طباعة

وكانت صديقة (القسم 9)

 

وكانت صديقة

القسم 9

كانت تشبه أباها في كل شي ء، في حديثها، صمتها، مشيتها، وفي ذلك النور الذي يشع من عينيها، تعمل بصمت أو ترتل سورة مريم تتشربها.. تتنفس جوها و تعيش في ظلالها.

رتبت ثيابها و كانت قليلة مختصرة. وضعتها فوق خشبة كان زوجها قد ثبتها في زواية الحجرة، نشرت خمارها و قطيفة سوداء و قميصاً رخيصاً، رتّبت الفراش ثم عمدت إلى كنس البيت. و تصاعد غبار خفيف كان يتألق في ضوء الشمس.

مسحت كنيزان الخزف و أعادت ترتيبها فبدت جميلة.

حاولت أن تجر الرحى إلى مكان مناسب. وجدتها متشبثة في الأرض فتركتها مكانها ريثما يعود زوجها.

و من كيس في زاوية الحجرة استخرجت حفنات من الشعير ثم جلست إلى الرحى.

دارت الرحى، تساقط الدقيق تباعاً فجمعته في اناء صغير، أضافت قدحين من الماء وراحت تعجن الخليط حتى اذا تجانس غطت الاناء و تركته ريثما يصبح خميراً.

جلست فاطمة و أشعلت النار في الموقد، تصاعد دخان أزرق و توهج جمر فسفوري الحمرة، كانت عيدان الحطب تتكسر، و كانت فاطمة تصغى مستغرقة، سرت في أطرافها قشعريرة و تجمعت في عينها الدموع فرمقت السماء من خلالها و قلبها ينبض أملاً بما وعد اللَّه المؤمنين. ملأت رائحة الخبز الحارّ فضاء البيت.

عاد عليّ و قد بدا مهموماً بعض الشي ء و عندما وقعت عيناه على فاطمة شاعت الابتسامة في وجهه. لشدّ ما يحبها بقوامها النحيل بتلك الروح التي تكاد تغادر أهاب البدن إلى حيث ترفرف الملائكة.

نظر عليّ و هو يتناول قرص الشعير إلى يديها. كانت هناك خطوط حمراء في كفيها أدرك على الفور انّها من أثر الرحى؛ تمنى أن يكون بوسعه شراء خادم تعينها على تدبير المنزل، فكر أن يضاعف جهده في حفر الآبار، سيحيل المدينة إلى ينابيع لكى يتسنى له جمع مبلغ يكفي لشراء جارية تعين سيدة النساء: و ربما حصل على غنيمة تغنيه عن كلّ ذلك، كان علي يفكّر و هو يعالج سيفه ذي الفقار.

لم تسأل فاطمة زوجها عن المناسبة في كل هذا الاهتمام

بالسيف فقد سمعت هي الأخرى عن استعدادات المسلمين للتصدّي لقوافل قريش التجارية و سمعت من بعض نسوة المهاجرين اخباراً عن قافلة كبيرة يقودها أبوسفيان تحمل أموالاً طائلة... تذكّرت فاطمة كيف صادر المشركون أموال المهاجرين. تذكرت أيام الحصار في شِعب أبي طالب و ألوان القهر والظلم الذي صبه أبوسفيان و أبوجهل و أبولهب على الرسول والذين آمنوا.

أفاقت فاطمة على صوت زوجها و هو يرتّل بخشوع:

- يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللَّه و كفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللَّه، والفتنة أكبر من القتل.

لكأنّ على يدرك ما يدور في خلد فاطمة، وهاهي السماء تشدّ أزر المظلومين المشرّدين... تمنحهم سيوفاً و بيارق ينتصفون بها ممن قهروهم و شرّدوا بهم من ديارهم.

ودّع النبي ابنته فاطمة. وأدرك المسلمون جميعاً أنّ الرسول قد أعدّ العدّة لاعتراض قافلة قريش، وانّه لم يبق له في المدينة شي ء.

هزّ علي راية العقاب بيده وانطلق بصحبة النبيّ باتجاه الشمال حيث «وادي الروحاء» وسُمع النبي يقول:

- هذا أفضل أودية العرب.

عسكرت قوات المسلمين و كانت تتألف من ثلاثمئة مقاتل يتناوبون على ركوب سبعين من الأبل اضافة إلى فرسين فقط، و بعد استراحة وجيزة، قضاها المسلمون في الصلاة و التهيؤ لقطع المسافة لآبار «بدر» حيث طريق القوافل التجارية.

قسم النبي الأبل على المقاتلين فكان نصيبه مع على و «أبي مرشد» بعيراً واحداً يتناوبون ركوبه.

قال علي وأيده أبومرشد:

- نحن نمشي عنك يا رسول اللَّه.

أجاب النبي و هو يطوى الصحراء ماشياً على قدميه:

- ما أنتما بأقوى مني، و لا أنا بأغنى عن الأجر منكما.

وفي «الصفراء» بعث النبي دورية استطلاع إلى «بدر».

وفي «وادي ذفران» وصلت انباء مثيرة.