طباعة

الغلو في فضايل عثمان : 21 - رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات

أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 31 بالإسناد عن داود بن أبي هند إن عبد الله (1) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي محرما فأحرم من نيسابور فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع قال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.
لفظ آخر من طريق محمد بن إسحاق قال: خرج عبد الله بن عامر من نيسابور معتمرا قد أحرم منها، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلما قضى عمرته أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.
وقال ابن حزم في المحلى 7: 77: روينا من طريق عبد الرزاق نا؟ معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من حيرب (2) فقدم عثمان بن عفان فلامه فقال له: غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر: غررت بنفسك.
فقال ابن حزم: قال أبو محمد (يعني نفسه): وعثمان لا يعيب عملا صالحا عنده ولا مباحا وإنما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيما وقد بين إنه هوان بالنسك والهوان بالنسك لا يحل وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحج.
وذكره ابن حجر في الإصابة 3: 61 وقال: أحرم ابن عامر من نيسابور شكرا لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ثم ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر ابن أبي شيبة وفيه: أن ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمد بن سيرين والبيهقي فقال: قال البيهقي: هو عن عثمان مشهور (3) وذكر هذه كلها في تهذيب التهذيب 5: 273 غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث وفي تيسير الوصول 1: 265: عن عثمان رضي الله عنه: إنه كره أن يحرم الرجل من خراسان وكرمان. أخرجه البخاري في ترجمته.
قال الأميني: إن الذي ثبت في الاحرام بالحج أو العمرة إن هذه المواقيت حد للأقل من مدى الاحرام بمعنى إنه لا يعدوها الحاج وهو غير محرم، وأما الاحرام قبلها من أي البلاد شئ أو من دويرة أهل المحرم، فإن عقده باتخاذ ذلك المحل ميقاتا فلا شك إنه بدعة محرمة كتأخيره عن المواقيت، وأما إذا جئ به للاستزادة من العبادة عملا بإطلاقات الخير والبر، أو شكرا على نعمة، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصلاة والصوم وبقية القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البر، تشمله كل من أدلة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس، وإنما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي:
1 - أخرج أئمة الحديث بإسناد صحيح من طريق الأخنسي عن أم حكيم عن أم سلمة مرفوعا: من أهل من المسجد الأقصى لعمرة أو بحجة غفر الله ما تقدم من ذنبه. قال الأخنسي: فركبت أم حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتى أهلت منه بعمرة.
وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أو: وجبت له الجنة.
وفي لفظ: ووجبت له الجنة.
وفي لفظ ابن ماجة: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له.
وفي لفظ له أيضا: من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب. قالت: فخرجت أمي من بيت المقدس بعمرة.
وقال أبو داود بعد الحديث: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة.
راجع مسند أحمد 6: 299، سنن أبي داود 1: 275، سنن ابن ماجة 2: 235 سنن البيهقي 5: 30، مصابيح السنة للبغوي 1: 170، والترغيب والترهيب للمنذري 2: 61 ذكره بالألفاظ المذكورة وصححه من طريق ابن ماجة وقال: ورواه ابن حبان في صحيحه.
2 - أخرج ابن عدي والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله (4) ": إن من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك.
سنن البيهقي 5: 30، الدر المنثور 1: 208، نيل الأوطار 5: 26 قال: ثبت ذلك مرفوعا من حديث أبي هريرة.
3 - أخرج الحفاظ من طريق علي أمير المؤمنين أنه قال في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه ص 34، وابن جرير في تفسيره 2: 120، والحاكم في المستدرك 2: 276، وصححه وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 6: 30، والجصاص في أحكام القرآن 1: 337، 354، تفسير ابن جزي 1: 74، تفسير الرازي 2: 162 تفسير القرطبي 2: 343، تفسير ابن كثير 1: 230، الدر المنثور 1: 208، نيل الأوطار 5: 26.
4 - قال الجصاص في أحكام القرآن 1: 310: روي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال في ص 337: أما الاحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه.
وروي عن الأسود بن يزيد قال: خرجنا عمارا، فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال:
أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إن العمرة من مدركم. وإنما أراد أبو ذر: أن الأفضل إنشاء العمرة من أهلك، كما روي عن علي: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال الرازي في تفسيره 2: 162: روي عن علي وابن مسعود: إن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله. وقال في ص 172: اشتهر عن أكابر الصحابة إنهم قالوا: من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 343 بعد ذكره حديث علي عليه السلام: وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقاص وفعله عمران بن حصين. ثم قال: أما ما روي عن علي وما فعله عمران بن حصين في الاحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله ابن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء (5) وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. ثم ذكر حديث أم سلمة المذكورة.
وقال ابن كثير في تفسيره 1: 230 بعد حديث علي عليه السلام: وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.
5 - أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 30 من طريق نافع عن ابن عمر: إنه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.
وأخرج مالك في الموطأ 1: 242: إن ابن عمر أهل بحجة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول 1: 264، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة: إنه ثابت.
قال الشافعي في كتاب " الأم " 2: 118: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن ديناد عن طاوس قال: " ولم يسم عمرو القائل إلا إنا نراه ابن عباس " الرجل يهل من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلا محرما. إلى أن قال: قلت: إنه لا يضيق عليه أن يبتدئ الاحرام قبل الميقات كمالا يضيق عليه لو أحرم من أهله، فلم يأت الميقات إلا وقد تقدم بإحرامه لأنه قد أتى بما أمر به من أن يكون محرما من الميقات. ا ه‍.
قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 164: كلما قدم الاحرام على المواقيت هو أفضل وروي عن أبي حنيفة: إن ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الاحرام، وقال الشافعي: الاحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أن الاحرام ركن فيكون من أفعال الحج، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات لأن أفعال الحج لا يجوز تقديمها على أوقاتها (6) وتقديم الاحرام على الميقات جايز بالاجماع إذا كان في أشهر الحج، والخلاف في الأفضلية دون الجواز، ولنا قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما إنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي عن أم سلمة. الخ.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 345: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الاحرام عند الميقات أفضل كراهية أن يضيق المرأ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الاحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.
وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب 5: 5 قد بينا إن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدا للنسك، أما الاحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور، ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الاحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي، ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة، وروي عن عمر وعلي إنهما قالا في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال ابن المنذر: ثبت إن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. إنتهى. لكن الأصح عند النووي من قولي الشافعي: إن الاحرام من الميقات أفضل، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدم الاحرام على الميقات، وقال ابن المنذر: وروينا عن عمر إنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الاحرام من المكان البعيد. إنتهى.
وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالاحرام من دويرة أهله أفضل، وإلا فمن الميقات، وبه قال بعض الشافعية.
وشذ ابن حزم الظاهري فقال: إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمر عليها فلا إحرام له أن ينوي إذا صار الميقات تجديد إحرام، وحكاه عن داود وأصحابه وهو قول مردود بالاجماع قبله على خلافه قاله النووي، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرم، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره. ا ه‍.
وذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5: 26 جواز تقديم الاحرام على الميقات مستدلا عليه بما مر في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله. ثم قال: وأما قول صاحب المنار: إنه لو كان أفضل لما تركه جميع الصحابة. فكلام على غير قانون الاستدلال، وقد حكى في التلخيص إنه فسره ابن عيينة فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفرا من أهله. لكن لا يناسب لفظ الاهلال الواقع في حديث الباب ولفظ الاحرام الواقع في حديث أبي هريرة. ا ه‍.
والامعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الاحرام على الميقات، وإن الخلاف في الأفضل من التقديم والاحرام من الميقات، لكن الخليفة لم يعطي النظر حقه، ولم يوف للاجتهاد نصيبه، أو أنه عزبت عنه السنة المأثورة، فطفق يلوم عبد الله بن عامر، أو أنه أحب أن يكون له في المسألة رأي خاص، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي:
العلم قال الله قال رسوله * إن صح والاجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة * بين الرسول وبين رأي فقيه
وهلم معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أن عثمان لا يعيب عملا صالحا. الخ. فإنه غير مدعوم بالحجة غير حسن الظن بعثمان، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافة ما لم يزع عنه وازع، وسيرة الرجل تأبي عن الظن الحسن به، وأما مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنة الثابتة وإن نهي عثمان مخالف لها، وليس من الهين الفت في عضد السنة لتعظيم إنسان وتبرير عمله، فإن المتبع في كافة القرب ما ثبت من الشرع، ومن خالفه عيب عليه كائنا من كان.
وأما تشبثه بالهوان بالنسك فتافه جدا، وأي هوان بها في التأهب لها قبل ميقاتها بقربة مطلقة إن لم يكن تعظيما لشعائر الله، وإنما الهوان المحرم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. " النمل 116 ".
____________
(1) هو ابن خال عثمان بن عفان. كما في الإصابة راجع ج 3: 61.
(2) وفي نسخة: جيرب. ولم أجدهما في المعاجم.
(3) توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى 5: 31.
(4) سورة البقرة: 195.
(5) إيلياء بالمد وتقصر: اسم مدينة بيت المقدس.
(6) لا صلة بين ركنية الاحرام وكونه من افعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مر من الأدلة.