طباعة

الغلو في فضايل عثمان : 25 - رأي الخليفة في المعترفة بالزنا

عن يحيى بن حاطب قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين. فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال: أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد. فقال: أشر علي يا عثمان! فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت. قال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فقال: صدقت صدقت والذي نفسي بيده، ما الحد إلا على من علمه. فجلدها عمر مائة وغربها عاما.
قال الأميني: أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس (1) وتكلمنا هنالك حول رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجلد والاغتراب وإنه خارج عن نطاق الشرع، وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحد.
ولو كان ما يقوله الخليفة حقا لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد فيقال في كلها إنه لا يعلم الحد ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحد بالاقرار ولو بعد استبراء الخبر والتريث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة يدرأ بها الحد فكان صلى الله عليه وآله يقول للمعترف بالزنا: أبك جنون؟ (2) أو يقول: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ (3) وكذلك مولا نا أمير المؤمنين علي وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والرد لشبهة في الاقرار، لكنهما بعد ثبات المعترف على ما قال كانا يجريان عليه الحد، ألا ترى قول عمر للزانية: ما يبكيك؟ إن المرأة ربما استكرهت على نفسها. فأخبرت إن رجلا ركبها وهي نائمة فخلى سبيلها، وإن عليا عليه السلام قال لشراحة حين أقرت بالزنا: لعلك عصيت نفسك؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها (4)
ولعل من جراء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة إن الحدود تدرأ بالشبهات، والحدود تدفع ما وجد لها مدفع، غير أنه لم يدر أن للإقرار ناموسا في الشريعة لا يعدوه ولا سيما في مورد الزنا فإنه يؤاخذ به المعترف في أول مرة كما تعطيه قصة العسيف الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، أو بعد أربع أقارير إما في مجلس واحد كما ورد في قصة الماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين، أوفي عدة مجالس كما يظهر من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي 8: 228، فتقوم تلكم الأقارير مقام أربع شهادات، كما وقع في سارق جاء إلى علي فقال: إني سرقت، فرده فقال: إني سرقت. فقال: شهدت على نفسك مرتين فقطعه (5). وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة كما بيناه، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمة المذاهب قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2: 429: أما عدد الاقرار الذي يجب به الحد فإن مالكا (6) والشافعي (7) يقولان يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة وبه قال داود وأبو ثور الطبري وجماعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد واسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه في مجالس متفرقة.
ثم ماذا يعني الخليفة بقوله: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه؟ هل يريد جهلها بالحد أو بحرمة الزنا؟ أما العلم بثبوت الحد فليس له أي صلة بإجراء حكم الله فإنه يتبع تحقق الزنا في الخارج علم الزاني أو الزانية بترتب الحد عليهما أم لم يعلما.
على إنه ليس من الممكن في عاصمة النبوة أن يجهل ذلك أي أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلودا تنال منه السياط، ومرجوما تتقاذفه الأحجار.
وأما حرمة الزنا فلا يقبل من المتعذر بالجهل بها إلا حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلامية، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعد، وأما المدني يومئذ الكائن بين لوائح النبوة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء، وهو يعي كل حين التشديد في الزنا وحرمته، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جراء حرمة السفاح، فعقيرة ترتفع من ألم السياط، وجنازة تشال بعد الرجم، فليس من الممكن في حقه عادة أن يجهل حرمة الزنا فلا تقبل منه دعواه الجهل، ولعل هذا مما اتفقت عليه أئمة المذاهب، قال مالك في المدونة الكبرى 4: 382 في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه: لا حد عليه وينكل إذا كان ممن لا يعذر بالجهالة.
وقال فيمن يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول: ظننت أن الواحدة لا تبينها مني وإنه لا يبرأها مني إلا الثلاث: قال ابن القاسم: ليس عليه الحد إن عذر بالجهالة، فأرى في مسألتك إن كان ممن يعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحد لأن مالكا قال في الرجل يتزوج الخامسة: إن كان ممن يعذر بالجهالة وممن يظن إنه لم يعرف أن ما بعد الأربع ليس مما حرم الله، أو يتزوج أخته من الرضاع على هذا الوجه، فإن مالكا درأ عنه الحد وعن هؤلاء.
وفي ص 401: من وطئ جارية هي عنده رهن إنه يقام عليه الحد، قال ابن - القاسم: ولا يعذر في هذا أحد ادعى الجهالة. قال مالك: حديث التي قالت زينب بمرعوش بدرهمين (8) إنه لا يؤخذ به. وقال مالك: أرى أن يقام الحد ولا يعذر العجم بالجهالة.
وقال الشافعي في كتاب الأم 7: 169 في زناء الرجل بجارية امرأته: إن زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة ويقول: كنت أرى أنها لي حلال.
قال شهاب الدين أبو العباس ابن النقيب المصري في عمدة السالك: ومن زنى و قال: لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالاسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحد، وإن لم يكن كذلك حد (9). ا ه‍.
ولو قبل من كل متعذر بالجهالة لعطلت حدود الله، وتترس به كل زان و زانية، وشاع الفساد، وساد الهرج، وارتفع الأمن على الفروج والنواميس، ولو راجعت ما جاء في مدافعة النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحد تراهم يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شابه ذلك، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شئ من الروايات، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحد لذكروه لا محالة من غير شك.
على أن الجهل حيث يسمع يجب أن يكون بادعاء من الرجل لا بالتوسم من وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة وهو ظاهر كلمات الفقهاء المذكورة.
ولما قلناه كله لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال، فأخذها مولانا أمير المؤمنين وعبد الرحمن فقالا: قد وقع عليها الحد. وأما عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان؟ صدقت. إلخ. وفعله من إجراء الجلد والاغتراب إنه هزأ بهذا القول، ولو كان مصدقا لما جلدها لكنه جلدها وهي تستحق الرجم كما مر في الجزء السادس.
____________
(1) صفحة 161 ط 1، و 174 ط 2.
(2) كما في صحيح أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في السنن 8: 225.
(3) كما في حديث ماعز وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدمهم البخاري في صحيحه 10: 39.
(4) أخرجهما الجصاص في أحكام القرآن 3: 325.
(5) كنز العمال 3: 117 نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي.
(6) ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطأ والمدونة الكبرى.
(7) يوجد تفصيل قوله في كتابه الأم 7: 169.
(8) يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عما فيه.
(9) راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك 2، 312.