وكانت صديقة
القسم 33
انطوى يوم الاثنين و قد ألقى الحزن كلاكله فوق الأرض كغراب اسطوري. فاطمة تنوء بنفسها و قد اسندت رأسها إلى صدر لم يعد النسيم يزوره.
كانت تصغي إلى صمت الأنبياء وللصمت حديث تسمعه القلوب و تصغي إليه العقول، العينان اللتان كانتا نافذتي نور قد اسدلتا جفونهما واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مسبلتان. الروح التي كانت تصنع التاريخ و الإنسان قد رحلت بعيداً. غادرت هذا الكوكب الزاخر بالويلات.
لقد حلّت لحظة الفراق، و تخفف الإنسان السماوى من ثوبه الأرضي ليرحل إلى عوالم حافلة بالنور و قد سمع أهل الأرض كلمات النبي، كان ينظر إلى السماوات و يهتف:
- بل الرفيق الأعلى.
أيُّها الصامت.. صمتك أبلغ من كل أبجديات الدنيا و سكونك المدوى صرخة حقّ في عالم الأباطيل. و قد زلزلت الأرض زلزالها، انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح.. و تمزّق الكساء اليماني، و كان يدّثر نبيّاً هو خاتم الأنبياء و رجلاً يشبه هارون في كل شي ء إلّا النبوة، وامرأة هي سيدة بنات حوّاء وسبطين هما آخر الأسباط في التاريخ.
جثا على أمام جسد كانت روحه العظيمة تضي ء الجزيرة و بقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً جنحت للمغيب.. وهناك خلف جدران المنزل الذي جثم عليه حزن سرمدي كانت ترتفع ضجّة رجال.. كريح صفراء كانت تقترب من المسجد حيث لا يفصله عن المنزل سوى جدار يكاد أن ينهدّ.
و خفّ رجل هاشمي يحمل انباء السقيفة..
ستهب الريح عاصفة مدمّرة.. لاتبقي و لا تذر. تساءل علي:
- ما قالت الأنصار؟
- قالت منّا أمير و منكم أمير.
- فهلاً احتججتم عليهم بأنّ رسول اللَّه وصى بأن يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم.
- و ما في هذا من الحجّة عليهم؟
- لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم، سكت هنيهة و سأل:
- فماذا قالت قريش؟
- قالت: انا شجرة محمد.
تتم على بأسى:
- احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة.
وقف هارون حائراً يتأمل رمال سيناء.. يترقّب عودة أخيه.. و كان موسى يمم وجهه شطر الجبل..
- ما أعجلك عن قومك يا موسى؟
- هم أولاء على أثرى وعجلت اليك رب لترضى.
- فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك و أضلّهم السامريّ.
وعاد موسى غضبان أسفاً يحمل معه ألواح السماء.
و كان هارون يقاوم العاصفة و كان العجل يخور وسط العاكفين. قال هارون مشفقاً:
- إنّما فتنتم به و إن ربّكم الرحمن فاتبعوني واطيعوا أمري.
- لن نبرح عليه عاكفين حتى يعود الينا موسى.
و لمّا عاد موسى ألقى الألواح و قال بغضب:
- بئسما خلفتمونى من بعدى.
و قال هارون بحزن:
- إنّ القوم استضعفونى و كادوا يقتلوننئ.
ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح و تمتم:
- إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربِّهم و ذلّة في الحياة الدنيا. ونظر موسى إلى السماء و قال متضرعاً:
- ربِّ اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و انت أرحم الراحمين.
و التفت موسى إلى السامريّ:
- ما خطبك يا سامريّ؟
- بصرتُ بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبدتها و كذلك سوّلت لي نفسي.
قال موسى و هو ينبذه في قلب التيه:
- إذهب فإن لك في الحياة ان تقول لامساس و ان لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً.
وضاع السامريّ في التيه.. بين تموّجات الصحراء.. وعواء الذئاب. كان صوته يتبدد في المدى يبحث عن وطن.. والوطن لا يقبل شجراً مجتثاً من فوق الأرض ماله من قرار.
الصحراء بعيدة.. و الرجل المنبوذ يشدّ إلى جسده عباءة خرّقتها الريح و هو يطوي التيه.. يقبض قبضة من الرمال يشمّها علّه يجد فيها أثر الرسول... ولكن لا شي ء سوى الريح حتى إذا بلغ «فدك» من أرض الجزيرة تهالك عند جذوعها ينازع الموت و قد أيقظت العرب أوثانها.