طباعة

التربية و علم النفس (8)

 

التربية و علم النفس (8)

بسم الله الرحمن الرحيم

 نواصل حديثنا عن مراحل التربية حيث وقفنا في محاضرة سابقة عند المرحلة الطفلية الأولى؛ أي المرحلة التي تبدأ فيها العمليات التربوية منذ ولادة الطفل وحتى السنة السابعة من عمره، وقلنا إن التصور الإسلامي لهذه المرحلة، أي المرحلة البادئة منذ الولادة إلى السنة السابعة، قلنا إن التصور الإسلامي في نظرته إلى هذه المرحلة يظل يمتلك تصوراً خاصاً يكاد يختلف تماماً عن التصورات العلمائية التي تمنح هذه المرحلة أهمية كبيرة بخاصة الاتجاه التحليلي المبكر الذي يشدد على أهمية هذه المرحلة منذ الأشهر الاُولى لولادة الطفل فالسنة الثانية والثالثة.. حيث يكسب هذه السنوات المبكرة أهمية بالغة بحيث تعكس أثرها على مستقبل الشخصية، وقلنا أيضاً أن بعض الاتجاهات العلمانية بدأت تنكر مثل هذه الأهمية سواء أكانت مرتبطاً بطبيعة الطفولة وصلتها بالتربية وفاعلية هذه التربية، أو تنكر التفسير الذي يقدمه الاتجاه التحليلي لنمط السلوك الذي يصدر عن الطفل والعملية التربوية التي ينبغي أن تأخذ طريقها إلى معالجة هذا الجانب.

المهم أن التصورات الأرضية بشكل عام تمنح الطفولة الأولى أهمية كبيرة وإن كان البعض منها ينكر هذه الأهمية، ولكنه لا يبالغ في ذلك.

بيد أننا أشرنا إلى أن التصور الإسلامي للظاهرة يظل على الضد تماماً من هذه الاتجاهات، بحيث لايكتفي بإلغاء أهمية هذه المرحلة فحسب؛ بل يجد أن هذه المرحلة خاصة بما يطلق عليه (اللعب)، أي أن الطفل في مثل هذه المرحلة غير مرشّح لتربية مهاراته العقلية والنفسية بقدر ما هو مرشّح للعب فحسب.

ولكن قلنا أيضاً أن التصور الإسلامي وإن كان لا يمنح الأهمية المطلوبة أو لا يرى أية فاعلية ذات مغزيً لهذه المرحلة عند الطفل، ولكنه لا يحجزه ذلك من أن يقدم أيضاً توصيات خاصة تتصل بهذه المرحلة بمعنى أنه من المفيد أن يدربّ الطفل في هذه المرحلة على بعض افاعليات، وهي فاعليات لاحظناها تبدأ مع تقديم وثيقة مهمة جداً للإمام الصادق(ع) حيث نجد أن هذه الوثيقة المهمة تتناول مرحلتي الطفولة الأولى والثانية، ولكن تقتطع من هاتين المرحلتين بعض مراحلهما لتشير إلى أهمية نمائية خاصة ببعض المهارات.

ومن ذلك لاحظنا كيف أن الإمام الصادق(ع) في وثيقته المشار إليها يبدأ فيحدد نهاية السنة الثالثة وبداية السنة الرابعة، يحدد هذه البداية بداية لإمكانية إنماء بعض المهارات العقلية للطفل، وقلنا في حينه أن بعض علماء النفس والتربية ممن يحترمهم الأتجاه الأرضي ويعتبر تصوراتهم ذات أهمية كبيرة، هذا البعض من علماء التربية وعلماء النفس أكدوا بأن الطفل عندما ينهي سنته الثالثة فإنه يستقبل مهارة عقلية جديدة في حياته، الا وهي قدرته على الإدراك الرمزي أو التصويري أو التخيلي للأشياء بعد أن كانت المرحلة السابقة تتميز بكونها مرحلة إدراك حسي فحسب.

المهم لا نريد أن نطيل التعقيب على محاضرتنا السابقة بقدر ما نريد أن نذكركم بما جاء فيها بحر الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق(ع) حيث أعفى الطفل في سنواته الاٌولى من آية فاعلية تربويّة وتقدم بالحديث عن براية السنة الرابعة حيث طالب الإمام(ع) ولي الطفل بأن يدربّه على تعلّم قراءات عبادية خاصة، وفصّلنا الحديث عن هذه العبارات وما تنطوبي عليه من معطيات تربويّة وانتهينا من ذلك الى أن الامام(ع) قد وقف عند آخر مرحلة من مراحل الطفولة الأولى ألا وهي مرحلة السنة السادسة أو الخامسة وقدم لنا اختباراً أو رائزاً أو مقياساً لعملية اكتشاف الفارق أو الفوارق الفردية بين طفلٍ وآخر، حيث قلنا إن علماء النفس والتربية يقروّن تماماً بأن الأطفال يتفاوتون في مهاراتهم العقلية والنفسية، حيث يتجاوز البعض من الأطفال المنحني المتوسط للمهارة العقلية وحيث يقوم الآخر على عكسه تماماً، كل ذلك مما يشكل فارقية في نمو الأطفال وهو أمر أشارت الوثيقة الصادرة عن الإمام الصادق(ع) إليها عندما قدمت أختباراً يسيراً جداً بالقياس للأختبارات التي تشاهدها عند علماء النفس والتربية بصفة أن تلك الاختبارات تنطوي على قضايا من الممكن أن لا ينجح المربي في التوفر عليها، بينمانجد أن الإمام الصادق(ع) قد قدّم لنا معياراً أو مقياساً أو اختباراً في غاية السهولة ولكنه في غاية الأهمية، ولذلك نرجو من المربين أن يعنوا بهذا الاختبار عناية كبيرة نظراً لسهولته من جانب وصدق وعمق ماينطوي عليه من فاعلية في عملية التمييز بين المهارات لدى الأطفال من جانب آخر.

المقياس أو المعيار الذي قدمه الإمام(ع) هو أنه طالب ولي الطفل بأن يسأله إذا بلغ السنة الخامسة (أيهما يمينك من شمالك؟) لاحظوا هذا المقياس أو الاختبار القائل (أيهما يمينك من شمالك؟) يظل مقياساً نستطيع من خلاله أن ننهد إلى عمليات تربوية خاصة تتناسب وما يفرزه هذا الاختبار، إن الإمام الصادق(ع) يقول: إن الطفل إذا أدرك الفارق بينهما أي إذا ميز يمينه من شماله، فحينئذٍ نستخلص أن الطفل قد قطع مرحلة نمائية في هذه السن ترشحه للدخول إلى عتبة ما يسميّه الأرضيون المرحلة الابتدائية، أو الطفولة المتأخرة.

ولكن ما ينبغي أن نقف عنده هنا هو، أن النص طالبنا في حال تمييز الطفل يمينه عن شماله أن ندربه على عملية السجود فحسب دون أن نتجاوز ذلك إلى المطالبة بعملية الصلاة، وإنما طالب بعملية الصلاة في السنة السادسة.

إن هذه الملاحظة تظل جديرة بالاعتبار أيضاً، ولكي نقف على ما تنطوي عليه هذه الملاحظة العميقة من أهمية يحسن لنا أن نقرأ نفس العبارة التي قدمها الإمام الصادق(ع) ومن ثم نعقب على ذلك بما يتناسب والموقف، يقول الإمام(ع) عن الطفل: (يتم يترك حتى يتم له خمس سنين ثم يقال له أيهما يمينك وأيهما شمالك؟ فإذا عرف ذلك حول وجهه إلى القبلة ويقال له اسجد، ثم يترك يتم له ست سنين فإذا تم له ست سنين صلّى وعلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين) والآن مع ملاحظتنا لهذه الفقرات التي قرأناها عليكم نبدأ ونعقب على هذه الوثيقة فنقول:

إن النص طالبنا في حالة تمييز الطفل يمينه عن شماله أن ندرّبه على عملية السجود فحسب، دون أن يتجاوز ذلك إلى مطالبته بعملية الصلاة، وإنما طالب بعملية الصلاة في السنة السادسة، والسؤال المهم جداً هو: هل هذا يعني أن الفارقية في النمو عند الأطفال الذين تمّ نضجهم عند السنة الخامسة، أي في السن المبكرة للذين يتميزون بمهارة عقلية فائقة، هل هو نمو نسبي لا يسمح لهم بالانتقال في صف واحد مع الأطفال البالغين ستاً من العمر أم لا؟!

أغلب الظن أن الأمر كذلك؛ فالخمس سنوات لا تسمح للطفل بأن يصبح مع أطفال السادسة والسابعة في صعيد متماثل من عملية التعلّم، ولكن كل ما في الأمر أنه يتميز عن الأطفال الاعتياديين وفق نسبة معينة من التفوق، لاتصل إلى نفس النضج عند المتقدمين عليه، ولعلّكم تطالبوننا بدليل على ذلك فنقول: إن النص التربوي للإمام الصادق(ع) في تدريب الطفل على السجود عند الخامسة، إن هذه المطالبة في الواقع لم تقترن بمطالبة الطفل المتميّز المذكور بالصلاة كاملة، علماً بأن النص طالب أطفال السادسة والسابعة بممارسة الصلاة كاملة، وهذا يعني أن أطفال السادسة أو السابعة الاعتياديين أشد قابلية على التعلّم من الطفل المتميز البالغ خمس سنين.

هنا يثار سؤال آخر وهو: هل التفاوت في نمو الطفل منحصر عند الخامسة فحسب، أم يتجاوز ذلك إلى السنة السادسة والسابعة أيضاً؟!

يبدو أن الأمر غير منحصر عند الخامسة، بل يمكن القول أن السادسة من العمر تمثل مرحلة معينة منه وأن السنة السابعة من العمر تمثل مرحلة نهائية من ذلك، ولعلّ التفاوت الذي ستلاحظونه عندما نحدثكم عن مرحلة المراهقة، هذا التفاوت الذي ستلاحظونه عند مرحلة البلوغ، أن ثمة نصوصاً تتأرجح بين السنة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة، يبقى هذا التأرجح الملاحظ فيها على صلة بهذه الظاهرة، أي إن السادسة والسابعة تمثل كل منهما مرحلة محددة من النماء، ويمكننا في الواقع أن ندلّل على ذلك ليس من خلال النصوص التي أرجحت البلوغ بين 13 و 14 و15، بل يمكننا أننلاحظ ذلك من خلال نصوص أخرى تحدد الطفولة الاُولى بالست بدلاً من السبع،فمثلاً نقرأ النص الآتي القائل: (احمل صبيك حتى يأتي عليه ست سنين، ثم أدبه في الكتاب ست سنين) هذا النص من الممكن أن يلقي الضوء على مشكلة تحديد العمر الزمني المرشّح لعملية التعلم أو الدخول إلى مرحلة الطفولة المتأخرة، أي سنوات المدرسة الابتدائية، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار مطالبة الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق(ع) بوضع اختبار للطفل عند بلوغه الخامسة إنما تتساوق مع هذا النص الذي ينظر إلى سرعة النمو الذي يصاحب بعض الأطفال، بحيث يمكن الانتهاء إلى القول بأن النصوص المحددة للطفولة الاُولى بأنها ست، ناظرة إلى بعض مستويات الفارقية بين الأطفال، أو إلى فارق وسط بين الخامسة والسابعة، وإن النصوص المحددة لها بأنا سبع ناظرة إلى مطلق الأطفال، أي أن السبع تشكل القاعدة وأما الست فتشكل استثناءً لها فضلاً عن الخمس التي تشير إلى أقصى درجات السرعة في النمو.

إن المشرّع الإسلامي قد ألمح إلى الفارقية بين الأطفال في مجالات أخرى من حقول التشريع ومنها مثلاً ما ورد من إقامة الصلاة على الميت البالغ ست سنين فصاعداً، ثم ما ورد قبل ذلك من إقامة الصلاة أيضاً على البالغ خمساً من العمر، فهنا يلاحظ أن الصلاة على الميت البالغ خمساً قد وضع ظاهرة التمييز ايضاً معياراً للصلاة عليه، فقد سئل الإمام(ع) عن الصبي أيصلّى عليه إذا مات وهو ابن خمس سنين؟ قال(ع): إذا عقل الصلاة صلّي عليه.

وهذا يعني أن الخامسة محكومة بنفس المعيار الذي تنطوي عليه السنة السادسة، أي أن التعقل وهو مصطلح يشير إلى بلوغ الطفل أعلى مهارة عقلية، نقول إن هذا التعقل هو المعيار الذي يفصح عن طبيعة الموقف الذي نتحدث عنه، مما يعني كما قلنا أن السنةالخامسة مطبوعة بنفس المعيار الذي تنطوي عليه السنة السادسة، لكننا مع ذلك يمكننا أن نذهب من خلال الوثيقة التربوية للإمام الصادق(ع) إلى أن الفارقية بين الأطفال البالغين خمساً وذلك في حالة تميزهم بسرعة النمو العقلي وبين البالغين ستاً لا يصل في الواقع إلى درجة التطابق بينهما، بقدر ما يجسد درجة من التطابق، بحيث تسمح هذه الدرجة بمطالبة الطفل بعملية السجود فحسب؛ دون أن نطالبه بالصلاة الكاملة.

والحق أنه حتى النص الذاهب إلى إقامة الصلاة على الميت البالغ خمساً وهو يعقل الصلاة يمكننا أن نفسرّها في ضوء الفارق النسبي لا المطلق، وعلى أية حال فإن السنة السادسة تظل هي المعيار في بلوغ النمو مرحلته التي ترشح الطفل لعملية التعلم الجدي،  وهذا ما أوضحته الوثيقة التربوية التي طالبت بما قرأناه لكم أي قالت (ثم يترك حتى يتم له ست سنين فإذا تم له ست سنين صلّى وعلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين فإذا تم له سبع سنين قيل له أغسل وجهك وكفيك فإذا غسلهم قل له صلّ)، هذا النص كما لاحظتم جعل السنة السادسة مرشحة للتعلّم الجاد من حيث عملية الصلاة وعملية الصلاة كما هو واضح مجرد نموذج لأية تجربة في عملية التعلّم.

هناينبغي أن نلاحظ أيضاً بأن الست لا تزال في الواقع تشكل عملية غير مكتملة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصلاة تحتاج على مقدمة تستكمل بها، ألا وهي عملية الوضوء وتبعاً لذلك فإن بلوغ السبع هو المرشح لعملية الاستكمال المذكورة، ولنقرأ ثانية النص المتقدم الذي يقول: (اذا تم له سبع سنين قيل له أغسل وجهك وكفيك فإذا غسلهما قيل له صلّ) إذاً بلوغ الطفل سبع سنين يعني دخوله عتبة المرحلة الثانية من الطفولة وتهيؤه للتعلم ومغادرته مرحلة اللعب إلى مرحلة التأديب والإلزام والتعلم وما إلى ذلك من المصطلحات التي يستخدمها المشرع الإسلامي للتنبيه على المرحلة الثانية من الطفولة.

نخلص مما تقدم إلى أن الطفولة المبكرة تنتظمها وفق الوثيقة الصادرة عن الإمام الصادق ست مراحل من النماء العقلي والحركي على النحو الذي فصّلته الوثيقة الإسلامية المتقدمة، أما الأبحاث الأرضية فلم تكد تتفق على تحديدٍ زمني دقيق لمراحل النماء كما قلنا، إلا أن هناك شبه اتفاق على أن السنة الثالثة هي بداية لمرحلة التفكير الرمزي، وبعض الباحثين يقسمها إلى مراحل ثلاث:

أولاً: البدايات التصورية.

ثانياً: التصور البسيط.

ثالثاً: التصور المفصل.

غير أن هذه المراحل الجزئية في النمو لا تحمل كما لاحظتم تلك الدقة التي لاحظناها في الوثيقة الإسلامية الصادرة عن الإمام الصادق(ع) حيث حددها بالشهور والأسابيع والأيام ايضاً.. على أن اختلاف الباحثين من جانب وصعوبة الملاحظة الفردية التي يحاول بعض الباحثين أن يتوفر عليها من جانب آخر تجعلان التخطيط المرحلي لنمو الطفل غير خاضعٍ لضبط علمي يمكن الركون إليه، بينما لاحظنا أن النص الإسلامي قد حسم الموقف المشار إليه بالنحو الدقيق الذي وقفنا عنده، والحق أنه يمكن للتربويين أن يفيدوا من الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق(ع) بغية تدريب الطفل على اكتساب سائر المهارات التي ينشدونها في ذلك، مراعين من خلاله محددات الإدارك الرمزي ومستوياته المتنوعة التي وقفنا عليها بالسنين والشهور والأيام.

وقبل أن نغادر مرحلة الطفولة المبكرة يحسن بنا أن نقف عند مجمل الخصائص التي تطبع المرحلة عبر التصور الإسلامي لها حيث تتمثل خصائص هذه المرحلة على النحو الآتي:

أولا: اللعب بعامة والذي يسم مرحلة الطفولة المبكرة.

ثانيا: من الممكن أن يرافق طابع اللعب بعض أشكال التدريب على التعلم في ضوء مراعاة المراحل الثانوية في النمو.

ثالثاً: إن السنوات الثلاثة الأولى من حياة الطفل غير خاضعة لعملية التعلم المذكور.

رابعاً: إن بلوغ الطفل الخامسة أو السادسة أوالسابعة يرشحه للأنتقال من مرحلة نمائية إلى أخرىحسب الفارقية بين الأطفال، مع ملاحظة أن السنة السابعة في الحالات جميعاً تعد نهاية لمرحلة  الطفولة المبكرة، وبداية للطفولة المتأخرة. وحصيلة القول هي إن اللعب كي كررنا هو الطابع المميز لمرحلة الطفولة المبكرة وإن التدريب يجسد عنصراً ثانوياً فيها، وإن التعامل مع طفل هذه المرحلة ينبغي أن يتسق مع طابعها العام، وهنا نطرح جملة موضوعات تتصل بالطفولة وهي في الواقع لا تنحصر في كونها تعبيراً عن مسألة الطفولة فحسب؛ بل نستخلص منها أيضاً دليلاً جديداً على لعبية هذه المرحلة وعدم تحملها ما حمله الأرضيون من مسؤوليات إلزامية للمرحلة المشار إليها، ولعل في مقدمة ذلك هو ما نلاحظه من النصوص الشرعية التي تطالب الطفل بحمله ورعايته بحنان غير مشنوع بأية ممارسة ذات قسوة، وهذا ما يعد خير إفصاح عن لعبية هذه المرحلة وتأبيها عن التدريب الذي يتطلب نمطاً من التمييز لا يتوفر إلا عند المرحلة الثانية من الطفولة.

إن المشرع الإسلامي يطالب أولياء الطفل بعدم ممارسة الضرب على بكائهم في السنة الأولى بخاصة كما يطالبهم بالتصابي مع الأطفال وبإغداق الحنان عليهم وبتقبليهم تحسيساً بمشاعر الرعاية التي تتساوق مع لعبية هذه المرحلة دون تحميلها أي نمط من التدريب الذي يمكن أن يسحب تطبيعه علىالسلوك اللاحق إلا في نطاق ما سبقت الإشارة إليه، هنا ننبه الطالب إلى ظاهرة لها أهميتها الكبيرة من حيث التعميق لقناعته بما ذهب التصور الإسلامي إليه، ألا وهو ملاحظة أن بعض الدراسات الحديثة المعاصرة انتهت إلى أن الطفل العامين في الأولين إذا درّب على بعض المهارات الحركية وليس العقلية فإنه لا يتميز عن أي طفل آخر لم يدرّب عليها، وهذا ما لوحظ في تجارب أرضية دُرب فريق من الأطفال مبكراً، ودرب آخرون في فترة لاحقة على ذلك وحينئذٍ كانت النتيجة هي التكافؤ بينهما، وهذا كما تلاحظون يعني أن التدريب قبل وصول الطفل إلى مرحلة معينة من النضج لا يترك أثراً ذا بال حيث لم يتميز عن طفل آخر يدرّب عند مرحلة الاستعداد اللاحقة.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنني شخصياً قمت بتجربة مماثلة قبل سنين طويلة وهي أنني درّبت بعض أطفالي على بعض المهارات في السنة الرابعة من العمر وتركت البعض الآخر ودرّبته على نفس المهارات في السنة السابعة، وكانت النتيجة في الواقع متماثلة أي أن الطفل المدرّب في السنة الرابعة لم يتفوّق على الطفل الذي درّبته في السنة السابعة بل كان الطفلان يتميزان بمهارة عقلية واحدة، وهذا يدل بوضوح ايضا علىمدى صدق ما توفرت الوثيقة الإسلامية عليه.

على أية حال ما دام التدريب لم يفرز أية نتائج مثمرة في تعديل السلوك حينئذٍ ندرك أهمية التوصية الإسلامية بعدم ضرب الأطفال على بكائهم والتوصية بالحنان بدلاً من ذلك، طبيعياً من الممكن أن يترك الضرب أثره على شخصية الطفل من حيث انعكاسه على حالته العقلية وتعرضه للشذوذ نظراً لعدم تملكه قدرة على تحمّل الشدة، والفارق كبير بين الذهاب إلى أن نمط التدريب يعكس أثره على بناء الشخصية، وبين الذهاب إلى أن الشدائد جسمية كانت مثل الضرب أونفسية مثل الخوف المفاجئ تؤثران في الحياة العقلية للطفل، كما أن ثمة فرقاً بين الذهاب إلى أن بناء الشخصية لا يمكن تعديله إذا أخذ طابعاً خاصاً في الطفولة وبين الذهاب إلى أن التعديل ممكن تماماً ما دام الوعي في المرحلة الراشدة هو المعيار الأخير في هذا الميدان، كما ينبغي أن نضع فارقاً بين الرعاية التي تصاحبها توصيات بالحنان وهو مبدأ عام من عملية التنشئة الطفلية وبين التفسيرات الأرضية مثل نظرية فرويد في الجنسية الطفلية من حيث تفسيرها في إيجاد الصلة بين نشاط جنسي مزعوم في الطفولة وانعكاس ذلك على سلوك الشخصية الراشدة، ثم صلة ذلك بمبدأ الحنان أو الصرامة في التعامل مع النشاط المذكور لدى الأطفال.

إن المشرع الاسلامي ينفي أمثال هذه الصلة نفياً مطلقاً ما دام أساساً قد شدد على لعبية المرحلة وتأبيها لأي نشاط لايتسق مع النماء العقلي والنفسي والجسمي لأطفال المرحلة المبكرة، بيد أنه لا ينفي المبدأ العام لنمط التنشئة ونعني به الرعاية التي تحمل سمة الحنان، وضرورة خلعها على أطفال هذه المرحلة وإمكان انعكاسها على السلوك اللاحق للشخصية ولكن في نطاق لا ينقل الظاهرة إلى الثبات والحتمية بقدر ما يدعها في النطاق الخاضع لعمليات التعديل في السلوك، وفي ضوء هذا الفهم لمبدأ الرعاية في الطفولة نجد أن الأبحاث الأرضية تجمع على أن التعامل بحنان مع الطفل هو المبدأ السليم لتطبيعه على السلوك السوي لاحقاً.

وعلى الضد من ذلك  فإن التعامل بقسوة سينمي لدى الطفل نزعات عدوانية ملحوظة لديه، والأمر نفسه إذا تم التعامل معه بدلال فيما ينمي لديه التمركز حول ذاته وما يصاحب ذلك من مشاعر الكراهية نحو الآخرين.

إن هذا المبدأ التربوي يؤكده المشرع الإسلامي بنحو بالغ المدى إاذ أخذنا بنظر الاعتبار أن السلوك الإسلامي قائم بأكمله على مبدأين هما وأد وسحق الذات من جانب وحب الآخرين والاتجاه إليهم من جانب آخر، إلا أن مراعاة هذين المبدأين من حيث صلتهما بالطفولة لا يأخذ محدداته النهائية في إحدى مرحلتي الطفولة المبكرة أو المتأخرة، بل في كلتيهما وذلك من خلال رسم توصيات خاصة لكلٍّ منهما من جانب وتوصيات عامة تستبق المرحلتين، بل تعبرهما إلى مراحل الراشدة أيضاً، لكن نقرّر بأن الحنان بعامة في الواقع يظل موضع التأكيد في النصوص الإسلامية ما دام الطفل متحسساً بقصوره وبتبعيته لولي الأمر وبكون ولي أمره المصدر الوحيد لإشباع حاجاته حسب تصور الطفل نفسه، يستوي في ذلك أن يكون الصبي في مرحلته المبكرة أو المتأخرة، إلا أن المطالبة بالرعاية الحانية تظل موضع التشدّد في مرحلة الطفل المبكرة أكثر منها في المتأخرة ما دامت الأولى موسومة بطابع اللعب، وما دامت الثانية متسمة بالطابع المميز الذي تصاحبه عمليات العقاب أيضاً كما سنرى.

على أية حال فإن المطالبة بالرعاية الحنانية من خلال المبدأ النفسي المتمثل في احساس الطفل بان ولي أمره هو المصدر الوحيد لاشباع حاجاته، هذا المبدأ النفسي تؤكده التوصيات الإسلامية بوضوح في نصوص من أمثال قول النبي(ص): (أحبوا الصبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم شيئاً  ففوا لهم فإنهم لا يرون إلا إنكم ترزقونهم) بيّن أن هذا المبدأ يفسر لنا جانباً من السر الكامن وراء المطالبة بتحصين الطفل أي الرعابة، وفي ضوء هذا يمكتنا أن نفس سائر التوصيات في هذا العدد من نحو المطالبة بتقبيل الأطفال مثلاً حيث يقول الإمام(ع): (أكثرو من قبلة أولادكم) وفي نص آخر يقول(ع): (جاء رجل إلى النبي(ص) فقال: ما قبلت صبياً لي قط. فلما ولى قال رسول الله(ص): هذا رجل عندي أنه من أهل النار) والأمر ذاته يمكننا أن نلحظه في المطالبة بالتصابي مع الأطفال من نحو قول النبي(ص): (من كان عنده صبي فليتصاب له) إن أمثلة هذه النصوص من الممكن أن تفسر لنا سرّ التوصية لرعاية الطفل ما دام ذلك يسحب أثره على مشاعر الطفل وبنائه النفسي.

وبعامة فإن المطالبة بالحنو على الطفل تحمل مهمتين مزدوجين تتصل إحداهم بالبناء النفسي للطفل والآخرى بالبناء النفسي لوليه أيضاً، ومع أننا سنتحدث مفصلاً عن الجانب الأخير في الحقل المتصل بالأسرة إلا أن الإشارة إلى هاتين المهمتين ينبغي أن لا نهملهما حينما تواجهنا النصوص المطالبة بالحنو على الطفل والتوعد على ذلك على نحو ما لاحظناه في بعض النصوص المتقدمة وعلى نحو ما نراه في نصوص تقرر كقوله(ص): (من لا يرحم لا يُرحم) حيث عقب(ص) بذلك على من أخبره بأن له جماعة من الأولاد لم يقبّل أحداً منهم قط، ويمكننا أن نلحظ ذلك أيضاً في المطالبة بمراعاة بكاء الأطفال مثلاً حتى أن النبي(ص) خفف ذات يوم من صلاته ولما سئل(ص) عن السبب أجاب: (أوما سمعتم صراخ الصبي) المهم أن أمثلة هذه النصوص تفصح عن الجانبين المزدوجين في.

المطالبة بالحنو على الطفل؛ الجانب المتصل بالبناء النفسي لوليه والجانب المتصل بمراعاة الطفل نفسه من حيث أن تهدئة صراخه مثلاً أو تقبيله أو تنفيذ بعض مطالبه الطفولية إنما تترك آثاراً لاحقة على شخصيته دون أدنى شك.

هنا نتجه إلى ملاحظة أخرى وهي أن المطالبة برعاية الطفل تقترن في حقل التربية والبناء النفسي بمبدأ تربوي مهم في الأبحاث الأرضية، ألا وهو المبدأ التربوي المقرر لظاهرة الغيرة التي تفرضها ولادة الطفل الأصغر بالنسبة لأخيه الذي يكبر في السن، فالأبحاث الأرضية تولي هذا الجانب عناية خاصة نظراً لما يترتب على هذه الولادة من المنافسة في الحب الذي سيصغر حجمه بالنسبة للطفل الأكبر حتماً ويتحول لصالح أخيه الصغير، وتبعاً لهذه الحقيقة تشدد الأبحاث الأرضية على ضرورة مراعاة ولي الطفل لهذا الجانب مطالبة إياه على أن يقسم حبه للطفلين بالسوية، أو على الأقل عدم إهمال الطفل الكبير حيث يسحب هذا الإهمال آثاره على شخصية أخيه الأكبر ويرشحه لنزعات عدوانية بالغة الخطورة.

إن هذه الحقيقة يضعها المشرع الإسلامي في الاعتبار أيضاً حينما يطالب بتجسيد المحبة على الطفلين بالتساوي، وفي هذا الصدد يقول أحدالرواة: (نظر رسول الله(ص) على رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر فقال له النبي(ص): فهلا واسيت بينهما) واضح أن المواساة ناظرة إلى إمكان بلوغ النزعة العدوانية لدى الطفل الذي قوبل بعطف أقل، بل إن المشرع الإسلامي يتحدث عن هذا الجانب حينما نواجه نصاً يذكر ولي الطفل بأن إيثار طفل على آخر يسحب آثاراً على شخصية الطفل لاحقاً منمياً في أعماقه نزعات الحقد والحسد على نحو ما لوحظ على أخوة يوسف في تعاملهم مع أخيهم حيث دفعتهم نزعتهم العدوانية إلى التآمر عليه وإلقائه في البئر.

إذا يظل التعامل القائم على التساوي بين الأطفال منطوياً على حقيقة تربوية تسحب أثرها على السلوك اللاحق، لكن هنا نتقدم بتعقيب نجده مهماً أيضاً ألا وهو أن الحقيقة المتقدمة أي التساوي في الرعاية بين الأطفال ينبغي أن لا نخلع عليها طابع الثبات والجدية على النحو الذي نلحظه لدى التربية الأرضية مثلاً، من حيث ذهابها إلى حتمية انعكاس التفاضل بين الأطفال على إنماء النزعات العدوانية لديهم بحيث يتعذر معها مثلاً عمليات التعديل للسلوك نتيجة لما طبعت الشخصية عليه في الطفولة، ويمكننا أن نستند في ذلك إلى أن المشرع الإسلامي نفسه انطلاقاً من هذا التعليق للأهمية الكبيرة المبالغ فيها على الطفولة وآثاره أنه لايرى مانعاً في نصوص أخرى من عملية التفاضل في الحنان بين الأطفال وإن كان يرى أن الأفضل هو التساوي بينهم تلافياً لعملية انسحاب ذلك على سلوك لاحق.

نقول أن المشرع الإسلامي لا يرى في التفاضل عملية خطيرة ما دام المشرع أساساً يرى أن المرحلة الراشدة هي التربية الوحيدة لصياغة السلوك النهائي، لذلك نجد أن الإمام الكاظم(ع) يجيب أحدهم بعدم المانع من التفاضل بين الأطفال في هذا الصدد، يقول أحد الرواة سألته ـ الإمام موسى بن جعفر ـ عن الرجل يكون له بنون وأمهم ليست بواحدة أيفضل أحدهم على الآخر؟ قال(ع): نعم لا بأس به، لقد كان أبي يفضلني على عبد الله. ويقول راوٍ آخر في رواية عن الإمام الرضا(ع) سألت أبا الحسن الرضا(ع) عن الرجل يكون بعض ولده أحب إليه من بعض ويقدم بعض ولده على بعض؟ فقال: نعم قد فعل ذلك أبو عبد الله نحل محمداً وفعل ذلك أبو الحسن(ع) نحل أحمد شيئاً فقمت أنا به حتى حزت.

والحق إنه يمكننا إلى أن نوفق بين هاتين الروايتين وسواهما وبين الاتجاه الأولي من الروايات نقول إن العود إلى قضية أخوة يوسف(ع) فيما طالب الإمام(ع) بعدم إيثار واحد على آخر حتى لا تنمى نزعات العدوان لديهم، نستخلص منهما حقيقة تربوية مهمة تحسم المشكلة أساساً وهي أن أخوة يوسف أمكن أن يعدلوا في نهاية المطاف من سلوكهم بعد أن كانوا على وعي تام يحقيقة مشاعرهم العدوانية، فيما صارحوا أخاهم بقولهم (تالله لقد آثرك الله علينا) إلا أنهم في الحين ذاته عدلوا مشاعرهم حين سلطوا الوعي على الموقف الجديد عبر مشاهدتهم مكانة يوسف وصلة ذلك بإيمانه من جانب وفشل تآمرهم من جانب آخر، ومع ذلك فإن الأفضل هو التساوي بين الأطفال حتى تختزل عمليات التعديل كما قال الإمام(ع) بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.