هذه واحدة من وثائق عدیدة من مکتب صدام حسین، مکتوبة بخط رئیس المخابرات شخصیا، قد یکون سعدون شاکر قبل إعفائه من رئاسة الجهاز، فی أعقاب المحاولة الفاشلة التی قام بها حزب الدعوة لاغتیال الرئیس السابق صدام حسین فی الدجیل، وقد تکون بخط برزان التکریتی الذی حل محله، وهی مرفوعة إلى الرئیس، ومکتوبة على ورقة غیر اعتیادیة، تم اختیارها عریضة جدا لتستوعب، أفقیا، جمیع البیانات الکثیرة الواردة فیها. ولأنها أعرض مما یستوعبه جهاز المسح الإلکترونی الذی لدیّ فقد قمتُ بتصویرها بنصفین، وأرجو القاریء أن یجمعهما معا بلصق النصف الثانی على یسار الأول، لتتم قراءة البیانات کاملة وصحیحة.
وبذلک یمکن قراءة السطر الأول - مثلا - کما یلی:
( 1- رقم الحوالة 26506 - حسابات / 97 - 8/9/1982 - المبلغ بالعملة الأجنبیة 23.644.446- دولار- المعادل بالعملة العراقیة 7.000.000 - البنک التجاری الکویتی- الکویت- رقم الحساب 0211000501 - لم یذکر الاسم للمستفید - سلم المبلغ نقدا بالدینار العراقی).
وهکذا نستطیع أن نمضی فی قراءة باقی البیانات الخاصة بتحویلات قسم واحد من أقسام شعبة الاعتمادات والتأدیات الخارجیة فی المخابرات، لشهرین فقط، هما (أیلول / سبتمبر وتشرین الأول / أکتوبر) من عام 1982.
ویستطیع القاریء المغرم بالجمع والطرح أن یتأکد من صحة المجموع الذی حصلت ُعلیه بعد أن جمعتُ تلک المبالغ المسحوبة من خزینة البنک المرکزی، وهو 234،575.463 مئتان وأربعة وثلاثون ملیونا، وخمسمئة وخمسة وسبعون ألفا، وأربعمئة وثلاثة وستون دولارا فقط لا غیر.
الملاحظة الأولى: إن هذه الوثیقة صادرة من القسم رقم 5. وهذا یعنی أن فی شعبة الاعتمادات والتأدیات الخارجیة فی مخابرات النظام السابق خمسة أقسام مهمتها تحویل الأموال إلى الخارج لتمویل عملیاتها أو لشراء الذمم.
الملاحظة الثانیة: کثیرٌ من تلک المبالغ حُملـت بأکیاس، وأخرجت من العراق، تهریبا ولیس تحویلا عن طریق البنک المرکزی، لأنها سلمت نقدا وبالدینار العراقی.
الملاحظة الثالثة: إن إغفال الأسماء، وذکر أرقام حساباتهم فی البنوک، یثیر الریبة. فإن کانت المخابرات قد قامت فعلا بتسلیم تلک المبالغ الضخمة نقدا لأصحابها، فلماذا سَجلت أرقامَ حساباتهم البنکیة التی لم تودع المبالغ فیها؟.
الملاحظة الرابعة: ماذا استفاد الرئیس من قائمةٍ من هذا النوع، لیس فیها أسماء ولا تفاصیل لکی یتأکد من سلامة العملیة ونزاهتها، ولماذا رُفعت إلیه أصلا؟
الملاحظة الخامسة: یتضح من رفع وثیقة من هذا النوع إلى صدام شخصیا أنه کان ممسکا بالصغیرة والکبیرة معا، وقد یکون لم یقرأها ولم یراجعْها أصلا، ولکنه کان یرید فقط إشعارَ الجمیع من خاصته بأنه یعرف کل شیء، ویدقق کل شیء بنفسه، ولیُشعرَهم بأنه یعرف سرقاتهم، ویتسامح فیها، لکنه قد یخرجها من خزانته ویستخدمها ضدهم، إذا دعت الضرورة، للبطش بأحدهم، ساعة َیرید. وبذلک یجعلهم أکثر تفانیا فی خدمته، خوفا من العوقب.
الملاحظة السادسة: لا فائدة من التساؤل عن شرعیة هذه البعثرة المحزنة لأموال الشعب العراقی. لکن لابد من التساؤل عن جدوى تلک التحویلات. فالسیاسی أو الإعلامی العربی أو الأوربی الذی لا یجعله إیمانُه بعدالة النظام ورئیسه حلیفا متطوعا لا یمکن للرُشى أن تضمن ولاءه ووفاءه.
وقد أثبتت الأحداث صحة هذه المقولة. فقد کان کثیرون من الأشخاص الذین قبضوا تلک الرُشى مثل أجهزة هواتف العُملة، لا تعمل إلا إذا رمیت فیه ثمن المکالمة مقدما.
کما أن کثیرین منهم استداروا مئتین وثمانین درجة، وتحولوا من مهللین ومطبلین للنظام ورئیسه إلى شتامین لا یُشق لهم غبار فی نشر غسیل النظام وزعیمه ورجاله. ویحتفظ التاریخ لهم ببیانات وخطابات ومقالات وتصریحات قلبوا فیها ظهر المجن للنظام فی أحلک ساعاته وفی أمس حاجته إلى خدماتهم التی قبضوا أثمانها نقدا وسلفا دون تواقیع. بل إن بعضهم لم یشتم النظام ولا قائده فقط، بل شتم العراق کله وأهله وتاریخه. ولیس هذا وحسب. بل إن منهم من باع لسانه لأعداء النظام وأعداء رئیسه، دون حیاء.
وفی کل الأحوال، فإن هذه الوثیقة تکشف حقیقة الطریقة العشوائیة الارتجالیة التی کانت تدار بها الدولة العراقیة، وتفضح مقدار الفساد الذی أنهک الخزینة العراقیة، وأفقر المواطن، وأغنى کبار أعوان الرئیس، وآلافا من المرتزقة الخونة التافهین.
هذا غیض من فیض. نقطة فی بحر. ولو جلس المدققون المالیون المحایدون أعواما وأعواما یبحثون عن الملایین والملیارات التی أهدرها صدام وولداه وإخوته وکبار أعوانه، بذلک السلوک الارتجالی العشوائی العبثی، لما استطاعوا أن یحصوها، على کثرتها وضخامة أرقامها.
أما المواطن العراقی صاحب تلک الأموال، فکان، فی زمن کتابة هذه الوثیقة، أیام تلک الحرب الغبیة مع إیران، قد بدأ یذوق طعم الجوع والفقر وغلاء الأسعار وشحة المواد الأساسیة فی الأسواق. کما صار بعض العراقیین یبحث فی القمامة لیأکل أو لیُطعم أبناءه الجیاع.
أکتب هذا الکلام لا لیقرأه السیاسیون والمؤرخون والمفکرون المنصفون المحایدون، فهم أعرَفُ بعیوب النظام السابق ومفاسده، بل لمن ظل على ضلاله من أتباعه ومحازبیه، ولا یزال یکابر ویحلم بعودته وعودة أیامه السود، وینسى أو یتناسى أن النهر لا یجری إلى وراء.
وإذا کان العهد الذی جاء بعد سقوطه المدوی فی نیسان 2003 ملیئا بالمثالب والعیوب، وبعض أطرافه لا تقل عنه خرابا وتخریبا، ضلالا وتضلیلا، عبثا وتبذیرا بأموال العراقیین وأرواحهم وکراماتهم، فهذا لا یجعلنا نلعن السیء ونترحم على الأسوأ، فکلاهما فاسد وخبیث ینبغی انتزاعه من ترابه، وتخلیص أهلنا من شروره.
مع ملاحظةٍ واجبة تفرضها الأمانة، وهی أن ما نـَعـُده الیوم شرا وجحیما فی بغداد یظل أخف وطأة علینا من عهد الراحل العظیم. لسبب بسیط هو أن فی إمکاننا الیوم أن نتکلم، حتى فی ظل الملیشیات والکواتم والمتفجرات، ولم یکن فی قدرة أحدنا أن یفتح فمه إلا فی دورات المیاه فی منازلنا فی العراق، أوفی مقاهی دمشق ولندن والریاض، أیام َ کان برزان التکریتی صاحبُ کتاب (مؤامرات اغتیال الرئیس صدام حسین الصادر عام 1982) یتباهى بقوله:
"یکفینا فخراً أن المعارض الموجود فی واحدة من مقاهی باریس أو براغ، عـندما ینوی انتقادنا، یتلفت یمیناً وشمالاً، خوفاً من وجود ضابط مخابرات بجانبه".
وبرغم جمیع المآخذ على الوضع السیء الحالی، فإن الأمل کبیر فی قدرة شعبنا على الاستفاقة من سباته الطائفی العنصری المقیت، لتصحیح المعادلة، وإعادة الحق إلى نصابه، ولکن عبر صنادیق الاقتراع، ولیس بالمفخخات والدسائس والمؤامرت. ولیس هذا على الخیرین، وهم یُعـَدون بالملایین، بکثیر.
إبراهیم الزبیدی- ایلاف
