قال السمعاني: كانوا يكرهون الكتابة أيضاً، لكي لا يعتمد العالم على الكتاب، بل بحفظه... فلما طالت الاسانيد وقصرت الهمم رخصت الكتابة.
وقال مثله القاضي عياض في (الالماع في أصول الرواية وتقييد السماع).
أما الشيخ أبو زهو والشيخ عبد الخالق عبد الغني فقد أرجعا الامر ونسباه إلى رسول الله وقالا: إن رسول الله ـ وحفاظاً على ملكة الحفظ عند العرب ـ نهاهم عن الكتابة، لانهم لو كتبوا لاتكلوا على المكتوب وأهملوا الحفظ فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن [ الحديث والمحدّثون: 123، حجيّة السنة: 428 ].
وهذا الكلام باطل صغرىً وكبرىً:
أما الصغرى، فلوجود عدة من الصحابة لا يملكون هذه المقدرة، كما جاء عن المتشددين في الحديث الذين لا يرتضون التحديث، أمثال سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغيرهما، خوفاً من أن يزيدوا أو ينقصوا.
وجاء عن زيد قوله: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شديد، وهذه النصوص تؤكد لنا سقم المدعى.
ويضاف إليه أنه جاء عن عمر أنه حفظ سورة البقرة في اثني عشر عاماً ولما حفظها نحر جزوراً [ الدرّ المنثور 1/21، سيرة عمر لابن الوزي: 165]، وهذا لا يتفق مع ما قيل عن ملكة الحفظ عند العربي، ولو صح هذا لما أتى أصحاب الجرح والتعديل بأسماء الذين خلطوا من الصحابة.
وقال الاستاذ يوسف العشي: فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول مادة العلم بأجمعه فتحفظها من الضياع وتقيها من الشرود، ومهما قويت عند أناس فلابد أن تهون عند آخرين فتخونهم وتضعف معارفهم [ مقدمة تقييد العلم: 8 ].
إذن، ما قيل عن حافظة العربي لا يتفق مع هذه الاقوال، وخصوصاً حينما نقف على كلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وعند إشارته الى أسباب اختلاف النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: «ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فلم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذباً...».
وأمّا الكُبرى، فالملائكة هم أكمل من بني الانسان وأقدر منه على الحفظ، فَلِمَ يكلفهم عزوجل بالكتابة ويقول: (كِرَاماً كَاتِبِينَ) [الانفطار: 11]؟ ولو كان للحفظ هذه المنزلة فلماذا لا نجد معشار الايات التي نزلت في الكتابة قد نزلت في الحفظ ؟ ولو كان الحفظ واجباً لكانت الكتابة منهياً عنها ومحرمة، فلماذا نراهم يدوّنون القرآن ولا يدوّنون الحديث ؟ ولو صح هذا التعليل فلماذا يكون حكراً على العرب ؟ وكيف يفعل الفرس والاتراك لو أرادوا التدوين ؟ ألم تكن الشريعة عامة للجميع ؟ وماذا نفعل بقوة الحافظة لو مات الصحابي الحافظ إن لم نسجل كلامه؟ ألا يعني هذا أن منع التدوين بدافع المحافظة على الحديث أشبه شيء بالتناقض ؟ وكيف يتصور أن يحث المعلم تلاميذه على العلم ويحرضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثم يوصيهم ألاّ يدوّنونها ولا يتدارسونها ؟ أليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين أولى وأجدى من حفظه واستظهاره ؟ ولو كان ما كتب قر وما حفظ فر فلم التأكيد على حفظ الحديث وتجويزه من قبل الحفاظ والقول أن منع الكتابة جاء للمحافظة على الذاكرة ؟!
السبب الرابع : ما ذهب إليه السمعاني والقاضي عياض
- الزيارات: 3328