• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

فصل: في جهاده عليه السلام

ومن فضائله عليه السلام انّه كان قويّ البأس رابط الجأش، سيف الله وكاشف الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله، تعجبت الملائكة من حملاته على المشركين، ابتلى بجهاد الكفّار والمارقين والقاسطين والناكثين وروى أحمد بن حنبل في مسنده قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يبعثه بالراية جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله،لا ينصرفا حتّى يُفتح له(1) ونقل الواقدي(2) قال:انّ علياً عليه السلام وطلحة والعباس افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال عليّ عليه السلام: لا أدري ما تقولان، لقد صلّيت ستّة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى عليهم:{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله}إلى قوله: {أجر عظيم}(3)(4).
فصدّق الله علياً عليه السلام في دعواه وشهد له بالايمان والمهاجرة والجهاد والزكاة، ورفع قدره بما نزل فيه وأعلاه، وكم له من المزايا التي لم يبلغها أحد سواه وأمّا مواقف جهاده، ومواطن جدّه واجتهاده فمنها ما كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومنها ما تولاّه على انفراده، أمّا الاُولى وهي الغزوات التي كانت أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله فكثير يطول بذكرها الكتاب ولنذكر منها خمس غزوات من مشاهرها وأعلاها، ومن أعظمها وأقواها.

الاُولى: غزاة بدر.
وبدر اسم موضع بين مكة وبين المدينة، وكانت الواقعة عنده وهذه الغزاة هي الداهية العظمى التي هدّت قوى الشرك، وقذفت طواغيته في قليب الهلكة، ودوّخت مردة الكفّار، وسقتهم كاسات البوار، وهي أوّل حرب كان به الامتحان، وأراد فريق من المسلمين التأخّر عن النبي صلّى الله عليه وآله لخوفهم وكراهيتهم لها على ما نطق به القرآن، حيث يقول جلّ اسمه:{كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وانّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحقّ بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}(5).
فيومها اليوم الذي لم يأت الدهر بمثله وكان فضل الله فيه من أحسن فضله، إذ أنزل فيه الملائكة الكرام لنصر رسوله تفضيلا له على جميع رسله، وعليّ عليه السلام فارس تلك الملحمة، فما تعد الأسد الغضاب(6) بشسع نعله، ويسعر تلك الحروب العوان، ينصب على الأعداء انصباب السحاب ووبله، ونار سطوته تتسعّر تسعّر النار في دقيق الغضا وجزله وهذه الغزاة كانت على رأس ثمانية عشر شهراً من قدومه صلّى الله عليه وآله المدينة، وعمر عليّ عليه السلام سبع وعشرين سنة، وكان من جملة خبرها انّ المشركين حضروا بدراً مصرّين على القتال، مشتهرين بكثرة الأموال والأبطال والعدد والرجال، والمسلمون إذ ذاك نفر يسير ضعيف  كما قال تعالى:{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة}(7).
قال بعضهم:سمعت علياً عليه السلام يقول:لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس إلاّ المقداد بن الأسود الكندي، لقد كنّا ليلة بدر وما فينا إلاّ من نام سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فإنّه كان في أصل شجرة يدعو ويصلّي إلى الصباح(8) وروي أنّه لما أصبح الناس يوم بدر اصطفّت قريش، أمامها عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا محمد اخرج لنا أكفّاءنا من قريش، فبدر إليهم ثلاثة من شبّان الأنصار، فمنعهم النبي صلّى الله عليه وآله وقال لهم: إنّ القوم دعوا الأكفّاء منهم.
ثمّ أمر علياً عليه السلام بالبراز إليهم، وبعث معه حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحرث رحمهما الله، فلمّا اصطفّوا قال مشركوا قريش: من أنتم؟ فانتسبوا إليهم، ونشبت بينهم الحرب، فوقف عليّ عليه السلام للمبارزة(9) فبارزه الوليد بن عتبة وكان شجاعاً جريئاً، فاختلفا بينهما ضربتين، فأخطأت ضربة الوليد، واتّقى بيده اليسرى ضربة(10) أمير المؤمنين عليه السلام فأبانها وروي أنّه عليه السلام كان يذكر بدراً وقتله الوليد، فقال في حديثه: كأنّي أنظر إلى وميض خاتمه في شماله، ثمّ ضربته اُخرى فصرعته وسلبته، فرأيت به درعاً من خلوق، فعلمت أنّه قريب عهد بعرس(11).
ثمّ بارزه العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه الناس لأنّه كان هولا عظيماً فقتله، وقال عمر بن الخطاب: مررت بالعاص بن سعيد يوم بدر فرأيته يبحث برجله للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فهبته ورعت(12) عنه، فقال لي: إلى أين يا ابن الخطّاب؟ فقال له عليّ عليه السلام: دعه وخذني إليك يا ابن العاص، قال عمر: فاختلفا ضرباً فما برحت من مكاني حتّى قتله عليّ عليه السلام(13).

إذا اشتبكت دموع في خدود        تبيّن من بكى ممّن تباكى
ثمّ برز إليه حنظلة بن أبي سفيان فلمّا دنا منه ضربه أمير المؤمنين عليه السلام ضربة بالسيف أسالت عينيه، ولزم الأرض قتيلا ثمّ برز إليه طعمة بن عدي فقتله، ثمّ برز إليه نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، وكانت تعظّمه وتقدّمه وتطيعه، وكان قد قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكّة في قرن واحد، وأوثقهما بحبل وعذّبهما يوماً إلى الليل حتّى سئل في أمرهما.فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لما عرف بحضور نوفل بدراً: اللّهمّ اكفني نوفلا، فقصده أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ ضربه بالسيف، فنشب في بيضته، فانتزعه ثمّ ضرب به ساقه وكانت درعه مشمرّة فقطعها، ثمّ أجهز عليه فقتله، فلمّا عاد إلى النبي صلّى الله عليه وآله سمعه يقول: من له علم بنوفل؟ فقال علي عليه السلام: أنا قتلته يا رسول الله، فكبّر النبي صلّى الله عليه وآله وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي(14) ولم يزل عليّ عليه السلام يقتل واحداً بعد واحد من أبطال المشركين حتّى قتل بانفراده نصف المقتولين، وقتل المسلمون كافة وثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين النصف الآخر.
وشاركهم عليّ عليه السلام فيه أيضاً ثمّ رمى رسول الله صلّى الله عليه وآله باقي القوم بكفّ من الحصى وقال: شاهت الوجوه، فانهزموا جميعاً.
فهذه الغزاة العظمى على ما شرحناه كانت عبارة عنه عليه السلام، وما أحقّه بقول القائل:
لك خلّتان(15) مسالماً ومحارباً           بالعدل منك وسيفك المخضوب
فرّقت ما بين الذوائب والطلا               وجمعت ما بين الطلا والذيب

الثانية: غزاة اُحد
وكانت في شوال، ولم يبلغ عمر أمير المؤمنين عليه السلام تسعاً وعشرين سنة واُحد جبل عظيم قريب من المدينة، وكانت هذه الغزاة عنده، وسببها أنّ قريشاً لمّا كسروا يوم بدر، وقُتل بعضهم واُسر بعضهم، جزعوا لقتل رؤسائهم فتجمّعوا وبذلوا الأموال وجيّشوا الجيوش، وتولّى ذلك أبو سفيان، وقصدوا النبي صلّى الله عليه وآله والمؤمنين بالمدينة فخرج النبي صلّى الله عليه وآله بالمسلمين، ودخل النفاق والشك والريب بين جماعة منهم، فرجع قريب من ثلثهم إلى المدينة، وبقى صلّى الله عليه وآله في سبعمائة من المسلمين، كما حكاه الله سبحانه وتعالى:{وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتاتل والله سميع عليم}(16) الآيات.
وصفّ النبي صلّى الله عليه وآله المسلمين صفّاً طويلا، وجعل على الشعب خمسين رجلا من الأنصار، وأمّر عليهم رجلا منهم وقال لهم: لا تبرحوا من مكانكم وإن قُتلنا عن آخرنا فإنّما نؤتى من موضعكم واشتدّت الحرب ودارت رحاها ولواء المسلمين بيد عليّ عليه السلام، وهو قدّام النبي صلّى الله عليه وآله يضربهم بسيفه بين يديه، ولواء الكفّار بيد طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار، وكان يُسمّى كبش الكتيبة، فتلاقى هو وعلي عليه السلام وتقاربا، واختلفت بينهما ضربتان، فضربه عليّ عليه السلام على مقدّم رأسه فبدرت عينه وصاح صيحة عظيمة، وسقط اللواء من يده، وأخذه آخر من بني عبد الدار فقتله.ولم يزل عليه السلام يقتل واحداً بعد واحد حتّى قتل منهم سبعة، ثمّ أخذ اللواء عبدٌ لهم اسمه صواب، وكان من أشدّ الناس، فضرب عليّ عليه السلام يده [اليمنى](17) فقطعها فأخذ اللواء بيده اليسرى فضربه عليها فقطعها، فأخذ اللواء على صدره وجمع ساعديه عليه ويداه مقطوعتان، فضربه عليّ عليه السلام على رأسه فسقط صريعاً وانهزم القوم، وأكبّ المسلمون على الغنائم.
ورأى أصحاب الشعب الناس يغتنمون، فخافوا فوات الغنيمة، فاستأذنوا رئيسهم في أخذ الغنائم فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أمرني أن لا أبرح من موضعي(18) هذا فقالوا: إنّما قال ذلك وهو لا يدري انّ الأمر يبلغ ما ترى، ومالوا إلى الغنائم وتركوه.فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله، وجاء من ظهر النبي صلّى الله عليه وآله، فنظر إليه وقد حفّ به أصحابه، فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون، فحملوا عليه حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجارة وجعل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله يقاتلون عنه حتّى قُتل منهم سبعون رجلا، وانهزم الباقون، وبقي النبي صلّى الله عليه وآله وما زال من موضعه شبراً واحداً، وباشر القتال بنفسه، ورمى صلّى الله عليه وآله حتّى فنيت نباله، وكان تارة يرمي بقوسه وتارة يرمي بالحجارة وأصاب عتبة بن أبي وقاص بشفتيه ورباعيته، وضرب ابن قميّة على كريمته الشريفة، فلم يصنع سيفه شيئاً إلاّ وهن الضربة بثقل السيف، ثمّ وقع صلّى الله عليه وآله في حفرة مغشيّاً عليه وحجب الله أبصار المشركين عنه، وصاح صائح بالمدينة: قُتل رسول الله صلّى الله عليه وآله، فاختلفت(19) القلوب وخرجت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها صارخة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: لمّا انهزم الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لحقني من الجزع ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي المشركين، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله ليفر، وما رأيته في القتلى وأظنّه رفع من بيننا إلى السماء.
فكسرت جفن سيفي وقلت: لاُقاتلنّ به حتّى اُقتل، وحملت على القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول الله صلّى الله عليه وآله قد وقع مغشيّاً عليه، فنظر إليّ وقال: ما فعل الناس يا عليّ؟ فقلت: كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر وأسلموك إلى عدوّك، فنظر إلى كتيبة قد أقبلت فقال: ردهم عنّي، فحملت عليهم أضربهم يميناً وشمالا حتّى قتلت منهم هشام بن اُميّة المخزومي وانهزم الباقون.وأقبلت كتيبة اُخرى فقال لي صلّى الله عليه وآله: احمل على هذه، فحملت عليهم وقتلت منهم عمر بن عبد الله الجمحي وانهزموا أيضاً، وجاءت اُخرى فحملت عليها وقتلت منها بشر بن مالك العامري وانهزموا.
ولم يزل عليه السلام يُقاتل في ذلك اليوم ويفرّق جموع القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أصابه في رأسه ووجهه وبدنه سبعون جراحة وهو قائم وحده بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله لا يغفل عنه طرفة عين، فقال له صلّى الله عليه وآله: يا عليّ أما تسمع مديحك في السماء، إنّ ملكاً اسمه رضوان ينادي بين الملائكة: لا سيف إلاّ ذو الفقار  ولا فتى إلاّ عليّ (20)
ورجع الناس إلى النبي صلّى الله عليه وآله، وكان جبرئيل عليه السلام يعرج إلى السماء في ذلك اليوم وهو يقول: "لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتى إلاّ عليّ" وسمعه الناس كلّهم، وقال جبرئيل عليه السلام: يا رسول الله قد عجبت الملائكة من حسن مواسات أمير المؤمنين عليّ لك بنفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وما يمنعه من ذلك وهو منّي وأنا منه، فقال جبرئيل عليه السلام: وأنا منكما(21) وذكر أهل السير قتلى اُحد من المشركين،فكان جمهورهم مقتولين بسيف أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح له وسلامة رسول الله صلّى الله عليه وآله من المشركين بسببه(22) ورجوع الناس إلى النبي صلّى الله عليه وآله بمقامه وثباته يذبّ عنه بسيفه دونهم، ويبذل نفسه العزيزة في نصرته، وتوجّه العتاب من الله تعالى إلى جميعهم لموضع الهزيمة، والملائكة في السماء مشغولون بمدحه، متعجّبون من مقامه وثباته وسطوته، فصلّى الله على مجهول القدر.

الثالثة: غزاة الأحزاب
وهي غزاة الخندق،وبيانها انّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى أبي سفيانلعلمهم بعداوته للنبي صلّى الله عليه وآله وسألوه المعونة، فأجابهم وجمع لهم قريشاً وأتباعها من كنانة وتهامة وغطفان وأتباعها من أهل نجد، واتّفق المشركون مع اليهود، وأقبلوا بجمع عظيم، ونزلوا من فوق المسلمين ومن أسفلهم كما قال الله تعالى:{إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}(23).
فاشتدّ الأمر على المسلمين وكان سلمان رضي الله عنه قد أشار بحفر الخندق فَحُفِرَ وخرج النبي صلّى الله عليه وآله بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف والمشركون مع اليهود يزيدون على عشرين ألفاً، وجعلوا الخندق بينهم وبين المسلمين وركب عمرو بن عبدود ومعه فوارس من قريش وأقبلوا حتّى وقفوا على أضيق مكان في الخندق، ثمّ ضربوا خيلهم فاقتحمته وصاروا بين الخندق والمسلمين، فخرج إليهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال عمرو: هل من مبارز؟ فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله: إنّه عمرو، فسكت فقال عمرو: هل من مبارز؟ فقال عليّ عليه السلام: أنا له يا رسول الله، فقال: إنّه عمرو، فسكت، ونادى عمرو ثالثة فقال علي عليه السلام: أنا له يا رسول الله، فقال: إنّه عمرو، فسكت، وكلّ ذلك يقوم عليّ عليه السلام فيأمره النبي صلّى الله عليه وآله بالثبات انتظاراً لحركة غيره من المسلمين، وكأنّ على رؤوسهم الطير لخوفهم من عمرو وطال نداء عمرو بطلب المبارزة، وتتابع قيام أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا لم يقدم أحد من الصحابة قال النبي صلّى الله عليه وآله: اُدن منّي يا عليّ، فدنا منه، فنزع عمامته من رأسه وعمّمه بها وأعطاه سيفه وقال: امض لشأنك، ودعا له ثمّ قال: برز الايمان كلّه إلى الشرك كلّه.
فسعى عليّ عليه السلام نحو عمرو حتّى انتهى إليه، فقال له: يا عمرو إنّك كنت تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلاّ قبلتها أو واحدة منها، قال: أجل، قال عليه السلام: إنّي أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وأن تسلم لربّ العالمين.
قال: يا ابن أخي أخّر هذا عنّي فقال عليه السلام: أما أنّها خير لك لو أخذتها، ثمّ قال عليه السلام: هاهنا اُخرى، قال: وما هي؟ قال عليه السلام: ترجع من حيث أتيت، قال: لا، تحدّث(24) نساء قريش عنّي بذلك أبداً، قال عليه السلام: فهاهنا اُخرى، قال: وما هي؟ قال عليه السلام: اُبارزك وتبارزني.
فضحك عمرو وقال: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أحداً من العرب يطلبها منّي، وأنا أكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك نديماً لي، فقال عليه السلام: وأنا كذلك، ولكنّي احبّ أن أقتلك ما دمت أبيّاً للحق فحمى عمرو ونزل عن فرسه وضرب وجهه حتّى نفر، وأقبل على أمير المؤمنين عليه السلام مصلتاً سيفه وبدره بضربة، فنشب السيف في ترس عليّ عليه السلام، فضربه أمير المؤمنين عليه السلام(25).
قال جابر الأنصاري رحمه الله: وتجاولا وثارت بينهما فترة، وبقيا ساعة طويلة لم أرهما ولا سمعت(26) لهما صوتاً ثمّ سمعنا التكبير فعلمنا أنّ علياً عليه السلام قد قتله، وسرّ النبي صلّى الله عليه وآله سروراً عظيماً لما سمع صوت أمير المؤمنين عليه السلام بالتكبير، وكبّر وسجد لله تعالى شكراً، وانكشف الغبار وعبر أصحاب عمرو الخندق، وانهزم عكرمة بن أبي جهل وباقي المشركين فكانوا كما قال الله تعالى:{وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً}(27) ولما قتله عليّ عليه السلام احتزّ رأسه وأقبل نحو النبي صلّى الله عليه وآله ووجهه يتهلل،فألقى الرأس بين يدي النبي صلّى الله عليه وآله، فقبّل النبي صلّى الله عليه وآله رأس عليّ عليه السلام ووجهه، وقام أكابر الصحابة فقبّلوا أقدامه عليه السلام، وقال له عمر بن الخطاب: هلاّ سلبته درعه فما لأحد درع مثلها؟ فقال: إنّي استحييت أن أكشف سوأة ابن عمّي(28) وكان ابن مسعود يقرأ من ذلك اليوم كذا: "وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قوياً عزيزاً".
وقال النبي صلّى الله عليه وآله ذلك اليوم في حقّه عليه السلام: لمبارزة عليّ عمرو بن عبدود العامري أفضل من عبادة اُمّتي إلى يوم القيامة.
وقال ربيعة السعدي:أتيت حذيفة بن اليمان فقلت:يا أبا عبد الله أنا لنتحدّث عن عليّ عليه السلام ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة:إنّكم تفرطون في عليّ فهل أنت محدّثي(29) بحديث؟
فقال حذيفة: يا ربيعة وما تسألني عن عليّ عليه السلام والذي نفسي بيده لو وضع جميع أعمال اُمّة(30) محمد صلّى الله عليه وآله في كفّة ميزان منذ بُعث محمد صلّى الله عليه وآله إلى يوم يقوم الناس، ووضع عمل عليّ عليه السلام في الكفّة الاُخرى(31) لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة: هذا الذي لا يُقام له ولا يُقعد له فقال حذيفة: يا لكع وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله يوم عمرو بن عبدود وقد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلّهم ما خلا علياً عليه السلام، فإنّه برز إليه فقتله والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله إلى يوم القيامة(32).
وقالت اُخت عمرو وقد نُعي إليها أخوها:من ذا الذي اجترأ عليه؟ فقالوا: عليّ بن أبي طالب، فقالت:لم يعد يومه(33) إلاّ على يد كفو كريم،لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيّته على يد كريم قومه، وما سمعت أفخر من هذا يا بني عامر، وأنشدت:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله             لكنت أبكي عليه دائم الأبد
لكن قاتله من لا نظير له                 وكان يُدعى قديماً بيضة البلد (34)

الرابعة: غزاة خيبر
وكان الفتح فيها بأمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله حاصر اليهود بخيبر بضعاً وعشرين ليلة، ففي بعض الأيّام فتحوا الباب وكان قد خندقوا على أنفسهم خندقاً، وخرج مرحب بأصحابه يتعرّض للحرب فدعا النبي صلّى الله عليه وآله أبا بكر وأعطاه الراية في جمع من المسلمين والمهاجرين فانهزم، فلمّا كان من الغد أعطاها عمر، فسار بها غير بعيد، فأقبل عليه مرحب ثمّ انهزم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: آتوني بعليّ، فقيل: إنّه أرمد العين، قال: أرونيه تروني رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار(35).
فجاءه عليّ عليه السلام فقال له النبي صلّى الله عليه وآله: ما تشتكي يا عليّ؟ قال: رمد ما أبصر معه وصداع برأسي، فقال: اجلس وضَعْ رأسك على فخذي، ثمّ تفل صلّى الله عليه وآله في يده ومسح بها عينيه ورأسه ودعا له، ففتحت عيناه وسكن الصداع وأعطاه الراية وقال له: امض بها جبرئيل معك والنصر أمامك فمضى عليّ عليه السلام حتّى أتى الحصن، فخرج مرحب وعليه درع ومغفر وحجر قد نقبه(36) مثل البيضة على رأسه، فاختلفا ضربتين، فضربه عليّ عليه السلام فقدّ الحجر والمغفر ورأسه حتّى وقع السيف على أضراسه وخرّ صريعاً، وانهزم من كان مع مرحب وأغلقوا باب الحصن، وعالجه جماعة كثيرة من المسلمين فلم يتمكّنوا من فتحه.
فجاء أمير المؤمنين عليه السلام فقلعه وأخذه وجعله(37) جسراً على الخندق حتّى عبر المسلمون عليه، فظفروا بالحصن وأخذوا الغنائم، ولما انصرفوا دحا به(38) بيمناه سبعين ذراعاً، وكان يغلقه عشرون رجلا، ورام المسلمون حمل ذلك فلم ينقله(39) إلاّ سبعون رجلا، وقال عليه السلام: والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة، ولكن بقوّة ربّانيّة(40).

الخامسة: غزاة [ذات] السلسلة
وخبر هذه الغزاة انّه جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله انّ جماعة من العرب اجتمعوا بوادي الرمل على أن يبيّتوك بالمدينة، فأمر بالصلاة جامعة فاجتمعوا وعرّفهم وقال: من لهم؟ فابتدرت جماعة من أهل الصفة وغيرهم عدّتهم ثمانون وقالوا: نحن فَوَلِّ(41) علينا من شئت.
فاستدعى أبا بكر [وقال:امض](42) فمضى وتبعه القوم، فهزموه وقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين، وانهزم أبو بكر وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فبعث عمر فهزموه أيضاً، فساء النبي صلّى الله عليه وآله ذلك، فقال عمرو بن العاص: ابعثني يا رسول الله فإنّ الحرب خدعة ولعلّي أخدعهم،فأنفذه مع جماعة فلمّا صاروا(43) إلى الوادي خرجوا إليه، فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة ثمّ دعا أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ بعثه إليهم ودعا له وخرج معه مشيّعاً له إلى مسجد الأحزاب، وأنفذ معه جماعة منهم أبو بكر وعمر وعمرو بن العاص، فسار بهم نحو العراق منكبّاً عن الطريق حتّى ظنّوا انّه يريد بهم غير ذلك الوجه، ثمّ أخذهم(44) على طريق غامضة، واستقبل الوادي من فمه.
وكان عليه السلام يسير الليل ويكمن النهار،فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يخفوا حسّهم(45) وأوقفهم مكاناً وتقدّم أمامهم ناحية، فلمّا رأى عمرو بن العاص فعله لم يشك في كون الفتح له، فخوّف أبا بكر وقال: إنّ هذه أرض ذات ضباع وذئاب، كثيرة الحجارة، وهي أشد علينا من بني سليم، والمصلحة أن نعلوا الوادي وأراد فساد الحال على أمير المؤمنين عليه السلام حسداً له وبغضاً، وأمره أن يقول ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام.
فقال له أبو بكر فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام بحرف واحد فرجع أبوبكر وقال: والله ما أجابني بحرف واحد، فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب: امض أنت إليه فخاطبه، ففعل فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عمرو: أنضيّع أنفسنا؟! انطلقوا بنا نعلوا الوادي،فقال المسلمون: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله أمرنا أن لا نخالف علياً، فكيف نخالفه ونسمع قولك؟فما زالوا حتّى طلع الصبح(46) فكبس القوم وهم غافلون، فأمكنه الله منهم ونزل جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله بسورة
{والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً فالمغيرات صبحاً}(47) السورة قسماً منه تعالى بخيل أمير المؤمنين عليه السلام وعرّفه الحال.
ففرح النبي صلّى الله عليه وآله وبشّر أصحابه بالفتح وأمرهم باستقبال أمير المؤمنين عليه السلام، فخرجوا والنبي صلّى الله عليه وآله يقدمهم، فلمّا رأى أمير المؤمنين عليه السلام النبي صلّى الله عليه وآله ترجّل عن فرسه، فوقف بين يديه وقال النبي صلّى الله عليه وآله: لولا انّني أشفق أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت اليوم فيك مقالا لا تمرّ بملأ منهم إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك [للبركة](48) اركب فإنّ الله ورسوله عنك راضيان(49) وسمّيت هذه الغزاة ذات السلاسل لأنّه أسّر منهم وقتل منهم، وأتى بالاُسارى منهم مكتفين بالحبال كأنّهم في السلاسل.
وأمّا الثاني: وهو مواطن جهاده بعد الرسول صلّى الله عليه وآله، فإنّه ابتلى وامتحن بحرب الناكثين والمارقين والقاسطين كما أمره(50) النبي صلّى الله عليه وآله وبيان هذه الحروب على سبيل الاختصار انّه بعد أن آل الأمر إليه صلوات الله عليه وبايعه المسلمون، نهض طلحة والزبير ونكثا بيعته وانحازا(51) إلى عائشة، واجتمعوا إلى قتاله وتوجّهوا إلى البصرة، وانضمّ إليهم منها خلق كثير وخرجوا ليحاربوه فخرج عليه السلام وردعهم فلم يرتدعوا، ووعظهم فلم ينزجروا(52) بل أصرّوا على القتال، فقاتلهم حينئذ حتّى قتل منهم ستة عشر ألف وسبعمائة وتسعين وكانوا ثلاثين ألفاً، وقُتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ألف وسبعون رجلا وكانوا عشرين ألفاً، وهذه الواقعة تُسمّى واقعة الجمل، وهي حربه للناكثين، وبعد ذلك اشتغل بوقعة صفين وحربه مع معاوية، وهي جهاد القاسطين.
وهذه الحروب من الوقائع العظام التي لا يكاد أن يضطرب لها فؤاد الجليد(53) ويشيب منها رأس اللبيب(54) وبقي عليه السلام يكابد هذه الواقعة ثمانية عشر شهراً، وقتل فيها من الفريقين على أقلّ الروايات مائة ألف وخمسة وسبعون ألفاً من أهل الشام، وعشرون ألفاً(55) من أهل العراق.
وفي ليلة الهرير من هذه الوقعة وهي أشدّ أوقاتها قُتل من الفريقين ستّة وثلاثون ألفاً، وقتل عليه السلام بانفراده خمسمائة وثلاثة وعشرون فارساً(56)
لأنّه كان عليه السلام كلّما قتل فارساً أعلن بالتكبير فاُحصيت تكبيراته في تلك الليلة فكانت خمسمائة وثلاث وعشرين تكبيرة، بخمسمائة وثلاثة وعشرين قتيلا، وعرفوا قتلاه نهاراً بضرباته فإنّها كانت على وتيرة واحدة، إن ضرب طولا قدّ أو عرضاً قطّ، وكانت كلّها مكواة وروي أنّه عليه السلام في تلك الليلة فتق درعه لثقل ما كان يسيل من الدم على ذراعه(57) وفي صبيحة هذه الليلة انتظم أمر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ولاحت لهم امارات الظفر ولاحت لهم علامات النصر، وزحف مالك الأشتر حتّى ألجأهم إلى معسكرهم، ولم يبق إلاّ أخذهم وقبض معاوية فلما رأى عمرو بن العاص الحال على هذه قال لمعاوية:نرفع المصاحف وندعوهم إلى كتاب الله، فقال:أصبت فرفعوها فرجع القرّاء من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام عن القتال وأقبلوا إليه وهم أربعة آلاف فارس كأنّهم السد من الحديد، وقالوا: ابعث ردّ الأشتر عن قتال هؤلاء.
فقال لهم: إنّها خديعة ابن العاص وشيطنته وهؤلاء ليسوا من رجال القرآن، فلم يقبلواوقالوا: لابدّ أن تردّالأشتر وإلاّقتلناك أو سلّمناك إليهم، فأنفذ عليه السلام يطلب الأشتر فقال: قد أشرفت على الفتح وليس هذا وقت طلبي، فعرّفه اختلال أصحابه، فرجع وعنّف القرّاء وسبّهم وسبّوه، وضرب وجه دوابهم فلم يرجعوا ووضعت الحرب أوزارها، فبعث إليهم أمير المؤمنين عليه السلام وقال لهم: لماذا رفعتم المصاحف؟ قالوا: للدعاء إلى العمل بمضمونها، وأن نقيم حَكَماً وتقيموا حَكَماً ينظران في هذا الأمر، ويقرّان الحق مقرّه، فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام تعجباً وقال: يا ابن أبي سفيان أنت تدعوني إلى العمل بكتاب الله، وأنا كتاب الله(58) الناطق، إنّ هذا لهو العجب العجيب والأمر الغريب.
ثمّ قال لاُولئك القرّاء: إنّها حيلة وخديعة فعلها ابن العاص لمعاوية، فلم يسمعوا وألزموه بالتحكيم، فعيّن معاوية عمرو بن العاص وعيّن أمير المؤمنين عبد الله بن العباس، فلم يوافقوا، قال: فالأشتر، فأبوا واختاروا أبا موسى الأشعري، فقال عليه السلام: أبو موسى ضعيف العقل وهواه مع غيرنا، فقالوا: لابدّ منه وحكّموه.
فخدع أبو موسى وحمله على خلع أمير المؤمنين عليه السلام وانّه يخلع معاوية، وأمره بالتقدّم حيث هو أكبر سنّاً، فصعد أبو موسى المنبر وخطب ونزع أمير المؤمنين عليه السلام من الخلافة، ثمّ قال: قم يا عمرو فافعل كذلك فقام وصعد المنبر وخطب وأقرّ الخلافة في معاوية، فشتمه أبو موسى وتلاعنا، فقال علي عليه السلام لأصحابه القرّاء العبّاد الذين غلبوا على رأيه بالتحكيم: ألم أقل لكم انّها حيلة فلا تنخدعوا بها، فلم تقبلوا؟ قالوا لعنهم الله: ما كان ينبغي لك أن تقبل منّا، فأنت قد عصيت الله بقبولك منّا ولاطاعة لمن عصى الله. وخرجوا من الكوفة مصرّين على قتاله، وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب وذا الثدية وقالوا: ما نريد بقتالك إلاّ وجه الله والدار الآخرة، فقرأ عليه السلام:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انّهم يُحسنون صنعاً}(59) ثمّ التحم القتال، فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام حملة واحدة، فلم يكن(60) إلاّ ساعة حتّى قتلوا بأجمعهم سوى تسعة أنفس فإنّهم هربوا، وقتل من أصحاب عليّ عليه السلام تسعة، عدد مَنْ سلم من الخوارج،
وكان عليه السلام قد أخبر من قبل القتال بأنّا نقتلهم(61) ولا يُقتل منّا عشرة ولا يسلم منهم عشرة.
فهذه وقعة النهروان وهو قتاله عليه السلام للخوارج المارقين الذين قال النبي صلّى الله عليه وآله في حقّهم: إنّهم شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأعظمهم عند الله يوم القيامة وسيلة(62)

[الجمع بين الفضائل المتضادّات]
ومن فضائله صلوات الله عليه التي انفرد بها من المشاركة فيها، انّه جمع بين الفضائل المتضادّات، وألّف بين الكمالات المتباينات.

قال صفيّ الدين الحلى المتوفي في المائة الثامنة:
جُمعت في صفاتك الأضداد                        ولهذا عزّت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاع                              فاتك ناسك فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر قط                      ولا حاز مثلهنّ العباد
خُلُق يخجل النسيم من اللطف                 وبأس يذوب منه الجماد
جلّ معناك أن تحيط به                              الشعر ويحصي صفاتك النقاد
فإنّه كان يصوم النهار ويقوم الليل مع هذه المجاهدات التي ذكرناها ويفطر على اليسير من جريش الشعير بغير إدام كما قلناه في صفة زهده، ومن يكون بهذه الحال يكون ضعيف القوّة، وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام كان مع ذلك أشدّ الناس قوّة، وانّه قلع باب خيبر وقد عجز عن حملها سبعون نفراً من المسلمين ورمى بها(63) أذرعاً كثيرة ثمّ أعادها إلى مكانها بعد أن وضعها على الخندق جسراً وكان أكثر الوقت في الحروب يباشر قتل النفوس، ومَنْ هذا حاله يكون شديد اللقاء عبوس الوجه، وأمير المؤمنين عليه السلام كان مع ذلك رحيماً رقيق القلب، حسن الأخلاق، طلق الوجه، حتّى نسبه بعض المنافقين إلى الدعابة لشرف أخلاقه صلوات الله عليه وهذه الفضائل قد وردت من طريق الخصم ولم يمكنه اخفاؤها لشهرتها من طريقهم وطريقنا.

قال الشاعر:
صفات أمير المؤمنين مَنِ اقْتفى                  مدارجها أقنته ثوب ثوابه
صفات جلال ما اغتدى بلبانها                      سواه ولا حلّت بغير جنابه
تفوّقها طفلا وكهلا فأينعت                          معاني المعالي فهي ملئ إهابه
مناقب من قامت به شهدت له                  بازلافه من ربّه واقترابه
مناقب لطف الله أنزلها له                          وشرّف ذكراه بها في كتابه
وجميعها يدلّ على إمامته فكيف من طريق أهل البيت عليهم السلام.
إنّ علماء الشيعة رضوان الله عليهم قد ألّفوا في فضائله والأدلّة على إمامته كتباً كثيرة لا تُحصى من جملتها كتاب واحد من جملة تصانيف الشيخ الأعظم، والبحر الخضم، ينبوع الفضائل والحكم، جمال الإسلام والمسلمين،الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلي قدّس الله نفسه الزكية، سمّاه بكتاب "الألفين" فيه ألف دليل من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ كما قال سبحانه وتعالى وألف دليل من سنّة النبي صلّى الله عليه وآله على إمامة عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ولولم يكن من الدلائل على إمامته سوى العصمة والنص من النبي صلّى الله عليه وآله لكان كافياً، وذلك لأنّ الإمام إذا لم يكن معصوماً لجاز عليه الخطأ فيحتاج إلى امام آخر يردّه عن خطائه، ويلزم التسلسل وهو محال لأنّ السبب المحوج إلى الإمام جواز الخطأ على الاُمّة، فلا يجوز أن يكون الإمام كذلك وإلاّ لانتفت الفائدة من إمامته.
ولأنّ الإمام حافظ للشرع، فلولم يكن معصوماً لجاز عليه الاخلال بشيء من الشرع والزيادة فيه، فلا يكون الشرع محفوظاً.
ولأنّ الإمام مع جواز المعصية عليه امّا أن يتّبع أو لا فإن اتّبع لزم التعاون على الاثم المنفي بقوله تعالى:{ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}(64)أو لا يتّبع فلا يكون إماماً لعدم الفائدة، ومع هذا فالإمامة لطف من الله تعالى، والله تعالى حكيم فلا يختار إلاّ المعصوم، فحينئذ يجب أن يكون الإمام بعد النبي صلّى الله عليه وآله بلا فصل عليّ بن أبي طالب عليه السلام للاجماع على عصمته عليه السلام دون غيره.وأمّا النصّ فكثير تواترت به الشيعة خلفاً عن سلف انّ النبي صلّى الله عليه وآله نصّ عليه بالخلافة نصّاً جليّاً كقوله: أنت الخليفة من بعدي، سلّموا عليه بامرة المؤمنين اسمعوا له وأطيعوا، إلى غير ذلك من الأخبار وأمّا الدلائل على إمامته كقوله تعالى:{يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين}(65) أي المعلوم منهم الصدق ولا يعلم الصدق إلاّ من المعصوم، ولا معصوم ممّن قيل بإمامته إلاّ هو، فتعيّن للإمامة ومنها انّ أبا بكر والعباس كانا كافرين فلا يصلحان للإمامة لقوله تعالى:{لا ينال عهدي الظالمين}(66) فتعيّن هو لها.
ومنها انّ غيره ظالماً لكونه كافراً، والركون إلى الظالم منهيّ عنه لقوله تعالى:{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}(67) فتعيّن هو لها.
ومنها قوله تعالى:{إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}(68)والولي هو الأولى بالتصرّف كقولهم:لا نكاح إلاّ بولي، والسلطان وليّ من لا وليّ له فلا يخلو امّا أن يكون المراد بالذين آمنوا الجمع أو البعض، والأوّل باطل وإلاّ لكان الولي والمولّى عليه واحداً، ولأنّه قيّده بايتاء الزكاة حال الركوع وهو وصف له لم يحصل للكل، فتعيّن أن يكون المراد البعض، وحينئذ يكون هو علياً عليه السلام.لأنّ كلّ من قال المراد بالآية البعض قال انّه عليّ عليه السلام، فلو قيل غيره مع انّ المراد به البعض كان خرقاً للاجماع، ولأنّ علياً عليه السلام مراد بالاجماع، امّا على قول من يقول المراد به الجميع فدخوله ظاهر لأنّه سيّدهم، وأمّا على قول الآخر فظاهر.
ومنها خبر الغدير المشهور وسيأتي، ومنها قوله تعالى:{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم}(69) وليس المراد بذلك الجميع وإلاّ لكان المطاع والمطيع واحداً، فتعيّن أن يكون البعض وهو المعصوم لاستحالة الترجيح من غير مرجح، ولا معصوم سواه فيكون هو المطاع.
ومن أعجب الأشياء انّ علياً عليه السلام ما زال في زمن النبي صلّى الله عليه وآله أميراً والياً مستخلفاً مطاعاً، وولاّه المدينة، واستقضاه على اليمن، وأخذ(70)الراية واللواء في جميع الحروب، ولم يكن في عسكر غاب النبي صلّى الله عليه وآله عنه إلاّ كان هو الأمير عليه، واستخلفه حين هاجر في مكة في قضاء ديونه، وردّ ودائعه، وحمل نسائه وأهله.
وبات على فراشه، وبذل نفسه وقاية له مع انّ غيره لم يستصلح لشيء من ذلك في حياة النبي صلّى الله عليه وآله مع كونه ظهيراً له، وعزل عن تبليغ براءة ولم يستصلح لها، ولما استخلفته عائشة في الصلاة سأل من المصلّي؟ فقيل له: أبو بكر، فخرج متّكئاً على عليّ والفضل بن العباس فزحزحه وصلّى، وكان اُسامة أميراً عليه وعلى عمر وعثمان، ولم يكن عليّ فيه فليت شعري كيف يفوّض إليه أمر الاُمّة مع انّه لم يصلح لتفويض البعض اليسير، ويترك من استصلحه صلّى الله عليه وآله لأكثر الاُمور وشدائد الوقائع؟ انّ هذا لشيء عجاب، أعاذنا الله وإيّاكم من اتّباع الهوى، والاغترار بالأباطيل والمنى بمحمد وآله الطاهرين.
*************
1- مسند أحمد 1: 199 ح1721; عنه كشف الغمة 1: 178; وكشف اليقين: 123.
2- لعلّه الواحدي.
3- التوبة: 19-22.
4- راجع أسباب النزول: 139; عنه نور الأبصار: 157; وكشف الغمة 1: 179; وكشف اليقين: 123; والطرائف: 50; والعمدة: 193; ومناقب ابن شهر آشوب 2: 69.
5- الأنفال: 5-6.
6- في "ب": الغضبان.
7- آل عمران: 123.
8- كشف الغمة 1: 184; وارشاد المفيد: 40; عنه البحار 19: 279 ح17.
9- في "ب": للمحاربة.
10- في "ج": فضربه.
11- كشف الغمة 1: 185; ونور الأبصار: 176; والبحار 19: 279.
12- في "ب": رغبت.
13- كشف الغمة 1: 186; وارشاد المفيد: 42; عنه البحار 19: 281 ح18.
14- كشف الغمة 1: 186; وكشف اليقين: 125; وارشاد المفيد: 42; عنه البحار 19: 281 ح18.
15- في "ج": حالتان.
16- آل عمران: 121.
17- أثبتناه من "ج".
18- في "ج": مكاني.
19- في "ج": فانخلعت.
20- ارشاد المفيد: 46; عنه البحار 20: 86 ح17; ونحوه كشف الغمة 1: 194.
21- ارشاد المفيد: 46; عنه البحار 20: 85 ح17.
22- في "ج": بسبب سيفه.
23- الأحزاب: 10.
24- في بعض المصادر: إذاً تتحدّث، وفي بعضها الاخر: لا تتحدّث.
25- كشف اليقين: 133; وكشف الغمة 1: 203; وارشاد المفيد: 53 و54; عنه البحار 20: 255 ح19.
26- في "ج": لم نرهما ولا سمعنا لهما.
27- الأحزاب: 25.
28- ارشاد المفيد: 55; عنه البحار 20: 257 ح19; وكشف الغمة 1: 205.
29- في "ب" و "ج": تحدّثني.
30- في "ج": أصحاب.
31- في "ج": الثانية.
32- الارشاد للمفيد: 54; عنه البحار 20: 256 ح19; وكشف الغمة 1: 204.
33- في "ب" و "ج": موته.
34- الارشاد للمفيد: 57; عنه البحار 20: 260 ح19; وكشف الغمة 1: 206.

35- قال حسّان بن ثابت في ذلك:
وكان عليّ أرمد العين يبتغي                          دواءً فلمّا لم يحسّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة                            فبورك مرقيّاً وبورك راقيا
وقال ساُعطي الراية اليوم صارماً                  كميّاً محبّاً للرسول مواليا
يحبّ إلهي والإله يحبّه                                   به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البريّة كلّها                          عليّاً وسمّاه الوزير المواخيا
36- في "ج": ثقبه.
37- في "ج": اتخذه.
38- في "ج": رمى باب الحصن بيمناه.
39- في "ج": فلم يستطع قلبه.
40- راجع البحار 102: 138.
41- في "ج": أمّر.
42- أثبتناه من "ج".
43- في "ب": صعدوا.
44- في "ج": اتّجه بهم.
45- في "ج": يخفوا أصواتهم.
46- في "ج": الفجر.
47- سورة العاديات.
48- أثبتناه من "ج".
49- ارشاد المفيد: 86; عنه البحار 21: 77 و79 ح5; وكشف الغمة 1: 230.
50- في "ج": أخبره.
51- في "ب": صارا.
52- في "ب" و "ج": فلم يتّعظوا.
53- في "ج": الجنين.
54- في "ج": الوليد.
55- في "ج": خمسة وعشرون ألفاً.
56- في "ب": قتيلا.
57- لاحظ كشف الغمة 1: 255.
58- في "ج": كتابه.
59- الكهف: 103 و 104.
60- في "ج": فلم تمض.
61- في "ب": نقاتلهم.
62- راجع البحار 33: 331 ح577; عن كشف الغمة 1: 158.
63- في "ب": دحا بها.
64- المائدة: 2.
65- التوبة: 119.
66- البقرة: 124.
67- هود: 113.
68- المائدة: 55.
69- النساء: 59.
70- في "ج": وأعطاه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page