مر الرحالة الحاج عبدالله بورخارت بالمدينة المنورة في أواخر القرن التاسع عشر وذلك بعد تهديم الوهابيين للبقيع فوصفها وصفاً مؤثراًجاء فيه :
«في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد والحجرة، تجري العادة بذهابه إلی مقبرة المدينة تكريماً لذكری القديسين الكثيرين المدفونين بها، وهي تجاور أسوار البلد علی مقربة من باب الجمعة وتسمی (البقيع) صورتها مربع مكون من بظع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة، وتحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل، وهذا المكان حقير جداَ بالنظر إلی قداسة الأشخاص الّذين يحتوي رفاتهم، ولعله أشد المقابر قذارة وحقارة بالقياس إلی مثله في أية مدينة شرقية في حجم (المدينة) فليس به متر واحد حسن البناء، كلا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة إتخذت غطاء للقبور، إنّما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة»، ويضيف بورخارت بالقول: «ويعزی تخريب المقبرة إلی الوهابيين فيشير إلی بقايا القبب والمباني الصغيرة التي عمدوا إلی تخريبها من فوق قبور العباس بعض الأئمة وعثمان وستنا فاطمة وعمات النبي صلى الله عليه وآله، والموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة و مزابل»[1].!!
إخراج آل سعود من المدينة المنورة:
لقد حز في نفوس المسلمين في العالم الأفاعيل الشائنة التي قام بها السعوديون في المدينة المنورة من قبل النّاس وتهديم للآثار الإسلامية وإهانة لمقابر الأولياء والصالحين فيها .. ولذلك فقد عم الغضب الإسلامي سائر البلاد الإسلامية، وإرتفعت وتيرة المطالبات الشعبية بتحرير الأماكن المقدسة من القيود السعودية وإعادة الهيبة والإحترام إليها كما كانت فيه علی الدوام. وقد شجعت هذه الأجواء (بالإضافة إلی الرغبات العثمانية في الهيمنة علی الحجاز) الدولة العثمانية علی التفكير في إستردادها، ولذلك فقد طلبت من واليها علی مصر محمد علي باشا البدء في الإستعداد لإستعادة السيطرة علی الحجاز في عام 1222هـ. 1807م[2]
وهكذا بدأ محمد علي باشا في إرسال قواته إلی الحجاز بعد تردد وكانت أول دفعة أرسلها في 19 رجب 1226هـ. 8 أغسطس 1811م عن طريق البحر تلتها قوة أخری في 5 شعبان 1226هـ. 26 أغسطس 1811م كما أرسل قوات برية بقيادة إبنه طوسون عن طريق العقبة إلی ينبع المكان الّذي إتفق ان يكون «مكان التّجمع والإلتقاء للقوات البحرية والبرية» ، وقد بلغ عددها ثمانية آلاف جندي[3]
ولم تجد القوات بقيادة طوسون صعوبة في النزول في ينبع وذلك لمساعدة الشريف غالب لها.
وقد تمكنت هذه القوات من إنزال أول هزيمة بالقوات السعودية في البداية وبدأ طوسون في التخطيط للزحف نحو المدينة المنورة .. وهكذا كان، لكن القدر علی موعد سيء معه حيث هزمت قواته في وادي الصفراء وقتل عدد كبير منها وفر الباقون (ثلاثة ألاف جندي) إلی ينبع في حالة الذعر والفزع كبيرة.
وقد أرسل طوسون في طلب المدد من أبيه محمد علي باشا حيث وصله فيما بعد فبادر إلی نقل مواقعه إلی بدر (1227هـ. 1812م) وقام بتنظيم قواته وترتيبها ثم زحف إلی وادي الصفراء وأحتله ثم توجه نحو المدينة المنورة .. وقد «وصلت قوات طوسون تساندها قبائل حرب وجهينة إلی المدينة المنورة، بعد رحلة مضنية نتيجة لوعورة الطريق، وبعد المسافات، وشدة الحر، التي إضطرت الجيش أن يسير بالليل ويستريح في النهار، وحاصر طوسون بقواته المدينة مدة طويلة، تمكن في أثنائها من فتح ثغرات في سورها، بواسطة المتفجرات فأضطرت القوات السعودية الَّتي كانت متحضة بها إلی الإستسلام، بعد أن فتكت الأمراض بها نتيجة لطول مدة الحصار وقطع المياه والطعام عنها، وأرسل طوسون لوالده بشائر النصر مصحوبة بثلاثة آلاف من آذان القتلی، ومفاتيح الحرم النبوي الشريف » وكان دخول المدينة المنورة في التاسع من شهر ذي القعدة وقد سقطت بعد عدة أيام من دخولها[4].
بعد إستتباب الأمر لطوسون في المدينة قام بمراسلة الشريف غالب (الذي لم يكن ليحب السيطرة السعودية) ليسمح له بدخول جدة حيث دخلها سلماً في 12 محرم 1228 هـ. 15 يناير 1813م، ثم توجه إلی مكة المكرمة بمساعدة الشريف غالب كذلك ودخلها دون قتال إيضاً .. وتطورت المعارك بعد ذلك لغير صالحه عندما قامت القوات السعودية بإستدراجه إلی وسط الجزيرة العربية حيث الحر والجوع والعطش الأمر الذي رجح الكفة لغير صالحه.
وقد دفع هذا بمحمد علي باشا إلی السير بنفسه إلی الجزيرة العربية حيث حقق إنتصارات كبيرة وتأرجحت كفتي الطرفين في الغلبة والهزيمة حتی تمكن إبراهيم باشا من هزيمة القوات السعودية في نجد وإستسلم الأمير عبد الله بن سعود إلی إبراهيم باشا في 8 ذي القعدة 1233هـ. 9 سبتمبر 1818م وبهذا سقطت الدولة السعودية الأولی.
وأخذ عبد الله بن سعود إلی مصر حيث أدخل علی محمد علي باشا وإستلم منه محتويات ونفائس الحجرة النبوية التي كان قد سرقها أبوه أبان غزوه للمدينة المنورة - كما ذكرنا آنفاً - .
___________________________
[1] . المصدر السابق – ص253 – 254.
[2] . انظر الدولة السعودية الأولی – ص306.
[3] . المصدر السابق – ص311.
[4] . تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها – صلاح الدين المختار – ص124.
البقيع بعد الهدم الأول
- الزيارات: 3113