وكانت صديقة
القسم 22
الخيول تدك بسنابكها الأرض على طول الخندق و قد مضت اسابيع ثلاثة... كان مع النبي ثلاثة آلاف.. ولكن ثلاثة أسابيع من الخوف و الرعب كافية لامتحان إرادة الإنسان... في المساء و عندما يخيم الظلام تنسل أطياف كالاشباح.. و قد ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالاً شديداً.. و رفع «ابن قشير»- و كان رجلاً ذا وجهين- عقيرته:
- محمّد يعدنا كنوز كسرى و قيصر.. وأحدنا اليوم لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
مضت أسابيع أربعة.. ولا شي ء سوى مناوشات بالسهام.. والرياح ما تزال تعصف بشدّة.. تمزّق الخيام و تقلب القدور و تطفي النار.. و لم يبق مع النبي إلا تسعمئة من الذين امتحن اللَّه قلوبهم بالتقوى.
و في ليلة سوداء كسواد الكحل مدّ الرسول كفيه إلى السماء ينشد
نصر اللَّه:
- اللّهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم و انصرنا عليم و زلزلهم اللهم ادفع عنّا شرّهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك .
أضاءت نجمة في السماء.. و قد غضبت الريح فراحت تعدو مجنونة بين القبائل.
قال النبي و قد استدعى «حذيفة»:
- اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون و لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني.
وانطلق «حذيفة» عبر الخندق و تسلل بين خيام مزّقتها رياح الشتاء.. كان الظلام دامساً وراح يتلمس طريقه إلى خيمة أبي سفيان حيث تحاك خيوط العناكب.
دس حذيفة نفسه في زاوية مظلمة و أخذ مكاناً بين رجلين كانا يحدقان بأبي سفيان . قال صخر بن حرب متوجساً:
- يا معشر قريش ليتعرف كل امرئ جليسه واحذروا الجواسيس والعيون.
هتف حذيفة وهو يشدّ على يد جليسه:
- مَن أنتَ؟
- معاوية بن أبي سفيان.
- وأنت؟
- عمرو بن العاص.
خفتت الأصوات و قد بدا حذيفة كأحدهم. قال أبوسفيان:
- يا معشر قريش انكم ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف... واخلفتنا بنوقريظة العهد ولقينا من شدّة الريح ما ترون.. ما تطمئن لنا قدر و لا تقوم لنا نار و لا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فاني مرتحل.
انفجرت السماء بالصواعق.. وهطلت الأمطار غزيرة.. وهبت الرياح شديدة.. تجتثّ الخيام و تبثّ الرعب في القلوب...
فكر «طلحة بن خويلد» أو لعلّه راى أشباحاً تعبر الخندق فهتف مذعوراً:
- انّ محمداً قد عبر اليكم باصحابه... فالنجاة النجاة.
تمزقت جيوش الأحزاب؛ مزقتها الرياح و جنود لم يروها حتى اذا أطلّ الصباح كان كلّ شي ء هادئاً في الجانب الآخر من الخندق.
وأرسل النبيّ «حذيفة» مستطلعاً فاذا كل شي ء يشير إلى هزيمة ساحقة.. الخيام الممزقة متناثرة هنا و هناك.. و أكوام التبن.. ومواقد منطفئة و قدور منكفئة.. والرماد يغطي الأرض الموحلة، وعاد
«حذيفة» يحمل البشرى.
وأصدر النبي أمره بالعودة إلى المنازل بعد ثلاثين يوماً من الحصار و الخوف و القلق.
و كان بنوقريظة منكمشين في حصونهم يترقبون بخوف المصير الذي ينتظرهم... فالغدر يعقبه انتقام.
هاهي الأفاعي تلوذ بجحورها و تمدّ ألسنتها متوجسة..
هتف الرسول؛ وقد حانت لحظة الاقتصاص:
- مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلّا في بني قريظة.
هزّ النبيّ اللواء ودفعه إلى عليّ:
- كُن في مقدمة الجيش واسبقنا إلى بني قريظة.
وانطلق عليّ واللواء يخفق فوق رأسه حتى اذا دنا من الحصن ركزه في الأرض بقوة وأيقن الذين مسخوا قردة و خنازير انها الحرب ولا شي ء سواها.
وسمع عليّ شتائم تنهال على النبي الأمّي فهتف بغضب:
- السيف بيننا و بينكم.
و استمر الحصار عشرين يوماً... و المناوشات بالسهام و النبال مستمرة.. والشتائم تنهال من فوق جدران الحصون فهتف النبيّ:
- يا اخوان القردة!.. هل أخزاكم اللَّه و أنزل فيكم نقمته.
وشن على أول هجوم عنيف، فارتفعت راية بيضاء فوق الحصون.. و كان الاستسلام دون قيد أو شرط.
وهتف سعد وقد رضي الجميع حكمه:
- آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم.
كان سعد يعرف «توراتهم» حيث حرّفوا الكلم عن مواضعه ليسوموا البشر الموت و الفناء...
كان يدرى ما في الاصحاح من التثنية من ريح صفراء لا تبقي و لا تذر «حين تقترب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح فان أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير و يستعبد لك و ان لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها واذا دفعها الربّ الهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، و اما النساء والأطفال و البهائم و كلّ ما في المدينة غنيمة تفتحها لنفسك و تأكل غنيمة اعدائك التي أعطاك الرب الهلك».
و أذاقهم سعد حكم التوراة و كانوا أذاقوها الأمم.
وهكذا تساقطت رووس الخيانة و الغدر.. و سقط رأس حى بن أخطب مخطط فكرة الغزو والفناء وفر السامريّ إلى «خيبر» لا يفتأ يعبد العجل من دون اللَّه.