وكانت صديقة
القسم 11
هطلت الأمطار... هطلت بغزارة فسالت أودية بقدر، وقف النبي... راح ينظر إلى السماء و السحب تسح ما تسح من دموعها الثقال... رفع يديه إلى عوالم لانهائية و تضرع إلى اللَّه:
- اللّهم نصرك الذي وعدت... اللّهم لا تفلتنى أباجهل فرعون هذه الاُمة.
كان الوجوم يسيطر على ثلاثمئة رجل. لقد خرجوا لمواجهة قافلة تجارية، وهاهي الأنباء تحمل لهم سيوفاً و خناجر... و هاهي قريش تزحف نحوهم بجيش عرمرم.. ألف رجل إلّا خمسين.
هتف النبي بأصحابه:
- أشيروا على:
القلق يعصف بالرجال و قد ضرب الخوف أطنابه في بعض القلوب... نهض «عمر» قائلاً:
- يا رسول اللَّه.. انها قريش!! ما ذلت منذ عزت و ما آمنت منذ كفرت..
راح بعضهم ينظر إلى بعض وأفئدتهم هواء.
نهض المقداد وقد امتثلت أمامه قصص بني اسرائيل:
- يا رسول اللَّه! امض لما أمرك، فنحن معك، واللَّه لا نقول كما قال بنو اسرائيل لموسى... اذهب انت و ربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون، إذهب أنت و ربك فقاتلا انّا معكما مقاتلون».
أطل عزم جديد من عيون الرجال وخيم صمت ثقيل، كان النبي ينتظر موقف الأنصار فله معهم يوم العقبة عهد و ميثاق.
نهض «سعد بن معاذ» و قال بأدب:
- لكأنك تريدنا يا رسول اللَّه:
- أجل.
انسابت الكلمات قوية أخاذة مؤثرة:
- يا رسول اللَّه: لقد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة.. فامض يا رسول اللَّه لما أردت.. فوالذي بعثك بالحقّ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.
إن للكلمة في القلوب أثر البذرة في الأرض الخصبة سرعان ما
تنمو و تهب ظلالها و ثمارها...
اشاعت كلمات سعد روح الأمل شحذت الهمم بعد خوف وقلق.. طافت في الوجه السماوي فرحة ورضا وهتف النبي برجاله:
- سيروا على بركة اللَّه وابشروا، فإن اللَّه وعدني احدى الطائفتين، واللَّه لكأني انظر إلى مصارع القوم.
عبّأ النبي قوّاته و غادر «ذفران» وسلك طريق «الاصافر» ثم هبط منها، وبدا «كثيب السحنان» كجبل شامخ. وقاد النبي رجاله الى يمين «الكثيب» حتى اذا اصبح قريباً من مياه بدر أصدر أمراً بالتوقّف ريثما ينجلي الموقف.
بعث النبي «علياً» على رأس دورية استطلاع للحصول على معلومات عن قوّات قريش، أوغل على في المسير و وصل آبار بدر؛ فالماء حيوي لرجال في الصحراء، وألقت الدورية القبض على رجلين كانا يستقيان و ساقتهما إلى معسكر المسلمين.
كان النبي يصلي... مستغرقاً في رحلة في عوالم سماوية بعيداً عن ويلات الأرض و ما يجري فوق كثبان الرمال، ولما عاد إلى الأرض وجد بعض المسلمين ينهالون عليهما ضرباً... تمتم النبي مستنكراً:
- إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟!!
ونظر النبي اليهما وهتف:
- صدقا واللَّه.. انهما لقريش.. انهما لذات الشوكة.
وأردف متسائلاً:
- كم القوم؟
- كثيرون.
- ما عدّتهم.
- لا ندرى.
- كم ينحرون؟
- يوماً تسعاً و يوماً عشراً.
التفت النبي إلى أصحابه:
- القوم ما بين تسعمائة والألف.
ثمّ تساءل:
- فمن فيهم من أشراف قريش؟
- قال أحدهما:
- عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة.. النضر بن الحارث، وأضاف الآخر:
- و فيهم أمية بن خلف و نبيه بن الحجاج و اخوه منبه و عمرو بن ود..
التفت النبي إلى اصحابه و قال بحزن:
- هذه مكة قد القت اليكم أفلاذ كبدها.
تفجّر في قلوب المهاجرين غضب مقدس وهاهي رؤوس الشرك تزحف اليهم و قد حان وقت يثأر فيه المظلوم من الظالم.
كان بلال منسحباً داخل نفسه و قد تداعت في أعماقه صور سوداء و كان وجه «اُمية بن خلف» محفوراً في ذاكرته بقسوة.. ما يزال جسده يئن من سياط أمية و شعر بثقل صخرة رهيبة تجثم فوق صدره فندت عنه آهة ألم:
- آه.. اُمية لا نجوت إن نجا.
برقت عيناه غضباً و حانت منه التفاته فرأى عماراً، و قد علت وجهه مسحة من وجوم... أدرك بلال ان صاحبه هو الآخر يستعيد حوادث رهيبة. لقد شهد مصرع والديه بحراب «أبي جهل» ذلك القرشي المتوحش.
أصدر النبي أمره بالتحرك صوب آبار «بدر» حتى اذا وصلوا أدنى المياه نزل النبي و كان «الحباب» و هو رجل رشيد يمسح الأرض بعينين ثاقبتين، اقترب من النبي و قال بأدب:
- يا رسول اللَّه! أكان اختيارك للمكان أمراً من اللَّه ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب؟
أجاب النبي باهتمام:
- بل هو الحرب و المكيدة.
- ليس هذا بمنزل يا رسول اللَّه... انهض بالناس حتى نعسكر أدنى الماء نشرب و لا يشربون.
- لقد أشرت بالرأي.
و سرعان ما اتخذ المسلمون مواقعهم في الجهة الشرقية من الوادى الفسيح...
حل المساء وغفت العيون تترقب ما يسفر عنه عالم الغد.