• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المهادنة إذن

ولم يكن أمام الحسن بن عليّ(عليهما السلام) إلاّ خياران، أحدهما أن يُسلِمَ لحربٍ غير متكافئة نفسه وأصحابه، والآخر أن يُهادن عدوه ريثما يستبين الأمر وينبلج الصبح عن دهماء الخطوب وقد عزّ الناصر وغاب المعين..
ولم يكن للحسن بن عليّ(عليهما السلام) خيار الحرب بعدما تفرّق عنه أصحابه لدعايات بثّها أعداؤه في صفوف عسكره، بل ألّبوهم عليه وأرادوا قتله، وتربّص له أصحابه البغي... ولم يبق من أهل مودته ونصرته سوى النفر اليسير وقد ضنّ عليهم من الموت... وأي عاقلٍ يرى حتمية المناجزة بعصابة يسيرة قبالةَ جموعٍ غفيرةٍ متلاحمةٍ متماسكة مع قائدها لا تبخل عليه ببذل النفوس عند الطاعة، ولاتخالفه في مشورة، ولا تعصي له أمراً، ولا تُسفّه له رأياً؟
أمّا الحسن بن عليّ فقد عاش مع أصحابه محنة الإمام المهضوم، والقائد المخذول، والخليفة الممتحن، وقد أعادوا معه مواقف النكوص يوم كان عليٌّ بين ظهرانيهم يجرّعونه غصص الخذلان، ويذيقونه مرارة التمرّد حتّى تمنّى الموت على البقاء معهم... وليس شيعته الذين خذلوه، بل أصحابه أسلموه. وفرق بين أصحابه وبين شيعته.
فأصحابه اُولئك الذين تحزّبوا لانتمائهم السياسي، وتكتّلوا لولاءاتهم الكوفية دون شام آل أبي سفيان، فالعداء التقليدي بين كوفة العراق وبين دمشق الشام يدفعه التعصّب لنصرة القبيلة دون الولاء للعقيدة، والكوفة القبلية يبعثها الحرصُ على الصدارة لئلاّ تتقدّم عليهم الشام بشتات مجاميعها المنبعثة من تفرّق القبائل يوم هجرتها هناك، فهي ليس لها الحقّ أن تتقدم على كوفة العراق المنافسة للعاصمة الإسلامية التقليدية «المدينة»، والكوفة لا ترى الشام وأمثالها سوى تابعة من توابعها.
إذن فهي تدافع عن «حقها» في التقدّم ورتبتها في الصدارة، هؤلاء هم أصحابه، فهم أصحاب الانتماء السياسي والتعصب القبائلي إذن.
أمّا شيعته فاُولئك الذين يتصفون بانتمائهم العقائدي إلى عليّ وآله^ قبل الانتماء لأيّ شيء، فهم حملة علومه كما هم حملة همومه يتألمون للمصير الذي صار إليه عليّ ويصار إليه ولده من بعده، لذا فهم البقية الباقية من أصحابه بهم يصول وفيهم يناجز، أما ولده فهو يصول بيد جذّاء بعد تفرّق عسكره عنه وبقاء أقلية شيعته يتحدّقون حولـه ليدفعوا عنه المكروه، لا أن يناجزوا عدوّه الذي فاقهم بالعدّة والعدد، والمال والمدد.
أمّا الخيار الآخر؛ فأن يكون الحسن بن عليّ(عليهما السلام) أمام أمرٍ واقعٍ لا يمكن تجاوزه أو تغاضيه، وهو أن يعمل ما من شأنه حفظ نفسه والبقية المعدودة من خاصته وأن لا يُسلمهم إلى الهلاك والانقراض، فإنّ البقية من شيعته مهددة بالموت والفناء، أمّا بالمناجزة في الحرب أو بالقتل عندما تضع الحرب أوزارها، فإنّ معاوية دسّ رجاله لاغتيال شيعة الحسن وتصفيتهم ليصفو له جوّ المغامرة والخديعة.
إذن فلابدّ من الموادعة والهدنة بعد تفرّق عسكر الإمام(عليه السلام). وتشبّث معاوية بكل مكر وحيلة من أجل أن يحصل على أمنية الحكم ونزوة السلطان، والحسن بن عليّ(عليهما السلام) حريٌّ به أن يعمل على تفويت الفرصة على آل أبي سفيان في القضاء على دين الله الذي عنده أغلى من ألف ملكٍ وألف سلطان.
وهل تبقى مندوحة للحسن بن عليّ(عليهما السلام) بعد ذلك في القيام على الحرب والاصرار على المنازلة وقد اُحيلت ظروف الحرب إلى دعاوى سلام، ومواقف المجابهة إلى طلب الصلح؟ وهذا معاوية بن أبي سفيان يظهر للناس موقف المسالم الحاقن لدماء المسلمين، ليظهر الحسن بن عليّ بموقف الداعي إلى إراقة دمائهم وإهدار كل أملٍ منشود من شأنه تآلف الوحدة وإعادة أواصر العلاقة المنفصلة عراها بما لقي الفريقان من دماء لم تجف بعد.
وما ظنك بالتاريخ أن يؤرّخ لموقفي الحسن(عليه السلام) الذي أصرّ على الحرب، ومعاوية الذي دعا إلى السلام، وما حال اُولئك الذين تشدّقوا بصحبته وتثاقلوا بالخروج إلى القتال إلاّ أن يدعوا الناس إلى استجابة معاوية والانسحاب عن الحسن الذي يريد سفك دمائهم دون طائل.
هكذا حاول معاوية أن يناور بصلحه وأن يدغدغ مشاعر أصحاب الحسن الذين يأملون أن ينفضّ هذا اللقاء دون حرب، أو أن تكون هذه الحرب آخر جولة يخوضها الكوفيون، ثم هم بعد ذلك لم يدخلوا في مناجزة ولا أن يشتركوا في قتال يدعوهم إليه الحسن؛ فإنّ العافية أحبّ إليهم من القتال، والسلامة أدعى لهم من الموت، والموادعة أطيب إليهم من الحرب، ولا شأن لهم بالنصر، أيّهم يصيب، أو الهزيمة لأيّهم تَطال...
وقد أصاب معاوية توقيت جولة المناورةِ هذه في ظروفٍ مائجة بالتعذيل يشهدها معسكر الحسن بن عليّ(عليهما السلام)، ورؤىً تتراوح بين الحرب والسلام، أو الصلح والقتال، أو الموادعة والمناجزة يتـجـاذبـها مـعـسكر  الحـسـن بعـد أن أوجـد مـعاويـة تلك الأجـواء المضطربة والآراء المبعثرة حيال مصير هذه الحرب التي تُدقُّ طبولها ساعة بعد ساعة... وإذا استمكن معاوية من أمر ذلك الاضطراب المشحون بدعايات الصلح مرة أو بمقتل قيس بن سعد اُخرى، فضلاً عمّا أحدثه فرار عبيد الله بن عباس قائد الجيش؛ أحكم معاوية أمر لعبته في دعوته للصلح وطلبه للسلام، حيث بعث للإمام الحسن(عليه السلام) رغبته في ذلك بعد أن أشاع أمره في معسكره وعكس موقف طلبه هذا، بأن الحسن رضي بالصلح وحقن الله دماء المسلمين بابن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) كما أعلن ذلك وفد معاوية للإمام(عليه السلام) دون أن يصدر من الإمام شيء حتّى عاجلته دعاية الوفد الماكرة حتّى كان زمام الأمر قد اُفلت من الإمام(عليه السلام) بعد أن دبّت إشاعة هؤلاء وعمّت الفوضى وحدث الهرج والمرج فأي شيء سيفعله الإمام(عليه السلام) سوى السكوت على أمرٍ أمرُّ من العلقم، وأحرُّ من الجمر، وأدهى من غوائل الخطوب.
قال اليعقوبي: ووجّه معاوية إلى الحسن(عليه السلام) المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عامر بن كريز، وعبد الرحمن بن اُمّ الحكم، وأتوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده، وهم يقولون ويسمعون الناس: إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء، وسكّن به الفتنة وأجاب إلى الصلح؛ واضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه وما فيها(1).
ولم يَرَ الإمام الحسن بن عليّ(عليهما السلام) بُدّاً من إعلان ما خفي على عامة أصحابه وأهل عسكره، بل ما خفي على تاريخ ممسوخ قلب الحقائق وشوّه مواقف الأحداث، وهو يؤرّخ لهذا المقطع التاريخي مدعياً أنّ الحسن بن عليّ يطلب الصلح من معاوية.... إذن فالإمام الحسن سيعلن ما طلبه معاوية من صلحٍ بشرط تسليم الأمر إليه، وهو الآن سيعرضه على عامة أصحابه ليروا رأيهم فيه.
قال ابن الأثير في اُسد الغابة: قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين، فقال بعد حمد الله عزّ وجلّ: «إنّا والله، ما ثنانا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وإنّا لكم كما كنّا؛ ولستم لنا كما كنتم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر، ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمرٍ ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عزّوجلّ بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا، فناداه القوم من كل جانب: البقية البقية، فلما أفردوه أمضى الصلح(2).
ولا نفهم من خطاب الإمام(عليه السلام) إلاّ إعلانه عن طلب معاوية للصلح، ثم صنّف أصحابه إلى خاذل أو منتقم ولم تبق البقية الباقية من شيعته إلاّ القليل، وقد ضنّ عليهم من الموت. ولكي نستقرأ خطابه(عليه السلام) نوجز ما ورد فيه إلى ست نقاط:
أولاً: أنّ الخطاب جاء بعد علمه(عليه السلام) من أصحابه التثاقل والخذلان ومن نوايا بعضهم أن يُسلّموه إلى معاوية حيّاً، ومشاهدته تفرّق بعضهم واعتداء الآخر عليه بطعنه، وليس كما ذكره الخبر أنّ الاعلان هذا جاء بعد رحيل أمير المؤمنين(عليه السلام) لشواهد روايات في هذا المضمار.
ثانياً : أنّ أصحاب الحسن(عليه السلام) غير أصحاب أبيه، فإنّ أصحاب أبيه كان يقودهم الصبر، وأصحابه يحدوهم الجزع، وفرق بين من يدفعهم الصبر وبين من يثبطهم الجزع، لذا فلا يمكن للمجابهة إبّان عهد الحسن(عليه السلام) أن تتمّ، ولا المناجزة أن تستقيم.
ثالثاً: أنّ الإمام(عليه السلام) يذكّرهم بأيام صفين ويقارن بين يومهم هذا وبين ذلك اليوم الذي كان هدفهم دينهم الذي يسعون إليه ويقاتلون من أجله، أمّا اليوم فإنّ دنيا القوم تقودهم ومطامعهم تسوقهم إلى حيث الخذلان وسوء النتيجة.
رابعاً: حدّد الإمام(عليه السلام) توجّهات معسكره إلى أصناف كلها لم تُجد المهمة:
أحدها من يبكي على قتلاه في النهروان فاُولئك هم الخوارج.
وآخرون يطمحون بثأر صفين فاُولئك العامة من جيشه الذين لا يحسنون تكليفهم.
والبقية من هؤلاء واُولئك متخاذلون لا يبلغون فتحاً ولا يرقون إلى نصر.
خامساً: أنّ معاوية طلب صلحاً ليس فيه عزّة ولا نصفة، حيث طلب أمراً لم يكن له، ومسألة يتطاول إليها وقد أراق دماء الطرفين من أجل بلوغها، (فإن رغبتم بالشهادة ناجزناه بظبا السيوف، وإن أحببتم العافية قبلنا ما عرضه علينا).
سادساً: لاقى أمر الصلح ترحيباً من أطراف المعسكر وهم يهتفون للبقاء وإن كان ذّلاً، وللحياة وإن كانت مراغمة لكبرياء حقهم وشموخ كرامتهم.
هذه هي توجهات عسكر الإمام(عليه السلام) ورغبة مقاتليه، وهذه هي حيثيات القضية التي من شأنها أن ينطلق الإمام الحسن(عليه السلام) إلى المهادنة مع عدوه، أجل أنّها المهادنة وليس الصلح.
_________________
(1) تاريخ اليعقوبي: 2/ 122.
(2) اُسد الغابة لابن الأثير: 2/ 19، دار إحياء التراث.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page