عن سعيد بن المسيب قال: كان علي بن الحسين - صلوات الله عليه - يعظالناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الاخرة- بهذا الكلام - في كل جمعة، في مسجدالرسول - صلى الله عليه وآله - وحفظ عنه وكُتب، كان يقول:
«ايّها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ماعملت في هذه الدنيا من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لوأن بينها وبينه أمداًبعيداً، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
ويحك، يا ابن آدم الغافل، وليس بمغفول عنه، ابن آدم، إن أجلك أسرعشيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيتأجلك، وقبض الملك روحك، وصيرت إلى قبرك وحيداً، فردّ إليك فيه روحك،واقتحم عليك فيه ملكان - ناكر ونكير- لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول مايسألانك عن ربك الذي كنت تعبد، وعن نبيك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذيكنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت [تتلوه، وعن إمامك الذي كنت](1)تتولاه، ثمعن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته، فخذ حذرك وانظر لنفسك،وأعدّ الجواب قبل الإمتحان والمسألة والاختبار، فإن تكن مؤمناً عارفاً بدينك، متّبعاًللصادقين، موالياً لأولياء الله، لقّاك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب، وأحسنتالجواب، وبشرت بالجنة والرضوان من الله - جل وعز- واستقبلتك الملائكة بالروحوالريحان. وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعييت عن الجواب،وبشرت بالنار، فاستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم (2) وتصلية جحيم.
واعلم - ابن ادم - أن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يومالقيامة، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، يجمع الله تعالى فيه الأولين والاخرين، يوم ينفخ في الصور، وتبعثر فيه القبور، ذلك يوم الازفة إذ القلوب لدىالحناجر كاظمين، ذلك يوم لاتقال فيه عثرة، ولا يؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل منهمعذرة، ولا لأحد فيه مستقل لقدمه (3)، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات،فمن كان من المؤمنين عمل مثقال ذرة من خير وجده، ومثقال ذرة من شر وجده.
فاحذروا ـ أيها الناس - من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عز وجل عنها،وحذركموها في كتابه الصادق والبيان الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره، عندمايدعوكم الشيطان الرجيم اللعين إليه، من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا، فإنالله جل وعز يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هممبصرون)(4).
فأشعروا قلوبكم (5) خوف الله عز وجل، وتذكروا بما قد وعدكم الله عز وجل فيمرجعكم إليه، من حسن ثوابه، كما خوفكم شديد العقاب، فإنه من خاف شيئاً حذره،ومن حذر شيئاً تركه، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا [الذينمكروا السيئات فإن الله عز وجل يقول في محكم كتابه :](6)(أفأمن الذين مكروا السيئات أنيخسف الله بهم الأرض أويأتيهم العذاب من حيث لايشعرون * أويأخذهم في تقلبهم فما همبمعجزين * أويأخذهم على تخوّف فإن ربكم لرؤوف رحيم)(7).
فاحذروا ما حذركم الله، بما فعل بالظلمة في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكمبعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب، تالله لقد وعظكم الله بغيركم، فإن السعيدمن وعظ بغيره، ولقد أسمعكم الله - جل وعز- في كتابه، بما فعل بالقوم الظالمين منأهل القرى قبلكم، حيث قال تبارك وتعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)(8) وإنماعنى بالقرية أهلها، حيث قال: (وأنشأنا بعدها قوما اخرين)(9)وقال عز وجل (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)(10) يعني يرهبون، قال: (لاتركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون)(11) فلما أتاهم العذاب (قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين)(12) وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إنأتعظتم وخفتم.
ثم رجع القول من الله - عز وجل - في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب،فقال عز وجل: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين)(13) فإن قلتم - أيها الناس - : إن الله عز وجل إنما عنى بهذا أهل الشرك، فكيف ذلك ؟ وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة منخردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين)(14)
واعلموا ـ عباد الله - أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين، وانما تنصبلأهل الاسلام، فاتقوا الله -عباد الله - إن الله عز وجل لم يحب هذه الدنيا وعاجلهالأحد من أوليائه، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنما خلق اللهالدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله، لقد ضرب لكمالأمثال، وصرف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلا بالله.
فازهدوا فيما زهدكم الله -عز وجل - فيه من عاجل الحياة الدنيا، فإن الله- تبارك وتعالى- يقول وقوله الحق: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماءفاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنتوظنّ أهلها أفهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أونهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمسكذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)(15).
وكونوا ـ عباد الله - من القوم الذين يتفكرون، ولا تركنوا إلى الدنيا، فإنالله - جل وعز- قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (ولاتركنوا إلى الذين ظلَموافتمسكم النار)(16).
ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها، ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنها دار بلغة، ومنزل قلعة(17)، ودارعمل، فتزودوا الأعمال الصالحة، قبل أنتفرق بينكم أيامها وينزل بكم حمامها، وقبل الإذن من الله بخرابها، فكان قد أخربهاالذي عمّرها أول مرة وهو يرثها، فنسأل الله - لنا ولكم - العون على الزاد بالتقوى،والزهد في الدنيا، وجعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل الحياة الدنيا، الراغبين فيالآخرة، فإنما نحن به وله ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين »(18).
____________
1 - ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.
2 - الحميم: الماء الحار الشديد الحرارة، يسقى منه أهل النار، أويصب على أبدانهم «مجمع البحرين -حمم - 6: 50».
3 - في الكافي: مستقبل توبة.
4 - الأعراف 7: 201.
5 - في ألأصل : أقاربكم، وما أثبتناه من الكافي.
6 - ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.
7 - النحل 16: 45 -47.
8 ، 9، 10 ـ الأنبياء 16 : 45 ـ 47 .
11ـ12 الانبياء21: 13 ـ 15.
13 ـ الانبياء 21: 46.
14 - الأنبياء21: 47.
15 - يونس 14:10.
16 - هود 11: 113.
17 ـ منزل قُلعة: أي ليس بمستوطن، ومجلس قلعة : إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة« الصحاح ـ قلع ـ 3 : 1271».
18 ـ الكافي 8 : 72 | 29، تنبيه الخواطر 2 : 47.
موعظة للامام السجاد عليه السلام
- الزيارات: 1727