• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

في ذكر آية المباهلة، ودلالتها على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)

في ذكر آية المباهلة،

ودلالتها على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) وفضلهم

 

جاءت النبوّة الخاتمة من أجل هداية الناس جميعاً; لتكون مفاهيم وقيم الهداية حاكمةً على جميع جوانب الشخصية الإنسانية، وعلى جميع جوانب الحياة; ولهذا فالهداية لا تقتصر على اُسلوب واحد وهو اُسلوب الوعظ والإرشاد، أو اُسلوب الدعوة الصامتة بالفعل والسلوك، وإنّما كانت أساليب الهداية متنوّعةً بتنوّع خصوصيّات الناس وأطباعهم وميولهم، ولهذا مارس رسول الله(صلى الله عليه وآله) جميع أساليب الهداية في دعوة الناس إلى الإسلام، أو تحييدهم، أو العمل على الاستسلام للكيان الإسلامي وإن لم يتبنّوا مفاهيمه وقيمه.

ومن هذه الأساليب: اُسلوب المباهلة، فقد استجاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى نصارى نجران حينما طلبوا منه المباهلة، فخرج(صلى الله عليه وآله) ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، فلما رآهم العاقِب والسيّد ـ وهما من كبار شخصيّات النصارى ـ قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها([1]). ولم يباهلوه وصالحوه على بعض الاُمور التي فيها خدمة للإسلام والمسلمين.

فقد باهَلَهم الرسول(صلى الله عليه وآله) بأعزّ الناس إليه وبأفضل مَن في الاُمّة على وجه الأرض، فتيقّن النصارى أ نّهم لو باهلوه لنزل عليهم العذاب، ونزلت عليهم اللعنة; لأنـّه(صلى الله عليه وآله)باهلهم بذويه وبأعزّهم عليه، فقد أيقنوا أ نّه(صلى الله عليه وآله) باهلهم وهو متيقّن بالنجاح والغلبة; لأنـّه لولا يقينه لَما خاطر بأهل بيته(عليهم السلام) في هذه المباهلة، فأيقنوا أ نّه مرسل من قبل الله تعالى، إلاّ أنّ عصبيّـتهم أبت عليهم الإذعان والاستسلام لدين الله، فاكتفوا بدفع الجزية.

وبآية المباهلة وبخطواتها العملية كان عليّ(عليه السلام) نفسَ رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وذرّيته أبناء رسول الله(صلى الله عليه وآله).

 

وإليك ما جاء من المصادر والأقوال في هذا الحقل:

قال صدر الحفّاظ: إنّ الله تعالى لمّا أنزل قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)([2]) دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)الحسن والحسين وفاطمة وعليّاً(عليهم السلام)، فدلّ على أنّ نفسَ عليٍّ نفسُ النبيّ(صلى الله عليه وآله)([3]).

وقال الشيخ محمد عبده: الروايات متّفقة على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما، ويحملون كلمة «نساءَنا» على فاطمة، وكلمة «أنفسنا» على عليٍّ فقط([4]).

قال الطنطاوي في تفسير قوله تعالى: (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ): أي يدعو كلّ منّا ومنكم خاصّته وأهل بيته وأصفياءه من ولد وامرأة ونفس، وقدَّم هؤلاء الأبناء والنساء. مع أنّ الإنسان يدافع عنهم بنفسه... ـ  إلى أن قال: ـ فأتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ (رضي الله عنه) خلفها، وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا...» إلى آخره([5]).

وعن سعد بن أبي وقّاص قال: لمّا نزلت هذه الآية (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللهمّ هؤلاء أهلي»([6]).

وعن زيد بن عليّ(عليه السلام) في قوله تعالى: (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) الآية، قال: «كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)وعليّ وفاطمة والحسن والحسين»([7]).

وعن الشِعبي عن جابر قال: لمّا قَدِم على النبيّ(صلى الله عليه وآله) العاقب والسيّد فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد قبلك! قال: «كذبتما! إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام»، قالوا: فهاتِ أنبِئنا، قال: «حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير»، قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يُغادياه بالغداة، فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأخذ بيد عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين  (رضي الله عنهم)، ثمّ أرسل إليهما فأَبَيا أن يُجيباه وأقرّا له، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «والّذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي عليهم ناراً».

قال جابر: فيهم نزلت (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ).

قال الشعبي: قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ): رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعليّ، (وأبناءَنا وأبناءَكم): الحسن والحسين (وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ): فاطمة (رضي الله عنها)([8]).

أقول: وقد ذكر ابن حجر في صواعقه في الفصل الأوّل من الآيات الواردة في أهل البيت(عليهم السلام) آية المباهلة، فقال:

الآية التاسعة: قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)، قال في الكشّاف: لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء، وهم: عليّ وفاطمة والحسنان; لأنـّها لمّا نزلت دعاهم(صلى الله عليه وآله)، فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، ومشت فاطمة خلفه وعليّ خلفهما، فعُلِم أ نّهم المراد من الآية، وأنّ أولاد فاطمة وذرّيتهم يسمَّون أبناءه وينتسبون إليه نسبةً صحيحةً نافعةً في الدنيا والآخرة([9]). انتهى كلامه.

وابن الأثير في تأريخه في ذكر وفد نجران مع العاقب والسيّد قال: وأمّا نصارى نجران فإنّهم أرسلوا العاقب والسيّد في نفر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأرادوا مباهلته، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فلمّا رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها!، ولم يباهلوه وصالحوه... إلى آخره([10]).

والزمخشري في تفسير قوله تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)الآية، قال: روي أ نّهم لمّا دعاهم إلى المباهلة قالوا: نحن نرجع وننظر، فلمّا تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إنّ محمداً نبيّ مرسل، وقد جاءكم بالفضل من أمر صاحبكم، واللهِ ما باهل قوم نبيّاً قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلاّ ألفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم! فأتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفهما، وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمِّنوا»، فقال اُسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو شاء ألله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة([11]).

ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ ليتبيّن الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختصّ به وبمَن يكاذبه، فما معنى ضمّ الأبناء والنساء؟

قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس إليه لذلك... ـ إلى أن قال: ـ وخصّ الأبناء والنساء لأنـّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتّى يقتل، ومن ثمّة كانوا يسوقون مع أنفسهم الضعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمّون الذادة عنها بأرواحهم: حماة الحقائق.

وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانتهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنّهم مقدَّمون على الأنفس مفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء(عليهم السلام)([12]).

وابن الصبّاغ المالكي في كتابه في تفسير آية المباهلة قال: وسبب نزول هذه الآية: أ نّه لمّا قَدِمَ وفد نجران على رسول الله(صلى الله عليه وآله) دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر وعليهم ثياب الحِبرات([13]) وأردية الحرير، لابسين الحلل، متختّمين بخواتم الذهب، يقول من رآهم من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله): ما رأينا مثلهم وَفداً قبلهم، وفيهم ثلاثة من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، وهم:

العاقب واسمه عبدالمسيح، كان أمير القوم وصاحب رأيهم وصاحب مشورتهم لا يصدرون إلاّ عن رأيه.

والسيد، وهو الأيهم، وكان ثمالهم وصاحب رحابهم ومجتمعهم.

وأبو حاتم ابن علقمة، وكان اُسقفهم وحِبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنّه تنصّر فعظّمته الروم وملوكها وشرّفوه وبنوا له الكنائس، وولّوه وأخدموه لِمَا علموه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وشأنه وصفته ممّا عَلِمه من الكتب المتقدمة، ولكنّه حَمَله جهلُه على الاستمرار في النصرانيّة لِما رأى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها، فتكلّم رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع أبي حاتم بن علقمة والعاقب عبدالمسيح وسألهما وسألاه.

ثمّ إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد أن تكلّم مع هذين الحِبرَين ـ اللذين هما العاقب وأبي حاتم ـ ودعاهما إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا، فقال(صلى الله عليه وآله): «كذبتم! إنّه يمنعكم من الإسلام ثلاثة أشياء: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم: لله ولد». فقالوا: هل رأيت ولداً بغير أب؟ فمَن أبو عيسى؟ فأنزل الله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ)([14]) الآية.

فلمّا نزلت هذه الآية مصرّحةً بالمباهلة دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وفد نجران إلى المباهلة وتلا عليهم الآية، فقالوا: حتّى ننظر في أمرنا ونأتيك غداً... ـ إلى أن قال: ـ فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرج وهو محتضِن الحسين، آخذ بيد الحسن، وفاطمة خلفه، وعليّ خلفهم وهو يقول: «اللهمّ إنّ هؤلاء أهلي، إذا أنا دعوت فأمّنوا»... ـ إلى أن قال: ـ قال جابر بن عبدالله: «أنفسنا»: محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعليّ(عليه السلام)، و«أبناءنا»: الحسن والحسين، و«نساءَنا»: فاطمة سلام الله عليهم أجمعين، هكذا رواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن عيسى، وقال: صحيح على شرط مسلم([15]).

والفخر الرازي في تفسير آية المباهلة قال: المسألة الثانية: رُوي أ نّه(صلى الله عليه وآله)لمّا أورد الدلائل على نصارى نجران، ثمّ إنّهم أصرّوا على جهلهم فقال(صلى الله عليه وآله): «إنّ الله أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن اُباهلكم»، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك... ـ إلى أن قال: ـ وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها وهو يقول: «إذا دعوت فأمِّنوا»، فقال اُسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها! فلا تُباهِلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة.

ثم قالوا: يا أباالقاسم، رأَيْنا أن لا نباهلك، وأن نُقرّك على دينك.

فقال صلوات الله عليه: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين»، فأبوا، فقال: «اُناجزكم القتال»، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نُصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك في كلّ عام ألفَ حلّة في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عاديةً من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: «والّذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمُسِخوا قردةً وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على رؤوس الشَجر، ولَما حال الحول على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا».

وروي: أ نّه(صلى الله عليه وآله) لمّا خرج في المرط الأسود فجاء الحسن (رضي الله عنه)فأدخله، ثم جاء الحسين (رضي الله عنه) فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ (رضي الله عنهما)، ثمّ قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)

واعلم: أنّ هذه الآية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث... ـ إلى أن قال: ـ المسألة الرابعة: هذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين(عليهما السلام) كانا ابني رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وُعِدَ أن يدعو أبناءَه، فدعا الحسن والحسين فوجب أن يكونا ابنيه.

وممّا يؤكّد هذا: قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ)إلى قوله: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى)، ومعلوم أنّ عيسى(عليه السلام) إنّما انتسب إلى إبراهيم بالاُمّ لا بالأب، فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابناً([16]).

والسيد الرضيّ في الحقائق قال: ومن سأل عن قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)([17]) فقال: أمّا دعاء الأبناء والنساء فالمعنى فيه ظاهر، وأمّا دعاء الأنفس والإنسان لا يصحّ أن يدعو نفسه، كما لا يصحّ أن يأمر وينهى نفسه.

فالجواب عن ذلك: أنّ العلماء أجمعوا والرواة أطبقوا على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)لمّا قَدِمَ عليه وفد نجران وفيهم الاُسقف ـ وهو أبو حارثة بن علقمة ـ والسيّد والعاقب وغيره من رؤسائهم فدار بينهم وبين رسول الله في معنى المسيح(عليه السلام)(ما هو مشروح في كتب التفاسير ولا حاجة بنا إلى استقصاء شرحه لأنـّه خارج عن غرضنا في هذا الكتاب) فلمّا دعاهم(صلى الله عليه وآله) إلى الملاعنة أقعد بين يديه أميرالمؤمنين عليّاً ومن ورائه فاطمة وعن يمينه الحسن وعن يساره الحسين(عليهم السلام)، ودعاهم(صلى الله عليه وآله)إلى أن يلاعنوه، فامتنعوا من ذلك خوفاً على أنفسهم وإشفاقاً من عواقب صدقه وكذبهم، وكان دعاء الأبناء مصروفاً إلى الحسن والحسين(عليهما السلام)، ودعاء النساء مصروفاً إلى فاطمة(عليها السلام)، ودعاء الأنفس مصروفاً إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام)، إذ لا أحد في الجماعة يُجوِّز أن يكون ذلك متوجّهاً إليه غيره; لأنّ دعاء الإنسان نفسه لا يصحّ، كما لايصحّ أن يأمر نفسه; ولأجل ذلك قال الفقهاء: إنّ الأمر لا يجوز أن يدخل تحت الآمر; لأنّ من حقّه أن يكون فوق المأمور في الرتبة ويستحيل أن يكون فوق نفسه.

وممّا يوضّح ذلك: ما رواه الواقدي في كتاب المغازي من: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)لمّا أقبل من بدر ومعه اُسارى المشركين كان سهيل بن عمرو مقروناً إلى ناقة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فلمّا صار من المدينة على أميال انتشط نفسه من القرن وهرب، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): من وجد سهيل بن عمرو فليقتله، وافترق القوم في طلبه فوجده النبيّ(صلى الله عليه وآله)منقبعاً إلى جذم([18]) شجرة، فلم يقتله وأعاده إلى الوثاق([19]); لأنـّه لم يصحَّ دخوله تحت أمر نفسه، ولو وجده غيره من أصحابه لوجب عليه أن يقتله; لِما صحّ أن يدخل تحت أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله).

ويفرّق الفقهاء بين ذلك وبين الخبر العام; لأنـّهم يجوّزون دخول المخبر تحته، وعلى هذا قالوا: إنّ الإمام إذا قال: «من قتل قتيلاً فله سلبه» فإنّه يدخل تحت ذلك، إلاّ أن يُخرج نفسه منه بقوله: «من قتل منكم قتيلاً فله سلبه»، فيُخرج نفسه حينئذ من ذلك.

ومن شجون هذه المسألة: ما حكي عن القاسم بن سهل النوشجاني قال: كنت بين يَدي المأمون في أيوان أبي مسلم بمَرُو وعليّ بن موسى الرّضا(عليه السلام) قاعد عن يمينه، فقال لي المأمون: يا قاسم، أيّ فضائل صاحبك أفضل؟ فقلت: ليس شيء منها أفضل من آية المباهلة، فإنّ الله سبحانه جعل نفس رسوله(صلى الله عليه وآله) ونفس عليٍّ واحدة، فقال لي: إن قال لك خصمك: إنّ الناس قد عرفوا الأبناء في هذه الآية والنساء، وهم: الحسن والحسين وفاطمة، وأمّا الأنفس فهي نفس رسول الله وحده، بأيّ شيء تجيبه؟

قال النوشجاني: فأظلم عليَّ ما بينه وبيني، وأمسكت لا أهتدي بحجّة، فقال المأمون للرضا(عليه السلام): ما تقول فيها يا أبا الحسن؟ فقال له: «في هذا شيء لا مذهب عنه»، قال: وما هو؟

قال(عليه السلام): «هو أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) داع، ولذلك قال الله سبحانه: (قل تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم...) إلى آخر الآية، والداعي لا يدعو نفسه إنّما يدعو غيره، فلمّا دعا الأبناء والنساء ولم يصحَّ أن يدعو نفسه لم يصحَّ أن يتوجّه دعاء الأنفس إلاّ إلى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ; إذ لم يكن بحضرته ـ بعد من ذكرناه ـ غيره ممّن يجوز توجّه دعاء الأنفس إليه، ولو لم يكن ذلك كذلك لبطل معنى الآية».

قال النوشجاني: فانجلى عن بصري، وأمسك المأمون قليلاً، ثمّ قال له: يا أبا الحسن، إذا اُصيب الصواب انقطع الجواب([20]).

قال السيد ابن طاووس(قدس سره) بعد ذكر آية المباهلة: فصل: فيما نذكره من فضل يوم المباهلة عن طريق المعقول: اعلم أنّ يوم مباهلة النبيّ(صلى الله عليه وآله) لنصارى نجران كان يوماً عظيم الشأن اشتمل على عدّة آيات وكرامات:

فمن آياته: أ نّه كان أوّل مقام فتح الله جلّ جلاله فيه باب المباهلة الفاصلة، في هذه الملّة الفاضلة، عند جحود حججه وبيّناته... إلى أن قال:

ومن آياته: أ نّه يوم كشف الله جلّ جلاله لعباده أنّ الحسن والحسين ـ عليهما أفضل السلام ـ مع ما كانا عليه من صغر السنّ أحقّ بالمباهلة من صحابة رسول الله ـ  صلوات الله عليه  ـ والمجاهدين في رسالاته.

ومن آياته: أ نّه يوم أظهر الله جلّ جلاله فيه أنّ ابنته المعظّمة فاطمة ـ صلوات الله عليها ـ أرجح في مقام المباهلة من أتباعه وذوي الصلاح من رجاله وأهل عناياته.

ومن آياته: أ نّه يوم أظهر الله جلّ جلاله فيه أنّ مولانا عليّ بن أبي طالب نفسُ رسول الله صلوات الله عليهما، وأ نّه من معدن ذاته وصفاته، وأنّ مراده من مراداته، وإن افترقت الصورة فالمعنى واحد في الفضل من سائر جهاته.

ومن آياته: أنّ يوم المباهلة شهد الله جلّ جلاله لكلّ واحد من أهل المباهلة بعصمته مدّة حياته.

ومن آياته: أنّ يوم المباهلة يوم بيان برهان الصادقين الّذين أمر الله جلّ جلاله باتّباعهم في مقدّس قرآنه وآياته... إلى آخره([21]).

أقول: لمّا نزل قوله تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) عُلِمَ أنّ المراد من «أنفسنا» و«أنفسكم» أنّ عليّاً نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) بنصّ هذه الآية، فراجع بعض مصادرها([22]).

قال في تفسير لباب التأويل: المراد بالنفس: نفسه(صلى الله عليه وآله)وعليّاً([23]).

وقال القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة: إنّ عليّاً كنفس الرسول(صلى الله عليه وآله) ([24]).

وفي تفسير محاسن التأويل للقاسمي قال: قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعليّ بن أبي طالب([25]).

تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي قال: (وَأَنْفُسَنَا) رسول الله وعليّ بن أبي طالب([26]).

وقال: وإنّما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس، ومن إحضار مَن هم أعزّ من النفس من قرينة أنّ الإنسان لا يدعو نفسه([27]).

وقال الفخر الرازي: والّذي يدلّ عليه قوله تعالى: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)ليس المراد بقوله: «وأنفسنا» نفس محمّد(صلى الله عليه وآله); لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره. وأجمعوا على أنّ ذلك النفس هو عليّ بن أبي طالب  (رضي الله عنه)، فدلّت الآية على أنّ نفس عليٍّ هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد من أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد: أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، وترك العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، وفي حقّ الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً(صلى الله عليه وآله) كان نبيّاً وما كان عليّ كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمداً كان أفضل من عليّ (رضي الله عنه) فيبقى فيما وراءه معمولا به. ثمّ الإجماع على أنّ محمداً(صلى الله عليه وآله) كان أفضل من سائر الأنبياء(عليهم السلام).

هذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية.

ويؤيد الاستدلال بهذه الآية: الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله(صلى الله عليه وآله): «من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلّته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»([28]).

فالحديث دلّ على أ نّه اجتمع فيه ما كان متفرّقاً فيهم، وذلك يدلّ على أنّ عليّاً(عليه السلام) أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد(صلى الله عليه وآله).

وكان نفس محمّد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم، فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل أيضاً من سائر الصحابة([29]).

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] . الكامل في التأريخ: 2/293.

[2] . آل عمران: 61.

[3] . أخرجه الحافظ الكنجي في الكفاية: 155.

[4] . تفسير المنار: 3/321.

[5] . تفسير الجواهر: 2/119 ـ 120.

[6] . أخرجه مسلم كما في تأريخ الخلفاء: 65، وابن الأثير في اُسد الغابة: 4/26، وابن الربيع في تيسير الوصول: 3/296، والسيوطي في الدُرّ المنثور: 2/70، والبغوي في مصابيح السنّة: 2/277، والمحبّ الطبري في ذخائر العقبى: 25، ومسلم في صحيحه: 4/1871/2404، والترمذي في صحيحه أيضاً: 5/638/3724.

[7] . أخرجه الطبري في تفسيره: 3/298.

[8] . أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوّة: 2/124، والواحدي في أسباب النزول: 75.

[9] . الصواعق المحرقة: 155.

[10] . تأريخ ابن الأثير: 2/293.

[11] . تفسير الكشّاف: 1/370، تفسير الوسيط: (مخطوط عام 675)، وأيّدناه في مكتبة الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)، تفسير البيضاوي: 2/22، لباب التأويل لابن الخازن: 1/242، مدارك التنزيل للنَسْفِي: 1/243، تفسير أبي السعود: 2/698 بهامش مفاتيح الغيب، تأريخ الخميس للدياربكري: 2/217.

[12] . تفسير الكشّاف: 1/370.

[13] . الحِبرةُ وزان عِنبة: ثوب يماني من قطن أو كتّان مخطّط يقال له: بُردٌ حِبرةٌ على الوصف، وبُردُ حبرة على الإضافة، والجمع حِبَر وحِبرات مثل عِنب وعِنبات. المصباح المنير: 144 (مادة حبر).

[14] . آل عمران: 59 ـ 60.

[15] . انظر الفصول المهمّة: 1/114 ـ 130.

[16] . مفاتيح الغيب: 2/699.

[17] . آل عمران: 61.

[18] . انقبع: استتر وانزوى، والجذم: الأصل. لسان العرب: 11/16 (مادة قَبَع).

[19] . المغازي للواقدي: 1/105 و117.

[20] . حقائق التأويل: 5/109 ـ 112، كتاب الإمام علي(عليه السلام) لعبد الفتّاح عبدالمقصود:
286 ـ 288.

[21] . الإقبال: 842.

[22] . مصادر آية المباهلة: صحيح مسلم: 4/1871 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عليّ ابن أبي طالب، صحيح الترمذي: 5/638/3724، تفسير الكشّاف للزمخشري: 1/434، تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 8/90، تفسير الطبري: 3/299/7186، الدرّ المنثور للسيوطي: 2/68، أسباب النزول للواحدي: 95، تأريخ الخلفاء للسيوطي: 65، السراج المنير في تفسير القرآن العظيم للشيخ الشربيني: 1/222، روح المعاني للآلوسي البغدادي: 3/188، الجواهر في تفسير القرآن الكريم للشيخ جوهري طنطاوي المصري: 1/126، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 4/104، تفسير المراغي: 3/174 ـ 175، كفاية الطالب للكنجي الشافعي: 122، تفسير أبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: 1/497، اُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير: 4/26، أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي: 2/22، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني: 2/509.

[23] . تفسير لباب التأويل: 1/242.

[24] . ينابيع المودّة: 1/136.

[25] . محاسن التأويل: 4/114.

[26] . تفسير القرآن العظيم: 1/362، تذكرة الخواصّ: 30، معالم التنزيل للبغوي: 1/481، مدارك التنزيل للنَسفي: 1/161.

[27] . ينابيع المودّة: 1/136/12.

[28] . أخرجه البيهقي في فضائل الصحابة، وابن أبي الحديد في شرح النهج: 9/115، وأورده العلاّمة الحلّي في كشف اليقين: 53، والعلاّمة الأميني في الغدير: 3/486، وغيرهم.

[29] . التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي: 8/90، وأخرجه الكنجي الشافعي في كفاية الطالب: 122.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page