طباعة

طعنة ساباط

هذه هي الظروف القاهرة التي تتحكم بقرارات الإمام الحسن(عليه السلام) وتحركاته، فهو رهين مؤامرات الخوارج وتمرداتهم، ودسيسة المنافقين الذين ما فتأوا يكيدون له ولأبيه من قبل، فمتى يُتاح للإمام(عليه السلام) أن يتخذ قرار الحرب كما هو يتخذ قرار السلم، ومتى تسلم قرارات الإمام من الطعون، بعد أن يسلم هو من طعنة ساباط.
كانت ساباط شاهدةً على ذلك المشهد الدامي، بل قُل المتخاذل حينما كان ثقل رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) تحت وطأة شفار المدى تُستباح حرمته.
قال الطبري: بايع الناس الحسن بن عليّ(عليهما السلام) بالخلافة، ثم خرج بالناس حتّى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا، وأقبل معاوية في أهل الشام حتّى نزل مسكن، فبينا الحسن في المدائن إذ نادى مناد في العسكر: ألا إنّ قيس بن سعد قتل فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن(عليه السلام) حتّى نازعوه بساطاً كان تحته، وخرج الحسن حتّى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان عمّ المختار بن أبي عبيد عاملاً على المدائن وكان اسمه سعد ابن مسعود، فقال له المختار وهو غلام شاب: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له سعد: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فأوثقه، بئس الرجل أنت.
فلما رأى الحسن(عليه السلام) تفرّق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح(1) .
وروى اليعقوبي : وكان معاوية يدسّ إلى عسكر الحسن من يتحدّث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجّه إلى عسكر قيس من يتحدّث أن الحسن قد صالح معاوية، فأجابه.
ووجّه معاوية إلى الحسن(عليه السلام) المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز، وعبد الرحمن بن اُم الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويُسمعون الناس: إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكّن به الفتنة وأجاب إلى الصلح، فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرساً ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجرّاح بن سنان الأسدي، فجرحه بمعول في فخذه، وقبض(عليه السلام) على لحية الجرّاح ثم لواها فدقّ عنقه.
وحمل الحسن إلى المدائن وقد نزف نزفاً شديداً، واشتدت به العلّة، فافترق عنه الناس(2).
هكذا كان معسكر الحسن بن عليّ نهباً لاشاعات العدو، فقد أحكم معاوية الحيلة في بثّ دعاياته في أواسط جيشٍ مهزوم لا يقوى على الثبات، منخور من الفتن، تتسلّل إليه أدنى إشاعة فتعصف به عاصفة تقلعه عن جذوره المجتثة يوم فرّ قائده عبيد الله ابن عباس وأعانه بعض الطامعين بوعود معاوية...
جيش منهك يَئنُّ من تكرار مشاهد الهزيمة... كان مبنياً على عدم الثقة، بل عدم القناعة بفكرة الحرب، مهزوماً من داخله، مستجيباً لنزعات القبلية لا لولاء الطاعة الدينية. وفرقٌ بين طاعة القبيلة وبين طاعة الدين، وبين الامتثال للعصبية وبين التسليم للتكليف، وبين الانصياع لهوى النفس وبين الاخبات إلى الحقّ...
فجيش الإمام آثر العافية على القتال، فدفعته نخوة القبيلة يوم دعا الداعي ليستنهضهم إلى القتال، فكان عدي بن حاتم يذكّرهم بتعهدهم بالنصرة ساعة العافية والسلامة، فاذا حمي الوطيس تراهم ينثالون للموادعة، كما تتدافع الغنم في مرابضها فتحتمي أحداها بالاُخرى، وتذعن  بعد ذلك للموت مكرهة غير راغبة.

قال عدي بن حاتم:
أنا عدي بن حاتم، ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فاذا جدّ الجِد، راغوا كالثعالب، أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها؟(3).
فاستجاب القوم لنخوة العصبية بعد أن سمعوا عار الخذلان يؤنّبهم به عدي وغير عدي... فإذن هم متثاقلون عن النصرة غير راغبين بالانثيال إلى القتال، واستجابوا بعد أن عرفوا أن لا مفرّ من الاستجابة لفاتحة عهد جديد علّهُ سيكون أول دعوة للحرب وآخر مسير للقتال... فقد رضوا بالقعود وإن خسروا الصفقة، وأحبّوا العافية وإن فوّتوا النصر، واطمأنوا بالخنوع وإن أضاعوا الفتح..
وها هم ينسابون بين وهاد الطريق، يتعثرون بخطواتٍ متثاقلةٍ في المسير تكاد لا تحملهم أقدامهم من ثقل ما كلّفوا به على أنفسهم...
وها هم يتهامسون في نهاية الحرب وفيما يسمعونه من إشاعات المغرضين، ثم هم ينكفئون على آمال السلم والعافية، ويرجون القعود والموادعة، فإذن هم سمّاعون لكل ما من شأنه أن يحيد بهم عن وجهتهم التي توجهوا إليها... وليس أدعى من إشاعة تبدّد شملهم وتفزع قلوبهم وتسيخ عزائمهم عن مستقرها... وأي عزائم هي وقد أقلقها عدم القنوع بما هم فيه بادي ذي بدء.... فما حالهم إذن وقد طرقهم طارق الفتنة، ليشيع أنّ قائدهم قد قُتل مؤذناً بالتفرّق والفرار...
ولم يكتف اُولئك المتخاذلون حتّى انقضّوا على رحلِ إمامهم فنهبوه ونازعوه على بساطٍ بعد أن أوغل أحدهم مديتهُ في فخذه فكاد أن يقضي عليه، لينهي كل شيء في مخاصمة الكوفيين وأهل الشام، ومنازعة جيش الحسن بن عليّ(عليهما السلام) مع أصحاب معاوية وأتباعه... ترى ماذا يعني نهب رحل الحسن(عليه السلام) إمامهم وقائدهم بعد أن سمعوا بمقتل قيس بن سعد، وهل هو الفزع. هالهم ليتفرقوا حتّى لم يكتفوا، فانقضوا على إمامهم ليقتلوه؟!
أحسب أنّ الأمر أكبر من فزع ينتاب جيشٍ أهالته إشاعات العدو في قتل قائدهم، بل الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك، إلى مؤامرات تطيح بجهود الحسن بن عليّ(عليهما السلام) في إقصاء معاوية وآل أبي سفيان.
وها نحن نستقرأ نص المجلسي مرة اُخرى:
قال المجلسي : دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث ابن قيس، وإلى حجر بن الحارث، وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، أنك إن قتلت الحسن بن عليّ فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فبلغ الحسن(عليه السلام) فاستلأم ولبس درعاً وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك.
فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه، لما عليه من اللأمة، فلمّا صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمل فيه الخنجر، فأمر(عليه السلام) أن يعدل به إلى بطن جريحي وعليها عمّ المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن قيلة، فقال المختار لعمّه: تعال حتّى نأخذ الحسن(عليه السلام) ونسلّمه إلى معاوية فيجعل لنا العراق، فنذر بذلك الشيعة من قول المختار لعمّه، فهمّوا بقتل المختار، فتلطّف عمّه لمسألة الشيعة بالعفو عن المختار، ففعلوا. فقال الحسن(عليه السلام): ويلكم، والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ أنّي إن وضعت يدي في يده فاُسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي (صلى الله عليه و آله وسلم)، وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّوجلّ وحدي، ولكني كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم فلا يسقون ولايطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.
فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه، فكتب الحسن(عليه السلام) من فوره ذلك إلى معاوية:
أما بعد، فإنّ خطبي انتهى إلى اليأس من حقٍّ اُحييه وباطل اُميته، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده، وإنّني أعتزل هذا الأمر وأخليه لك، وإن كان تخليتي إياه شرّاً لك في معادك، ولي شروط أشترطها، ولا تبهظنّك إن وفيت لي بها بعهد ولا تخف إن غدرت ـ وكتب الشروط في كتابٍ آخر فيه يمنّيه بالوفاء، وترك الغدر ـ وستندم يامعاوية كما ندم غيرك ممّن نهض في الباطل، أو قعد عن الحقّ حين لم ينفع الندم، والسلام(4).
هذا ما قرّره الحسن بن عليّ(عليهما السلام) بعد واقعة ساباط، استقال أصحابه بعد غدرتهم وعرّفهم سوءتهم، و استزادهم بصيرة في أمرهم..
أجل لم يكن الحسن بن عليّ(عليهما السلام) قد خفي عليه ما يكنّه أصحابه من الغدر وسوء السريرة، وعزمهم على الانخذال والتفرّق عند الوثبة واشتداد الأسنة...
وهل يبقى للحسن بن عليّ مندوحة من الأمر في الإصرار على القتال ومناجزة الأعداء، وقد رأى أهل عسكره قد تفرّقوا شيعاً وتكتّلوا أحزاباً يجبّن بعضهم بعضاً، ويعذّل بعضهم بعضاً.. وأنّى للحسن بن عليّ أن يعيد أمره ويلملم جراحاته، وقد خذله أهل بيعته ورجال كتيبته، إلاّ أن يرجع مهضوم الحقّ، مغلوب الرأي قد توازر أصحابه على خذلانه ونكث بيعته إلاّ القليل ممّن وفى بحقه وعهده، وهم لم يملكوا أن يدفعوا عنه ضرّاً ولا يجلبوا له نفعاً.
إذن فأهل مودّته بقية باقية ترتجي النصر وتطمح بالفتح على رغم ما تراه من خذلان الخاذلين وغدر الغادرين، والحسن بن عليّ أسمى من أن يسلّم نفسه وأهل نصرته للموت دون طائل، ما لم ير الحكمة في تسيير الاُمور وتقدير المواقف.
________________________
(1) تاريخ الطبري: 4/ 121.
(2) تاريخ اليعقوبي: 2/ 215.
(3) صلح الحسن×للشيخ راضي آل ياسين: 100.
(4) البحار: 44/ 33، عن علل الشرائع: 1 / 259.