مسألة الرؤية، ولم يعد بالإمكان الاستدلال على الرؤية بالسمع والأدلّة السمعية من الكتاب والسنّة بنحو مستقل عن العقل وحكمه بعدم جواز الرؤية.

أدلّة الاتّجاه الأوّل القائل بالتجسيم والرؤية
وأصحاب هذا الاتجاه هم المجسمة القائلون بأنّ الله سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام قابل للرؤية والمشاهدة في الدنيا والآخرة ، مع التشبيه والتكييف، وليس بين أيدينا الآن مصادر محايدة تذكر أصحاب هذا الاتجاه وتراثهم الفكري، وإنّما هناك نقولات وذكر لبعض أسمائهم في مصادر غيرهم، كما مرّ في كلام الأشعري عن مضر و كهمس. والظاهر أنّ هذا الاتجاه قد اندحر بصورة مبكرة بعدما اتّضح بطلانه ومخالفته الصريحة للعقل والوجدان والكتاب والسنة، وقد بلغ بالقبح حدّاً بحيث أصبح أصحاب الاتّجاه الثالث القائل بالتنزيه يرمي أصحاب الاتّجاه الثاني بالتجسيم والتشبيه، وإن كان هؤلاء يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ويعلنون براءتهم من التجسيم ويقولون بنفي الكيفية عن الله سبحانه وتعالى. فنجد في بعض المؤلفات أسماء أشخاص ينسبون الى التجسيم، وحينما تطالع آراءهم تجدهم يقولون بنفي الكيفية ويعتبرون ذلك كافياً لنفي التجسيم عنهم والحاقهم بالتنزيه، بينما يصر أهل التنزيه على ادراجهم في قائمة المجسمة اعتقاداً منهم بأنّ نفي الكيفية لا يكفي في نفي التجسيم كما سنرى ذلك تفصيلاً فيما بعد.

ولم أعثر على مصدر يبين أدلة الاتّجاه الأوّل فيما ذهب إليه من القول بالتجسيم الصريح سوى وجوه ذكرها الباقلاني المتوفى سنة ( 403 هـ ) في كتابه تهميد الأوائل وتلخيص الدلائل ، دون أن يذكر مصدرها، بصيغة إن قالوا قلنا، أو قيل لهم، ولا نعلم هل أنها مذكورة في تراثهم فعلاً وقد عثر عليها ونقلها عنهم، أم أنها وجوه افتراضية ذكرها لنقض كل المداخل المحتملة لاثبات الجسمية؟ فقد كتب يقول:

«إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسماً ؟ قيل له: لما قدّمناه من قبل وهو أن حقيقة الجسم أنّه مؤلف مجتمع، بدليل قولهم: رجل جسيم وزيد أجسم من عمر، وعلماً بأنهم يقصرون هذه المبالغ على ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول ولا يوقعونها بزيادة شيء من صفات الجسم سوى التأليف، فلما لم يجز أن يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً وكان شيئاً واحداً ثبت أنه تعالى ليس بجسم. فإن قالوا: من أين استحال أن يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً؟ قيل لهم: من وجوه:

أحدها: أن ذلك لو جاز عليه لوجب أن يكون ذا حيِّز وشغل في الوجود، وأن يستحيل أن يماسّ كلّ بعض من أبعاضه وجزء من أجزائه غير ما ماسّه من الأبعاض وأجزاء الجواهر أيضاً من جهة ما هما متماسان، لأن الشيء المماس لغيره لا يجوز أن يماسّه ويماسّ غيره من جهة واحدة وليس يقع هذا التمانع من المماسة إلاّ للتحيّز والشغل، ألا ترى أن العرض الموجود بالمكان إذا لم يكن له حيّز وشغل لم يمنع وجوده من وجود غيره من الأعراض في موضعه؟ وإذا ثبت ذلك، وجب أن تكون سائر الأبعاض المجتمعة ذا حيّز وشغل، وما هذه سبيله فلابدّ أن يكون حاملاً للأعراض ومن جنس الجواهر والأجسام، فلما لم يجز أن يكون القديم سبحانه من جنس شيء من المخلوقات، لأنه لو كان كذلك لسد مسدّ المخلوق وناب منابه واستحق من الوصف لنفسه ما يستحقه ماهو مثله لنفسه، فلما لم يجب أن يكون القديم سبحانه مُحدثاً والمحدث قديماً ثبت أنه لا يجوز أن يكون القديم سبحانه مؤتلفاً مجتمعاً.

ويدلّ على ذلك أيضاً أنه لو كان القديم سبحانه ذا أبعاض مجتمعة لوجب أن تكون أبعاضه قائمة بأنفسها ومحتملة للصفات ولم يخل كل بعض منها من أن يكون عالماً قادراً حياً أو غير حي ولا عالم ولا قادر، فإن كان واحد منها فقط هو الحي العالم القادر دون سائرها وجب أن يكون ذلك البعض منه هو الإله المعبود المستوجب للشكر دون غيره، وهذا يوجب أن تكون العبادة والشكر واجبين لبعض القديم دون جميعه، وهذا كفر من قول الاُمّة كافة، وإن كانت سائر أبعاضه عالمة حية قادرة وجب جواز تفرّد كل شيء منها بفعل غير فعل صاحبه، وأن يكون كل واحد منها إلهاً لما فعله دون غيره، وهذا يوجب أن يكون الإله أكثر من اثنين وثلاثة على ما تذهب إليه النصارى، وذلك خروج عن قول الاُمّة وكل اُمّة أيضاً على أن ذلك لو كان كذلك لجاز أن تتمانع هذه الأبعاض ويريد بعضها تحريك الجسم في حال ما يريد الآخر تسكينه، فكانت لا تخلو عند الخلاف والتمانع من أن يتم مرادها أو لا يتم بأسرها أو يتم بعضه دون بعض، وذلك يوجب إلحاق العجز بسائر الأبعاض أو بعضها والحكم لها بسائر الحدث على ما بيّناه في الدلالة على إثبات الواحد، وليس يجوز أن يكون صانع العالم محدثاً ولا شيء منه، فوجب استحالة كونه مؤلّفاً.

فإن قالوا: فكذلك فجوّزوا تمانع أجزاء الإنسان إذا قدر وأراد وتصرف كل شيء منها بقدرة وإرادة غير إرادة صاحبه، قيل له: لا يجب ذلك ولا يجوز أيضاً تمانع الحيين المحدثين المتصرفين بإرادتين وإن كانا متباينين، لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يكون محلّ فعل المحدثين واحداً، واستحالة تعدي فعل كل واحد منهما لمحل قدرته، والتمانع بالفعلين لا يصح حتى يكون محلهما واحداً ، فلم يجب ما سألتم عنه.

فإن قالوا : ولِمَ أنكرتم أن يكون الباري سبحانه جسماً لا كالأجسام، كما أنه عندكم شيء لا كالأشياء؟ قيل له: لأن قولنا «شيء» لم يُبنَ لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلّف، ولم يكن ذلك نقضاً لمعنى تسميته بأنه شيء، وقولنا «جسم» موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أن قولنا: «إنسان» و«محدَث» اسم لما وُجد عن عدم ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نُثبت القديم سبحانه مُحدَثاً لا كالمحُدَثات وإنساناً لا كالناس قياساً على أنه شيء لا كالأشياء، لم يجز أن نثبته جسماً لا كالأجسام، لأنه نقض لمعنى الكلام وإخراج له عن موضوعه وفائدته.

فإن قالوا: فما أنكرتم من جواز تسميته جسماً وإن لم يكن بحقيقة ما وُضع له هذا الاسم في اللغة؟ قيل لهم: أنكرنا ذلك، لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلاّ شرعاً، لأن العقل لا يقتضيها بل ينفيها إن لم يكن القديم سبحانه مؤلّفاً، وليس في شيء من دلائل السمع من الكتاب والسنّة وإجماع الاُمّة وما يُستخرج من ذلك ما يدل على وجوب هذه التسمية ولا على جوازها أيضاً، فبطل ما قلتموه.

فإن قالوا: ولم منعتم من جواز ذلك وإن لم توجبوه؟ قيل له: أما العقل فلا يمنع ولا يُحرّم ولا يُحيل إيقاع هذه التسمية عليه تعالى وإن أحال معناها في اللسان، وإنما تحرم تسميته بهذا الاسم وبغيره مما ليس بأسمائه لأجل حظر السمع لذلك، لأن الاُمّة مُجمعة على حظر تسميته عاقلاً وفَطناً وإن كان بمعنى من يستحق هذه التسمية; لأنه عالم وليس العقل والحفظ والفطنة والدراية شيئاً أكثر من العلم، وإجازة وصفه وتسميته بأنه نور وأنه ماكر ومستهزئ وساخر من جهة السمع وإن كان العقل يمنع من معاني هذه الأسماء فيه، فدل ذلك على أن المراعي في تسميته ماورد به الشرع والإذن دون غيره، وفي الجملة فإن الكلام إنما هو في المعنى دون الاسم فلا طائل في التعلل والتعلق بالكلام في الأسماء.

فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون جسماً على معنى أنه قائم بنفسه، أو بمعنى أنه شيء، أو بمعنى أنه حامل للصفات، أو بمعنى أنه غير محتاج في الوجود الى شيء يقوم به؟ قيل له: لا ننكر أن يكون الباري سبحانه حاصلاً على جميع هذه الأحكام والأوصاف، وإنما ننكر تسميتكم لمن حصلت له بأنه جسم، وإن لم يكن مؤلفاً، فهذا عندنا خطأ في التسمية دون المعنى، لأن معنى الجسم أنه المؤلف على ما بيّناه، ومعنى الشيء أنه الثابت الموجود، وقد يكون جسماً إذا كان مؤلفاً ويكون جوهراً إذا كان جزءاً منفرداً، ويكون عَرضاً إذا كان مما يقوم بالجوهر، ومعنى القائم بنفسه هو أنه غير محتاج في الوجود الى شيء يوجد به، ومعنى ذلك أنه مما يصح له الوجود وإن لم يفعل صانعه شيئاً غيره إذا كان محدثاًويصح وجوده وإن لم يوجد قائم بنفسه سواه إذا كان قديماً ، وليس هذا من معنى قولنا «جسم» و «مؤلَّف» بسبيل، فبطل ما قلتم.

فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون معنى جسم ومعنى قائم بنفسه، وغير قائم بغيره ومعنى أنه حامل للصفات هو معنى أنه شيء، لأنه لو لم يكن معنى جسم ومعنى قائم بنفسه وغير قائم بغيره، ومعنى أنه حامل للصفات هو معنى شيء لجاز وجود شيء حامل للصفات ليس بشيء وقائم بنفسه وغير قائم بغيره وليس بجسم، ولو جاز ذلك لجاز وجود جسم ليس بشيء ولا قائم بنفسه ولا حامل للصفات، فلما لم يجز ذلك وجب أن يكون معنى الجسم ما قلناه؟ يقال لهم: لو كان هذا العكس الذي عكستموه صحيحاً واجباً لوجب أن يكون معنى موجود محدث مؤلف مركب حامل للأعراض معنى أنه شيء، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لجاز وجود شيء ليس بموجود ولا مُحدث ولا مؤلف ولا مركب ولا حامل للأعراض ولا قائم بنفسه، ولو جاز ذلك لجاز وجود محدث قائم بنفسه مركب مؤلف حامل للصفات ليس بشيء ولا موجود، فلما لم يجز ذلك ثبت أن معنى شيء غير معنى محدث مؤلف حامل للأعراض، فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه.

مسألة: ويقال لهم: ما الدليل على أن صانع العالم جسم؟

فإن قالوا: لأننا لم نجد في الشاهد والمعقول فاعلاً إلاّ جسماً فوجب القضاء بذلك على الغائب.

قيل لهم: فيجب على موضوع استدلالكم هذا أن يكون القديم سبحانه مؤلفاً محدثاً مصوراً ذا حيّز وقبول للأعراض، لأنكم لم تجدوا في الشاهد وتعقلوا فاعلاً إلاّ كذلك، فإن مرّوا على ذلك تركوا قولهم وفارقوا التوحيد وإن أبوه نقضوا استدلالهم» [7] .

ولو كان الوجود موجباً للرؤية والتجسم في كل موجود كما تقول المجسمة للزم من ذلك تجسيم الروح ورؤيتها ، وهم حينئذ بين أمرين ، إما انكار وجود الروح وإما الادّعاء بجسميتها، والأوّل يلزم منه تكذيب القرآن الدال على وجود الروح، والثاني يلزم منه كذبهم لثبوت عدم جسمية الروح. وهذا المثال لا يوضّح بطلان فكرة التجسيم فقط، وإنّما يوضّح تناقض فكرة التجسيم مع جوهر الفكر الديني القائم على أساس وجود عالم ما ورائي أسمى من المادة ، وأن عدم جسمية ذلك العالم من جملة لوازم سمّوه وتقدمه على المادّة.

إنّ المجسمة وإن كانوا يمثلون اتّجاهاً منقرضاً إلاّ أن النقاش معهم يهيئ الأرضية المناسبة للنقاش مع الاتّجاه الثاني الذي فكك بين الرؤية والجسمية فآمن بانتفاء الجسمية من جهة وبإمكان رؤية الله بلا كيفية في الآخرة من جهة ثانية، ولذا سننطلق في مناقشتنا مع الاتّجاه الثاني من نقطة نفي جسمية الله سبحانه وتعالى باعتبارها القاعدة المشتركة بين القائلين بالتنزيه من أهل الاتجاهين الثاني والثالث معاً .

أدلّة الاتجاه الثاني القائل بالرؤية بلا كيفية
وهو الاتجاه المتبنّى من قبل الأشاعرة والذي اتّبعته مذاهب الجمهور ، ويبتني هذا الاتّجاه على التفكيك بين الرؤية والتجسيم ، وبين الدنيا والآخرة، حيث قالوا بإمكان الرؤية في الآخرة دون الدنيا بلا كيف، وبنفيهم الكيفية حاولوا التخلص من اشكال التجسيم. وأهمية هذا الاتّجاه وما يحضى به من ثقل على صعيد علم الكلام تقتضي منا متابعته بدقة وتأن خطوة خطوة، وهو ما سنقوم به في مرحلتين:

1 ـ مرحلة مناقشة امكانية التفكيك بين الرؤية والتجسيم باعتباره الدعامة التي قامت نظرية الأشاعرة عليها، فإذا كان هذا التفكيك في حد نفسه ممكناً عقلاً سوف لا يحتاج الأشاعرة في اثبات مدعاهم إلاّ الى أدلّة نقلية تثبت بالكتاب والسنّة. أن هذا الأمر الممكن عقلاً قد أخبر القرآن الكريم عن تحققه في الآخرة، وأما إذا كان هذا التفكيك في حد نفسه غير ممكن، وأن الرؤية تلازم الجسمية لا محالة كما آمن بذلك المجسمة وأهل التنزيه المحض معاً ، أصبح الاتّجاه الأشعري ملحقاً بأهل التشبيه والتجسيم ، أي بالاتّجاه الأوّل، وأصبح الفرق بينهما صورياً لفظياً، ولم يعد للاتّجاه الأشعري أصالة ، وصارت الاتّجاهات في المسألة اثنتين لا ثلاثة، هما الأوّل والثالث ، أي التجسيم المحض والتنزيه المحض، وكل من لا يقول بالتنزيه المحض فهو من المجسمة وإن أنكر وتذرّع باللاكيفية ، وإذا ما وصل البحث الى هذه النقطة أصبح مستغنياً عن الخوض في أدلّة الأشاعرة على رأيهم ، لأن حكمهم على المجسمة وتنديدهم الشديد بهم سوف يجري عليهم أنفسهم باعتبارهم من جملة المجسّمة حينئذ.

2 ـ مرحلة طرح أدلة الأشعرية على رؤية الله ومناقشتها ، وذلك في صورة اثبات امكانية التفكيك بين الرؤية والجسمية في المرحلة السابقة. فالمرحلة الاُولى هي مرحلة النقاش مع الاتجاه الأوّل في عالم الثبوت، والمرحلة الثانية ناظرة الى عالم الإثبات.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] البحث مستلّ وبنحو ملفق من كتاب رؤية الله لآية الله الشيخ جعفر السبحاني، وكتاب كلمة في الرؤية للعلاّمة السيد عبدالحسين شرف الدين، وكتاب الملل والنحل للشيخ السبحاني وكتاب العقائد الإسلامية ج2.

[2] مقالات الإسلاميين : 213 ـ 217 ط المانيا.

[3] مفاتيح الجنان: 271، نقلاً عن اقبال الأعمال لابن طاووس .

[4] شرح الأسماء الحسنى، ملا هادي سبزواري: 1/189 .

[5] آل عمران : 7 .

[6] شرح الاُصول الخمسة: 233 ، ط القاهرة.

[7] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل : 220 ـ 225 ط مؤسسة الكتب الثقافية.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page