وقال عليه السلام :« فإن أطعتموني حملتكم - إن شاء ألله - على سبيل الجنة ،وإن كان ذا مشقة شديدة، ومذاقة مريرة.
وسبيل أبلج المنهاج أنورالسراج ، بالإيمان يستدل على الصالحات ،وبالصالحات يستدل على الإيمان ، وبالإيمان يعمر العلم، وبالعلم يرهب الموت ، وبالموتتختم الدنيا، وبالدنيا تحرز الآخرة، وإن الخلق لامقصر لهم عن القيامة، مرقين (1) فيمضمارها إلى الغاية ألقصوى .
قد شخصوا من (2) مستقر الأجداث ، وصاروا إلى مضائق الغايات ، لكل دارأهل لايستبدلون بها ، ولا ينفكون عنها، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لخلقانمن خلق الله ، وانهما لايقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق ، وعليكم بكتاب اللهّ،فإنه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والري الناقع ، والعصمة للمستمسك بها ،والنجاة للمتعلق به ، لايعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، لاتخلقه كثرة ألرد وولوجألسمع ، من قال به صدق ومن عمل به سبق».
فقام إليه رجل فقال : أخبرنا عن الفتنة .
فقال : «لمّا انزل الله تعالى قوله (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهملايفتنون)(3) علمت أن الفتنة لاتنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا، فقلت : يا رسول الله ،ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال : يا علي ، إن امتي سيفتنون من بعدي ، فقلت :يا رسول الله أوليس قلت لي في يوم احد، حيث استشهد من استشهد من المسلمين ،وحيزت الشهادة عني فشق ذلك علي ، فقلت لي : ابشر، فإن الشهادة من ورائك ؟ فقاللي : إن ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً؟ فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطنالصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر. فقال يا: يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم،ويمنون. بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلون حرامه بالشبهاتالكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع .فقلت : يا رسول الله ، فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك، أبمنزلة ردة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال : بمنزلة فتنة»(4).
وقال عليه السلام : «يأتي على الناس زمان ، يبايع فيه المضطرون ، وقد نهىرسول الله عن بيع المضطرين»(5).
وقال عليه السلام - في خطبة له يذكر فيها فضل القرآن وشيئاً منمواعظه -: «انتفعوا ببيان الله ، واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله ، فإن الله قد أعذرإليكم بالجليلة، واتخذ عليكم الحجة، وبين لكم محابّهُ من الأعمال ومكارهه منها ؛لتبغوا هذه وتتجنٌبوا هذه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول : إن الجنةحفت(6) بالمكارة، وان النار حفت بالشهوات .
واعلموا، أنه مامن طاعة الله شيء إلا يأتي في كره ، ومامن معصية الله[شئ] (7)إلا يأتي في شهوة، فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته ، وقمع هوى نفسه ، فإنهذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنّها لاتزال تنزع إلى المعصية في هوى .
واعلموا - عباد الله - أنّ المؤمن لايصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون (8) عنده ،فلا يزال زارياَ عليها ، ومستزيداً لها، فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم،قوضوا(9) من الدنيا تقويض الراحل ، وطووها طي المنازل .
واعلموا أن هذا القرآن هوالناصح الذي لايغش ، والهادي الذي لايضل ،والمحدّث الذي لايكذب ، وما جالس هذا القران أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان ،زيادة في هدى، ونقصان من عمى .
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القران من فاقة، ولا لأحد قبل القران من غنى ،فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم ، فإن فيه شفاء من أكبر الداء،وهو الكفرو النفاق ، والغي والضلال ، واسألوا الله به ، وتوجهوا إليه بحبه ، ولا تسألوا بهخلقه ، فإنه ما توجه العباد إلى الله بمثله .
واعلموا أنه شافع مشفع ، وشاهد مصدق ، وأنه من شفع له القران يوم القيامةشفع فيه ، ومن محل (10) به القران يوم القيامة صدق عليه ، وانه ينادي مناد يوم القيامة:ألا إن كل حارث مبتلىً في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن ، فكونوا من حراثهوأتباعه ، واستدلّوه على ربكم ،واستنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ،واستغشوا فيه أهواءكم ،العمل (العمل ثم النهاية النهاية، والإستقامة الإستقامة، ثم الصبرالصبر، والورع الورع)(11) .
إن لكم نهاية فانتهوا إليها، وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم ، وإن للأسلامغاية فانتهوا إلى غايته، واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه ، وبين لكم منوظائفه ، أنا شاهد لكم وحجيج يوم القيامة عنكم ، ألا وإن القدر السابق قد وقع ،والقضاء الماضي قد تورد، وإني متكلم بعِدَةِ الله وحجته ، قال الله تعالى :(ان الذين قالواربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم المَلائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتمتوعدون)(12) وقد قلتم : ربنا الله ، فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقةالصالحة من عبادته ، ولا تمرقوا منها، ولا تبدعوا فيها، ولاتخالفوا عنها، فإن أهل المروقمنقطع بهم عند الله يوم القيامة.
ثم إياكم وتهزيع (13) الاخلاق وتصريفها ، واجعلوا اللسا ن واحداً ، وليخزن الرجللسانه ، فإن هذا اللسان جموح المصاحبة، والله ما أرى أحداً يتقي تقوىً تنفعه حتى يختزنلسانه ، فإن لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإن قلب المنافق من وراء لسانه ، لأن المؤمن إذاأراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه ، فإن كان خيراً أبداه ، وإن كان شراً واراه ، وإنالمنافق يتكلم بما أتى على لسانه ، لايدري ماذا عليه مما له ، وقد قال رسول الله صلى اللهعليه وآله : لايستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، فمناستطاع منكم أن يلقى اللهّ - سبحانه - وهو نقي الراحة من دم المسلمين وأموالهم ،سليم اللسان من أعراضهم ، فليفعل .
واعلموا -عباد الله - أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاماً أول ، ويحرّم العام ما حرّم عاماً أول ، وإن أول ما أحدث الناس البدع ، ولا يحل لكم شيء مما حُرّمعليكم ، ولكن الحلال ما أحلّ الله ، والحرام ما حرّم الله ، فقد جربتم الاُموروصرفتموها، ووعضتم بمن كان قبلكم ، وضربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمرالواضح ، فلا يصم عن ذلك إلأّ أصم ، ولا يعمى عنه إلاّ أعمى، ومن لم ينفعه الله تعالىبالبلاء والتجارب ، لم ينتفع بشيء من العظة، وأتاه التقصيرمن أمامه ، حتى يعرف ماأنكر، وينكر ما عرف ، وإنما الناس رجلان : متّبع شرعة، ومبتدع بدعة، ليسّ معه منالله سبحانه برهان سنة، ولاضياء حجة، وان الله - سبحانه - لم يعظ أحداً بمثل هذاالقران ، فإنه حبل الله المتين ، وسببه الأمين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وماللقلب جلاء غيره ، مع أنه قد ذهب المتذكرون ، وبقي المتناسون والناسون ، فإذا رأيتمخيراً فأعينوا عليه ، وإذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمكان يقول : يا ابن ادم ، اعمل الخير، ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد.
ألا وإن الظلم ثلاثة : فظلم لايغفر، وظلم لايترك ، وظلم مغفور لايطلب .
فأما الظلم الذي لايغفر، فالشرك باللهّ تعالى، قال الله تعالى :(إن الله لايغفرأن يشرك به)(14)و أما الظلم الذي لايترك ، فظلم العباد بعض لبعض .وأما الظلم الذي يغفر، فظلمالعبد نفسه عند بعض الهنات (15).
القصاص هناك شديد، ليس هوجرحاً بالمدى، ولاضرباً بالسياط ، لكنه مايستصغر ذلك معه ، فإياكم والتلون في دين الله ، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق ، خيرمن فرقة فيما تحبون من الباطل ، وإن الله سبحانه لم يعط أحداَ بفرقة خيراً، ممن مضى ولافيمن بقي .
يا أيها الناس ، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وطولا لمن لزم بيته ،وأكل قوته ،واشتغل بطاعة الله ، وبكى على خطيئته ، فكان من نفسه في شغل ، والناسمنه في راحة»(16).
وقال عليه السلام لبعض أصحابه : «واعلم أن الدنيا داربلية، لم يفرغ صاحبها ساعة قط ، إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة»(17).
وقال عليه السلام : «العلم وراثة كريمة، والاداب حلل مجددة، والفكر مرآةصافية، وصدرالعاقل صندوق سره ، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال ينفيالعيوب »(18).
____________
1 - أرقل في سيره : أسرع «الصحاح - رقل - 4 : 1712».
2 - في الأصل : في ، وما اثبتناه من المصدر.
3 - العنكبوت 29 : 1 ، 2 .
4 - نهج البلاغة 2 : 62 | 151، من كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة .
5 - نهج البلاغة 3 : 264 |468 .
6 - في الأصل : حجبت ، وما أثبتناه من النهج .
7 - أثبتناه من النهج.
8 - الظنون : التي يظن فيها الظنون ، يعني انها متهمة عنده . اُنظر«الصحاح - ظن - 6 : 2160»
9 - تقوضت الصفوف : تفرقت «الصحاح - قوض - 3: 1103».
10 - محل به : كاده ، ورفع أمره إلى السلطان « الصحاح -محل - 5: 1817»».
11 - في الأصل : العمل به الاستقامة الاستقامة ثم الصبر والورع ، وما أثبتناه من النهج.
12 - فصلت 41 : 30.
13 - ألتهزيع : التكسير والدق .
«الصحاح - هزع - 3 : 1356 » .
14 - النساء 4 : 48 .
15 - الهنات : جمع هنة وهي الشيء اليسير. والمراد ألمظالم الصغيرة لنفسه . أنظر(القاموس المحيط-هنو-404:4).
16 - نهج البلاغة 2 : 109 |171 .
17 - نهج البلاغة 3 : 127 | 59 ، من كتاب له عليه السلام إلى الاسود بن قطيبة صاحب جندحلوان .
18 - نهج البلاغة 3 : 152 | 4 ، 5 .
خطبة للإمام علي في فضل القران
- الزيارات: 2975