• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الرؤية 4

 

 

الرؤية 4

عوامل ظهور القول بالرؤية
ما مرّ كان بياناً لحكم المسألة في ضوء العقل والكتاب العزيز، ونحن إذا عدنا الى التاريخ وجدنا القول بالتنزيه هو الجاري بين مسلمي صدر الإسلام، وهو المعتقد الذي عليه صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله)، ويكفينا أن نلقي نظرة عابرة على كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة في نهج البلاغة لنلمس وبوضوح ما كان لدى الإمام من توحيد صاف رائق يرفض كل شائبة من شوائب التشبيه والتجسيم، فنجده(عليه السلام) يقول: «الحمدلله الذي بطن خفيات الاُمور، ودلّت عليه اعلام الظهور، وامتنع على عين البصر.. تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً» [1] ، ويقول(عليه السلام)أيضاً: «ولا تحيط به الأبصار والقلوب» [2] .

وسأله أحدهم يوماً أن يصف له الله سبحانه كأنّه يراه فغضب (عليه السلام)لذلك، ونطق بكلام طويل في ذلك سمي بخطبة الأشباح كان منها قوله(عليه السلام): «وأشهد أنّ من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك وكأنّه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين)، كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم وجزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم .. وأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك.. وأ نّك أنت الله الذي لم تتناهى في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً» [3] .

وقال(عليه السلام) في خطبة اُخرى : «الحمدلله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر.. وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام..» [4] . وقال(عليه السلام) في خطبة اُخرى: «ما وحّده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله ولا إيّاه عنى من شبّهه ولا صمده من أشار إليه وتوهمه» [5] .

وقال(عليه السلام) فيها أيضاً: «... وبها امتنع عن نظر العيون» [6] ، وله من أمثال ذلك الكثير الكثير ممّا هو مذكور في مواضع اُخرى من نهج البلاغة أو في الأدعية الواردة عنه(عليه السلام).

وأورد المجلسي في بحار الأنوار عن ابن عباس أ نّه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الأحبار، إذ قال : يا كعب احافظ أنت للتوارة؟ قال كعب: انّي لأحفظ منها كثيراً. فقال رجل من جنبة المجلس: يا أمير المؤمنين سله أين كان الله جلّ ثناؤه قبل أن يخلق عرشه، ومم خلق الماء الذي جعل عليه عرشه. فقال عمر: يا كعب هل عندك من هذا علم؟ فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين نجد في الأصل الحكيم أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وآخرها ما بقي منها لمسجد قدسه! قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب(عليه السلام)حاضراً فعظم على ربّه وقام على قدميه ونفض ثيابه فأقسم عليه عمر لما عاد الى مجلسه ففعله. قال عمر: غص عليها يا غواص، ما تقول يا أبا الحسن فما علمتك إلاّ مفرجاً للغم، فالتفت علي(عليه السلام) الى كعب فقال:

غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية عليه! يا كعب ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لا يحوز أقطاره، ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته، وعزّ الله وجلّ أن يقال له مكان يومئ إليه، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان، وقولي (كان) عجز عن كونه، وهو مما علم من البيان، يقول الله عز وجل:(خلق الإنسان علّمه البيان) فقولي له (كان) ما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء، ثم كوّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد، وإنه عزّوجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه ظلمة، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء كما خلق النور من غير شيء، ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماءً مرتعداً ولا يزال مرتعداً الى يوم القيامة، ثمّ خلق عرشه من نوره وجعله على الماء، وللعرش عشرة آلاف لسان يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ليس فيها لغة تشبه الاُخرى، وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب، وذلك قوله: (وكان عرشه على الماء ليبلوكم) . يا كعب ويحك، إن من كانت البحار تفلته على قولك، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس أو يحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه، فضحك عمر بن الخطاب وقال: هذا هو الأمر وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب، لا عشت الى زمان لا أرى فيه أبا حسن [7] .

وأورد البخاري في صحيحه عن عامر عن مسروق : «قال قلت لعائشة: يا اُ مّتاه هل رأى محمد (صلى الله عليه وآله)ربّه؟ فقالت: لقد قفّ شعري ممّا قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أنّ محمدّاً (صلى الله عليه وآله) رأى ربّه فقد كذب، ثم قرأت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب) ، ومن حدّثك أ نّه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) ومن حدّثك أ نّه كتم فقد كذّب ثم قرأت: (يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك...) الآية ولكنه رأى جبرئيل في صورته مرتين» [8] .

وورد في فردوس الأخبار عن ابن عباس رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله)يحكم فيها بشرك من شبّه الله بغيره [9] ، وهو ما يوضّح موقف ابن عباس من مثل هذه القضية. ويروي الثعالبي في كتابه الجواهر الحسان : أنّ عائشة وجمهور الصحابة كانوا يفسّرون قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة اُخرى) بارجاع ضمير رآه الى جبرئيل(عليه السلام) [10] تنزيهاً لله عن الرؤية. وورد أنّ عائشة لما سمعت قائلاً يقول: إنّ محمداً رآى ربّه، قالت: لقد قفّ شعري ممّا قلت، ثلاثاً، من زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله تعالى [11] .

ولقد ردّ الشيخ سلامة القضاعي الشافعي المتوفّى سنة (1379هـ ) على من ادّعى أنّ السلف كانوا على القول بالرؤية في يوم القيامة، فكتب يقول:

«إذا سمعت في بعض عبارات بعض السلف، إنّما نؤمن بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي ، فلا تظنّ أ نّهم أرادوا أنّ ذاته العليّة منقسمة الى أجزاء وأبعاض فجزء منها يد وجزء منها وجه، غير أ نّه لا يشابه الأيدي والوجوه التي للخلق. حاشاهم من ذلك وما هذا إلاّ التشبيه بعينه، وإنّما أرادوا بذلك أن لفظ الوجه واليد قد استعمل في معنى من المعاني وصفة من الصفات التي تليق بالذات العلية كالعظمة والقدرة، غير أ نّهم يتورعون عن تعيين تلك الصفة تهيّباً من التهجّم على ذلك المقام الأقدس ، وانتهز المجسمة والمشبهة مثل هذه العبارة فغرروا بها العوام وخدعوا بها الأغمار من الناس وحملوها على الأجزاء فوقعوا في حقيقة التجسيم والتشبيه وتبرأوا من اسمه، وليس يخفى نقدهم المزيف على صيارفة العلماء وجهابذة الحكماء» [12] .

وهذا ما يحفّزنا الى البحث عن العوامل التي أدّت الى ظهور فكرة الرؤية في المجتمع الإسلامي، ولابدّ من التسليم أوّلاً بأنّ النفس البشرية تميل بطبعها الى المادة والمظاهر المادية ولا تتقبل الحقائق التجريدية إلاّ بمعاناة وارغام عقلي عبر البرهان والدليل، وقد يدعوها نزوعها الحسّي الى أن تلبس الحقائق التجريدية لباساً مادياً، وهذا هو المنشأ النفسي لظهور عبادة الأصنام في التاريخ، ولظهور بعض المظاهر الصنمية في بعض الأديان ، كفكرة الأقانيم الثلاثة والادّعاء بكون المسيح(عليه السلام)ابناً لله. فإنها في مدلولها النفسي تعني استنزال الإله عن عرش التجريد الى حضيض التجسيم، ولذا فإن ظهور فكرة التجسيم ورؤية الله تأتي في مدلولها النفسي امتداداً لهذا السياق. وفي المقابل يأتي التركيز الشديد على التنزيه ورفض التجسيم بكل صوره وأشكاله ودرجاته محاولة للدفاع عن التوحيد الخالص النقي الرائق من كل شوائب المادة وأدرانها.

إلاّ أنّ الزاوية النفسية لا تعنينا في بحثنا هذا، ولا تدخل بالتالي في نطاق بحثنا عن العوامل التي أدّت الى ظهور فكرة الرؤية في المجتمع الإسلامي، لأنّ الماهية الكلامية لبحثنا هذا تجعلنا ننشد العوامل المباشرة التي جعلت طائفة من علماء المسلمين يعتقدون بمثل هذه الفكرة ووفرت بين أيديهم الأدوات الاستدلالية اللازمة لها. وننأى عن العامل غير المباشر الذي يمثل مناخاً نفسيّاً عاماً موجوداً لدى عامة البشر. وفي هذا السياق نستطيع أن نرجع ظهور فكرة الرؤية الى عاملين أساسين هما:

1 ـ دور أهل الكتاب السلبي في صدر الإسلام.

2 ـ اتباع منهج الحشوية في تغليب ظواهر الألفاظ على مضامينها، واعتماد التفسير الحرفي أو السطحي الجاف للنصوص الدينية.

أما العامل الأوّل فيشهد له كلام الشهرستاني في الملل والنحل بأنّ أكثر أخبار التجسيم كاذبة مقتبسة من اليهود [13] .

لقد ظهر الإسلام في بيئة تتألف من مشرك يجسّد إلهه في صنم، وآخر كتابي تمتلئ ثقافته الدينية بالتجسيم، فكافحهما معاً، وأكّد على توحيد خالص لا تشوبه أقل شائبة من شوائب المادية.

ومن مفارقات التاريخ أن يقرّر صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) بعد وفاته مباشرة منع التحديث بحديث النبي من جهة، وفسح المجال أمام كبار اليهود ممّن دخلوا في الإسلام توّاً أن يحدّثوا بما عندهم من تراث اسرائيلي غارق في التجسيم والتشبيه من جهة اُخرى. مثل كعب الأحبار ومن بعده وهب ابن منبه; حتى لقد كانت لكعب مكانة غريبة بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) في حياة المسلمين بحيث كتب عنه الذهبي يقول في ترجمته: العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، وجالس أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله) ، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب، ... حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي [14] ، وعرّفه في موضع آخر بأنّه من أوعية العلم [15] .

وهو الذي أشاع في المسلمين فكرة: أنّ الله تعالى قسّم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمدّ(صلى الله عليه وآله) [16] ، وأسس بذلك فكرة الرؤية لديهم، ويبدو من المؤشرات التاريخية التي مرّ ذكر بعضها، والأخبار التي يبدو منها اعتراض عائشة ، وابن عباس على فكرة الرؤية، أن هذه الفكرة كانت في دور الارهاص، وأنّ المجتمع الإسلامي قد صُدم بها وجهد في ردّها، وأنّ احتضان الخليفتين الثاني والثالث لكعب الأحبار يعد أكبر عامل في ظهورها.

وسرعان ما انتقل كعب من المدينة الى الشام واتّخذ من دمشق قاعدة لنشر أفكار التشبيه والتجسيم والرؤية بحماية رسمية من معاوية، حتى أصبحت هذه الأفكار من جملة الخصائص التاريخية للشام، ولذا نجد الشيخ الصدوق يروي في كتابه التوحيد بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أ نّه قال:«يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله عزّ وجلّ، يزعمون أن الله تبارك وتعالى حيث صعد الى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذه مصلى، يا جابر إن الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، وجلّ عن أوهام المتوهمين، واحتجب عن أعين الناظرين ، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم» [17] .

ومن هنا كانت الأحاديث النبوية التي يوردها أهل السنّة لاثبات رؤية الله يدور أمرها بين الوضع والدسّ، وبين ضعف الاسناد، وبين كونها أخبار آحاد لا يحتجّ بها في باب العقائد [18] .

وأمّا العامل الثاني فهو متأخر زمنيّاً عن العامل الأول، وذلك لأن عصر التدوين وظهور العلوم الشرعية وتبلور النظريات الدينية ضمن صياغات نظرية معينة ، قد برز في أواخر القرن الهجري الأوّل، أي في عصر التابعين فما بعد. وبحلول هذا العصر ظهرت اتّجاهات متعددة، منها اتّجاه أهل الحديث الذي اُطلق عليه لقب الحشوية لما عرف به من القشرية الجافة التي تؤثر ظواهر الألفاظ على مضامينها، وقد كان ظهوره بمثابة ردّة فعل شديدة تجاه مدرسة الرأي التي برزت في الكوفة على يد أبي حنيفة وآخرين، ومن هنا كان للتجسيم والتشبيه والقول بالرؤية من أبرز خصائص مدرسة الحديث، لأن أصحاب هذه المدرسة رأوا نصوصاً دينية ظاهرة في التجسيم واثبات الرؤية، فقالوا بالتجسيم والرؤية، ثم رأوا نصوصاً دينية اُخرى تنفي الكيفية عن الله سبحانه فثبتوا على قولهم الأوّل وأضافوا إليه نفي الجهة والكيفية، فكأنهم بذلك يحاولون الجمع بين الظواهر القرآنية المختلفة بهذه الطريقة ولذا تراهم يؤكدون بأننا نؤمن بأعضاء لله لا كالتي نعرفها، فالأمر عندهم يدور بين محذورين تشبيه الله وتجسيمه من جهة، ومخالفة الظواهر القرآنية من جهة اُخرى، فرأوا الطريق الوسط بين المحذورين هو الأخذ بكل تلك الظواهر مع نفي الكيفية عنها، وبمرور الزمن أصبح هذا هو الرأي المعتمد في مدرسة أهل السنّة والجماعة .

قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: «وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنّة من طريق الحسن البصري عن اُمّه عن اُم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. ومن طريق ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنّه سئل كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.

وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي، قال: كنّا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته. وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: (ثمّ استوى على العرش) ؟ فقال: هو كما وصف نفسه. وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبدالله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبدالله (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال: كيف، و«كيف» عنه مرفوع، وما أراك إلاّ صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن اُمّ سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: على هذا مضى أكابرنا، وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسّر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي(صلى الله عليه وآله)وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة، فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف. وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبدالأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فانّه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرويّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال : (ليس كمثله شيء) . وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال : «كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه» ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنّة في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) قال: بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات، وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمرّوها بلا كيف. وهذا قول أهل العلم من أهل السنّة والجماعة. وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه، وقال اسحق ابن راهويه: إنّما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة: قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك، وقال ابن عبدالبر: أهل السنّة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة، ولم يكيفوا شيئاً منها. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقرّ بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف الى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها الى الله تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة اتباع سلف الاُمّة للدليل القاطع على أن إجماع الاُمّة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع . وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة» [19] .

وقال أيضاً: «قال البيهقي : صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول ، وعروج الملائكة هو الى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله: «الى الله» فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض ، وعن الأئمة بعدهم في التأويل، وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الردّ على الجهمية المجسّمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرّر أنّ الله ليس بجسم فلا يحتاج الى مكان يستقرّ فيه، فقد كان ولا مكان ، وإنّما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان» [20] .

ثم قال : «قال الخطابي ذكر اليمين في هذا الحديث معناه حسن القبول، فإن العادة قد جرت من ذوي الأدب بأن تصان اليمين عن مسّ الأشياء الدنيئة، وإنّما تباشر بها الأشياء التي لها قدر ومزية وليس فيما يضاف الى الله تعالى من صفة اليدين شمال، لأن الشمال لمحل النقص في الضعف، وقد روي «كلتا يديه يمين» وليس اليد عندنا الجارحة إنّما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة» [21] .

وممّا لاشك فيه أن الجمع بين ظواهر الألفاظ المختلفة أمر عقلائي صحيح متبع عند كل العقلاء في تعاملهم مع مثل هذه الحالات، ولكن هناك جمع معقول وهناك جمع غير معقول، وعرف العقلاء يؤيد الجمع الذي يتقبله العقل ولا يرد عليه اشكال عقلي، وهناك جمع لا يتقبله العقلاء يحكم عليه العقل بإشكال معين، وهناك جمع يحكم العقل بامتناعه، وما نحن فيه من هذا النوع الثالث، فإنّ الجمع بين الجسمية ورؤية الله من جهة، ونفي الكيفية والتشبيه عنه من جهة اُخرى أمر مستحيل ممتنع في نفسه كما تقدّم، فهو ساقط عن الاعتبار، والجمع العقلائي الصحيح هو نفي الجسمية، ونفي الكيفية من جهة، وإثبات الرؤية القلبية التي لا تستلزم تشبيهاً ولا تجسيماً ولا كيفية من جهة اُخرى، وهذا أولى بالاعتبار من ذاك، وما أخذوه على هذا الجمع بأنّه تأويل يخالف الظواهر القرآنية يجري بنفسه على ذاك أيضاً، فكما أن تفسير الرؤية بالرؤية القلبية، تأويل وخروج عن ظواهر القرآن ، كذلك القول بالرؤية البصرية تأويل وخروج عن الظواهر القرآنية الدالة على نفيها. ذلك أن مبدأ الجمع بين ظواهر الألفاظ المختلفة يقوم أساساً على حتمية تأويل بعضها. فمن لم يؤول : (وجوه يومئذ ناضرة* الى ربّها ناظرة) بالرؤية القلبية ونحوها، لابدّ وأن يقع في تأويل: (لا تدركه الأبصار) بأنّ الله سوف يُرى ببصر غير هذا البصر. فلماذا ننتخب التأويل المستحيل الذي لا يقبله العقل، ونترك التأويل المعقول الموافق للكتاب والسنّة؟

هذا هو معنى الجمود على ظواهر الألفاظ والاتّجاه القشري الجاف في تفسير النصوص ، على أن الإسلام لم يمنعنا من التأويل، وإنّما منع التأويل الكيفي الذي يكون من غير أهله ويعتمد على الرأي والقياس، ولم يمنع التأويل الذي يكون من أهله وطبقاً لموازين صحيحة. كما مرّ ذلك في صدر البحث، ومهما أصرّ أهل الحديث على التمسك بالظواهر اللفظية، فإنّ أحداً منهم لا يستطيع الادّعاء بأنّه يستطيع أن يتجنب التأويل في كل مسائل الإسلام من أوّلها الى آخرها، فإنّ التأويل ممّا لا مفرّ منه في كثير من الظواهر القرآنية.

خلاصة البحث
إنّ القول برؤية الله في يوم القيامة رؤية بصرية أمر لا يصح الاعتقاد به عقلاً ولا شرعاً، لأنه يستلزم التجسيم والتشبيه ، وأنّ اضافة نفي الكيفية أمر صوري لا يحل أصل الاشكال المذكور، وأنّ ما دلّ على رؤية الله يمكننا تفسيره بالرؤية القلبية التي لا يلزم منها إشكال عقلي ولا شرعي ، بل هي متطابقة مع مسألة الإيمان، وأنّ فكرة الرؤية والتشبيه دُسّت من قبل اليهود في الفكر الإسلامي، وقد ساعد عليها ظهور اتّجاه فكري يتشبث بالظواهر اللفظية ولا يتدبّر في المضامين الفكرية لها.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page