وكانت صديقة
القسم 32
بدا «أبوعائشة» متردّداً يقدم و يحجم.. كرجل تاهت به السبل.. يزن الاُمور بوقار تاجر قديم، قال في نفسه: ليقنع بنوهاشم بالنبوة وليدعوا الخلافة لبطون قريش ولكن ماذا يفعل و وصايا النبي في الصدور وفي القلوب.
أبوبكر غارق في تأمّلاته.. وكان صاحبه يختلس اليه النظرات... نظرات مصممة قويّة ثاقبة لايعرفها سوى «الجراح».. وبدا أبوحفص في تلك اللحظات قوياً كالعاصفة جباراً كالسيل وقد اشتعلت في أعماقه كلمات قالها يهودى ذات يوم:
- أنت ملك العرب.
كان عمر غارقاً في هواجسه عندما وصل «عويم» و «معن».
هتف «أبوحفص»:
- ماذا؟!!
لم يكن هناك وقت.. فالفرص تمر مر السحاب وانطلق ثلاثة رجال.. لو رأيتهم من بعيد لأدركت أية طامة وقعت لهم أو عليهم... كانوا يسرعون الخطى.. والرسول ما يزال مسجى.. في فراشة... يتحدث بلغة الصمت.. لغة عجيبة لاتفهمها سوى اُذنٌ واعية...
رجال من الأوس و رجال من الخزرج يأتمرون قد أوجسوا خيفة.. ورجال من قريش يحثون الخطى إلى سقيفة لبني ساعده و النبي يدعوهم بلغة الصمت..
«الغنائم» تلوح من بعيد شهية يسيل لها اللعاب و قد ترك «الرماة» مواقعهم.. في «عينين» و الرسول يدعوهم.
اقتحم الثلاثة «السقيفة»، وبدت الوجوه مخطوفة اللون شاحبة قد عراها اصفرار. لقد انتقض الغزل و هو في أيديهم.. كان أبوحفص على و شك أن يثور لولا أبوبكر:
مهلاً يا عمر: الرفق هنا أبلغ.
و توجه أبوبكر إلى الأوس و الخزرج بكلمات هادئة:
- يا معشر الأنصار من ينكر فضلكم في الدين و سابقتكم العظيمة في الإسلام؟.. و اللَّه رضيكم لدينه و رسوله أنصاراً وانتخبكم محلّاً لهجرته و فيكم جل أزواجه و أصحابه..
ثم أردف و هو يرمي سهماً في الهدف.
- نحنُ الاُمراء و أنتم الوزراء.
اعترض «الحبّاب» و قد أخفق في إخفاء وهنه:
- بل منا أمير و منكم أمير.
انتفض عمر ليشدّد الهجوم:
- هيهات لا يجتمع اثنان في قرن.. واللَّه لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيّها من غيركم ولكن العرب لاتمتنع ان تولّي أمرها من كانت النبوة فيهم و ولى اُمورهم منهم ولنا بذلك على من أبي من العرب الحجة الظاهرة و البرهان المبين..
وأردف و قد أخذه حماس المنتصر:
- من ذا ينازعنا سلطان محمد و امارته و نحن أولياؤه و عشيرته الّا مبطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة.
رد الحباب بغضب:
- املكوا أمركم يا معشر الأنصار و لا تسمعوا مقالة هذا فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر.. فان أبوا فاجلوهم عن البلاد.. إنا أحق بالأمر
منهم، بأسيافنا دان العرب لهذا الدين..
وأخذته فورة حماس فراح يطلق التهديدات حمماً:
- أنا شبل في عرينة الأسد... و اللَّه لا يرد على ما أقول إلَّا حطمت أنفه بالسيف.
انبرى عمر لامتصاص العاصفة بمرونة متكلفه:
- اذن يقتلك اللَّه.
- بل إيّاك يقتل.
و نهض رجل من الخزرج و قد رفع راية بيضاء:
- إنّا أول من نصر اللَّه و رسوله و جاهدنا المشركين لانبتغي من الدنيا عرضا... ألا و ان محمداً من قريش و قومه أولى به وأحقّ.. فاتقوا اللَّه يا معشر الأنصار و لا تخالفوهم.. و لا تنازعوهم.
تنفّس عمر بارتياح و هو يراقب تهاوي القلاع..
هتف الحباب مخذولاً:
- حسدت ابن عمّك!!
- لا واللَّه.. ولكن كرهتُ ان أُنازع قوماً حقّاً جعله اللَّه لهم.
و انبرى أبوبكر لاقتطاف أولى الثمار. أشار إلى عمر و أبي عبيدة و قال:
- قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فايُّهما شئتم فبايعوا.
و بطريقة لم تبد عفوية هب عمر مستنكراً:
- معاذ اللَّه.. أنت أفضل المهاجرين.. ابسط يدك.
بسط «أبوبكر» يده و قد سقطت التفاحة في قبضته؛ و نهض رجل من الخزرج فبايع.. و رجل من الأوس.. و تهاوت القلاع و الحصون..
وتمت أول «فلتة» في تاريخ الإسلام.
بدا «الحباب» متشنجاً كمن أصابه مس من الجنون فالتفت اليه أبوبكر مدارياً:
- أتخاف منى يا حباب؟
- ليس منك ولكن ممن يجي ء بعدك.
- اذا كان ذلك كذلك فالأمر اليك و إلى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة.
- هيهات يا أبابكر اذا ذهبت أنا و أنت جاءنا من بعدك من يسومنا الضيم.
و قال أبوعبيدة بلين:
- يا معشر الأنصار أنتم أولي فضل ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر و عمر و على.
أجاب زيد و قد هزه اسم على:
- إنّا لا ننكر فضل من ذكرت و ان منّا سيّد الأنصار سعد بن عبادة و إمام العلماء سعد بن معاذ و ذوالشهادتين خزيمة... و ان بين من ذكرت من قريش لو طلب الخلافة لا ينازعه أحد.
- مَن؟!!
- علي بن أبي طالب... واللَّه ما اجتمع الأنصار في السقيفة إلّا بعد شمّوا رائحة غدر دبّر بليل.