لم يؤثر عن الخليفة دؤب على العبادة على العهد النبوي أو بعده غير أشياء لا تنجع من أثبتها له إلا بعد تحمل متطاول، أو تفلسف في القول لو أجدت الفلسفة على لا شيئ.
روى المحب الطبري في الرياض النضرة 1 ص 133: إن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ثم قالت: ألا إنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ و يصلي ثم يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه فإذا كان وقت السحر رفع رأسه و تنفس الصعداء فيشم في البيت روائح كبد مشوي. فبكا عمر وقال: أنى لابن الخطاب بكبد مشوي.
وفي مرآة الجنان 1 ص 68: جاء إن أبا بكر كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوية.
وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي ص 135: لما مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف عمر رضي الله عنه كان يتبع آثار الصديق رضي الله عنه ويتشبه بفعله فكان يتردد كل قليل إلى عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما ويقول لهما: ما كان يفعل الصديق إذا خلا بيته ليلا؟ فيقال له: ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام إنما كان إذا جنه الليل يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء ويضع رأسه على ركبتيه ثم يرفعها إلى السماء ويتنفس الصعداء ويقول: أخ. فيطلع الدخان من فيه. فيبكي عمر ويقول:
كل شيئ يقدر عليه عمر إلا الدخان. فقال:
وأصل ذلك أن شدة خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه، فكان جليسه يشم منه رائحة الكبد المشوي، وسببه أن الصديق لم يتحمل أسرار النبوة الملقاة إليه وفي الحديث: أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه. فالمعرفة التامة تكشف عن جلال المعروف وجماله وكلاهما أمر عظيم جدا تتقطع دونه الغايات ولولا أن الله تعالى ثبت من أراد ثباته وقواه على ذلك ما استطاع أحد الوقوف ذرة على كليهما وجلالا و جمالا، والغاية في الطرفين قد نالها الصديق رضي الله عنه. فقد ورد: ما صب في صدري شيئ إلا صببته في صدر أبي بكر. ولو صبه جبريل عليه السلام في صدر أبي بكر ما أطاقه لعدم مجراه من المماثل، لكن لما صب في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو من جنس البشرية فجرى في قناة مماثلة للصديق، فبواسطتها أطاق حمله، ومع ذلك احترق قلبه. الخ.
وروى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ص 31 و 261، عن بكر بن عبد الله المزني قال: لم يفضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة إنما فضلهم بشئ كان في قلبه. وذكر أبو محمد الأزدي في شرح مختصر صحيح البخاري 2: 41، 105.
و ج 3: 98. و ج 4: 63، والشعراني في اليواقيت والجواهر 2: 221، واليافعي في مرآة الجنان 1: 68، والصفوري في نزهة المجالس 2 ص 183: إن في الحديث ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولن بشئ وقر في صدره.
قال الأميني: لو صح حديث الكبد المشوي لوجب اطراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيين أخوفهم، ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشد وأنشر، فإن الخوف فرع الهيبة المسببة عن إحاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة، وينبأنا عن ذلك قوله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء (1) قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني. وقيل: عظموه وقدروا قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد به خشية. " تفسير الخازن 3: 525 "
وفي الحديث: أعلمكم بالله أشدكم له خشية. " تفسير ابن جزي 3: 158 "
وفي خطبة له صلى الله عليه وآله: فوالله إني لأعلمهم بالله وأشد هم له خشية (2).
وفي خطبة أخرى له صلى الله عليه وآله: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا (3).
وقال مولانا أمير المؤمنين: أعلمكم أخوفكم. " غرر الحكم للآمدي ص 62 "
وقال مقاتل: أشد الناس خشية الله أعلمهم. " تفسير الخازن " 3: 525 "
وقال الشعبي ومجاهد: إنما العالم من خشي الله (4).
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم (5).
ومن هنا قوله صلى الله عليه وآله: إني أعلمكم بالله وأخشاكم لله (6) ولذلك تجد أن أزلف الناس إلى السلطان يتهيبه أكثر ممن دونه في الزلفة. فترى الوزير يكبره ويخافه أبلغ ممن هو أدنى منه، والأمر على هذه النسبة في رجال الوظايف، حتى تنتهي إلى أبسطها كالشرطي مثلا، ثم إلى سائر أفراد الرعية.
وهلم معي إلا الأولياء والمقربين والمتهالكين في الخشية من الله والمتفانين في العبادة وفي مقدمهم سيدهم مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي كان في حلك الظلام يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويتأوه ويتفوه بما ينم عن غاية الخوف والخشية، وهو قسيم الجنة والنار بنص من الرسول الأمين كما مر في الجزء الثالث ص 299 ط 2، وكان يغشى عليه عدة غشوات في كل ليلة، ولم يشم أحد منه ولا منهم رائحة الكبد المشوي.
ولو اطرد ما يزعمونه لوجب تكيف الفضاء من لدن آدم إلى عهد الخليفة بتلك الرائحة المنتشرة من تلكم الأكباد المشوية، ولا سود وجه الدنيا بذلك الدخان المتصاعد من الأكباد المحترقة.
أيحسب راوي هذه المهزأة أن على كبد المختشي نارا موقدة يعلوها ضرم، و يتولد منها دخان؟ فلم لم تحرق ما في الحشى كله ويكون إنضاجها مقصورا على الكبد فحسب؟ وهل للكبد حال المعذبين الذين كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا أخرى؟ وإلا فالعادة قاضية بفناء الكبد بذلك الحريق لمتواصل.
وإن تعجب فعجب بقاء الانسان بعد فناء كبده، ولعلك إذا أحفيت الراوي السؤال عن هذه لأجابك بأنها كلها معاجز تخص بالخليفة.
وأحسب أن صاحب المزاعم من المتطفلين على موائد العربية فإن العربي الصميم جد عليم بكثير الكناية والاستعارة في لغة الضاد فإذا قالوا: إن نار الخوف أحرقت فلانا لا يريدون لهبا متقدا يصعد منه الدخان أو تشم منه رائحة شي الأكباد، وإنما يعنون لهفة شديدة، وحرقة معنوية تشبه بالنيران.
وأما ما سرده العبيدي من فلسفة ذلك الحريق في كبد الخليفة فإنها من الدعاوي الفارغة وفيها الغلو الفاحش وإن شئت قلت: إنما هي أوهام لم تقم لها حجة، وليس من السهل أن يدعمها ببرهنة يمسكها عن التزحزح، فهي كالريشة في مهب الريح تجاه حجاج المجادل، ووجاه سيرة الخليفة نفسه، وما عزاه إلى الرواية من حديث خرافة: ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر. فهو على تنصيص العلماء على وضعها كما مر في ج 5 ص 316 لا يلزم به الخصم، ولا يثبت به المدعى، وفيه من سرف القول ما لا يخفى على العارف بالرجال وتاريخهم.
____________
(1) سورة فاطر آية 28.
(2) صحيح مسلم كتاب المناقب. باب علمه بالله وشدة خشيته، تفسير الخازن 3: 525.
(3) صحيح البخاري كتاب الرقاق. باب لو تعلمون ما أعلم، مسند أحمد 6: 164، تيسير الوصول 2، 26، تفسير الخازن 3: 525
(4) تفسير القرطبي 14: 343، تفسير الخازن 3: 525.
(5) تفسير القرطبي 14: 343، تفسير الخازن 3: 525.
(6) تفسير البيضاوي 2: 302، اللمع لأبي نصر ص 96.
تهالك الخليفة في العبادة
- الزيارات: 3040