• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

فصل: في عبادته وزهده

واعلم انّه إذا نظرت إلى العبادة وجدته أعبد الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، منه تعلّم الناس صلاة الليل والتهجّد والأدعية المأثورة، ولقد كان يُفرش له بين الصفَّين والسهام تتساقط حوله، وهو لا يلتفت عن ربّه ولا يغيّر عادته [ولا يفتر عن عبادته](2).
وكان إذا توجّه إلى الله تعالى توجّه بكلّيته، وانقطع من الدنيا نظره وما فيها حتّى لا يبقى يدرك الألم، لأنّهم كانوا إذا أرادوا اخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتّى يصلّي، فإذا اشتغل بالصلاة وأقبل على الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ به، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك فيقول لولده الحسن عليه السلام: إن هي إلاّ فعلتك يا حسن ولم يترك صلاة الليل قط حتّى في ليلة الهرير، وكان عليه السلام يوماً في حرب صفّين مشتغلا بالحرب والقتال وهو مع ذلك بين الصفَّين يراقب الشمس فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ قال عليه الصلاة والسلام: أنظر إلى الزوال حتّى نصلّي(3) فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت صلاة؟ إنّ عندنا لشغلا بالقتال عن الصلاة فقال عليه السلام: على ما نقاتلهم؟ إنّما نقاتلهم على الصلاة(4).
وبالجملة انّ العبادات الخمس:الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد، فقد أتى بها جميعاً، وبلغ الغاية في كلّ واحد منها، ومقاماته العظيمة في التهجّد والخشوع والخوف من الله تعالى لم يسبقه إليها سوى رسول الله(5) حتّى أنّه عليه السلام قال:

ولله درّ القائل:
يسقي ويشرب لا تلهيه نشوته         عن النديم ولا يلهو عن الكأس
أطاعه سكره حتّى تمكّن من             فعل الصحاة فهذا أفضل الناس
عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان فقال أبو الدرداء:يا قوم ألا اُخبركم بأقلّ القوم مالا، وأكثرهم ورعاً وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟ فقالوا: من؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه، ثمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيت وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا، شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبَعُدَ عليّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول: "إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك"فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا به الله ناجاه أن قال: "إلهي اُفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي"، ثمّ قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا اُذن فيه بالنداء" ثمّ قال: "آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة ملهبات لظى.
قال: ثمّ أنعم في البكاء، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، اُوقظه لصلاة الفجر، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" مات والله عليّ بن أبي طالب، قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصّته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه حتّى أفاق ونظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ممّا بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء فكيف لو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله.
الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، فإنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربي.
أفلا تنظروا إلى ما وصفه ضرار بن ضمرة الليثي من مقاماته عليه السلام حيث(6) دخل على معاوية فقال له: صف لي عليّاً، فقال: أولا تعفيني من ذلك؟ فقال: لا أعفيك، فقال: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق(7) الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه، ويحاسب(8) نفسه، ويناجي ربّه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكنّا مع دنوّه منّا وقربنا منه لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن(9) مثل اللؤلؤ المنظوم.
يعظم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله(10) وغارت نجومه وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم(11) ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا دنية أبي تعرّضت؟ أم بي تشوّقت؟ هيهات هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد بنتك(12) ثلاثاً لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد فوكفت دموع معاوية على لحيته، فنشفها بكمّه، واختنق القوم بالبكاء، ثمّ قال: كان والله أبو الحسن كذلك، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟ قال: صبر من ذبح واحدها(13) على صدرها، فهي لا ترقئ عبرتها، ولا تسكن حرارتها، ثمّ قام فخرج وهو باك، فقال معاوية: أما انّكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني عليّ مثل هذا الثناء، فقال بعض من كان حاضراً: الصاحب على قدر صاحبه(14) وروي أنّه عليه السلام لمّا كان يفرغ من الجهاد يتفرّغ لتعليم الناس والقضاء بينهم، فإذا تفرّغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيده، وهو مع ذلك ذاكراً لله تعالى جلّ جلاله(15) وروى الحكم بن مروان، عن جبير بن حبيب قال: نزل بعمر بن الخطاب نازلة قام لها وقعد وترنح وتقطر، ثمّ قال: معاشر المهاجرين ما عندكم فيها؟ قالوا:يا عمر أنت المفزع والمهرع، فغضب ثمّ قال:{يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً}(16) أما والله أنا وإيّاكم لنعرف أين نجدتها والخبير بها قالوا: كأنّك أردت ابن أبي طالب؟ قال: وأنّى يعدل بي عنه، وهل لقحت حرّة بمثله، قالوا: فلو بعثت إليه، قال: هيهات، هناك [شيخ من بني](17) هاشم ولحمة من الرسول وأثرة من علم يؤتى لها ولا تأتي، امضوا إليه. فأفضوا إليه وهو في حائط له عليه ثياب يتوكّأ على مسحاته وهو يقول:{أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منيّ يُمنى ثمّ كان علقةً فخلق فسوّى}(18) ودموعه تهمل على خدّيه، فأجهش القوم لبكائه ثمّ سكن وسكنوا وسأله عمر عن مسألته، فأصدر جوابها، فلوى عمر يديه ثمّ قال: أما والله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك، فقال له: يا أبا حفص عليك من هنا ومن هنا(19) انّ يوم الفصل كان ميقاتاً، فانصرف وقد أظلم وجهه، كأنّما ينظر من ليل(20).
وقد عرفت قول النبي صلّى الله عليه وآله: لمبارزة عليّ بن أبي طالب عمر بن عبدود العامري أفضل من عمل اُمّتي إلى يوم القيامة(21).
ولقد نقل المؤرّخون انّ مبارزاته كانت اثنين وسبعين مبارزة، فإذا فكّر العاقل انّ قسماً واحداً من أصل اثنين وسبعين قسماً من أصل خمسة أقسام وهي العبادات الخمس  من أصل قسمين ـ وهي العمل والعلم لأنّ العلم أيضاً عمل نفساني ـ أفضل من عمل الاُمّة إلى يوم القيامة عرف من ذلك أنّه مجهول القدر، وإذا كان أعبد الناس كان أفضلهم، فتعيّن أن يكون هو الإمام بعد النبي صلّى الله عليه وآله.

***********
1- كشف الغمة 1: 111 عن فضائل الصحابة للبيهقي; ومناقب الخوارزمي: 83 ح70.
2- أثبتناه من "ج".
9- في "ب": اُصلّي.
4- عنه البحار 83: 23 ح43.
5- روى المجلسي في البحار 41: 11 ح1
6- في "ج": حين.
7- في "ج": تنطلق.
8- في "ج": يخاطب.
9- في "ج": ظهر أسنانه.
10- السدول جمع السدل، شبّه ظلم الليل بالأستار المسدولة.
11- تململ: تقلّب، والسليم: من لدغته الحيّة.
12- في "ب" و "ج": طلّقتك.
13- في "ج": ولدها.
14- عنه البحار 41: 120 ح28; ونحوه كنز الفوائد: 270.
15- عنه مستدرك الوسائل 13: 25 ح14636.
16- الأحزاب: 70.
17- أثبتناه من "ج".
18- القيامة: 36-38.
19- في "ب": هاهنا.
20- البحار 40: 122 ح12; عن الفضائل لابن شاذان: 136.
21- راجع البحار 36: 165 ح147.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page