• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تطوّر التشيّع

تطوّر التشيّع

1 ـ رسم الدكتور عبدالعزيز الدوري هذا التطوّر عن طريق تقسيمه للتشيّع إلى: روحيّ بدأ أيام النبيّ عليه الصلاة والسلام، وسياسي حدث بعد مقتل الإمام عليٍّ(عليه السلام)، وقد استدلَّ لذلك بأنّ التشيّع بمعناه البسيط دون باقي خواصّه الاصطلاحية قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصّت على شيعة لعليٍّ وشيعة لمعاوية، ممّا يعطي معنى المشايعة والمناصرة فقط دون باقي الصفات والأبعاد السياسية التي حدثت بعد ذلك([1]) .

2 ـ محمّد فريد وجدي في دائرة المعارف، قال:

«الشيعة: هم الذين شايعوا عليّاً في إمامته واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج عن أولاده، ويقولون بعصمة الأئمة من الصغائر والكبائر، والقول بالتوليِّ والتبرّي قولا وفعلا، إلاّ في حال التقيّة إذا خافوا بطش ظالم، وهم خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية، وبعضهم يميل في الاُصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السُنّة، وبعضهم إلى التشبيه»([2]) .

إنّ هذه المقتطفة من فريد وجدي سبق أن ذَكرْتُ قسماً منها في التعريف بالتشيّع، وذكرت هنا المقتطفة بكاملها ليتضح منها أنّ مضمونها يغطّي التشيّع منذ أيامه الاُولى حتى الآن; لأنّ من الواضح أنّ هذه المضامين لم تولد دفعة واحدة، وإنّما دخلت لمضمون التشيّع تدريجاً . وقد خلط فريد وجدي فيها بين السمات والمقوِّمات، وجعل مَن ليس من الشيعة منهم، ونسب لهم ما هم منه براء، ولا اُريد أن أتعجّل الردّ عليه، فستمرّ علينا أمثال هذه النسب والردّ عليها في مكانها من الكتاب .

3 ـ الدكتور كامل مصطفى في كتابه الصِّلة ] بين التصوّف والشيعة[، قال:

«ويتضح بعد ذلك أنّ التشيّع قد عاصر بدء الإسلام باعتباره جوهراً له، وأنّه ظهر كحركة سياسية بعد أن نازع معاوية عليّاً(عليه السلام) على الإمارة وتدبير شؤون المسلمين، ويتبيّن بعد ذلك أنّ تبلور الحركة السياسية تحت اسم الشيعة كان بعد قتل الحسين(عليه السلام)مباشرة، وإن كانت الحركة سبقت الاصطلاح، وبذلك يمكننا أن نلخّص هذا الفصل في كلمة بيانها: أنّ التشيّع كان تكتّلا إسلامياً ظهرت نزعته أيام النبيّ، وتبلور اتجاهه السياسي بعد قتل عثمان، واستقلَّ الاصطلاح الدالّ عليه بعد قتل الحسين(عليه السلام)»([3]) .

وواضح من هذا النص أنّ التشيّع مرّ بأدوار تطوّرَ فيها كما يقول كامل مصطفى .

4 ـ الدكتور أحمد أمين، قال:

«إنّ التشيّع بدأ بمعنى ساذج، وهو أنّ عليّاً أولى من غيره من وجهتين: كفايته الشخصيّة، وقرابته للنبيّ . ولكنّ هذا التشيّع أخذ صيغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية . وحيث إنّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس، فلهم أكبر الأثر بالتشيّع»([4]) .

وواضح هنا ممّا ذكره أحمد أمين، أنّ التشيّع تطوّرَ لا بشيء من داخله، وإنّما بإضافات وإسباغ من عناصر اُخرى دخلت الإسلام واختارت التشيّع، فنقلت ما عندها من أفكار وعقائد إليه حتى أصبحت جزءاً منه، وأنّ الفرس بالذات تركوا بصماتهم على المذهب أكثر من غيرهم كما يريد أحمد أمين أن يصوّره . وهو زعمٌ أخذه أحمد أمين من غيره، وغيره أخذه من غيره، وهكذا حتى أوشك أن يصبح من الاُمور المتسالم عليها عند الباحثين، وقريباً ساُوقفك على زيف هذه الدعوى، والهدف من الإصرار على ربط التشيّع بالفارسية شكلا ومضموناً .

5 ـ الدكتور أحمد محمود صبحي، قال بعد ذكر الروّاد من الشيعة:

«والتشيّع بالنسبة للشيعة المتأخرين مثل الزهد في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، والفَرق بينه وبين التصوف الذي شابته عناصر غنوصيّة، وتأثر بتيّارات فكرية متباينة، كما عرف لدى محيي الدين بن عربي والسهروردي مثلا»([5]) .

وبعد أن استعرضنا هذه الأمثلة من أقوال الكتّاب التي فرّقوا بها بين التشيّع في الصدر الأوّل وما تلا ذلك من عصور، أودّ أن اُعقّب على ذلك بما يلي:

أوّلاً: أنّ كميّة الأفكار والمعتقدات في المضمون الشيعي تتسع في الأزمنة المتأخره عمّا كانت عليه في الصدر الأوّل، دون شك في ذلك، ولكنّ هذه الزيادة ليست أكثر من المضمون الأصلي للتشيّع، وإنّما هي تفصيل وبيان لمجمله، إنّها ليست بإضافة أجزاء، وإنّما هي ظهور جزئيات انطبق عليها المفهوم الكلي للتشيّع، وقد ظهرت هذه الجزئيات بفعل تطور الزمن، وكمثال لذلك: موضوع النصوص التي وردت على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله)، هل هي مجرد إشارة لفضل الإمام عليٍّ، أم أنّها على شكل يلزم المسلمين بالقول بإمامته وعلى نحو الوصية له بالخلافة؟ وتبعاً لذلك، هل إنّ هذه الإمامة تقف عند حد المؤهلات، أم إنّ الإمام يجب أن يكون النموذج المثالي، فيكون أشجع الناس وأعلم الناس وأعدل الناس؟ وهكذا ] انبثق [موضوع العصمة وغيره .

وكلّ هذه الاُمور داخلة في صلب موضوع الإمامة، وليست هي باُمور زائدة على الموضوع، بل اشتقاقات أولدها التطوّر الفكري، وزيادة أعداد وأنواع معتنقي المذهب .

ثانياً: أنّ مثل هذا التطور كمثل كلّ تطوّر حدث، ومن ذلك تطوّر الإسلام بصفته مقسماً للمذاهب . فالمسلمون منذ وجدوا كان من عقيدتهم الاعتراف بالله عزّ وجلّ ووجوده ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزّهه عن صفات النقص، وكلّ ذلك على نحو الإجمال . وعندما اتسعت مجالات التفكير، وانفتح العالم الإسلامي على اُمم وثقافات متنوعة، ] انبثقت[ أسئلة، وجدَّت أفكار، فرجع المسلمون إلى ما آمنوا به إجمالا يُبيّنون مجمله ويفصّلون مختصره، فنشأ من إيمانهم بأنّ الله خالق كلّ شيء: النزاع بإعطاء السبب الطبيعي صفة الخلق، وذلك يؤدّي إلى تعدد الخالق كما تصوروا، أم أنّ ذلك لا يقدح بانفراد الله تعالى بصفة الخالق، إذ أنّ لله تعالى جهة تأثير ليست من مقدورات المخلوقين، وكلّ ما للمخلوقين إنّما هو من جهة اُخرى، ولا يقدح ذلك في كون اللهِ تعالى أحسن الخالقين . و] انبثقت [عن هذه المسألة خلق أفعال العباد وربط ذلك كلّه بالجبر والاختيار، وهكذا .

ومَثل آخر، هو إيمان المسلمين منذ وجدوا بحجيّة ظواهر القرآن الكريم، فنشأ من ذلك: النزاع حول حجيّة ظواهر بعض الآيات، لأنّ لازم ذلك نسبة ما لا يصحّ إلى الله تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)([6])، حيث ذهب أهل السنّة إلى جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة استناداً إلى ظاهر الآية، بينما ذهب الإمامية إلى استحالة رؤيته تعالى; لاستلزام الرؤية الجسمية، وبالتالي التركيب، فالحاجة، فالحدوث، وانتهاء كل ذلك إلى نفي الاُلوهية، وقد أوّلوا النظر هنا بأنـّه انتظار الرحمة، كما يقول شخص لآخر ينتظر منه الرحمة: أنا أنظر إليك وإلى عطفك، وذلك شائع في لغة العرب وحضارتهم،والقرآن نزل بلغة العرب وسلك منهجهم في المحاورات .

هذا بالإضافة إلى أنّ الله تعالى نسب هنا النظر إلى الوجوه، وهي ليست من أعضاء النظر، من قبيل قوله تعالى: (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)([7]) .

ومثال آخر أذكره للتدليل على اتساع المضمون الإسلامي عمّا كان عليه في الصدر الأوّل، فقد آمن المسلمون منذ وجدوا بأنّ الله تعالى لا يفعل العبث، وجاءت ظواهر الآيات تؤيد ذلك، فقد جاء في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيوةَ لِيَبْلُوَكُمْ)([8])، وجاء بقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ)([9])، فتنازع المسلمون بعد ذلك في أنّ: أفعال الله تعالى، هل هي معلّلة، ولازم ذلك نسبة النقص إلى الله، لأنّ كل فاعل للعلّة إنّما يحتاج لتلك العلّة، أم أنّ أفعاله تعالى غير معلّلة؟ ولازم ذلك أنّ فعله عبث، تعالى الله عن ذلك، فذهب أهل السنّة إلى أنّ أفعاله غير معلّلة، وذهب الإمامية إلى أنّها معلّلة بدون حاجة منه تعالى للعلّة، وإنّما يعود نفع العلّة للعباد أنفسهم، وبذلك يجمع بين الأمرين: من كونه تعالى لا يفعل العبث، ومن كونه غنياً عن الحاجة .

ومع جميع ما ذكرناه لا يقال: إنّ المسلمين تطوّرت عقائدهم وزاد مضمون الإسلام عمّا كان عليه في الصدر الأوّل، وإنّما الذي حدث أنّ المسلمين توسعوا في شرح الاُمور المجملة عندما اضطروا لذلك; نتيجة تفاعلهم مع ثقافات مختلفة وأفكار متنوعة، فالمسلم في صدر الإسلام والمسلم في أيامنا مصدر تشريعه الكتاب والسنّة، ولكنّه فيما مضى أخذهما مجملين والآن احتاج إلى التفصيل، لوجود ] دواع [وجدت ولم تكن موجودة في الصدر الأوّل، فإذا كان التطوّر المنسوب إلى التشيّع على هذا النحو الذي حدث في الإسلام نفسه، فهو واقع بهذا المعنى لا نزاع في ذلك، أمّا إذا كان استحداث آراء جديدة وبعيدة عن روح الإسلام فلا; لأنّ كل ما يأباه الإسلام يأباه التشيّع بالضرورة .

إنّ التطوّر الذي حدث في الإسلام على الشكل الذي ذكرناه لم يشكل قدحاً في عقائد فرق المسلمين، وإذا كان ما حدث في التشيّع من تطوّر مثل ما حدث في الإسلام ككل، فما له هنا يشكّل قدحاً في العقيدة ويثير شكوكاً لا ] مسوّغ[ لها؟

ثالثاً: ومع التنزّل وافتراض دخول عضو إضافي على جسم التشيّع كما يريد أن يثبته البعض اعتباطاً وهو منفي، فإنّ مثل هذا الفرض يأباه الفكر الشيعي إذا كان ممّا لا يلتقي مع كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله) والخطوط الإسلامية العامة، إنّ مثل هذا الفرض هو رأي يرد إلى نحر قائله، فكلّ ما هو ليس من الإسلام فهو ليس من التشيّع في شيء بداهة .

إنّ التشيّع من عطاء فكر أهل البيت، وهم عِدل الكتاب، وهم مثل سفينة نوح، فعلى هذا يكون ما ينسب إلى التشيّع من هذا القبيل إنّما هو خلط بين التشيّع والشيعة، وكثير ممن يُنعت بأنـّه من الشيعة يرفضه الهيكل الشيعي فيما له من حدود، وهو ما سنمرّ عليه ونذكر أدلّته، والشأن في ذلك شأن التفكير السُنّي الذي ينفي عنه بعض المنتسبين إليه ممّن ثبت انحرافهم عن خطوط الإسلام، ولا يقدح وجود أمثالهم عند أهل السنّة، ولا يُنتزع من وجود أمثال هؤلاء حكم عام يُعمّم على أهل السنّة.

وعلى أسوء الفروض، لو وجدت أفكار إضافية طارئة على جسم أي مذهب من المذاهب وزائدة على محتواه الأصلي، كما هو الفرض، ولكنّها لا تشكّل إنكار ضرورية من ضروريات الدين ولا رِدّة ولا انحرافاً، فإنّ أمثالها لا ] يسوّغ[ رمي من وجدت عنده بالمروق عن الدين والخروج عن الإسلام، وربطهم باليهودية والنصرانية وأمثال ذلك من النسب، التي لا يتفوّه بها مسلم على أخيه وله ضمير وخلق مسلم يصدر في سلوكه عن تعاليم الإسلام .

فمتى كان القول بالوصاية مثلا، وأنّ لكلّ نبيّ وصيّاً وأنّ الأوصياء يجب كونهم معصومين حتى يتحقق الغرض من نصبهم قادة للاُمة، والاعتقاد بأنّ المهديّ حيّ وأمثال ذلك من العقائد موجباً للخروج من الدين، ومدعاة لشنّ حملات شعواء، كانت وما تزال يجترّها الخلف عن السلف، دون أن يتبين ما هي مصادرها، ودون أن يحلّلها ويناقشها؟

إنّ صرف هذه الطاقات في ميادين التهريج أقل ما يوصف به أنـّه عمل غير مسؤول، بالإضافة إلى إمكان توجيه هذه الطاقات إلى ميادين إيجابية في الخلق والإبداع، وفي جمع الشمل، ولمّ الشعث، وتنظيف الأجواء الإسلامية من الحقد والكراهية التي لا يستفيد منها إلاّ أعداء الإسلام .

إنّ الذين يقفون وراء نعرات التشويش والفرقة قوم بعيدون عن روح الإسلام وجوهره، وليسوا ببعيدين عن الشبهات، خصوصاً وأنّ أمثال هذه المواضيع يجب أن تبقى محصورة في نطاق العلماء فقط، وأن لا تنزل إلى مستوى الأوساط من الناس فضلا عن العامة; وذلك لأنّ للعلماء مناعة تبعدهم عن النظرة المرتجلة والنعرة الجاهلية كما هو المفروض .

إنّ المفاعلات الطائفية في تصوري أخطر على الإنسانية من المفاعلات النووية، وحسب تاريخ المسلمين خلافات كانت وما تزال غِصة في فم كلّ مؤمن بالله تعالى وبدينه، وكلّ داع لرسالات السماء التي من أول أهدافها تأصيل الروح الإنسانية في كلّ أنماط السلوك عند البشر .

 

والآن لابـُدّ من الرجوع إلى بداية التشيّع وبذرته التأريخية، واستظهار ما إذا كانت سنخيتها تتحد مع الفكر الإسلامي أم لا . ثمّ ما هو حجمها، أي البنية الشيعية يوم ولادتها؟ . وما هي أرضيّة تكوينها؟ وهل هي عملية عاطفية، أم عملية عقلائية انتهى إليها معتنقوها بمعاناة وتقويم واعِيَين؟.

ولمّا كانت هذه الاُمور ممّا اختلف فيه تبعاً لاستنتاج الباحثين ومزاجهم ومسبقاتهم وما ترجَّح لديهم بمرجِّح من المرجِحات، فلا بدّ من تقديم نماذج من آراء الباحثين في هذه المواضيع تكون المادة الخام، ثمّ يبقى على القارئ أن يستشفّ الحقيقة من وراء ذلك، ويكوّن له رأياً يجتهد في أن يكون موضوعياً.

إنّ المؤرخين والباحثين عندما يحدّدون فترة نشوء التشيّع يتوزعون على مدىً يبتدِئ من أيام النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ونهاياته بعد مقتل الحسين (عليه السلام) . وسأستعرض لك نماذج من آرائهم في ذلك، وأترك ما أذهب إليه إلى آخر الفصل .

أولا: رأي يرى أنّهم تكوّنوا بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وممن يذهب لهذا:

1 ـ ابن خلدون، فقد قال: «إنّ الشيعة ظهرت لمّا توفي الرسول(صلى الله عليه وآله)، وكان أهل  البيت يرون أنفسهم أحقّ بالأمر، وأنّ الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش، ولمّا كان جماعة من الصحابة يتشيّعون لعليٍّ ويرون استحقاقه على غيره، ولما عُدل إلى سواه تأفّفوا من ذلك ...» إلى آخره([10]) .

2 ـ الدكتور أحمد أمين، فقد قال: «وكانت البذرة الاُولى للشيعة، الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)أنّ أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه»([11]) .

3 ـ الدكتور حسن إبراهيم، فقد قال: «ولا غرو، فقد اختلف المسلمون أثر وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) فيمن يولّونه الخلافة، وانتهى الأمر بتولية أبي بكر، وأدّى ذلك إلى انقسام الاُمّة العربية إلى فريقين: جماعية وشيعية»([12]).

4 ـ اليعقوبي، قال: «ويعد جماعة من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الاُولى للتشيّع، ومن أشهرهم: سلمان الفارسي وأبوذرّ الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبدالمطلب»([13]).

وتعقيباً على ذكر المتخلّفين عن بيعة الخليفة أبي بكر، قال الدكتور أحمد محمود صبحي: «إنّ بواعث هؤلاء مختلفة في التخلف، فلا يستدل منها على أنـّهم كلّهم من الشيعة . وقد يكون ما قاله صحيحاً، غير أنّ المتخلّفين الذين ذكرهم المؤرخون أكدت كتب التراجم على أنـّهم شيعة، وستأتي الإشارة لذلك في محلها من الكتاب»([14]).

5 ـ قال المستشرق جولد تسيهر: «إنّ التشيّع نشأ بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وبالضبط بعد حادثة السقيفة»([15]) .

ثانياً: الرأي الذي يذهب إلى أنّ التشيّع نشأ أيام عثمان، ومن الذاهبين لذلك جماعة من المؤرخين والباحثين، منهم: ابن حزم، وجماعة آخرون ذكرهم بالتفصيل يحيى هاشم فرغل في كتابه([16])، وقد استند إلى ] مسوّغات[ شرحها .

ثالثاً: الرأي الذي يذهب إلى تكوّن الشيعة أيام خلافة الإمام عليٍّ(عليه السلام)، ومن الذاهبين إلى هذا الرأي: النوبختي في كتابه فرق الشيعة([17])، وابن النديم في الفهرست، حيث حدده بفترة واقعة البصرة وما سبقها من مقدّمات كان لها الأثر المباشر في تبلور فرقة الشيعة وتكوينها([18]) .

رابعاً: الرأي الذي يذهب إلى أنّ ظهور التشيّع كان بعد واقعة الطفّ على اختلاف في الكيفية بين الذاهبين لهذا الرأي، حيث يرى بعضهم أنّ بوادر التشيّع التي سبقت واقعة الطفّ لم تصل إلى حدّ تكوين مذهب متميز له طابعه وخواصه، وإنّما حدث ذلك بعد واقعة الطفّ. بينما يذهب([19]) آخرون إلى أنّ وجود المذهب قبل واقعة الطفّ كان لا يعدو النزعة الروحية، ولكن بعد واقعة الطف أخذ طابعاً سياسياً، وعمق جذوره في النفوس، وتحددت أبعاده إلى كثير من المضامين، وكثير من المستشرقين يذهبون لهذا الرأي وأغلب المحدثين من الكتّاب .

يقول الدكتور كامل مصطفى: «إنّ استقلال الاصطلاح الدال على التشيّع إنما كان بعد مقتل الحسين (عليه السلام)حيث أصبح التشيّع كياناً مميزاً له طابعه الخاص».

في حين يذهب الدكتور عبدالعزيز الدوري إلى أنّ التشيّع تميَّز سياسياً ابتداءً من مقتل أميرالمؤمين عليٍّ (عليه السلام)ويتضمن ذلك فترة قتل الحسين(عليه السلام) حيث يعتبرها امتداداً للفترة السابقة([20]) .

وإلى هذا الرأي يذهب بروكلمان في تأريخ الشعوب الإِسلامية، حيث يقول: «والحقّ أنّ ميتة الشهداء الذي ماتها الحسين ولم يكن لها أيّ أثر سياسي ـ هذا على زعمه ـ قد عملت في التطوّر الديني للشيعة حزب عليٍّ، الذي أصبح بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب ـ وهو زعم باطل ـ واليوم لا يزال ضريح الحسين(عليه السلام) في كربلاء أقدس محجَّة عند الشيعة، وبخاصة الفرس الذين ما فتئوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره غاية ما يطمعون فيه»([21]).

إنّ رأي بروكلمان بالإضافة لما فيه من دسّ يخالف ما عليه معظم مَنْ ربط ظهور التشيّع بمقتل الحسين، حيث يذهبون إلى أنّ التميّز السياسي للمذهب ولّدته واقعة الطفّ، بينما يرى بروكلمان أن لا أثر سياسي للواقعة، فهو من قبيل إنكار البديهيات، وإنّما يقصر أثر الواقعة على تعميق المذهب دينياً فقط .

وقد شايع بروكلمان في هذا الرأي جماعة آخرون ذكرهم يحيى فرغل مفصلا في كتابه([22]).

إنّ هذه الآراء الأربعة في نشأة التشيّع لا تصمد أمام المناقشة، ولا اُريد أن أتعجّل الردّ عليها، فسأذكر الرأي الخامس، ومنه يتضح تماماً أنّ هذه الآراء تستند إلى أحداث أومضَ فيها التشيّع نتيجة احتكاكه بمؤثر من المؤثرات في تلك الفترة التي أرّخت بها تلك الآراء ظهور التشيّع، فظنُّوه ولد آنذاك بينما هو موجود بكيانه الكامل منذ الصدر الأوّل، وقد آن الأوان لأعرض لك رأي جمهور الشيعة وخاصةً المحققين منهم:

خامساً: رأي الشيعة وغيرهم من المحققين من المذاهب الاُخرى، حيث ذهب هؤلاء إلى أنّ التشيّع ولد أيام النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وأنّ النبيّ نفسه هو الذى غرسه في النفوس عن طريق الأحاديث التي وردت على لِسان النبيّ(صلى الله عليه وآله) وكشفت عمّا لعليٍّ(عليه السلام) من مكانة في مواقع متعددة رواها ـ إضافة إلى الشيعة ـ ثقاة أهل السنّة.

ومنها: ما رواه السيوطي عن ابن عساكر عند تفسير الآية السابعة من سورة البيّنة بسنده عن جابر بن عبدالله قال: كنا عند النبيّ(صلى الله عليه وآله) فأقبل عليّ(عليه السلام)، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» فنزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)([23]) .

وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليٍّ(عليه السلام) هم أنت وشيعتك . وأخرج ابن مردويه عن عليٍّ(عليه السلام) قال: قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): ألم تسمع قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غراً محجلين([24]) ومن هنا ذهب أبو حاتم الرازي إلى أنّ أول اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو «الشيعة»، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة: أبوذر وعمّار ومقداد وسلمان الفارسي، وبعد صِفِّين اشتهر موالي عليٍّ بهذا اللقب([25]) .

إنّ هذه الأحاديث التي مرّت والتي أخرجها كل من ابن عساكر وابن عدي وابن مردويه يعقّب عليها أحمد محمود صبحي في كتابه نظرية الإمامة، فيقول: ولا تفيد الأحاديث الواردة على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله)في حقّ عليٍّ(عليه السلام) أنّ لعليٍّ شيعة في زمان النبيّ، فقد تنبأ النبيّ بظهور بعض الفرق، كإشارته إلى الخوارج والمارقين، كما ينسب إليه أنّه قال لعليِّ: «إنّك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين». ولا يدل ذلك على وجود جماعة مستقلة لها عقائد متمايزة أو تصورات خاصة([26]).

وأنا اُلفت نظر الدكتور أحمد محمود إلى أنّ الشيعة لا يستدلّون على ظهور التشيّع أيام النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما ورد على لسانه من أحاديث، فالمسألة كما يسمّيها الاُصوليّون على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية، أي لا يلزم وجودهم بالفعل كما استظهر الدكتور، وإنّما هي صفات ذكرها النبيّ(صلى الله عليه وآله) للشيعة متى وجدوا وأينما وجدوا، أمّا الاستدلال على ظهور الشيعة أيام النبيّ فمن روايات وقرائن كثيرة يوردونها في هذا المقام، أورد قسماً منها الدكتور عبدالعزيز الدوري واستعرض مصادرها([27])، مع ملاحظة أنـّه قيّد التشيّع بأنـّه تشيّع روحي، كما نصّ على قسم من أدلتهم على ذلك يحيى هاشم فرغل في كتابه([28]) .

إنّ بعض هذه الآراء يرجع بالبداية الزمنية في ظهور الشيعة إلى وقت مبكّر في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، حيث التأمت جماعة من الصحابة تفضّل عليّاً(عليه السلام) على غيره من الصحابة وتتخذه رئيساً، ومن هؤلاء: عمّار بن ياسر، وأبو ذرّ الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وجابر بن عبدالله، واُبيّ بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري، وبنو هاشم . . . إلى آخره([29]) .

ولهذا ذهب الباحثون إلى تخطئة من يؤرخ للتشيّع وظهوره بعصور متأخرة، مع أنّ الأدلة التاريخية متوفّرة على وجودهم أيام الرسول(صلى الله عليه وآله) .

يقول محمّد عبدالله عنان في كتابه تأريخ الجمعيات السرية عند تعليقه على الحادثة التي روتها كتب السيرة([30]) حين جمع النبيّ عشيرته عند نزول قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ)([31]) ودعاهم إلى اتباعه، فلم يجبه إلاّ عليّ بن أبي طالب، فأخذ النبيّ برقبته وقال: هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا . . . إلى آخره .

علّق محمّد عبدالله بقوله: من الخطأ أن يقال: إنّ الشيعة إنّما ظهروا لأول مرة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرسول حين اُمر بإنذار عشيرته بهذه الآية .

____________________
[1] . مقدمة في تاريخ صدر الإسلام : 72 .

[2] . دائرة معارف فريد وجدي : 5/424 .

[3] . الصلة بين التصوّف والتشيّع : 23 .

[4] . فجر الإسلام : 276 .

[5] . نظرية الإمامة : 35 .

[6] . القيامة : 22 و23 .

[7] . يس : 49 .

[8] . الملك : 2 .

[9] . الدخان: 38.

[10] . تاريخ ابن خلدون : 3/364 .

[11] . فجر الإسلام : 266 .

[12] . تاريخ الإسلام : 1/371 .

[13] . تاريخ اليعقوبي : 2/104 .

[14] . نظرية الإمامة : 33 .

[15] . العقيدة والشريعة : 174 .

[16] . عوامل وأهداف نشأة علم الكلام : 1/105 .

[17] . فرق الشيعة : 36.

[18] . الفهرست لابن النديم : 175 .

[19] . الصلة بين التصوّف والتشيّع : 23 .

[20] . مقدمة في تاريخ صدر الإسلام : 72 .

[21] . تاريخ الشعوب الإسلامية : 128 .

[22] . عوامل وأهداف نشأة علم الكلام : 1/106 .

[23] . البيّنة : 7 .

[24] . الدر المنثور للسيوطي: 6/376.

[25] . روضات الجنات للخونساري : 88 .

[26] . نظرية الإمامة : 31 .

[27] . مقدمة في تاريخ صدر الإسلام : 72 .

[28] . عوامل وأهداف نشأة علم الكلام : 1/105 .

[29] . المصدر السابق: 106 .

[30] . حياة محمّد (صلى الله عليه وآله): 104.

[31] . الشعراء : 214 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page