الصفحة (111)
ترى لماذا كتب الله (عزّ وجلّ) عن يمين العرش بأنّ الحسين (عليه السّلام) (مصباح هدى وسفينة نجاة)(1) ؟ وكيف جعل السبط الشهيد بمثابة سفينة نوح مَن ركبها نجا ومَن تخلف عنها هلك ؟ ولماذا هذه الكرامة البالغة لشخص أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) عند الله , وأنه ـ كما جاء في الحديث ـ : (( إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض ))(2) , أي إنّ أهل السماء أعرف بالحسين وكرامته من أهل الأرض , مع أنّنا نجد أنّ كرامته عند أهل الأرض ليست بالقليلة ؟
في كلِّ عام يحلّ علينا موسم محرّم ، موسم الحزن الثائر ، فنجد الدنيا وكأنها قد انقلبت ؛ فالشوارع تتجلّل بالسواد ، والناس يفرضون على أنفسهم لباس الحزن ، والإذاعات ومحطات التلفاز تبثّ برامج خاصة بهذه المناسبة ؛ فهذا الموسم هو نسمة جديدة تهب على قلوب العالمين ليس في المناطق التي يسكنها أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) فحسب , وإنما في سائر مناطق العالم .
فلماذا أعطى الله سبحانه هذه الكرامة لأبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؟
ـــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 91 / 184 ، ح1 .
(2) المصدر نفسه .
________________________________________
الصفحة (112)
نظرات في عظمة الإمام الحسين (عليه السّلام)
البعض من الناس عندما يقفون إزاء عظمة عاشوراء ، وملحمة كربلاء ، فإنّهم يعبّرون عن إعجابهم بالحسين (عليه السّلام) , وبتلك الثورة الناهضة التي ما تزال حيّة في أفئدة الجماهير ؛ فهم يقدّرونه (عليه السّلام) لأنه كان حراً لم تستعبده السلطة ، ولأنه دافع عن حريته ، ودعا الناس إلى التحرر .
كل ذلك صحيح , ولكنه ليس كل القضية بل هو جزء بسيط منها ؛ فالأحرار كثيرون ، وكثير من الناس عاشوا وماتوا أحراراً ، في حين أنّنا لا نقدّسهم ولا نقدّرهم كما نقدّس ونقدّر أبا عبد الله الحسين (عليه السّلام) .
والبعض الآخر يرى أنّه (عليه السّلام) ناضل وجاهد من أجل إقامة حكم الله في الأرض ، وثار من أجل إقامة العدل ، وإحياء الدين ، وبث روح القيم القرآنية في الاُمّة . وهذا صحيح أيضاً ، ولكنه هو الآخر لا يمثل كل القضية ؛ فكثيرون هم اُولئك الذين ثاروا من أجل إقامة حكم الله تعالى ، وقُتلوا في هذا الطريق ، والبعض منهم استطاع أن يحقق هدفه ؛ فأقام حكم الله في قطعة معينة من الأرض .
والبعض الآخر يرى أنّ سرّ بقاء ملحمة كربلاء في أنّها كانت ملحمة مأساوية لم ولن تقع في التاريخ ملحمة أشد فظاعة وإيلاماً وحزناً منها ، حتّى مضى هذا المثل في التاريخ (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) .
فيوم الحسين (عليه السّلام) أعظم من كل يوم ؛ فقد اقرح الجفون ، وأسبل الدموع ، ولكن ليس هذا هو سرّ عظمة أبي عبد الله (عليه السّلام) ؛ فالمآسي في التاريخ كثيرة ، والذين قُتلوا ودُمّروا وقُتلت عوائلهم كثيرون ؛ من مثل الحسين شهيد فخ ، وزيد بن علي اللَّذين تعرّضا للإبادة هما
________________________________________
الصفحة (113)
وعوائلهما بشكل فظيع ، ومع ذلك فإنّنا لا نجد كلَّ الناس يهتمون بهذه الأحداث , بل لعل أكثرهم لا يعرفون عنها شيئاً .
الخلوص والصفاء
وبناءً على ذلك فإنّ عظمة الحسين (عليه السّلام) لا تكمن فقط في أنّ شخصيته كانت شخصيّةً ثائرة حرّة ، أو لأنّها تعرضت للإبادة بشكل فظيع . إذاً , فما هو سرّ هذه العظمة ؟
للإجابة على هذا السؤال نقول : لا بدّ أن نعلم بأنّ الله سبحانه هو خالق الكون , ومليك السماوات والأرض ، وبيده الأمر ، وأنّه يرفع مَن يشاء ويضع مَن يشاء ، وأنّ مَن تمسّك بحبله رفعه ، ومَن ترك حبله وضعه .
ومن المعلوم أنّ الحسين (عليه السّلام) تمسك بحبل الله فرفعه ، وأخلص العمل له فأخلص الله له ودّ المؤمنين ، وجعل له في قلب كلِّ مسلم حرارة . وقديماً عندما خلق الله (تقدّست أسماؤه) آدم (عليه السّلام) وأسكنه الجنّة ، رأى آدم ما رأى حول العرش من الأنوار ، ثمّ علّمه جبرائيل تلك الأسماء والكلمات ، ونطق بها ، وأقسم على الله (عزّ وجلّ) بتلك الكلمات والأنوار الخمسة ... فلما ذكر الحسين (عليه السّلام) سالت دموعه وانخشع قلبه ، وقال : يا أخي جبرئيل , في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي !
قال جبرئيل (عليه السّلام) : ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب .
فقال : يا أخي , وما هي ؟
قال : يُقتل عطشانَ غريباً , وحيداً فريداً , ليس له ناصرٌ ولا معين … فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى(1) .
وهكذا فإنّ قيمة الإمام (عليه السّلام) تكمن في أنّه كان مخلصاً صفياً ، فهو (عليه السّلام)
ــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 44 / 245 .
________________________________________
الصفحة (114)
لو كان يمتلك ألف ابن مثل عليّ الأكبر , وكان عليه أن يضحّي بهم في لحظة واحدة لما تردّد في فعل ذلك ؛ لأنه جرّد نفسه عن أهوائه رغم أنه (عليه السّلام) كان يحب عليّ الأكبر حباً لا حدّ له ، حباً لا يمكن أن يضمره أي أبٍ لابنه ؛ لأنّ علياً الأكبر كان أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ، ومع ذلك فإنّ حب الحسين (عليه السّلام) لله تعالى كان أشدّ كما يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ)(البقرة/165) .
ونحن إذا رأينا اليوم أنّ الناس يقدّرون أبا عبد الله (عليه السّلام) ، وإذا رأيناهم يحملون إلينا في كل شهر محرم موسماً جديداً وميموناً من ذكراه (عليه السّلام) , فلأن ثورته كانت ثورة ربانية ، ولأنه كان أباً للأحرار ، وثائراً من أجل الدين ، وكان يريد إقامة حكم الله في الأرض ، ومع كل ذلك فإنّ هذه المزايا تعّد اُموراً ثانوية .
فالإمام الحسين (عليه السّلام) عندما وقف في عرفة وقرأ ذلك الدعاء الخالد الذي هو بحق كنز من كنوز الرحمة ، وموسوعة توحيدية كبرى ، فإنّه قد جسّد فقرات هذا الدعاء في كربلاء ؛ فهو عندما قال وهو متوجّه إلى الله جل جلاله : (( إلهي , ماذا فقد من وجدك , وماذا وجد من فقدك ))(1) ؟ فإنّه كان يرى أن كل شيء في الوجود ، وكل القيم متمثلة في حب الله ومعرفته .
وقد جسّد (عليه السّلام) كل ذلك في كربلاء كلما كان يفقد عزيزاً أو ابناً أو أخاً من أعزّ الاُخوان عليه ؛ فعلى سبيل المثال فإنّ أبناء واُخوان وأصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) الذين ضرّجوا بدمائهم في كربلاء كان كل واحد منهم يمثّل نجماً في اُفق التوحيد ؛ فقد كان بعض أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) أصحاباً للنبي (صلّى الله عليه وآله) ؛
ــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الجنان ـ دعاء الإمام الحسين (عليه السّلام) في يوم عرفة / 273 .
________________________________________
الصفحة (115)
من مثل حبيب بن مظاهر الذي اُوتي علم المنايا والبلايا ، ومن مثل مسلم بن عوسجة الذي كان فقيهاً وعالماً من العلماء العظام . ولقد قُتل هؤلاء الواحد تلو الآخر , ومع ذلك فإنّ وجه أبي عبد الله (عليه السّلام) كان يزداد إشراقاً رغم أنّ قلبه كان يتفطّر ألماً عليهم .
وبعد أن أكمل (عليه السّلام) مهمته قبض قبضة من تراب كربلاء ، ووضع جبهته الشريفة عليه وقال : (( صبراً على قضائك يا رب , لا إله سواك يا غياث المستغيثين , ما لي رب سواك , ولا معبود غيرك ... ))(1) .
وفي الحقيقة فإنّ ما نعطيه ويعطيه العاملون لتجديد ذكرى أبي عبد الله (عليه السّلام) لو وضع في كفة ، ووضعت كلمة الحسين (عليه السّلام) هذه في تلك اللحظة ، وفي ذلك الموقف في كفة اُخرى لرجحت كلمة الحسين على أعمالنا جميعاً ؛ فلقد أعطى (عليه السّلام) كلَّ ما يملك في سبيل الله حتّى الطفل الرضيع ، وعائلته التي وضعها في بحر من الأعداء الشرسين المتوحشين ، ومع كلِّ ذلك فقد قال : (( صبراً على قضائك يا رب , لا إله سواك يا غياث المستغيثين , ما لي رب سواك , ولا معبود غيرك ... )) .
وهكذا فإنّ الذي جعل ذكرى الحسين (عليه السّلام) خالدة هو أنّ ما كان لله يبقى ، والإمام الحسين (عليه السّلام) عمل مخلصاً لوجه الله .
ونحن إذا أردنا أن نرضي الخالق تبارك وتعالى ، والحسين ، وجدّه واُمّه , وأباه وأخاه ، والأئمة من ولده (عليهم الصلاة والسّلام جميعاً) فلا بدّ أن نخلص أعمالنا لوجه الله ، وأن نفعل كلَّ ما يمكننا من أجل أن نخلّد ونجدّد ذكرى الثورة الحسينيّة حتّى من خلال التظاهر بالعزاء ، والبكاء عليه بصوت عالٍ بحيث يسمعنا الآخرون .
ــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للمقرم / 357 .
________________________________________
الصفحة (116)
مأساة تستدر الدموع
وفي هذا المجال روى لي أحد الخطباء قصة طريفة يقول فيها : كنّا نقيم مجالس العزاء على الحسين (عليه السّلام) في بلد أجنبي , في صالة نستأجرها كلّ عام ، فسألني أحد الأشخاص المسيحيين قائلاً : إنّكم تأتون إلى هذه الصالة وتستأجرونها سنوياً لتبكوا ، في حين أنّ الآخرين يستأجرونها لإقامة مجالس الأعراس والأفراح ، فلماذا تفعلون ذلك ؟!
فقلت له : لأننا في عزاء .
فقال : عزاء مَن ؟
فقلت : عزاء سيّدنا وإمامنا وقائدنا .
فقال لي : متى اُصيب , وكيف ؟
فقلت : قبل ألف وأربعمئة عام .
فتعجّب من ذلك ، وأصابته الدهشة لأننا ما زلنا نبكي على رجل مات قبل مئات السنين . فقلت له : إنّ مقتله لم يكن عادياً ؛ فلقد قُتل مظلوماً , وبشكل مأساوي بعد أن دعاه الناس ، ووعدوه بالنصرة ، فإذا بهم يخذلونه ، ويسلمونه للأعداء ، ويحيطون به في صحراء قاحلة حيث لا ماء ولا طعام ، وحتّى طفله الرضيع لم يسقوه شربة من الماء , بل رموه بدلاً من ذلك بسهم قاتل .
يقول الخطيب : وبعد أن شرحت للرجل المسيحي سبب بكائنا على الإمام الحسين (عليه السّلام) إذا به يجهش بالبكاء ، وتتقاطر دموعه ، ويظهر تعاطفه معنا ، ثمّ طلب منّا أن نسمح له بأن يشاركنا في العزاء على أبي عبد الله (عليه السّلام) .
وهكذا فإنّ سر خلود الثورة الحسينيّة يكمن في أنها كانت ثورة ربّانية خالصة لوجه الله الكريم ، وأنها كانت من الأحداث التي قدّر الله لها أن تحدث منذ الأزل ؛ فقد كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشيئة الإلهية .
وأمّا بالنسبة للعوامل الاُخرى التي تُذكر في تفسير سر خلود ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) فهي أسباب ثانوية تتفرّع من السبب الرئيس الذي ذكرناه .
سر عظمة الإمام الحسين (عليه السّلام)
- الزيارات: 13187