طباعة

وكانت صديقة (القسم 6)

 

وكانت صديقة

القسم 6

نسيم عليل كان يداعب سعفات النخيل، يحركها برفق، و ظلال وارفة تنتشر تطرّز أرض رجل من «الأنصار».. كان عليّ ما يزال منهمكاً بارواء نخلات باسقات يحمل المياه على بعير له بأجر... و قد تصبب عرقاً...

جلس الفتى الذي بلغ من العمر خمسة و عشرين سنة... جلس يلتقط أنفاسه... أسند جذعه إلى جذع نخلة ميساء و طافت أمامه آيات من القرآن...

- «ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير».

من بعيد لاح له رجلان قادمان كانا يحثّان الخطى... سرعان ما عرفهما. عرف أوّلاً عمر يعرف طريقته في المشي، ثم تعرّف «أبابكر» لأنه طالما شاهدهما معاً... فهناك ما يشبه الصداقة بينهما...

تمتم أبوعائشة:

- يا أباالحسن.. لم تبق خصلة من خصال الخير إلّا ولك فيها سابقة و فضل.. و أنت من رسول اللَّه بالمكان الذي قد عرفت من القرابة و الصحبة و السابقة... فما يمنعك أن تذكرها لرسول اللَّه و تخطبها منه.

قال عمر دون مقدمات:

- و قد خطبها الأشراف من قريش فردّهم... و أظنه قد حبسها من أجلك.

أمسك «أبوبكر» بخيط الحديث:

- ما الذي يمنعك يا علي أن تذكرها!!

تمتم عليّ وقد لاحت في عينيه غيوم ممطرة:

- واللَّه إن فاطمة لموضع رغبة.

وأردف و هو يقلّب يديه:

- ولكن يمنعني قلّة ذات اليد... أنا لا أملك من حطام الدنيا سوى سيف و درع و هذا البعير.

قال أبوبكر متأثّراً:

- إن الدنيا لدى رسول اللَّه كهباء منثور.

و قال عمر و هو يحثّه:

- اخطبها يا على تزدد فضلاً إلى فضلك.

سكت عليّ و طافت في عينيه أحلام جميلة.

نهض علي الى ساقية قريبة وراح يتوضأ، أشاعت برودة الماء السلام في روحه؛ و أدرك الشيخان ان «عليّاً» قد حزم أمره، فغادرا المكان وقفلا عائدَين.

كان «النبيّ» جالساَ في حجرة اُم سلمة، و كان عبير الوحي يطوف في سماء المكان.

ارتفعت طرقات على الباب... وهتفت اُم سلمة:

- مَن الطارق؟

قال النبي و قد عرفه:

- افتحى له.. هذا رجل يحبّه اللَّه و رسوله.

فتحت اُمّ سلمة الباب... و تريث «الطارق» ريثما تعود «اُمّ المؤمنين» إلى خدرها:

- السلام على رسول اللَّه.

- وعليك السلام يا أباالحسن.

جلس ربيب النبي مطرقاً.. تلالات حبات عرق فوق جبينه الواسع... كلمات تطوف في أعماقه.. و قد انتصب الحياء سدّاً كصخرة صماء تقطع تدفق الساقية.

أدرك النبيّ ما يموج في أعماق على، فقال والبسمة تطفح فوق وجهه:

- يا أباالحسن كانّك أتيت لحاجة فقل حاجتك. انفتحت أمام الفتى كوّة من أمل و وجد نفسه يقول:

- يا رسول اللَّه... إن اللَّه هداني بك و على يديك و قد أحببت أن يكون لى بيت و زوجة أسكن اليها و قد أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة.

كانت اُمّ سلمة تنظر إلى وجه النبيّ، فرأت بسمة تطوف في محياه. قال النبي:

- يا عليّ انه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أدخل عليها.

نهض النبيّ، و نهض عليّ إجلالاً له.

- يا فاطمة.

- لبيك يا رسول اللَّه.

- ان على بن أبي طالب من قد عرفت قرابته و فضله و إسلامه.. و إنى قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه و أحبهم اليه؛ و قد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟

أطرقت فاطمة و كانت علامة رضا تطوف فوق وجهها تغالب مسحة حياء صبغت و جنتيها بحمرة خفيفة كشمس صباح باسم.

هتف النبيّ مستبشراً:

- اللَّه أكبر سكوتها رضاها.

تدفّق ينبوع فرح في بيت اُمّ سلمة. طاف الخبر السعيد منازل المدينة كفراشة تدور ، تحطّ هنا و ترفرف هناك؛ و حلّقت في الأفق أحلام العذارى؛ و شمّ بعض أهل «الصفة» رائحة وليمة عرس.

قال النبيّ و هو يتطلّع إلى صهره:

- هل معك شي ء اُزوجك به؟

عرض الفتى بضاعته المزجاة:

- سيفي و درعي و ناضحي.

- أمّا سيفك فالأسلام يحتاج اليه و أمّا ناضحك فتنضح به على نخلك و تحمل عليه رحلك، ولكني رضيتُ بدرعك.

و انطلق على عارضاً درعه على من يشتريه و سرعان ما وجد له مبتاعاً... اشتراها منه «عثمان» و أقبل الفتى يحث خطاه إلى منزل النبي، فصب الدراهم بين يديه و كانت أربعمئة درهم.

انطلق عليّ يهيئ منزله الجديد و صورة فاطمة بربيعها الخامس عشر ما تزال تطوف في عينيه، و شعر بأن نبعاً من مياه باردة يتدفّق في قلبه:

نشر أرض الحجرة برمل ليّن، وراح يمسح عليه بكفّه فبدا كبلاطة ناعمة، و ثبّت خشبة بين الجدارين في أقصى الحجرة لتكون مشجباً للثياب.. و بسط فوق زاوية من الرمل جلد كبش، زيّنها

بوسادة من الليف... و هكذا تم بيت فاطمة بنت محمد.

أجال على بصره في الحجرة... لا شي ء يشد قلب المرأة... لا حرير و لا فراش وثير.. ولكنه يعرفها جيداً، يعرف بنت النبي. انها ليست سوى نفسه الكريمة التي تأبى سوى حياة البساطة و الحياة الخالية من بهارج الدنيا الزائلة.