وكانت صديقة
القسم 35
فاطمة حزينة.. وحيدة في هذه الدنيا الغادرة.. غيّب التراب وجهاً كان يضي ء دنياها و توقف قلب كان يملأ حياتها أملاً....
رحلت أمّها وهي بعد صبيّة.. وهاهى تفقد أباها وهى في عمر الربيع..
فقدت الأشياء شفافيتها و بدت عارية مقرفة. كانت تنظر إلى الجزيرة فتراها خضراء.. خضراء. تنظر بعيني محمد فترى البراعم تتفتح و الرياحين تفوح بالعطر.. والسماء تزخر بأجنحة الملائكة مثنى وثلاث و رباع و كلمات جبريل تملأ الفضاء. و لمّا أغمض الأب عينيه انطفأت كلّ الشموع.. انكفأت فوق صحون الحنّاء.. ذبلت الرياحين و غادر الربيع الجزيرة... واستيقظت الاصنام... فتحت عيونها الحجرية.. وانبعث خوار «عجل» في «فدك».
العاصفة تهبّ عنيفة تدمّر كلّ شي ء.. ولو مرّت على النجوم
لأطفأتها أو على شجرة زيتون لاجتثتها من فوق الأرض... و فاطمة وحيدة.. ليس معها أحد سوى رجلها و قد أغمد «ذا الفقار» بعد ان وضعت الحرب أوزارها.. و سيّد الرجال يأبى أن تكون له في الفتنة سيف.. سلاحه الصبر؛ و الصبر سلاح الأنبياء.
ليس في منزل فاطمة سوى صبيين ينتظران عودة جدّهما.. ليس في منزل فاطمة سوى بنت صغيرة غارقة في حزن سرمدي... بنت اسمها «زينب»؛ ليس في منزل فاطمة أحد إلّا المستضعفون فبدا كقلعة مهجورة تحمل آثاراً لجبريل. ستهبّ العاصفة اعصاراً فيه نار و قد لاذ الخائفون فئراناً مذعورة في جحورها.. وليس هناك من سلاح إلّا الصبر... و الصبر له طعم كالحنظل لايعرفه إلّا المظلومون.
بدا عليّ ذلك اليوم كأسد جريح.. أسد مثقل بالقيود و السلاسل.. و أصعب ما يواجه الرجل من ضيم أن يرى امرأته مقهورة وحيدة و هو موثق الأيدى... كان عليّ يدرك ما يدور في الخفاء... شمّ منذ أمد بعيد رائحة المؤامرة و لم يكن في مقدوره أن يفعل شيئاً... كانت العناكب تحوك شباكها ليل نهار. والسماء تكتظّ بقطع السحب السوداء، والقمر في المحاق..
هبّت العاصفة، وهتف ابن صهاك، وقنفذ ينظر بعينين فيهما بريق شيطاني:
- يا علي اخرج و بايع كما بايع الناس.
لاذ الأسد بالصمت، و رفع ابن صهاك صوته بعصبية:
- لتخرجنّ أو لأحرقن الدار.
هتف رجل مستنكراً:
- إن فيها فاطمة.
أجاب ابن صهاك.
- و إن!.
هتفت فاطمة بغضب:
- سرعان ما أغرتم على أهل البيت.
ركل قنفذ الباب بوحشية... وظهرت بنت محمّد في قبضتها لواء المقاومة.. وجهها الأزهر مضمخ بعبير النبوّات و كان حسن و حسين ينظران بدهشة إلى رجال كانوا بالأمس يبتسمون لهما و قد جاءوا اليوم يكشّرون عن أنياب كالذئاب.
- أين أنت يا جدّاه.. هلمّ لترى ما يفعل أصحابك.
هتفت فاطمة بغضب الأنبياء:
- اخلوا الدار.. و خلّوا عن ابن عمي..
ثم أردفت و هى تستنجد بالسماء:
- لئن لم تخلّوا عنه لانشرن شعري و لأصرخن إلى اللَّه.
هتف سلمان وقد رأى العذاب قاب قوسين أو أدنى:
- يا سيدتي! إن اللَّه بعث أباك رحمة. والتفت إلى عمر:
- خلوا عن عليّ فقد اقسم ألّا يخرج حتى يجمع القرآن.
انسحب الرجال أمام فتاة نحيلة الجسم كنخلة متواضعة.. لكنّها عميقة الجذور.
ما تزال راية المقاومة ترفرف فوق منزل فاطمة كطيف من رؤى النبوّات.
وقف التاريخ مشدوهاً قبالة منزل صغير يضمّ فتاة نحيلة القوام.
وقف التاريخ خاشعاً أمام «فاطمة».. أمام فتاة عجيبة لم يرَ مثلها صفاءً لكأنها تنتمي إلى عالم آخر لايمت إلى عالم التراب بوشيجة.
قبس من نور يكاد ينفذ من أهاب جسد نحيل لكأن الملاك يوم ولدت تضرّع إلى ربّه:
- يا ربِّ اجعلها ثابتة كالجبل، مباركة كالنخيل، طاهرة كقطرات الندى، سيّدة كحورية.
وقف التاريخ مذهولاً أمام فاطمة.. غيمة بيضاء تختزن الرعود... فهذه الفتاة التي تقف في محرابها تتبتل إلى السماء حتى تكاد تفتت التراب لتصبح كوكباً درّيا.. تتسرب من بين الطين عائدة إلى عالم النور.
وقف التاريخ خاشعا امام فتاة تقضى جل وقتها تتأمل ملكوت السماء.. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك... فتاة تنطوى ضلوعها على قلب تضيع فيه الصحارى.
وقف التاريخ امام سيدة عظيمة هبت بوجه العاصفة؛ ولتكن «فدك» ارضا للصراع.