طباعة

وكانت صديقة (القسم 38)

 

وكانت صديقة

القسم 38

كما تذوي الشموع في قلب الظلمات... كما تذوب و تسيل دموع التوهج.. كانت «فاطمة» تذوي.. قوامها يزداد نحولاً...

قرّرت فاطمة الصمت و ان تصوم كما صامت مريم من قبل... و أدرك عليّ ان الرحيل و شيك و ان «البيت» الذي بناه من جريد النخل «بالبقيع» سيكون ملجأً لفاطمة... بيتاً للأحزان و الآلام... سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع.. رحيل النجوم... و مصرع شمس أضاءت حياته مدّت بالدف ء.. النور.. الأمل.

سكتت فاطمة. والذين اشتكوا من بكائها لم يعودوا يسمعون انيناً ينبعث من أعماق قلب كسير. لم يعد أحد يسمع نشيجها الّا الذين يمرّون ب«البقيع»..

غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء. غابت فاطمة كفراشة تبحث عن الشمس... عن ربيع مضى تطارده رياح شتائية.

غابت فاطمة.. لم يعد أحد يسمع بها.. انها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخيل غادرته الحياة.. الملائكة لا تريد حياة الأرض، والحوريات لا تعيش في عالم التراب.. والذين اكتشفوا السماء لن يطيقوا الانتظار...

و عندما يدرك الأنبياء ان مواعظهم لاتجد آذاناً واعية سيتحدّثون بلغة الصمت...

في بيت الأحزان كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتبعث النور والدف ء من حولها... فاطمة تتحدّث بلغة الشموع لغة لا يسبر غورها إلّا فراشات النور. ها هي فاطمة تصرخ بصمت:

- بدويّ صمتي اناديكم.. ثورتي تنطوي في حزني.. و رفضي كامن في دموعي.

و هذا كلّ ما أملكه من لغة... علّكم تفهمون خطابي. انا مظلومة يا ربيّ...

حرّرني من هؤلاء.

ذوت الشمعة... أحرقت نفسها. لم يبق منها إلّا حلقات من نور... آن لها أن تنطفئ. الوجه يشبه قمراً أنهكته ليلة شتائية طويلة بدا مصفرّاً... و كان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة... والدموع غزيرة كمطر سماء غاضبة...

رتبت «اسماء» فراش سيدتها و سيّدة كلّ امرأة في التاريخ...

لم يعد الجسد الواهن قادراً على تحمل روح عظيمة تريد الانطلاق إلى عوالم لانهائية.

وجاء الشيخان يريدان عيادتها و قد أوجسا خيفة...

فاطمة غاضبة... ينشدان رضاها.. رضا السماء و الأرض والتاريخ.

هكذا قال محمّد من قبل ولكن انّى لهما ذلك و فاطمة تكاد تميز من الغيظ..

قال عمر لعليّ و هو يحاوره:

- يا أباالحسن ان أبابكر شيخ رقيق القلب و كان مع رسول اللَّه في الغار.. و قد أتيناها غير هذه المرّة فلم تأذن لنا.. فاستأذن لنا منها

ماذا يقول أبوحفص كيف يفكّر هذان الرجلان.. نهض عليّ جلس عند فاطمة و قال مستأذناً:

- يا بنت رسول اللَّه قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت وقد تردّدا مراراً ورددتهما.. وقد جاءا الآن يسألاني الأذن.

- و اللَّه لا أُكلّمهما حتى ألقى أبي.

- يا بنت محمّد.. اني قد ضمنت لهما الاُذن.

- امّا وقد ضمنت لهما شيئاً فلا اخالفك.

شعر أبوبكر بالأمل يراود قلبه و نظر إلى صاحبه بامتنان.

- السلام عليك يا بنت رسول اللَّه.

-...

- إنّا جئنا نسألك العفو و قد أقررنا بالإساءة.

-...

- ارضي عنا رضي اللَّه عنك.

-...

- لا تحوّلي وجهك عنّا.. انّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا...

قالت فاطمة كلمتها الأخيرة:

- ان كنتما صادقين فاخبراني عمّا أسألكما.

- سلي يا بنت رسول اللَّه.

- نشدتكما باللَّه هل سمعتما أبي يقول: فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني؟

- اللّهم نعم.

رفعت الزهراء يديها امام محكمة السماء:

- اللّهم اشهد فانّهما قد آذياني.. وأني اشكوهما اليك.

انتفض أبوبكر. ودّلو تبلعه الأرض.

- يا ويلي.. يا ويلي.. ليتني لم اتّخذك خليلا. لقد ضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني.

أجاب صاحبه و كان فضّاً غليظ القلب:

- لا تجزع يا خليفة الرسول لغضب امرأة.

هتف بمرارة.

- اقيلوني.. فقد ترضى فاطمة.

رمقه عمر بعينين متنمّرتين:

- ماذا تقول يا خليفة الرسول... أترضي فاطمة و تغضب عائشة... والأقربون أولى بالمعروف. ولقد قضي الأمر.

وقف أبوبكر عاجزاً عن صدّ الرياح وهي تعدو مجنونة تهزّ شجرة غرسها رسول السماء تريد أن تجتثها من فوق الأرض.

وقف الخليفة عاجزاً عن توجيه قافلة التاريخ الجهة التي أرادها سيّد التاريخ وهاهو يتّخذ طريقه في الصحراء سربا.

و تمرّ الأيام و الرياح المجنونة التي تريد اجتثات شجرة غرستها السماء في الأرض... تكاد تأتي على شمعة تسيل دموعها قطرات حزينة... ولسوف تنطفئ بعد حين.