وكانت صديقة
القسم 23
عاد السلام يرفرف فوق المدينة و كلمات السماء تتردد بين سعف النخيل وعروش الأعناب.
وعاد عليّ يعمل في الأرض... يسقى الزرع و يفجر الينابيع يريد للأرض أن ترتدي حلّة خضراء...
عاد الأطفال يلعبون في الأزقة... ضحكاتهم البريئة تتردد في الفضاء الأزرق.
و مرّ النبي في طريقه إلى المسجد تحفه كوكبة من أصحابه.
و ركض الحسن و الحسين و كانا يلعبان مع الأطفال وخف النبيّ لاستقبال ريحانتيه من الدنيا، و البسمة تطوف فوق وجهه...
حمل النبي ولديه... شم الجنة فيهما... استنشق عبير الرياحين.. و حملهما على عاتقه..
والتفت إلى اصحابه:
- من أحب هذين الغلامين واُمهما و أباهما فهو معي في الجنّة.
قال عمر مغتبطاً و هو يرى أجمل منظر:
- نعم الفرس فرسكما.
فأجاب النبي مبتسماً:
- و نعم الفارسان هما.
شمّ المهاجرون رائحة وطن بعيد و تلفتت العيون صوب الجنوب و تلفتت القلوب؛ وطافت صور جميلة لمكة مرابع الصبا و ذكريات الطفولة فاذا الحنين نهر حزين يجري بصمت و الخريف فصل الوداع يستثير هواجس العودة واللقاء وهاهي ستة أعوام تنطوي و المهاجرون ما يزالون يقاومون عواصف الصحراء و الزمان... يحلمون بالعودة إلى ديار الحبيب... الكعبة بيت ابراهيم و اسماعيل.. و غار حراء في جبل النور.. و ذكريات الجهاد.
وأطل «ذوالقعدة» يوقظ في النفوس نداء ابراهيم فتنطلق القوافل بين الأودية.. فالقلوب تهوى إلى بقعة مباركة حيث أول بيت وضع للناس.
و عمّت الفرحة المدينة... لقد اعلن النبي رغبته في أداء العمرة و زيارة البيت العتيق.. و انه لا يريد حربا مع أحد. انّه ينشد السلام.. و هل الإسلام يعنى شيئاً سوى السلام.
وطار النبأ في الجزيرة رايةً بيضاء بياض حمائم في الفضاء الأزرق.
و اجتمع الف واربعمئة ممن تخفق قلوبهم لمكة واداء شعائر الحج... و تقدّم النبي على ناقته «القصواء» زورقاً ينساب فوق امواج الرمال.. و كان «اللواء» يخفق فوق هامة عليّ.. وساق النبي من الهدى سبعين.. و السيوف في الأغماد، حتى اذا بلغ ذا الحليفة، أحرم فيها ولبّى.
ردّدت الصحارى هتافات التوحيد:
- لبيك اللّهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..
وفي «عسفان» حطّ النبيّ الرحال.. يمدّ يد السلام..
وجاء رجل من اُم القرى يسعى:
- يا رسول اللَّه هذه قريش قد سمعت بك، فلبست جلد النمر... وقد اجتمع الرجال و النساء و الأطفال «بذي طوى»... و خيلها الآن في «كراع الغميم».
قال النبي بحزن:
- يا ويح قريش.. لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني و بين العرب.. ما تظنّ قريش.. واللَّه لا أزال أجاهد أو تنفرد هذه السالفة.
وكان الرجل يتأمل سوالف النبيّ المتلألئة وقد انفردت عن شعر النبيّ المتموّج تموج الصحارى و هو يكاد يلامس منكبيه.
و جلس النبي يفكر.. يفكر في قوم كذبوه و آذوه.. وألّبوا العرب عليه يريدون أن يطفئوا نور اللَّه.. و اللَّه متم نوره.
قال النبي و قد أحدق به أصحابه:
- مَن يدلّنا على طريق غير طريقهم؟
فنهض رجل من أسلم و كان عالماً بخفايا الصحراء وبطون الأودية.
وسار ألف و أربعثمة رجل يتقدّمهم آخر الأنبياء و قد هبّت نسائم وطن بعيد.
كانت المفازات وعرة كثيرة الحجارة كأنها شظايا بركان انفجر قبل آلاف السنين . حتى اذا وصلوا ارضاً سهلة انعطفوا جهة اليمين حيث الجادة المؤدية إلى «ثنية المراد» مهبط «الحديبية» من أسفل مكة.
توقفت القصواء ثم بركت.. و توقّفت الجموع، قال قائل:
- حرمت الناقة وأجهدت.
فقال النبيّ: لا.. ولكن حبسها الذي حبس الفيل عن مكة..
وأردف و هو ينزل عن «القصواء»:
- و اللَّه لا تدعوني قريش إلى خطة تسألنى فيها صلة الرحم إلَّا أعطيتهم ايّاها...
والتفت إلى الجموع:
- انزلوا.
قال أحدهم و هو يستعرض الوادى ببصر نافذ:
- يا رسول اللَّه ما بالوادى ماء.
أخرج النبيّ سهماً من كنانته و أشار إلى بئرٍ معطّلة.
- اغرزه في جوفه.
كانت هالة من النور تغمر رجلاً ارسلته السماء ليحيي الأرض بعد موتها.
انفجرت البئر بالماء نميراً فخشع الذين هاجروا والذين قالوا انّا انصار اللَّه.