• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعريف الفقر و الفقير

ما هو الفقر؟ 

تعريف الفقر و الفقير
الفقر فى اللغه هو ما يكسر فقار الظهر، و الفقير هو المكسور فقار الظهر.

و الفقير الشرعى هو الذى لايملك قوت سنته له و لعيا له، لا قوه و لا فعلا. نقصد بالقوه اذا كان له مرتب شهرى او مورد ياتيه على دفعات خلال العام.

و تسمى الحاله بين الفقر و الغنى: الكفاف، و هى ان يكون الانسان مكتفيا بدون زياده.

و الفقر لايكون من المال فحسب، فهو يطلق ايضا على فقر العلم و فقر النفس و فقر الدين و فقرالقوه، و كلها تعنى فقد الشى و الحاجه اليه.

درجات الفقير
وردت فى القرآن آيات كثيره تذكر الفقير و المسكين، منها آيه الزكاه التى تبين مصارف الزكاه حيث تقول:

"انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها" "التوبه 60"

مما يدل على ان الفقير غيرالمسكين.

و قد اختلف فى الفرق بينهما و ايهما اكثر خصاصه و عوزا.

و فى مجمع البحرين ج 3 "ماده فقر" يقول الشيخ الطوسى فى النهايه: ان المسكين اسوا حالا من الفقير، لقوله تعالى "او مسكينا ذا متربه" و ذو المتربه هو المطروح على التراب من شده احتياجه.

و ليس اوضح فى الدلاله على الفرق بين الفقير و المسكين مما روى فى الصحيح عن عبدالله بن مسكان بن ابى بصير، قال: قلت للامام جعفر الصادق (عليه السلام) فى قوله تعالى "انما الصدقات للفقراء و المساكين..." فقال (عليه السلام): 'الفقير الذى لايسال الناس، و المسكين اجهد منه، و البائس اجهدهم.

فالفقير هو الذى لايملك و لا يسال، مصداقا لقوله تعالى:

"للفقراء الذين احصروا فى سبيل الله، لايستطيعون ضربا فى الارض، يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم، لايسالون الناس الحافا، و ما تنفقوا من خير فان الله به عليم" "البقره 273"

و الاول، اى الفقير العفيف الذى لايسال، هو اولى بالعطاء من غيره، لذلك ذكر فى آيه الزكاه قبل المسكين الذى يسال.

و فى زماننا الحاضر لانجد الفقير العفيف الا فى النادر، لابل ان اكثر من يسالون و يتظاهرون بالفقر هم مكتفون او اغنياء.

النسبيه فى الفقر
تختلف حاجات الانسان. فى الحياه مع تقدم الحضاره و الرفاهيه. فاليوم اصبح المنزل المستقل من حاجيات الفرد، كما اتسعت الحاجات المنزليه حتى اصبحت تضم الغساله و البراد و ما الى ذلك.

و فى حين كان الاولاد لايكلفون اباهم نفقه تذكر، اصبحوا اليوم عب كبيرا عليه. و الامام على (عليه السلام) يقول: 'قله العيال احد اليسارين'.

و بما ان الفقير هو الذى يكون مورده اقل من مصروفه، فلا يبعد اليوم ان نعتبر الموظف و كل من يتقاضى اجرا مقطوعا: فقيرا، اذا كان يعيل عده اولاد.

[ اى مع عدم كفايه مرتبه لاعالتهم.]

معانى الفقر
ورد الفقر فى القرآن و الاحاديث بمعان مختلفه. و يمكن حصر معانى الفقر على اربعه وجوه هى:

وجود الحاجه الضروريه
و ذلك عام للانسان و للموجودات كلها. يقول تعالى "انتم الفقراء الى الله، و الله هو الغنى الحميد". "سوره فاطر- 15".

عدم المقتنيات
و هو المذكور فى قوله تعالى "للفقراء الذين احصروا فى سبيل الله..." "البقره- 273".

و هم الذين منعهم عملهم فى سبيل الله عن الكسب.

فقر النفس
و هو المعنى بقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'كاد الفقر ان يكون كفرا'.

[ لعل المراد من هذه الكلمه ان الفقر ربما يجعل الانسان فى حرج نفسى شديد يجعله فى معرض الياس من روح الله سبحانه و من الطافه... بل قد يدفعه للخروج على القانون و التمرد حتى على الاحكام الشرعيه الالهيه و الاستهانه بها عن سابق علم و معرفه... و تلك درجه خطيره على صعيد الالتزام بالحدود العقائديه التى لابد من مراعاتها.]

الفقر الى الله تعالى
كما فى قول موسى (عليه السلام): "رب انى لما انزلت الى من خير فقير" "القصص- 24"

و هو المشار اليه بقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'اللهم اغننى بالافتقار اليك، و لا تفقرنى بالاستغناء عنك'.

الفقر المذموم
من الوجوه السابقه يتبين ان من الفقر ما يكون مذموما، و منه ما يكون محمودا ممدوحا.

و الفقر بلحاظ ذاته كفر، لكنه اذا اقترن بالصبر اصبح عباده وزينا للمومن.

و السبب فى ان الفقر بذاته كفر، ان الانسان اذا لم يكن ورعا و واثقا بر به ثقه تامه، فان فقره قد يدفعه لاستخدام كل وسيله للحصول على المال، دون ان يتقيد بالشرع، فيغتصب و يسرق و يحتال، و قد يفعل غير ذلك من المحرمات، فيضل و يكفر. و لذلك قال النبى (صلي الله عليه و آله): 'كاد الفقر ان يكون كفرا'. و قال (صلي الله عليه و آله) فى الامام على (عليه السلام): 'لو تمثل الفقر لعلى رجلا لقتله'. و هو الذى عبرنا عنه 'بفقر النفس'

[ راجع التعليقه السابقه.] لان غنى النفس يدفع الانسان الى التعفف عما فى ايدى الناس. يقول الامام (عليه السلام): 'الغنى الاكبر، الياس عما فى ايدى الناس' "الحكمه 342 نهج".

قال بعض اصحابنا: جاء فى دعاء النبى (صلي الله عليه و آله): 'نعوذ بك من الفقر و القله'. قيل: الفقر المستعاذ منه انما هو فقر النفس الذى يفضى بصاحبه الى كفران نعم الله و نسيان ذكره، و يدعوه الى سد الخله "اى سد حاجته" بما يتدنس به عرضه و يثلم به دينه. و القله تحمل على قله الصبرا و قله العدد.

و قال الامام على (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفيه: 'يا بنى، انى اخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فان الفقر منقصه للدين، مدهشه للعقل، داعيه للمقت' "الحكمه 319 نهج".

و فى الخبر انه (صلي الله عليه و آله) تعوذ من الفقر، و قال: 'الفقر سواد الوجه فى الداراين'، ثم قال فى موضع آخر: 'الفقر فخرى و به افتخر على سائر الانبياء'، و قال (صلي الله عليه و آله): 'اللهم احينى مسكينا و امتنى مسكينا واحشرنى فى زمره المساكين'. فكيف نوفق بين القولين؟ يمكن ذلك بلحاظ ان الفقر الذى تعوذ منه هو الفقر الى الناس، و الذى دون الكفاف، و الذى افتخر به (صلي الله عليه و آله) الفقر الى الله تعالى.

و سوال الفقر لم يرد فى الادعيه، بل ورد فى اكثرها الاستعاذه من الفقر الذى يشقى به الانسان، و عن الغنى الذى يصير سببا لطغيانه.

فقر الدين
و من ادنى معانى الفقر 'فقر الدين' و هو الفقر الحقيقى، لانه يورد صاحبه الى النار و الى غضب الجبار. و فيه قال الامام على (عليه السلام): 'الفقر الموت الاكبر'.

[ كون المقصود من هذه الكلمه هو ذلك يحتاج لمزيد من التامل.]

عن الامام جعفر الاصادق (عليه السلام) قال: 'الفقر الموت الاحمر'. فقلت له: الفقر من الدينار و الدرهم؟ قال: 'لا، ولكن من الدين'.

و فى ذلك قال الامام على (عليه السلام): الفقر و الغنى بعد العرض على الله' "الحكمه 452 نهج". و هو نظير ما اشار اليه النبى (صلي الله عليه و آله) بقوله: 'اتدرون ما المفلس؟' فقيل: المفلس فينا من لادرهم له و لا متاع له. فقال (صلي الله عليه و آله): 'المفلس من امتى من ياتى يوم القيامه بصلاه و زكاه، و ياتى قد شتم هذا و قذف هذا و اكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل ان يقضى ما عليه، اخذ من خطايا هم فطرحت عليه، ثم طرح فى النار'.

الفقر الممدوح
فى الخبر الماثور: 'من احبنا اهل البيت فليعد للفقر جلبابا'

[ ربما يقال: ان المقصود بالفقر هنا: هو يوم الفقر و الفاقه و هو يوم القيامه. و ان كان الاظهر فى معناها هو ان يكون المراد بالفقر: الفقر الى الله سبحانه على حد قوله تعالى 'انتم الفقراء الى الله و الله هو الغنى'.]

و عن الامام الصادق (عليه السلام) قال فى مناجاه موسى (عليه السلام): 'يا موسى اذا رايت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، و اذا رايت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته'

و عن الامام الصادق (عليه السلام) قال النبى (صلي الله عليه و آله): 'طوبى للمساكين بالصبر، و هم الذين يرون ملكوت السموات و الارض'.

فالفقر الممدوح هو الذى يقترن بالتعفف و الصبر. و الفقير الممدوح هو من لايجد الا القوت من التعفف، و لا يوجد من هذه صفته فى الف الف واحد.

و فى ذلك يقول الامام على (عليه السلام): 'الفقر ازين للمومن من العذار على خدا لفرس. و ان فقراء المومنين ليتقلبون فى رياض الجنه قبل اغنيائهم باربعين خريفا'

و قيل للفقر ثلاثه احوال هى:

اولها: الرضا بالفقر و الفرح به، و هو شان الاصفياء.

ثانيها: الرضا به دون الفرح، و هذا له ثواب ولكن اقل من الاول.

ثالثها: عدم الرضا به والكراهه فى القسمه، و هذا لا ثواب له اصلا

هذا و اذا كان الغنى مدعاه للفجور، كان الاكتفاء مع العفه افضل بلامقارنه. يقول الامام على (عليه السلام): 'و الرحفه مع العف9، خير من الغنى مع الفجور' "الخطبه رقم 270 نهج"

الغنى الممدوح
غالبا ما يكون الغنى بالنسبه للانسان استدراجا له و امتحانا لايمانه و تقواه. يقول الشاعر تحت عنوان "الدرهم محك الاتقياء":

لايغرنك من المرء رداء رقعه

و قميص فوق ساق الكعب منه رفعه

وجبين لاح فيه اثر قد قلعه

اره الدرهم تعرف غيه او ورعه

فان هو شكر ربه، بان اخرج الحقوق من ماله، فواسى بها الفقراء، و لم يدفعه غناه الى التكبر عليهم، و لم ينشغل بغناه عن واجباته الدينيه، و لم يسقه غناه الى الفجور، خرج من امتحانه ناجحا، والا كان ماله و بالا عليه و خسر خسرانا مبينا.

يقول الامام على (عليه السلام): 'العفاف زينه الفقر، و الشكر زينه الغنى' "الحكمه 68 نهج".

و يقول (عليه السلام): 'ما احسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عندالله!. و احسن منه تيه الفقراء على الاغنياء اتكالا على الله' "الحكمه 406 نهج".

و عن الامام الصادق (عليه السلام): 'لاخير فيمن لايحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، و يقضى به دينه، و يصل به رحمه'.

و غالبا ما يصد المال الغنى عن طاعه الله، فيغريه الشيطان بارتكاب المحرمات، و لو ظل فقيرا لكان خيرا له. و فى ذلك يقول تعالى: 'زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطره من الذهب و الفضه...' "سوره آل عمران- 14"

و يقول الامام على (عليه السلام): 'المال ماده الشهوات' "الحكمه 58 نهج".

لذلك وردت فى الادعيه الاستعاذه من الغنى الذى يصير سببا لطغيان الانسان، مصداقا لقوله تعالى:

'ان الانسان ليطغى ان راه استغنى" "العلق- 6".

الفقر ذل
و ليس اذل للانسان من ان يصبح محتاجا الى الناس، فالفقر فى نظر صاحبه ضعه و ذله، و فى نظر الناس استهانه و استخفاف.

فالفقير الذى لايجد قوت يومه، يشعر بالهوان و عدم القيمه فى هذه الحياه، لانه لايستطيع ان يعمل شيئا بدون مال... فاذا هو صبر على ما ابتلاه الله كان له مثل اجر الصائم القائم، و ان هو لم يصبر، و شرع باستعطاء الناس كانت مسالته ذلا اكبر، لاسيما اذا كان الذى ساله قادرا على سد حاجته، ولكنه رده خائبا، فهو فى هذه الحاله يتمنى الموت على ذلك.

عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): 'يا على ان الله جعل الفقر امانه عند خلقه، فمن ستره اعطاه الله مثل اجر الصائم القائم، و من افشاه الى من يقدر على قضاء حاجته

فلم يفعل، فقد قتله. اما انه ما قتله بسيف و لارمح، ولكنه قتله بما نكا من قلبه'. و نكا القلب جرحه او قتله.

و من ابشع صور ذل الفقير، ان يتذلل الى انسان مثله لمجرد كونه غنيا، مستهينا بعزه الايمان.

يقول الامام على (عليه السلام): 'و من اتى غنيا فتواضع له لغناه، ذهب ثلثا دينه' "الحكمه 228 نهج".

و يقول (عليه السلام): 'ما اقبح الخضوع عند الحاجه، و الجفا ء عند الغنى' "الخطبه 270 نهج"

و تبلغ نظره الناس الى الفقير مبلغا من الاحتقار تجعله يخرس عن ابداء حجته التى لايصغى ايها الناس، فان تكلم بحق اسكته الناس و كذبوه، و اذا اخطا استكبروا خطيئته. و لم يعنه احد على ضعفه و مسكنته، فيشعر انه غريب و ان كان يعى فى وطنه، و لايرمق من بعيد الا صوره من ياتى ليطالبه بدينه او باجره بيته.

لذلك قال الامام على (عليه السلام) فى ابلغ عباراته: 'الغنى فى الغربه وطن، و الفقر فى الوطن غربه' "الحكمه 56 هج".

و قال (عليه السلام): 'الفقر يخرس الفطن عن حجته، و المقل غريب فى بلدته' "الحكمه رقم 3 نهج".

و قال (عليه السلام): 'اذا اقبلت الدنيا على احد اعارته محاسن غيره، و اذا ادبرت عنه سلبته محاسن نفسه' "الحكمه رقم 8 نهج".

اما الغنى فكل الناس تعظمه و تسلم عليه و تطلب القرب منه، و اذا جلس فى مجلس بجلوه، و اذا تكلم بكلام سخيف عظموه، و اذا اخطا اغفلوا خطاه... حتى اذا ما ذهب ما له و قل خيره انفضوا من حوله، كالشجره المثمره اذا انتهى موسم ثمرها و سقطت اوراقها لم ياتها احد. و ما احسن ما قيل فى ذلك:

المرء فى زمن الاقبال كالشجره

و الناس من حولها مادامت الثمره

حتى اذا راح عنها حملها رحلوا

و خلفوها تقاسى الحر و الغبره

تبا لابناء هذا الدهر كلهم

حتى و لا واحد يصفو من العشره

و قال احدهم:

يغطى عيوب المرء كثره ماله

يصدق فيما قال و هو كذوب

و يزرى بعقل المرء قله ماله

تحمقه الاقوام و هو لبيب

و قال آخر:

من كان يملك در همين تعلمت

شفتاه انواع الكام فقالا

و تقدم الاخوان فاستمعوا له

و رايته بين الورى مختالا

لولا دراهمه التى فى كيسه

لرايته ازرى البريه حالا

ان الغنى اذا تكلم بالخطا

قالوا صدقت و ما نطقت محالا

اما الفقير فان تكلم صادقا

قالوا كذبت و ابطلوا ما قالا

ان الدراهم فى المواطن كلها

تكسو الرجال مهابه و جلالا

فهى اللسان لمن اراد فصاحه و هى السنان لمن اراد قتالا

و هذه النظره هى عكس النظره الشرعيه الصحيحه التى تقيم وزن الانسان على مقدار تقواه و فعله و ليس على ماله و جماله.

المساله ذل اكبر
و من سوء الثقه بالله ان يسال الفقير الناس و لايسال خالق الناس و معطيهم. و لذلك نهى الشارع عن السوال و المساله لغيره الله، و اعتبرها هوانا و ذلا لايتناسب مع منزله المومن و عزته و كرامته. و فى ذلك يقول الامام على (عليه السلام):

'من اصبح على الدنيا حزينا فقد اصبح لقضاء الله ساخطا، و من اصبح يشكو مصيبه نزلت به فقد اصبح يشكور به' "الحكمه 228 نهج"

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'لا نزال المساله باحدكم حتى يلقى الله و ليس بوجهه مزعه لحم'.

و يقول الامام على (عليه السلام): 'و مراره الياس خير من الطلب الى الناس' "الخطبه 270 نهج"

و يقول (عليه السلام): 'ماء وجهك جامد يقطره السوال، فانظر عند من تقطره' "الحكمه 346 نهج".

و اذا كان الغنى الذى استعطاه الفقير لئيما، شعر الفقير بمراره العبوديه، و انه اصبح كالاسير فى يد الغنى يتحكم به كيف يشاء. و ما اجمل ما قال الامام (عليه السلام) فى هذا المعنى:

امنن على من شئت تكن اميره

و احتج الى من شئت تكن اسيره

و استغن عمن شئت تكن نظيره

القناعه هى الغنى
و اشد ما نهى عنه الشارع الحكيم ان يسال الانسان و هو غير محتاج، فهذا عدا عن اهانه نفسه، فهو يحرم الفقراء الحقيقيين من اخذ حقوقهم.

يقول الامام الصادق (عليه السلام): ''''من سال من غير فقر، فانما ياكل الجمر''''.

و فى الوقت نفسه حض الشارع على الزهد بالدنيا، و القناعه بما قسم الله، و عدم الحرص على المزيد من الدنيا. فالانسان يشبعه القرص و يستره الطمر، و فى المثل: ''''من عدم القناعه لم يفده المال غنى''''. و قد توعد سبحانه من يسال و لا يقنع، بالفقر الذى لايزول.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): ''''من استغنى اغناه الله، و من فتح على نفسه باب مساله فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر لايسد ادناها شى ء''''.

و يقول (صلي الله عليه و آله): ''''ارض بما قسمه الله لك تكن اغنى الناس''''.

و يقول الامام (عليه السلام) فى وصيته لابنه الحسين (عليه السلام): ''''اى بنى، عزالمومن غناه عن الناس، و القناعه مال لاينفد، و من اكثر ذكر الموت رضى من الدنيا باليسير''''. "تحف العقول ص 60"

و يقول (عليه السلام): ''''الغنى الاكبر، الياس عما فى ايدى الناس'''' "الحكمه 324 نهج".

و يقول (عليه السلام): ولاكنز اغنى من القناعه، و لا مال اذهب للفاقه من الرضا بالقوت. و من اقتصر على بلغه الكفاف فقد انتظم الراحه، و تبوا خفض الدعه'''' "الحكمه 371 نهج".

و يقول النووى:

 

·                                 وجدت القناعه اصل الفتى فلا ذا يرانى على بابه وعشت غنيا بلادرهم امر على الناس شبه الملك

·                                 فصرت باذيالها ممتسك و لاذا يرانى به منهمك امر على الناس شبه الملك امر على الناس شبه الملك

و يقول الامام الصادق (عليه السلام): ''''ارسل عثمان الى ابى ذر موليين له و معهما مائتا دينار. فقال لهما: انطلقا الى ابى ذر فقولا له: ان عثمان يقرئك السلام و يقول لك: هذه مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك. فقال ابوذر: هل اعطى احدا من المسلمين مثلما اعطانى؟ قالا: لا. قال: انما انا رجل من المسلمين، يسعنى ما يسع المسلمين. قالا له: انه يقول هذا من صلب مالى، و بالله الذى لا اله الا هو ما خالطها حرام، و لا بعث بها اليك الا من حلال.

ققال ابوذر: لا حاجه لى فيها و قد اصبحت يومى هذا و انا من اغنى الناس. فقالا له: عافاك

الله و اصلحك، ما نرى فى بيتك قليلا و لا كثيرا مما يستمتع به. فقال: بلى تحت هذا الاكاف الذى ترون رغيفا شعير، قد اتى عليهما ايام. فما اصنع بهذه الدنانير؟

الحرص فقر
و كم يخطى من يجمع المال و يحرص على كثيره و عدم نقصه، بدعوى انه سيغنيه و يومن مستقبله، فاذا هو فى لحظه واحده قد ادركه الموت، فحمل الى قبره، لا مالا اخذ و لا مالا صرف، فعاش فى الدنيا عيش الفقراء، و يحاسب على ماله حساب الاغنياء.

يقول الامام على (عليه السلام): ''''عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذى منه هرب، و يفوته الغنى الذى اياه طلب. فيعيش فى الدنيا عيش الفقراء، و يحاسب فى الاخره حساب الاغنياء'''' "الحكمه 126 نهج"

و منه اخذ المتنبى المعنى حيث قال:

 

·                                 و من ينفق الساعات فى جمع ماله مخافه فقر، فالذى فعل الفقر

·                                 مخافه فقر، فالذى فعل الفقر مخافه فقر، فالذى فعل الفقر

و يقول الامام على (عليه السلام): ''''ان اخسر الناس صفقه و اخيبهم سعيا، رجل اخلق بدنه فى طلب ماله، و لم تساعده المقادير على ارادته، فخرج من الدنيا بحسرته، و قدم على الاخره بتبعته'''' "الحكمه 430 نهج".

كما يقول (عليه السلام): ''''يا ابن آدم، ما كسبت فوق قوتك، فانت فيه خازن لغيرك'''' "الحكمه 192 نهج".

و يقول يحيى بن الفضل الاندلسى:

 

·                                 جمعت مالا ففكر هل جمعت له المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك الا حين تنفقه

·                                 يا جامع المال- اياما تفرقه ما المال مالك الا حين تنفقه ما المال مالك الا حين تنفقه

و يقول ابوالحسن على المنجم فى ذم الحرص:

 

·                                 وذى حرص تراه يلم وفرا ككلب الصيد يمسك و هو طاو فريسته لياكلها سواه

·                                 لوارثه و يدفع عن حماه فريسته لياكلها سواه فريسته لياكلها سواه

و يقول احدهم:

 

·                                 دع الحرص على الدنيا و ما تجمع من مال فان الرزق مقسوم فقير كل ذى حرص غنى كل من يقنع

·                                 و فى العيش فلا تطمع فلا تدرى لمن تجمع وسوء الظن لاينفع غنى كل من يقنع غنى كل من يقنع

الغنى الحقيقى هو العبوديه لله وحده
المومن يستمد غناه من الله، و يتوثق ذلك كلما ازداد يقينه بالله.

و تبدو النوازع التى تسيطر على نفس الانسان وفق اتجاهين:

نوازع تدفعه نحو الله، و نوازع تدفعه نحو الماده و الشهوات. و بقدر تحرر الانسان من ربقه الشهوات و ارتباطه بالله يصبح غنيا، لانه يستغنى عن كل شى ء فى الوجود ماخلا موجد الوجود. و تصبح كل الاشياء فى نظره حقيره امام الله تعالى، و تلك هى العباده الحقه.

يقول الامام على (عليه السلام): ''''ان من حق من عظم جلال الله سبحانه فى نفسه، و جل موضعه من قلبه، ان يصغر عنده كل ما سواه'''' "الخطبه 214 نهج".

و ليس من فرق بين من يعبد الاوثان الحجريه، و من يعبد اصنام الماده و المال، يكرس حياته لخدمتها، و يرى انها هى اتى تنفع و تضر، حتى يصبح اسيرا لها، تتحكم به دون ان يتحكم بها. فكلاهما يحمل حقيقه الشرك و التبعيه لغير الله، كما قال الشاعر الكبير اقبال:

 

·                                 سيان فى الشرك هذا عابد ذهبا يسعى الى جمعه، او عابد وثنا

·                                 يسعى الى جمعه، او عابد وثنا يسعى الى جمعه، او عابد وثنا

و مثل هذا الانسان و ان كان ظاهره الغنى الا انه من افقر الفقراء.

و فى مقابل ذلك من يكسسب الاموال فينفقها فى سبيل الله، و يدفعها الى الفقراء و المستضعفين، و لا يمسك منها غير قوت الكفاف، فهذا و ان كان فى ظاهره فقيرا، الا انه اعظم الاغنياء.

و لاينفى هذا ان يكون المومن غنيا، فالشارع حض على الغنى، ولكن المحرم ان لايكون الغنى عبدا لماله، بل ان يكون المال عبدا له، و يحدث ذلك عندما يعرف المومن ربه حق معرفته، و يبلغ فى نظره من العظمه حدا تصغر دونه كل الاشياء.

يقول الامام على (عليه السلام):

''''ان من حق من عظم جلال الله سبحانه فى نفسه، و جل موضعه من قلبه، ان يصغر عنده كل

ماسواه. و ان احق من كان كذلك لمن عظمت نعمه الله عليه، و لطف احسانه اليه. فانه لم تعظم نعمه الله على احد الا ازداد حق الله عليه عظما'''' "الخطبه 214 نهج".

و فى هذا المعنى تروى القصه التاليه:

ان شخصا سمع بزاهد فاراد ان يزوره، و لما قدم عليه وجده يعيش فى قصر فخم، و من حمله الرياش و الخدم. فقال له: عجبت من امرك، و قد سمعت انك زاهد، و ما ارى آثار ذلك عليك. فقال الزاهد: ليس الزهد ان لاتملك المال، و انما الزهد ان لايملك المال. و لقد انعم الله على بهذه الخيرات التى ترى، و انا اعمل على انفاقها فى سبيل الله، و اسخرها لقضاء حوائج المومنين، و ارى ان وجودها و عدم وجودها عندى سيان.

فقر الصالحين
يسمى الفقر الذى لايكون الانسان فيه مفتقرا الا الى الله "فقرالصالحين" و هو ارقى درجه يبلغها المومن فى معارج الفضيله و الصلاح و السمو و الفلاح، حيث يترفع عن موثرات الدنيا الفانيه، زاهدا بمظاهرها و متعها.

و يحصل هذا الفقر فى آخر درجات تربيه النفس، تربيه تسير بها الى العباده الحقه و الفضيله الانسانيه، حيث يدرك الانسان المومن ان المال وسيله لاغايه. وسيله للاكتفاء و الترفع عن حاجه الناس، ثم وسيله المواساه الاخرين و رفع البوس عنهم.

و ليس يعنى هذا القعود عن العمل و التواكل على الغير، بل انه ينطوى على العمل و الجهاد، لتسخير الوجود كله لخدمه الانسان، و نشر العداله والسعاده بين كل بنى الانسان.

انه اقتفاء طريق العارفين، و ارتواء القلب من عين اليقين... انه عزه للنفس و اباء، يوصلان الى الجوزاء، و توحيد صادق لله خالص من كل رياء.

و فى ذلك يقول الفيلسوف الاسلامى الكبير الدكتور محمد اقبال:

 

·                                 يا عبيد الماء و الطين اسمعوا هو عرفان طريق العارفين ذلك الفقر عزيز فى غناه يرعش الدهر اذا دوى صداه فقرنا ليس برقص او غناء فقرنا معناه تيسير الجهود فقرنا العادى سراج لوظهر انه ايمان بدر و حنين قم و ابلغ نوره للعالمين قم و اسمعه البرايا اجمعين

·                                 ما هو الفقر الغنى الارفع وارتواء القلب من عين اليقين هامه الجوزاء من ادنى خطاه ليس غير الله فى الكون اله ليس سكر النفس فى موت الرجاء فقرنا معناه تسخير الوجود يخجل الشمس و يزرى بالقمر انه زلزال تكبير الحسين قم و اسمعه البرايا اجمعين قم و اسمعه البرايا اجمعين

و على هذا الصراط سار سائر الانبياء و خاتم الرسل محمد (صلي الله عليه و آله)، كما سار ربيب النبوه الامام على (عليه السلام) و تلامذته المخلصون كابى ذر الغفارى "رض"، فكانوا ازهد اهل زمانهم.

الزهد صفه العارفين
فاما نبينا محمد (صلي الله عليه و آله) فقد ولد يتيما فقيرا، فى حين كان اعداوه يرتعون فى نعيم العيش ولذات الدنيا، و قد امره تعالى ان يلازم الفقراء من اصحابه لانهم يذكرونه بالله، حيث قال: ''''واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداه و العشى يريدون وجهه، و لا تعد عيناك عنهم، تريد زينه الحياه الدنيا" "الكهف- 28". و لقد عرضت عليه الدنيا فابى ان يقبلها. خرج من الدنيا خميصا، و ورد الاخره سليما. لم يضع حجرا على حجر، حتى مضى لسبيله، و اجاب داعى ربه.

و اما موسى (عليه السلام) كليم الله، فقد خاطب ربه قائلا "رب انى لما انزلت الى من خير فقير" و لم يساله الا خبزا ياكله، لانه كان ياكل من بقول الارض. و لقد كانت خضره البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذب لحمه.

و اما داود (عليه السلام) صاحب المزامير، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، و يقول لجلسائه: ايكم يفكينى بيعها، و ياكل قرص الشعير من ثمنها.

و اما عيسى (عليه السلام) روح الله، فلقد كان يتوسد الحجر و يلبس الخشن و ياكل الجشب. و كان ادامه الجوع، و سراجه فى الليل القمر، و ظلاله فى الشتاء مشارق الارض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الارض للبهائم.

مثال الامام على (عليه السلام):

اما الامام على (عليه السلام) فقد ضرب اروع مثل على التحرر الوجدانى و الطهاره النفسيه، لاسيما و انه احد الخمسه اصحاب الكساء الذين قال الله فيهم ''''انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت و يظهركم تطهيرا" "الاحزاب- 33".

و اذا تصفحنا سيره الامام (عليه السلام) وجدناها تنبض بالحريه و تفيض بالتحرر الوجدانى الرفيع. لابل انه لم يكتف بتحرير نفسه و تطهيرها من كل علائق الماده و الدنيا، بل قام يعمل جاهدا طوال حياته ليدخر من عرق جبينه الدراهم، ليشترى بها العبيد فيعتقهم لوجه الله تعالى، حتى توفى و لم يخلف درهما قط.

[ لقد نص الامام الحسن فى خطبته بعد وفاه ابيه على ان اباه لم يترك سوى سبع مائه درهم اراد ان يشترى بها خادما لاهله.] و كان لايفتا يلبس الخشن و ياكل القديد و هو الخبز اليابس.

و من ابلغ اقواله التى تدل على زهده و تحرره و مشاركته لكل فرد فى دولته بالمكاره و الحرمان، كتابه الذى وجهه الى عثمان بن حنيف الانصارى عامله على البصره، و قد بلغه انه دعى الى وليمه قوم من اهل البصره فمضى اليها، و فيها يقول:

''''الا و ان لكل ماموم اماما يقتدى به و يستضى بنور علمه. الا و ان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه "اى ثوبيه الباليين" و من طعمه بقرصيه "اى رغيفى الشعير". الا و انكم لاتقدرون على ذلك، ولكن اعينونى بورع و اجتهاد وعفه و سداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا "اى ذهبا" و لا ادخرت من غنائمها وفرا، و لا اعددت لبالى قوبى طمرا...'''' الى ان يقول (عليه السلام):

''''و انما هى نفسى اروضها بالتقوى لتاتى آمنه يوم الخوف الاكبر، و تثبت على جوانب المزلق. و لو شئت لاهتديت الطريق الى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبنى هواى او يقودنى جشعى الى تخير الاطعمه، و لعل بالحجاز او اليمامه من لاطمع له فى القرص و لا عهد له بالشبع. او ابيت مبطانا و حولى بطون غرثى و اكباد حرى! اكون كما قال الشاعر:

 

·                                 وحسبك داء ان تبيت ببطنه و حولك اكباد نحن الى القد

·                                 و حولك اكباد نحن الى القد و حولك اكباد نحن الى القد

ااقنع من نفسى بان يقال هذا اميرالمومنين، و لا اشاركهم فى مكاره الدهر، او اكون اسوه لهم فى جشوبه العيش؟ فما خلقت ليشغلنى اكل الطيبات، كالبهيمه المربوطه همها علفها، او المرسله شغلها نقممها''''.

فالامام عليه السلام لم يكن ليرضى ان يكون همه فى الحياه و شغله الشاغل، التمتع باللذائذ الماديه و الطيبات من الطعام و الشراب، كما هو حال الحيوانات و البهائم، لابل ان الانسان ارفع من ذلك، فلقد خلق ليحمل مبدا و ينشر رساله، و تلك هى رساله

الحق و العدل و المساواه.

لقد اكتفى الامام (عليه السلام) من دنياه كلها بثوبيه الباليين و برغيفيه الشعير يقيم بهما اوده، و ماذا يريد بعد ذلك من حطام الدنيا و لذائذها. لقد روض نفسه على القناعه و الزهد و التقوى، مما لايستطيع غيره ان يفعله او يصبر على تطبيقه، و حرى به ان يكون بهذه المنزله من التحرر الوجدانى و السمو النفسانى، لانه هو القدوه لجميع المسلمين، و هو الامام لجميع الانام.

لقد كانت تحت تصرفه (عليه السلام) كل اصناف النعم و كل الوان الطيبات، من العسل المصفى و الخبز الطازج و الحرير الناعم، ولكنه مع ذلك آثر ان يكون حظه من هذه الماديات كحظ اقل فرد من رعيته، لان من ابرز مبادى رسالته التى قام ينشرها و يطبقها، المساواه بين الناس و نشر العداله بينهم، و تامين القسط الانسانى الضرورى لحياتهم، و الرفع من سويتهم المعيشيه، ليصبح الجميع مكتفين و اغنياء، لايحتاج احد منهم الى احد

مثال ابى ذر الغفارى:

و على هذا المنوال الرائد سار الصحابه الاوائل رضوان الله عليهم، الذين لم يبدلوا و لم يغيروا، و لم يلههم سلطان و لا مال، عن تطبيق ما عاهدوا الله عليه، و نشر ما وطنوا انفسهم عليه، و من اعظم امثلتهم الصحابى الجليل ابوذر الغفارى.

لقد آمن ابوذر بالرساله الجديده ايمانا عميقا، حتى اضطرمت الحقيقه فى قلبه، و تلجلج صدره بانوار التحرر و اليقين، فاصبح يرى كل شى ء فى هذه الدنيا رخيصا امام مبدئه و دينه، فوهب لعقيدته كل ما يملك، و كل ما اوتى من قوه و عزيمه.

هاهو ابوذر يطوف فى ربوع مكه المكرمه، مجاهرا بمبدئه الحق، معلنا حربه على العبوديه و الاستغلال و الجهل و الضلال.

لقد قام يحذر الناس من مغبه كنزالاموال

[ المقصود هو كنزالاموال من قبل الحكام و اعوانهم الذين كانوا ياخذون اموال الدوله و بيت المال لانفسهم " كما اوضحه السيد جعفر مرتضى فى مقال له حول ابى ذر وطبعت ترجمته الفارسيه تحت عنوان: ''''ابوذر مسلمان يا سوسياليست''''.]، و يدعوهم الى البذل و العطاء و السماحه و المشاركه، دون ان يضع فى حسبانه خوفا من سلطه او رهبه من قوه.

لقد بدا اول ما بدا بنفسه يطبق عليها مبادى هذا البذل و العطاء و المساعده و المشاركه و العداله و المساواه. فانفق كل مالديه على الفقراء و المساكين، ثم سار فى ارجاء البلاد يدعو الناس الى مادعا نفسه اليه، بكل صمود و تصميم و ايمان و يقين.

فلما جاء عهد الخليفه عثمان و انحرف الناس عن مبادى ء الاسلام و حقائق الايمان، قام ابوذر يعلنها حربا شعواء على كل منحرف و معاند، قد استهوته الحياه و مادياتها،

[ قد تقدم ان صرخته كانت فى وجه الذين يستاثرون باموال بيت مال المسلمين لانفسهم.] حتى صرفته عن دينه و انسانيته. فلم يترك مسجدا و لا حلقه و لا مجلسا الا استغله لتوجيه الناس و الهاب عواطفهم الطيبه و نبذ عاداتهم السيئه. دون ان يساوره خوف او هلع، او يفت فى عضده وهن او ضعف. و مم يخاف؟ و هو الذى لايملك مالا فتاخذه الدوله، و لا ارضا فتستملكها، و لا دارا فتصادرها و لا وظيفه فتصرفه عنها. انه لايملك من حطام الدنيا شيئا فيخاف عليه، فعاد لايخاف الا الله. لقد قطع عن نفسه كل علائق الماده فاصبحت نفسه حره بكل معانى الصفاء و التحرر.

انظر اليه و قد قام خطيبا فى الناس يصور ما آلت اليه الامور فى عهد عثمان، و يستكر مظاهر الانحراف التى حصلت، فيقول: ''''لقد حدثت اعمال ما اعرفها. و الله ما هى فى كتاب الله و لا سنه نبيه. و الله انى لارى حقا يطفا، و باطلا يحيا، و صادقا مكذبا، و اثره بغير تقى. يا معاشر الاغنياء و اسوا الفقراء. و بشر الذين يكنزون الذهب و الفضه و لا ينفقونها فى سبيل الله بمكا و من نار، تكوى بها جباهم و جنوبهم و ظهورهم''''.

''''اتخذتم ستور الحرير و نضائد الديباج، و تالمتم الاضطجاع على الصوف الاذربى، و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) ينام على الحصير. واختلف عليكم بالوان الطعام، و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) لايشبع من خبز الشعير''''.

و عاش ابوذر طوال حياته، ينفق ماله على اليتامى و المحرومين، و يوزع حصيله اتعابه على الفقراء و المعسرين، و قد وقف نفسه لخدمه المساكين و المحتاجين، يدافع عن حقوقهم و يعرض نفسه للهلاك من اجلهم، حتى نفى الى صحراء "الربذه"، و هى مكان بين المدينه و الشام. فعاش هناك تحت خباء خيمته وحيدا فريدا مع زوجته. و صدق فيه قول النبى (صلي الله عليه و آله): ''''يا اباذر، تمشى وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك''''.

فكان فقره هذا اعظم الغنى، و كانت فاقته تلك هى اعظم السعه. و كان و هو فى سجنه فى منفاه، اعظم انسان حر عرفته البشريه. و لتلك حال من ينسلخ من علائق الماده و التراب، ليصبح نورا متالقا فوق السحاب.

و حانت من ابى ذر التفاته الى زوجته، و قد ادركه النزع الاخير، فطفق يبكى. فقالت له زوجته: اجزعا من الموت تبكى يا اباذر و انت الصادق الصدوق؟! قال: لا يا امه الله، ولكنى تذكرت وصيه رسول الله لى، حين قال: ''''يا اباذر اياك ان تموت و قد خلفت قيراطين''''! فنظرت زوجته الى ما حولها لترى ما ترك زوجها فى خيمته، فلم تجد غير حصيره باليه و ابريق يشرب منه و آنيه يغتسل بها.

المال مال الله
تنطلق نظره الاسلام الى المال من حقيقه عميقه، و هى ان المال هو فى الاصل مال الله، و كل مال فى ايدينا قد اعطاه الله لنا على نحو التوكيل و ليس التمليك. فالمومن موظف على ماله ليستخدمه فيما امر الله و اراد، فاذا هو لم يستخدمه وفق ذلك فقد اساء التصرف، و على الجماعه المسلمه ممثله فى الحاكم الشرعى ان تحجر عليه، و تمنعه من التصرف به، و تقيم على المال وكيلا عنه. و بهذه الطريقه لايفسح الاسلام للمال ان يستخدم فى الظلم والاستغلال و الباطل. فالشرع يحمى المالك طالما هو ينفذ الخطه الالهيه المرسومه له، فاذا هو شذ عن ذلك نزع حمايته عنه.

المال وسيله و ليس غايه
و من هذه النظريه الرفيعه لوظيفه المال يتبين ان الاسلام يعتبر المال وسيله لاغايه، فهو فى الدرجه الاولى وسيله للاكتفاء الشخصى حتى لايحتاج الانسان الى سواه، و هو فى الدرجه الثانيه وسيله لبناء المجتمع السليم و تامين الحياه الانسانيه لكل فرد فيه، فى جويتيح لكل فرد الفرص العريضه ليعمل و يجد و يحقق كل ظاقاته و مواهبه.

و عندما ينحسر دافع الدين من قلب المومن، ينسى علاقته الاساسيه بالله، فينكب على جمع المال شغفا بالمال، فلايعود همه غيرمل ء حصالته من النقود، فلايبالى من اين جمع المال و لا الغايه من جمعه، فيصبح عبدا للماده دون ان يستفيد منها او يفيد احدا من المحتاجين اليها. و تنعدم قيمته فى الجماعه كلما فقد المجتمع الفائده منه، مصداقا لقول الامام (عليه السلام): ''''قيمه كل امرى ما يحسنه''''.

[ لا نرى تناسبا بين هذه العباره و بين ما يريد اقامتها كشاهد عليه.]

و بالنسبه للمخطط التكاملى للمجتمع يعتبر مثل هذا الفرد سرطانا، لانه يمتص كل الطاقات من حوله، دون ان يعطى شيئا، فاذا لم تتخلص الجماعه منه اتى عليها.

[ الظاهر ان المولف يريد ان يقول- ان اذا لم يوضع لهذا الفرد حد و لم يخضع لضابطه كان سرطانا يمتص كل الطاقات من حوله دون ان يعطى شيئا و يستعمل اساليبه الجهنميه من اجل جمع المال و تكديسه... فكان ان اهتم الاسلام بوضع الضوابط التى تمنع انسانا كهذا من ان يعدو طوره فحرم الاسلام الاحتكار و الربا الخ...

و انما قلنا ان هذا هو مراد الكاتب لان تحريم الاحتكار و الربا الخ... ليس معناه القضاء و التخلص من ذلك الفرد...] لذلك حرم الاسلام الربا و الاحتكار و الاستغلال و الجشع.

و من ذلك ماورد فى كتاب الامام (عليه السلام) لمالك الاشتر حين ولاه مصر. يقول (عليه السلام) :

''''فامنع من الاحتكار، فان رسول الله (صلي الله عليه و آله) منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل، و اسعار لاتجحف بالفريقين، من البائع و المبتاع، فمن قارف حكره "اى احتكارا" بعد نهيك اياه فنكل به، و عاقبه فى غير اسراف'''' "الخطبه 292 نهج".

اسباب الفقر
اسباب الفقر متعدده، منها من الخالق سبحانه و منها من المخلوق، و منها من الفرد و منها من الجماعه. و سوف نتناول هذه الاسباب فى هذا الفصل، علما بان الاسلام كنظام لم يقر الفقر فى مجتمعه، بل واده فى مهده عن طريق نظامه التكاملى.

الاسباب التكوينيه
و هى الاسباب الناتجه عن تكوين الله سبحانه للانسان. فالناس منذ ان يخلقوا يتفاوتون فى المواهب و القدرات، و الاستعدادات و الامكانيات. و يتناول هذا التفاوت الصفات النفسيه و الفكريه و الجسديه. فهم يختلفون فى الصبر و الشجاعه، و فى قوه العزيمه و الامل، و يختلفون فى حده الذكاء و سرعه البديهه، و فى القدره على الابداع و الاختراع.و يختلفون فى قوه العضلات و فى ثبات الاعصاب، الى غير ذلك من مقومات الشخصيه الانسانيه التى وزعت على الافراد بدرجات متفاوته. و يبلغ هذا التباين حدا يستحيل معه، ان نجد شخصين متساويين فى الذكاء و الفهم و العاطفه و العقل و الجد و الاجتهاد و الشعور و الاهتمام.

و حكمه هذا التفاوت و الاختلاف ان الحياه تحتاج بطبيعتها الى افراد متفاوتين، يناسبون حاجات الحياه المختلفه، و الا لاستحالت مسيره الحياه و تكاملها. فمثلا ان نسبه من لديهم القدره على التخصص العلمى للاكتشاف و الابتكار و التطوير

و الاختراع فى حدود 10 درصد، بينما بقيه الناس ينصرفون الى تامين مرافق الحياه المختلفه و الانتاج، كل حسب ميله الى الزراعه او الصناعه او التجاره. و تعود الحياه مرتده فى فوائدها على المجموع.

و ينشا عن هذا التفاوت فى القدرات و الانتاج تفاوت فى الكسب و التحصيل.

الدنيا دار ابتلاء
و من الاسباب التكوينيه المرتبطه بمفهوم الدين، ان الله سبحانه خلق الانسان مرتبطا برساله جاء الى الدنيا ليوديها، فهو لم يخلق عبثا، و لم يوجد باطلا، فالدنيا بالنسبه له دار امتحان و اختبار، تتكامل فى مقصودها مع الاخره التى هى دار الحساب و الجزاء. و مقتضى هذا الاختبار ان يكون الناس عمدا متفاوتين فى الامكانيات و ان يكونوا متفاوتين فى الرزق و العطاء.

و قد اكدت النصوص القرآنيه و الاخبار الشريفه على هذه الحقيقه الاساسيه، يقول سبحانه:

'الذى خلق الموت و الحياه ليبلوكم ايكم احسن عملا' "الملك 2"

و يقول الامام على (عليه السلام) من كتاب له: 'فان الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، و ابتلى فيها اهلها، ليعلم ايهم احسن عملا. و لسنا للدنيا خلقنا، و لا بالسعى فيها امرنا، و انما وضعنا فيها لنبتلى بها' "الكتاب 294 نهج".

و يقول الامام (عليه السلام): 'فلم يستنصركم من ذل، و لم يستقرضكم من قل. استنصركم و له جنود السموات و الارض و هو العزيز الحكيم. و استقرضكم و له خزائن السموات و الارض و هو الغنى الحميد.

و انما اراد ان يبلوكم ايكم احسن عملا' "الخطبه 181 نهج".

و يقول الامام الصادق (عليه السلام): 'ما اعطى عبد من الدنيا الا اعتبارا، و ما زوى عنه الا اختبارا'.

الرزق مقسوم
و قد امتحن الله عباده بما قسم لهم من الرزق، فالرزق مقدر من الله تعالى. يقول سبحانه:

'اهم يقسمون رحمه ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياه الدنيا، و رفعنا بعضهم فوق بعض

درجات' "الزخرف- 32".

و يقول الامام على (عليه السلام): 'اما بعد، فان الامر ينزل من السماء الى الارض كقطرات المطر، الى كل نفس بما قسم لها من زياده او نقصان' "الخطبه 23 نهج".

و قال (عليه السلام): 'و قدر الارزاق فكثرها و قللها، و قسمها على الضيق والسعه' "الخطبه 89 نهج"

و قال (عليه السلام): 'الرزق رزقان: رزق تطلبه و رزق يطلبك، فان انت لم تاته اتاك' "الخطبه 270 نهج"

و يقول الشاعر:

 

·                                 الرزق كالغيبث بين الناس منقسم هذا غريق و هذا يشتهى المطرا

·                                 هذا غريق و هذا يشتهى المطرا هذا غريق و هذا يشتهى المطرا

و قال آخر:

 

·                                 لا الامر امرى و لا التقدير تقديرى لى خالق رازق ماشاء يفعل بى احاط بى علمه من قبل تصويرى

·                                 و لا الشوون التى تجرى بتقديرى احاط بى علمه من قبل تصويرى احاط بى علمه من قبل تصويرى

و قد تكفل سبحانه و تعالى برزق العباد جميعا، حتى الحيوانات و الدواب. يقول سبحانه:

'و ما من دابه فى الارض الا على الله رزقها، و يعلم مستقرها و مستودعها، كل فى كتاب مبين' "هود- 6".

و يقول الامام على (عليه السلام): 'عياله الخلائق، ضمن ارزاقهم، و قدر اقواتهم' "الخطبه 89 نهج".

و من شعر الاصم قوله:

 

·                                 و كيف اخاف الفقر و الله رازقى تكفل بالارزاق للخلق كلهم و للضب فى البيداء و الحوت فى البحر

·                                 و رازق هذا الخلق فى العسر و اليسر و للضب فى البيداء و الحوت فى البحر و للضب فى البيداء و الحوت فى البحر

و لتقدير الارزاق حكمه لايعلمها الا الله. فكم من عالم عاقل و هو فقير، و كم من جاهل خامل و هو مرزوق، او كما قال القيراطى:

 

·                                 كم من اديب عالم فطن و كم جهول مكثر ماله ذلك تقدير العزيز العليم

·                                 مستكمل العقل، مقل عديم ذلك تقدير العزيز العليم ذلك تقدير العزيز العليم

الرزق مشروط بالعمل
صحيح ان الرزق مقسوم من الله تعالى، ولكنه مشروط بالعمل و عدم التواكل. يقول تعالى:

'هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا فى مناكبها و كلوا من رزقه و اليه النشور' "الملك- 15"

و يقول سبحانه: 'لياكلوا من ثمره و ما عملته ايديهم، افلا يشكرون' "سوره يس- 35"

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'اعقل و توكل' "اى اربط الدابه حتى لاتشرد ثم توكل على الله'.

و قال الامام (عليه السلام): 'قد تكفل لكم بالرزق، و امرتم بالعمل' "الخطبه 114 نهج".

و الرزق شان كل ما قدر الله تعالى، و كتبه فى اللوح المحفوظ، يكون احد نوعين:

1- الرزق المحتوم: و هو ياتى على اى حال. و هو ما عبر عنه الامام (عليه السلام) بقوله: 'و رزق يطلبك، فان لم تاته اتاك".

2- الرزق المخروم، و هو مشروط بالعمل او بغيره من الاسباب، فاذا قام الانسان بشرطه استحقه.

و لهذا كان على الانسان العمل، ثم تسليم امره الى الله.

يقول الامام على (عليه السلام): 'و ليس للعاقل ان يكون شاخصا الا فى ثلاث: مرمه لمعاش، او خطوه فى معاد، او لذه فى غير محرم' "الحكمه 390 نهج".

فتراه (عليه السلام) يعتبر الرزق من خصال المومن الحميده، و يقرن بينه و بين العباده لله.

لكنه من الغباء بمكان ان يتكالب الانسان على العمل و النصب، ظنا منه ان رزقه متناسب مع ذلك، لا بل ان شده الحرص و كثره السعى يورثان الفقر. و مفاد ذلك ما ورد فى الاخبار، ان الذى ياتى الى السوق اول من ياتى، و ينصرف منه آخر من ينصرف، ينقص ذلك من رزقه. و ما اجمل الاعتدال فى كل الاعمال.

يقول الامام على (عليه السلام): 'ان الله لم يجعل للعبد و ان عظمت حيلته و اشتدت طلبته و قويت مكيدته، اكثر مما سمى له فى الذكر الحكيم "اى اللوح المحفوظ". و لم يحل بين العبد فى ضعفه و قله حيلته و بين ان يبلغ ما سمى له فى الذكر الحكيم' "الحكمه 273 نهج".

و من كتاب للامام (عليه السلام) الى عبدالله بن العباس: 'اما بعد، فانك لست بسابق اجلك، و لا مرزوق ما ليس لك. و اعلم بان الدهر يومان: يوم لك و يوم عليك. و ان الدنيا دار دول، فما كان منها لك اتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك' "الخطبه 311 نهج".

الابتلاء بين الفقير و الغنى
و لقد جعل سبحانه وجود الفقير و الغنى، كل منهما ابتلاء للاخر. فوجود الفقراء هو

امتحان لسماحه الاغنياء و شكرهم و عدم تعلقهم بالدنيا و مادياتها. كما ان وجود الاغنياء هو امتحان لعفه الفقراء و عزتهم، فكم من فقير بالمال غنى بالنفس، و كما قال سبحانه: 'يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف' "البقره- 273".

يقول الامام على (عليه السلام): 'فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين فى انفسهم، باوليائه المستضعفين فى اعينهم' "الخطبه 190 نهج".

و قال (عليه السلام): 'و قدر الارزاق فكثرها و قللها، و قسمها على الضيق و السعه، فعدل فيها ليبتلى من اراد بميسورها و معسورها، و ليختبر بذلك الشكر و الصبر من غنيها و فقيرها' "الخطبه 89 نهج"

و بما ان كلا من الغنى و الفقر امتحان، فعلى الغنى ان يحذر الغنى الذى صار فيه، و يفهم انه استدراج و امتحان، تماما كما على الفقير ان يتحسب من فقره، و يعلم انه ابتلاء و اختبار.

يقول الامام على (عليه السلام): 'و رب منعم عليه مستدرج بالنعمى، و رب مبتلى مصنوع له بالبلوى' "اى ان بليته هى معروف اسداه الله اليه" "الحكمه 273 نهج".

و قال (عليه السلام): 'ايها الناس، ليركم الله من النعمه وجلين، كما يراكم من النقمه فرقين "اى فزعين"! انه من وسع عليه فى ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد امن مخوفا، و من ضيق عليه فى ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيع مامولا' "الحكمه 358 نهج".

و تساور الشكوك المومن الضعيف الايمان، فى سبب ابتلائه بالفقر دون الغنى، و لو علم ان تبعه الغنى اشد وطاه من الفقر لما طلب غير ما قدر الله له.

و فى الحقيقه ان الله سبحانه بميزان عدله و بوافر علمه، يختار ما فيه الصلاح لعبده. فان كان العبد مومنا افقره لعلمه بان غناه سيخرجه عن تقواه ، او اغناه لعلمه بان فقره سيخرجه عن طاعته. و قد قال النبى: 'لو اطلعت على الغيب لاخترت الواقع'.

و من يدرى ان الله قد يبتلى المومن بالعسر و البلاء ليكون صبره عليه كفاره لذنوبه، حتى يلقى الله تعالى و ما عليه خطيئه.

اما الكافر الذى اقام الله عليه الحجه مرارا و تكرارا، و هو يرتع فى كفره و عناده، فانه يمتحنه بالغنى ليزيده كفرا، او بالفقر ليزيده اثما، مصداقا لقوله تعالى: 'و لا يحسبن الذين كفروا انما نملى لهم خير لانفسهم، انما نملى لهم ليزدادو ا اثما و لهم عذاب مهين' "آل عمران- 178".

و لقوله جل من قائل: 'و يمدهم فى طغيانهم يعمهون' "البقره- 15"

و ينتج من ذلك ان الله حين خص عبده بالغنى لم يفضله على الاخر الذى اختصه بالفقر، و انما هو الابتلاء بشكليه. و لم لم يوجد فى الدنيا فقير لم يستوجب الاغنياء الثواب.

يقول الامام الكاظم (عليه السلام): ان الله عزوجل يقول: 'انى لم اغن الغنى لكرامه به على، و لم افقر الفقير لهوان به على، و هو مما ابتليت به الاغنياء بالفقراء، و لو لا الفقرآء لم يستوجب الاغنياء الجنه'

عقوبه الاستخفاف بالفقير
ان مقتضى الاخبار ان الفقر و الغنى كل منهما نعمه من نعم الله تعالى، يعطى كلا منهما من شاء من عباده، بحسب ما يعلم من مصالحه الكامله. لابل ان بعض الفقر هو مما يختص الله به عباده المقربين الذين احبهم، و فى ذلك يقول الامام الصادق (عليه السلام):

'المصائب منح من الله، و الفقر عند الله مثل الشهاده، و لا يعطيه من عباه الا من احب'.

فقد قرن منزله هذا الفقر بمنزله الشهاده فى سبيل الله، و هى مما يختص الله بها المقربين من الخاصه.

و قد روى ان رسول الله (صلي الله عليه و آله) لما ورد المدينه نزل فى دار ابى ايوب الانصارى، و لم يكن بالمدينه افقر منه لما نزل عنده.

و عن النبى (صلي الله عليه و آله) عن الله تعالى فى ليله المعراج قال: 'يا احمد محبتى محبه الفقراء. فادن الفقراء و قرب مجلسهم منك، ادنك! و بعد الاغنياء و بعد مجلسهم منك، فان الفقراء احبائى'.

و قد ذكرنا سابقا عددا من الاحاديث التى تبين مرتبه الفقير الصابر.

و من المسلم به ان الفقير الصابر اكثر ثوابا من الغنى الشاكر. و اسلم الاحوال من يعيش عيش 'الكفاف' فهو ليس بالفقير و لا بالغنى. و لذا ورد فى اكثر الادعيه طلبه، و قد ساله النبى (صلي الله عليه و آله) لاله و عترته.

و قد ورد النهى عن الاستخفاف بالفقير، لان ذلك يعنى استخفافا بالله سبحانه.

قال النبى (صلي الله عليه و آله): 'الا و من استخف بفقير مسلم، فقد استخف بحق الله. و الله يستخف به يوم القيامه الا ان يتوب'.

و عن الامام الرضا (عليه السلام): 'من لقى فقيرا مسلما فسلم عليه خلاف سلامه على الغنى، لقى الله عزوجل يوم القيامه و هو عليه غضبان'

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'لا تستخفوا بفقراء شيعه على و عترته من بعده، فان الرجل منهم ليشفع فى مثل ربيعه و مضر'.

و لله در من قال:

 

·                                 لله تحت قباب العرش طائفه هم السلاطين فى اطمار مسكنه جروا على الفلك الدوار اذيالا

·                                 اخفاهم عن عيون الناس اجلالا جروا على الفلك الدوار اذيالا جروا على الفلك الدوار اذيالا

و يقول الامام السجاد (عليه السلام) من جمله دعائه:

'و اعصمنى من ان اظن بذى عدم خساسه، او اظن بصاحب ثروه فضلا، فان الشريف من شرفته طاعتك، و العزيز من اعزته عبادتك'.

الاسباب الشخصيه
فى مقابل الاسباب التكوينيه التى منشوها من الله سبحانه، نجد عوامل ذاتيه للفقر و الغنى منشوها الانسان نفسه.

فالرزق كما ذكرنا تابع للزياده و النقصان، و تقديره مرتبط بعوامل محدده تماما، كما هو الامر فى الاجال.

بعض عوامل زياده الرزق
فمن جهه العوامل التى تزيد فى الرزق، ذكر الامام (عليه السلام) فى نهج البلاغه اهمها، و هى تنطلق من نيه الانسان و سريرته، و من تقواه و طاعته لربه، الى اخلاقه و حسن معاملته للاخرين، الى الكشر وصله الرحم، الى الدعاء و الاستغفار، الى التصدق و دفع الحقوق... و يمكن اجمالها فيمايلى:

'طاعه الله- الشكر- الاستغفار- الدعاء- صله الرحم- دفع الحقوق- الصدقه'

يقول الامام على (عليه السلام): 'و استتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته و المجانبه لمعصيته'

[هذه لاتصلح شاهدا على ما يريده الكاتب فان المرا منها انه اذا انعم الله عليكم نعمه، فليكن صبركم على طاعته ومجانبتكم لمعصيته تتميما لها و ليس المراد: ان النعمه تزيد بذلك...] "الخطبه 186 نهج".

و يقول سبحانه: 'لئن شكرتم لازيدنكم' "ابراهيم- 7"

و يقول الامام (عليه السلام): 'ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر، و يغلق عنه باب الزياده' "الحكمه 435 نهج"

و يقول (عليه السلام) من خطبه له فى الاستسفاء:

'ان الله يبتلى عباده عند الاعمال السيئه بنقص الثمرات، و حبس البركات، و اغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، و يقلع مقلع، و يتذكر متذكر، و يزدجر مزدجر. و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمه الخلق، فقال سبحانه "استغفروا ربكم انه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، و يمددكم باموال و بنين، و يجعل لكم جنات، و يجعل لكم انهارا". فرحم الله امرءا استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيته' "الخطبه 141 نهج".

و يقول (عليه السلام) فى وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): 'و اعلم ان الذى بيده خزائن السموات و الارض قد اذن لك فى الدعاء، و تكفل لك بالاجابه، و امرك ان تساله ليعطيك، و تسترحمه ليرحمك' "الخطبه 270 نهج".

و عن الامام الصادق (عليه السلام): 'دعاء الرجل لاخيه بظهر الغيب يدر الرزق و يدفع المكروه'.

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'صله الرحم تزيد فى العمر و تنفى الفقر'.

و يقول الامام الصادق (عليه السلام): 'ان لله فى كل نعمه حقا، فمن اداه زاده منها' "الحكمه 244 نهج، مع اختلاف فى اللفظ".

و يقول (عليه السلام): 'استنزلوا الرزق بالصدقه، و البكور مبارك يزيد فى جميع النعم خصوصا الرزق، و حسن الخط من مفاتيح الرزق، و طيب الكلام يزيد فى الرزق'.

و من اقوى الاسباب الجالبه للرزق اقامه الصلاه بالتعظيم و الخشوع، و قراءه سوره الواقعه بالليل و وقت العشاء، و قراءه سوره يس و تبارك وقت الصبح، و حضور المسجد قبل الاذان، و المداومه على الطهاره، و اداء سنه الفجر و الوتر فى البيت، و ان لايتكلم بكلام اللغو'.

بعض عوامل نقص الرزق
كما ذكر الامام على (عليه السلام) بعض العوامل التى تنقص الرزق او تقطعه، و هى تنصب على بعض الذنوب و الكبائر، منها:

"الذنوب- الزنا- اكمل المال الحرام- منع الحقوق"

يقول تعالى: 'و لو ان اهل القرى آمنوا و اتقو لفتحنا عليهم بركات من السماء و الارض' "الاعراف- 96".

و يقول سبحانه: 'و ضرب الله مثلا قريه كانت آمنه مطمئنه ياتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بانعم الله، فاذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون' "النحل- 112"

و يقول الامام على (عليه السلام): 'و ايم الله ما كان قوم قط فى غض نعمه من عيش فزال عنهم، الا بذنوب اجترحوها، لان الله ليس بظلام للعبيد. و لو ان الناس حين تنزل بهم النقم، و تزول عنهم النعم، فزعوا الى ربهم بصدق من نياتهم، و وله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد، و اصلح لهم كل فاسد' "الخطبه 176 نهج".

و يقول الامام على (عليه السلام): 'توقوا الذنوب، فما من بليه و لا نقص رزق الا بذنب، حتى الخدش و الكبو ه و المصيبه'.

و عن الامام الحسن (عليه السلام): 'ترك الزناء، و كنس الفناء، و غسل الاناء، مجلبه للغناء'

و عن الامام الصادق (عليه السلام): 'كثره السحت يمحق الرزق'.

و يقول الامام على (عليه السلام): 'ان لله فى كل نعمه حقا فمن اداه حفظها، و من قصر عنه خاطر بزوال نعمته' "الحكمه 244 نهج".

و يقول (عليه السلام): 'ان لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، فيقرها فى ايديهم ما بذلوها، فاذا منعوها نزعها منهم، ثم حولها الى غيرهم' "الحكمه 425 نهج".

اسباب اخرى تزيد فى الرزق
فى الروايات ان من حسنت نيته زاد الله فى رزقه.

و ان غسل اليد قبل الطعام يزيد فى الرزق

و ان التختم بالياقوت و العقيق و الفيروزج و قراءه سوره التوحيد حين دخول البيت ينفى الفقر.

و يقول الامام الصادق (عليه السلام): 'حسن الجوار يزيد فى الرزق'.

و فى الروايات:

ان غسل الراس بالخطمى يجلب الرزق و ينفى الفقر

و ان من اطلى فتدلك بالحناء من قرنه الى قدمه نفى عنه الفقر

و ان المشط يجلب الرزق

و تقليم الاظافر يوم الخميس يدر الرزق درا

و السراج قبل مغيب الشمس ينفى الفقر و يزيد فى الرزق.

و عن اميرالمومنين (عليه السلام) فى ذكر مايزيد فى الرزق، وعد منها:

'الجمع بين الصلاتين و التعقيب بعد الغداه و بعد العصر، و صله الرحم و مواساه الاخ، و البكور فى طلب الرزق، و استعمال الامانه و قول الحق، و اجابه الموذن، و ترك الكلام فى الخلاء، و ترك الحرص، و شكر النعم، و اجتناب اليمين الكاذبه، و غسل اليد قبل الطعام، و اكل ما يسقط من الخوان، و من سبح الله كل يوم ثلاثين مره دفع الله عنه سبعين نوعا من البلاء ايسرها الفقر'

اسباب اخرى تورث الفقر
روى عن الامام على (عليه السلام) ان من الاسباب التى تورث الفقر:

ترك نسج العنكبوت فى البيوت

و البول فى الحمام "يقصد بالحمام البركه التى يستحم الناس عندها"

و الاكل على الجنابه

و التمشط من قيام

و ترك القمامه فى البيت

و اليمين الفاجره

و الزنا

و اظهار الحرص

و النوم بين العشاءين و قبل طلوع الشمس

و اعتياد الكذب

و كثره الاستمع الى الغناء

ورد السائل

و ترك التقدير فى المعيشه

و قطيعه الرحم.

و روى عنه (عليه السلام) ايضا:

القيام من الفراش للبول عريانا

و ترك غسل اليدين عند الاكل

و اهانه الكسره من الخبز

و احراق قشر الثوم و البصل

و القعود على اسكفه البيت "اى على عتبه الدار"

و كنس البيت بالليل

و غسل الاعضاء المغسوله بالذيل و الكم "كما يفعل من يتوضا ثم يمسح وجهه و يديه بكمه او بطرف ردائه"

و وضع القصاع و الاوانى غير مغسوله

و وضع اوانى الماء غير مغطاه الرووس

و الاستخفاف بالصلاه

و تعجيل الخروج من المسجد

و البكور الى السوق و تاخير الرجوع عنه الى العشى

و شراء الخبر من الفقراء

و اللعن على الاولاد

و خياطه الثوب على البدن "المقصود بها خياطه الانسان ثوبه و هو على بدنه"

و اطفاء السراج بالنفس "اى بالنفخ عليه"

و عن النبى (صلي الله عليه و آله) قال: 'الفقر من خمسه و عشرين شيئا، و ذكر منها:

التقدم على المشايخ

و دعوه الوالدين باسمهما

و التخلل بكل خشب "اى تخليل الانسان بكل عود من الخشب"

و تغسيل اليدين بالطين

و ترك القصاره

و خياطه الثوب على النفس

و مسح الوجه بالذيل

و الاكل نائما

و دعاء السوء على الوالدين

وقص الاظفار بالاسنان.

و ذكر المحقق الطوسى فى آداب المتعلمين فيما يورث الفقر
كثره النوم

و النوم عريانا

و المشى امام المشايخ

و الجلوس على العتبه

و الاتكاء على احد زوجى الباب

و الكتابه بالقلم المعقود

و الامتشاط بالمشط المكسور

و ترك الدعاء للوالدين

و التعمم قاعدا

و التسرول قائما "اى لبس البنطال من قيام"

و البخل و التقتير و الاسراف

و الكسل و التوانى

و التهاون فى الامور.

الاسباب الاجتماعيه
و من عوامل الفقر الظلم بانواعه، ظلم الفرد للفرد، و ظلم طبقه فى المجتمع لطبقه، و ظلم دوله فى العالم لدوله. مما نجده شائعا فى الدول و المجتمعات.

فمن الظلم الفردى ظلم رب العمل لعامله و استغلاله و عدم اعطائه حقه من الاجر.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'اعطوا الاجير اجره قبل ان يجف عرقه'.

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'من ظلم اجيرا اجره، احبط الله عمله، و حرم عليه ريح الجنه'

و من الظلم الجماعى استبداد ظبقه التجار بالمستهلكين من الشعب، و بيع السلع بالارباح الفاحشه. و من هذا الظلم استئثار الاغنياء بالمال وعيشهم عيشه البذخ و الرفاهيه، دون ان يعطوا المحرومين حقهم من العيش الكريم.

يقول الامام على (عليه السلام): 'ان الله سبحانه فرض فى اموال الاغنياء اقوات الفقراء، فما جاع فقير الا بما متع به غنى، و الله تعالى سائلهم عن ذلك' "الحكمه 328 نهج"

و من الظلم الدولى تحكم الدول الراسماليه و الصناعيه

[و منها الدول الشيوعيه التى تنهب ثروات البلاد باساليبها المختلفه و فيها خلق الحروب لها لبيعها الاسلحه و فرض هيمنتها الاقتصاديه المطلقه عليها باساليب مختلفه... هذا ان لم نقم بمهاجمتها و اباده شعوبها متذرعه بحجج واهيه كما هو الحال بالنسبه لما فعله الاتحاد السوفياتى فى افغانستان و غيرها من بلاد العالم.] بثروات الدول الضعيفه و فرض الحصار الاقتصادى عليها او الهاوها بالحروب لتظل فقيره محتاجه اليهم. و ذلك ليحافظوا على مستوى رفاهيتهم التى كسبوها على حساب غيرهم. و هذا من اقسى اشكال الظلم و الاستعباد، التى يجب مقاومتها.

و تزول كل هذه الانواع من الظلم عندما تقوم دوله القرآن فى الارض، و تقام فيها حدود الله، و يقف كل جانب عند حده العادل، الذى يضمن حقه و لايجحف بحق غيره، فى علاقات انسانيه اخلاقيه بين الافراد و المجتمعات و الدول.

و قد ورد فى الاسباب التى تورث الفقر، بعض العوامل التى تدخل فى هذا الباب.

فاذا طغى الفجور على مجتمع حل به الفقر الجماعى، فيقل المطر و تجف الينابيع و تجدب الارض من المحاصيل.

و اذا فشى الظلم و الكذب و سوء الخلق و قطع الرحم و ايذاء الجيران فى المجتمع، سلط الله عليهم من يفقرهم و يذلهم.

و اذا حبس الناس الحقوق و اكلوا السحت و الربا و مال اليتيم، وردوا السائل و المحروم، نزع الله من بينهم البركه فلايهناون بنعمه من النعم، و لا تستجاب لهم دعوه.

و اذا استهانوا باوامر الله و لم يقيموا حدوده، فتركوا العباده و الصلاه و الامر بالمعروف و النهى عن المنكر، عاقبهم سبحانه بانواع الخوف و الجوع و نقص الثمرات و العدد.

يقول جل من قائل: 'و لنبلونكم بشى من الخوف و الجوع و نقص من الاموال و الانفس و الثمرات، و بشر الصابرين' "البقره- 155".

علاج الفقر
لايمكن معالجه الفقر

[قد تقدم من الكاتب ما يدل على حسن الفقر و ما يتضمن مدحه و تجنيده و عليه فيرد سوال: انه اذا كان الفقر له هذه المكانه و اذا كان ممدوحا الى هذا الحد فلماذا يهتم الاسلام بازالته و بالقضاء عليه...؟!

و لم يتعرض الكاتب لاجابه على سوال كهذا... و لو بان يذكر الفرق بين ذلك الممدوح و بين الفقر الذى يهتم الاسلام بعلاجه... و تلك ثغره هامه فى هذا البحث لامجال للتغاضى عنها... فليلاحظ ذلك...] فى الاسلام فى معزل عن فلسفه الاسلام الفكريه و نظامه الاقتصادى.

و تنطلق الفلسفه الفكريه للاسلام من فلسفه شامله متكامله للكون توحد كل مافيه فى نظام متناسق يستمد وحدته من وحدانيه الله. لذلك سمى الاسلام دين التوحيد، لان كل شى ء فى نظره يتوحد فى ارتباطه بالواحد الاحد.

من هذا المنطلق نجد ان الاسلام استطاع ان يوحد بين العباده و المعامله، و العقيده و السلوك، و الروحيات و الماديات، و القيم الاقتصاديه و القيم المعنويه، و الدنيا و الاخره، و الارض و السماء.

و من هذه النظره التكامليه للكون و الحياه وضع الاسلام قواعده و اسسه و حدوده و غاياته، و اصدر تشريعاته و فرائضه، فى سياسه الحكم و سياسه المال، و فى توزيع المغانم و المغارم، و فى الحقوق و الواجبات. و ضمن هذا الاصل الكبير تنطوى سائر الاجزاء و التفصيلات.

و حين ندرك هذه الفكره الكليه عن نظره الاسلام الى الكون و الحياه و الانسان، ندرك الخطوط الاساسيه للعداله الاجتماعيه فى الاسلام.

فهذه العداله قبل كل شى ء هى عداله انسانيه شامله، و ليست عداله اقتصاديه محدوده. و هى اذن تتناول جميع مظاهر الحياه و جوانب النشاط فيها، كما تتناول الشعور

و السلوك، و الضمائر و الوجدانات. و عليه فان القيم التى تتناولها هذه العداله ليست القيم الماديه فقط، و انما هى القيم الروحيه ايضا.

عقيده التوحيد
تنبعث هذه العقيده من الايمان بالله تعالى و بوحده مخلوقاته، فتعطى الانسان نظريه توحيديه، ينظر من خلالها الى جميع الموجودات كمجموعه واحده و منظومه مترابطه، ذات جهه واحده، هى جهه الله تعالى.

و هذه العقيده اذا كانت صحيحه راسخه فى قلب الانسان تسيطر على وجوده، و توحد جميع ابعاده المختلفه، و تجعلها متلاحمه و متلائمه، ثم ينبسط نور هذه الوحده و التلاحم على عامه صلات الانسان، بحياته و اعماله و اتجاهاته.

الايمان التوحيدى- الاجتماعى
ان الايمان التوحيدى يصور المجتمع فى نظر المومن الموحد، كاسره كبيره واحده، و كهيئه ايديولوجيه موحده. و هذا الاعتقاد اذا ساد المجتمع فانه يبطل الاثره و التمييز و الطبقيه، و يبنى من الناس امه وسطا، تقوم على السنن العادله.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'ايها الناس، ان ربكم واحد، و ان اباكم واحد، كلكم لادم و آدم من تراب، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، و ليس لعربى على عجمى فضل الا بالتقوى'.

و يقول (صلي الله عليه و آله): 'لافضل لعربى على عجمى، و لا لابيض على احمر، الا بالتقوى'.

و المجتمع التوحيدى لايمكن ان يوجد فى ظل حكومه الطاغوت، بل لابد له ليتولد و ينمو و يستقر من حكومه التوحيد التى تحكم بتعاليم الله.

و لبيان الايمان التوحيدى ناتى بالمثال التالى من سيره الائمه عليهم السلام:

عن عبد الله بن الصلت، عن رجل من اهل بلخ، قال: كنت مع الامام الرضا "ع " فى سفره الى خراسان، فدعا يوما بمائده له، فجمع عليها مواليه من السودان و غيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهولاء مائده! فقال: 'مه "راى اسكت"! ان الله تبارك و تعالى واحد، والام واحده و الاب واحد، و الجزاء بالاعمال'

انما المومنون اخوه
و من اجلى مظاهر الايمان التوحيدى، المواخاه بين الافراد فى الاسلام. يقول تعالى 'اننما المومنون اخوه، فاصلحوا بين اخويكم' "الحجرات- 10". و قد حصلت المواخاه بشكل فعلى اول مره فى الاسلام، حين وفد المهاجرون الى المدينه،

[بل حصلت قبل ذلك فى مكه ايضا.] فاخى النبى (صلي الله عليه و آله) بينهم و بين الانصار، فاقتسموا المال و النساء بينهم عن طيب نفس.

يقول الامام زين العابدين (عليه السلام) لاحد اصحابه: 'يازهرى، و ما عليك ان تجعل المسلمين منك بمنزله اهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزله والدك، و تجعل صغيرهم بمنزله ولدك و تجعل تربهم بمنزله اخيك؟! فاى هولاء تحب ان تظلم، و اى هولاء تحب ان تدعو عليه، و اى هولاء تحب ان تهتك ستره؟'

فعلى المومن ان يقيم اخاه المومن مقام نفسه، و يبادله المحبه و يشاركه فى الحقوق، فيحب له كل ما يحب لنفسه، و يكره له كل ما يكره لها. و هذا هو ميزان السلوك فى الاسلام.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'لايومن احدكم حتى يجب لاخيه ما يحب لنفسه'.

و ليس اجمع هذا المعنى من قول الامام على (عليه السلام) فى وصيته لابنه الحسن (عليه السلام) : 'يا بنى اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك، فاحب لغيرك ما تحب لنفسك، و اكره له ما تكره لها. و لا تظلم كما لا تحب ان تظلم. و احسن كما تحب ان يحسن اليك. و استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك. و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك'. "الوصيه 270 نهج".

تساوى الناس فى الحقوق
من مفهوم الايمان التوحيدى- الاجتماعى، استدل العلماء على تساوى الافراد فى الحقوق نتيجه تساويهم فى الخلق. فكما ان لهم الها واحدا، فكذلك لهم حقوق واحده.

[لكن ذلك مرهون بالايمان و اما بدونه فان التفاوت حاصل اذ لا ريب فى ان المومن يمتاز عن غيره فى كثير من الحقوق....]

و لا ميزه لاحد على احد و لا لطبقه على طبقه. و نجد هذا المعنى واضحا فى كلمه الامام على (عليه السلام) فى عهده لمالك الاشتر، حين اوصاه بالرعيه فقال: 'فانهم صنفان، اما اخ لك فى الدين، او نظير لك فى الخلق' "الكتاب 292 نهج".

وحده الحقوق
و هكذا تصدر الحقوق كلها متكامله من مصدر واحد هو الله تعالى. فهناك حقوق لله اختص بها نفسه على عباده، و هناك حقوق فرضها على الانسان لنفسه، و هناك حقوق فرضها على عباده لعباده. و تتداخل هذه الحقوق فيما بينها.

و لم نجد وثيقه كامله تفصل هذه الحقوق اجمع من رساله الحقوق للامام زين العابدين

يقول (عليه السلام): 'اعلم! ان الله عزوجل عليك حقوقا محيطه بك... بعضها اكبر من بعض. و اكبر حقوق الله عليك ما اوجبه لنفسه تبارك و تعالى من حقه الذى هو اصل الحقوق، و منه تفرع. ثم ما اوجبه عليك لنفسك... ثم تخرج الحقوق منك الى غيرك، من ذوى الحقوق الواجبه عليك'.

و يقول الامام على (عليه السلام): 'ان الله تعالى انزل كتابا هاديا... و فصل حرمه المسلم على الحرم كلها، و شد بالاخلاص و التوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده الا بالحق. و لا يجوز اذى المسلم الا بما يجب' "الخطبه 165 نهج"

و يقول (عليه السلام): 'جعل الله سبحانه حقوق عباه مقدمه لحقوقه، فمن قام بحقوق عبادالله، كان ذلك موديا الى القيام بحقوق الله'

و هكذا فان تاديه حقوق الناس هى جزء من تاديه حقوق الله، و لا تنال مرضاه الله الا بتاديه تلك الحقوق.

و من اهم الحقوق التى اثبتها الشارع لكل الناس، ليصرف عنهم شبح الفقر، حق العمل و حق الحريه و حق الحياه الكريمه فالاسلام اعطى كل فرد فى مجتمعه حق العمل و حق الحريه، و اتاح له الظروف المساعده ليعمل و يحق كامل قدراته و مواهبه، و ذلك سعيا للاعتماد على نفسه فى اقامه الحياه اللاثقه به. فان هو بعد ذلك قصر عن تحقيق ذلك كفله بالضمان الاجتماعى الذى يومن له الحد الاساسى من الحياه الكريمه.

[الضمان الاجتماعى خاص بالقاصرين دون المقصرين و الاول هو مراد الكاتب.]

حرمه المسلم
و تنطلق حرمه المسلم مجردا عن كفاءاته و مادياته، من حرمه الله تعالى الذى خلقه و كرمه. فالمسلم هو خليفه الله فى الارض،

[لقد شاع هذا المفهوم استنادا الى بعض الايات القرآنيه التى تدل على اكثر من ان الله قد جعل خليفه فى الارض...

اما انه يكون خليفه لمن؟... فذلك مالا تدل عليه الايات القرآنيه اطلاقا...] و منه يستمد عزته و كرامته.

[دلاله الايه على ذلك محل نظر.]

يقول سبحانه: 'و لله العزه و لرسوله و للمومنين' "المنافقون 8".

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'المسلم اخو المسلم، لايخونه و لا يكذبه و لا يخذله. كل المسلم على المسلم حرام، عرضه و ماله و دمه. التقوى ههنا. بحسب امرى من الشر ان يحقر اخاه المسلم'.

الساعى فى حاجه اخيه المسلم
و قد ذكرنا فى الفصل الاول كيف ان الله سبحانه امتحن الناس بعضهم ببعض، اذ بسط الرزق لبعضهم و قدره على بعضهم. و من هنا كان سعى المومن فى خدمه اخيه المومن من اعظم الفضائل لابل الواجبات. لان المومن يتخذ قيمته من الله، فاكرامه هو اكرام الله، و اعطاوه هو اعطاء لله. يقول جل من قائل:

'من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيره، و الله يقبض و يبسط و اليه ترجعون' "البقره 247".

فاقراض الفقير هو بمنزله اقراض الله تعالى.

و قد وردت الاحاديث الكثيره فى فضل قضاء حوائج المومن.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'المسلم اخو المسلم، لايظلمه و لا يسلمه. من كان فى حاجه اخيه كان الله فى حاجته'

و يقول (صلي الله عليه و آله): 'من نفس عن مومن كربه من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربه من كرب يوم القيامه، و من ستر مسلما ستره الله فى الدنيا و الاخره. و الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون اخيه'.

و يقول الامام الصادق (عليه السلام) لابن جندب: 'يا ابن جندب، الماشى فى حاجه اخيه كالساعى بين الصفا و المروه، و قاضى حاجته كالمتشحط بدمه فى سبيل الله يوم بدر واحد، و ما عذب الله امه الا عند استهانتهم بحقوق فقراء اخوانهم'.

و قد اعتبر الاسلام اعطاء الفقير خير ذخر للانسان يجده يوم القيامه، فكان الفقير حين نعطيه شيئا يحمل لنا ذاك العطاء الى يوم القيامه حيث نحتاج اليه.

و ما اجمل قول الامام على (عليه السلام) فى ذلك، فى وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): 'و اذا وجدت من اهل الفاقه من يحمل لك زادك الى يوم القيامه، فيوافيك به غدا حيث تحتاج اليه، فاغتنمه و حمله اياه، و اكثر من تزو يده و انت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده. و اغتنم من استقرضك فى حال غناك، ليجعل قضاءه لك فى يوم عسرتك'. "الكتاب 270 نهج".

اتباع تعاليم الاسلام يضمن انعدام الفقر
ذكرنا فى الفصل الثانى ان من الاسباب التى تورث الفقر، ارتكاب المعاصى و الفواحش و اكل المال الحرام و منع الحقوق، و بكلمه عامه عدم اطاعه الله تعالى.

فعلاج الفقر كامن فى طاعه الله تعالى و تمثل اوامره و تطبيق تعاليمه، فان ذلك يضمن انعدام الفقر فى المجتمع.

يقول الامام على (عليه السلام):

'اما و الذى فلق الحبه وبرا النسمه،لو اقتبستم العلم من معدنه، و ادخرتم الخير من موضعه، و اخذتم الطريق من وضحه، و سلكتم الحق من نهجه، لابتهجت بكم السبل، وبدت لكم الاعلام، و اضاء لكم الاسلام، و ما عال فيكم عائل، و لا ظلم منكم مسلم و لا معاهد'

علاج الفقر من الناحيه الاقتصاديه
يتخذ علاج الفقر فى الاسلام سبيلين متميزين، هما:

العلاج الفردى- و العلاج الاجتماعى.

العلاج الفردى للفقر
ينتج من كل ما سبق ان علاج الفقر فى الاسلام ينبثق من داخل النفس، لان المجتمع الصالح لايقوم الا اذا كان كل فرد فيه قد ادرك مبادى الاسلام، و تربى على قيمه و آمن بغاياته.

و ان معرفه المبدا الالهى و تمثله فى الذات و الافعال، هو كمال العقل. لان ذلك يوصل الى مرضاه الله و الجنه: العقل ما اكتسب به الجنه

و لذلك قال الامام موسى الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم قوله الرائع: 'يا هشام، من اراد الغنى بلامال، وراحه القلب من الحسد، و السلامه فى الدين، فليتضرع الى الله فى مسالته بان يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، و من قنع بما يكفيه استغنى، و من لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى ابدا'.

فمن العبث ان يقوم مجتمع متوازن يشعر فيه كل فرد بوحدته مع غيره فى الحقوق و الواجبات، اذا كان كل واحد يسعى الى الجشع و الحرص و التكالب على الدنيا، كالبهيمه المربوطه همها علفها. لذلك روض الاسلام الذات الانسانيه على الزهد بمتع الحساه و ماديات الدنيا، و على السعى الى المعارف الروحيه و المرضاه الالهيه. فبقدر ما يرتفع المرء عن الحاجات البهيميه يصبح انسانا.

الحض على الزهد فى المال و التحرر من سيطرته
من هنا حض الشارع على الزهد يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'ليكن بلاغ احدكم من الدنيا كزاد الراكب'.

لان الماده و الشهوات غالبا ما تصد عن المعانى الروحيه الالهيه. يقول تعالى 'قد افلح من زكاها و قد خاب من دساها' "الشمس 10".

و الزاهد الذى تحرر من علائق الماده و التراب هو اقرب ما يكون من الله، و بذلك تصبح قيمته عند الله اعظم من غيره، و ان كانت ملابسه الخارجيه رثه خلقه، فان الله ينظر الى القلب النظيف و ليس الى الرداء النظيف.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'يا اباذر، الا اخبرك باهل الجنه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: كل اشعث اغبر ذى طمرين لايوبه به، لو اقسم على الله لابره'.

و لو تفحصنا نهج البلاغه لوجدنا نسبه كبيره منه "نحو 10 درصد" تتكلم فى الزهد و ذم الدنيا. و قد كان الامام على (عليه السلام) اول الزاهدين و المطلقين للدنيا. حتى انه رضى من الدنيا باليسير، فكان طعمه قرصين من الشعير، و لبسه طمرين باليين. حتى اثر عنه انه قال: 'لقد رقعت مدرعتى هذه حتى استحييت من راقعها'. و اذا كانت قيمه الانسان بمقدار تحرره من الدنيا و قربه من الله، فلقد كان الامام (عليه السلام) من اقرب الناس الى الله و احقهم بالقدسيه و الشان.

و فى ذلك يقول الشاعر اقبال:

 

·                                 فقير على طمريه نفحه حيدر اعزلنا من الف كسرى و قيصر

·                                 اعزلنا من الف كسرى و قيصر اعزلنا من الف كسرى و قيصر

و من هذا المنطلق قال تعالى فى سوره الواقعه:

'اذا وقعت الواقعه ليس لوقعتها كاذبه خافضه رافعه'

فوصف القيامه بانها تضع الموازين القسط لحقائق الناس، فترفع من كان فى نظر الناس حقيرا لايوبه به، و تخفض من كان فى نظر الناس عظيما كالملوك و الجبابره.

قيمه الانسان بالعطاء و ليس بالتملك
و بما ان التحرر من الماده يدفع الانسان الى الجود و العطاء، فان قيمه الانسان فى نظر الاسلام

[اى فى هذا المجال.]

تاتى من مقدار عطائه و بذله و مساعدته للاخرين، لا من مقدار ما يملك من مال او علم او قوه. فاذا هو لم يبذل للناس ما فى وسعه فلا قيمه له، و لا قيمه لا مكانياته. كالغنى الذى يضمن بماله، و العالم الذى لاينشر علمه، و القوى الذى لايستعمل عضلاته.

فاذا شبهنا الانسان بالشجره، فان عطاءه لغيره هو ثمره تلك الشجره، فاذا كانت الشجره لاتثمر فليس مالها غير القلع و الكسر و الحرق.

و فى هذا المعنى قال امير الفصاحه و البيان (عليه السلام) كلمته الماثوره: 'قيمه كل امرى ء ما يحسنه'.

[الظاهر ان هذه العباره لا تستطيع تحمل المعنى الذى اريد استنباطه فيها.]

من هذا المنطلق حرم الشارع كنزالاموال،

[قلنا فيماسبق ان هذا الكلام على اطلاقه محل اشكال و الايه القرآنيه المشيره الى هذا المعنى ناظره الى الاموال العامه و لااطلاق فيها. راجع: 'ابوذر، مسلمان يا سوسياليست'.] لان صاحبها لايقدم ايه خدمه لمجتمعه. كما حرم الربا لان صاحبه ياخذ و لا يعطى.

تسخير قدرات الفرد للجماعه "اثبات الذات و نفى الذات"
يوكد الفيلسوف الكبير الدكتور محمد اقبال على فكره 'اثبات الذات "خودى"'، و ذلك بفسح المجال امام الفرد لتنميه كافه مواهبه و قدراته تنميه تجعله قويا معطاء. و بعد هذه المرحله تاتى فكره 'نفى الذات "بى خودى"' و هى تعنى ان تذوب اراده الفرد فى خدمه المجتمع. فالمسلم لايقول "انا" بقدر ما يقول "نحن". و ما تنميه ذاته الا لخدمه المجتمع. فنكون بذلك قد حفظنا حريه الفرد و حق المجتمع فى آن واحد.

و ان التداخل بين مصلحه الفرد و مصلحه المجتمع قائم بشكل مطرد، فكلما انتج الفرد اغتنى المجتمع، و كلما اغتنى المجتمع غنى الفرد.

التاثير المتبادل بين الفرد و المجتمع "وحده المجتمع"
و من ابرز سمات المجتمع هى وحدته التامه، فهو كالكون المتماسك اذا اختل منه جزء انتقض كامل نظامه، او كالجسد الواحد اذا تعطل منه عضو ظهره تاثيره فى بقيه اجزائه.

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'مثل المومنين فى توادهم و تعاطفهم و تراحمهم، كمثل الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر'.

و من هذا المنطلق التكاملى نجد ان القرآن يعتبر اساءه الانسان لغيره اساءه لنسه، و قتل المرء لاخيه هو قتلا لذاته.

يقول تعالى: 'يا ايها الذين آمنوا لاتاكلوا اموالم بينكم بالباطل الا ان تكون تجاره عن تراض منكم. و لا تقتلوا انفسكم. ان الله كان بكم رحيما' "النساء 29". اى لايقتل بعضكم بعضا. و لو كان المقصود بذلك ان لايقتل المرء نفسه لجاءت الايه بصيغه المفرد و ليس الجمع.

[الظاهر: ان الايه مطلقه، تشتمل قتل الانسان نفسه ايضا.] و من منطلق وحده المجتمع اعتبر القرآن ان من يقتل شخصا فكانما قتل المجتمع كله. يقول تعالى:

'من اجل ذلك كتبنا على بنى اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد فى الارض، فكانما قتل الناس جميعا، و من احياها فكانما احيا الناس جميعا' "المائده 32"

لذلك اعتبر ضروره القصاص للجانى لانه يقتل المجتمع بفعله، و اعتبر زواله حياه للمجتمع. يقول جل من قائل:

'ولكم فى القصاص حياه يا اولى الالباب، لعلكم تتقون' "سوره البقره 179 "

مبدا حريه الفرد فى الكسب و التملك

الاسلام يساير الفطره و يحاول تشجيعها و الاستفاده منها، و كل نظام يعاكس الفطره فاشل لا محاله، مهما اقام على الافراد ستارا حديديا. و الاسلام بعد ان عالج الفقر و امن الحياه العزيزه الكريمه لكل انسان فى مجتمعه، لم يجد ضيرا من ان يعمل كل انسان بحريه تامه، باذلا كل امكانياته للكسب و الانتاج، لابل انه يرى ان ذلك من

انجع الامور، لانه يعود بالفائده على الفقير و المحروم و يدعم رفاه المجتع. فكلما عمل القادرون زادت نسبه تامين الضعفاء و المحتاجين... و مادام الحد الضرورى من الحياه مومنا لكل فرد، فايه فائده نجنيها اذا حرمنا الافراد من طموحهم و كبتنا من حرياتهم، سوى حرمان المجتمع من طاقات ابنائه؟!.

ان الاسلام لايمنع تقدم الافراد فوق المستوى الانسانى الذى وفره لهم، لابل يريد من الجميع العمل و الطموح و الارتقاء، لان من هدفه اغناء و تمليك كل فرد، بينما تسعى المبادى الشيوعيه الى افقار كل فرد و سلبه حقوقه. و شتان بين نظام يرفع الجميع الى الغنى، و نظام يدنى الجميع من الفقر.

و بعد ان زود الاسلام جميع افراده بالمبادى الاخلاقيه و شحنهم بالمثل الاعتقاديه التى تجعل الانسان اخا الانسان، يكفله و يواسيه و لايخذله، وضع التشريعات الضروريه لمن ينحرف عن اهدافه و معانيه، فحرم الاستغلال و الاحتكار و تبديد المال و اساءه استخدامه.

تحديد سلطه المالك على الانتفاع بماله
فى الاسلام تحديدات متعدده لسيطره المالك على التصرف فى ماله، كمنعه من الاكتساب بالربا، و منعه من الاضرار بالجماعه عن طريق استخدام ماله بشكل يضر بالاخرين، انطلاقا من القاعده. الشرعيه: 'لا ضرر و لا ضرار' لان الانسان فى النظره الاسلاميه موكل بالمال ليستخدمه لخدمه الجماعه و اقامه المجتمع العادل. و ان تصرف المالك فى ماله بشكل يودى الى الاضرار بالاخرين يمكن ان يكون احد نوعين:

الاول: اضرار مباشر، كان يسرق او يغتصب او يتلف مال غيره.

الثانى: اضرار غير مباشر، و هو ما يحصل فى المجتمعات الراسماليه التى لاتضع حدا لجشع الانسان، بل تسمح له ان يستغل امواله كيف يشاء ما لم يسلب الاخرين حريتهم الشكليه.

فاذا قام احدهم بمشروع راسما لى كبير، فانه يستطيع بواسطته ان يدمر المشاريع الصغيره. و ذلك دون ان يسلب اصحاب المشاريع الصغيره شيئا من بضاعتهم التى يملكونها فعلا، و انما بان يضطرهم الى تصريفها بارخص الاثمان، فينسحبون من الميدان و يعجزون عن مواصله العمل.

و فى كل حاله يسى ء المرء استخدم امواله، يفرض الاسلام عليه الحجر،

[هذا خاص بالتصرفات السفيهه التى لايرضى بها العقلاء و اما سائر انحاء التصرفات غير المقبوله شرعا فقد وضع لها علاجات اخرى من قبيل حرمه الاحتكار و الربا و غير ذلك....]

اى ينزع منه حق التصرف بماله: و يعين له وكيلا قادرا على استخدام المال بالطرق الشرعيه، لينمى له المال لصالحه.

العلاج الاجتماعى للفقر
و هو يتناول دور المجتمع و الدوله فى علاج الفقر، و ذلك طبقا للاسس التى رسمها الاسلام فى العلاقات بين الافراد، و منها التعامل بين العامل و صاحب المال. و قد ابتنيت هذه الاسس على مبدا جليل هو ان 'لا كسب بلا عمل'.

[هذا على اطلاقه فيه اشكال فليراجع كتاب اقتصادنا و غيره... و الا فان معنى ذلك هو ان لايصح نظام المضاربه و لا نظام الارث فى الاسلام و الامثله على ذلك كثيره جدا.]

و سنجد ان الاسلام حاول استخدام كل الوسائل لرفع سويه المجتمع الماديه "تنميه الانتاج"، ثم حاول النهوض بمستوى المحرومين و العاجزين بما شرع لهم من حقوق فى العمل و الحياه الكريمه "الضمان الاجتماعى". ثم حاول ازاله الفوارق الكبيره بين طبقات الشعب "التوازن الاجتماعى". و كل هذه الوسائل من شانها ازاله الفقر و النهوض بالمحرومين ليلحقوا بسويه الناس.

طريقه المعامله بين العامل و صاحب المال
سمح التشريع الاسلامى للعامل باسلوبين لتحديد المكافاه التى يستحقها، و ترك للعامل الحق فى اختيار ايهما شاء، وفق مصلحته و تقديره... و هما: اسلوب الاجره، و اسلوب المشاركه فى الارباح او الناتج. فمن حق العامل ان يطلب مالا محددا مكافاه له على عمله، كما يحق له ان يطالب باشراكه فى الربح او الناتج.

و سنشرح ذلك فيما يلى:

اسلوب الاجره
يمتاز هذا الاسلوب بعنصر الضمان، فالعامل اذا قنع بان يكافا بقدر محدد من المال لقاء عمله، و هو ما نسميه الاجره، كان على صاحب العمل دفع هذا القدر المحدد له، بقطع النظر عن نتائج العمل و ما قد يسفر عنه الانتاج من مكاسب او خسائر.

اسلوب المشاركه
و هو ان يقترح العامل على صاحب العمل ان يشاركه فى

الناتج و الارباح بنسبه مئويه، بامل الحصول على مكافاه اكبر، و بذلك يربط العامل مصيره بالعمليه التى يمارسها، و يفقد عنصر الضمان، اذ من المحتمل ان لايحصل على شى ء اذا لم يوجد ربح.

و لكل من الاسلوبين ميزته الخاصه
و قد نظم الاسلام الاسلوب الاول "الاجره" بتشريع احكام الاجاره. كما نظم الاسلوب الثانى "المشاركه فى الربح او الناتج" بتشريع احكام مختلفه، منها:

1- عقد المزارعه: وفيه يتفق العامل مع صاحب الارض و البذر على استخدام الارض فى زراعه ذلك البذر، و مقاسمه الناتج بينهما.

2- عقد المساقاه: و فيه يتعهد العامل بسقى الارض فى مقابل منحه نسبه مئويه فى الثمره.

3- عقد المضاربه: و فيه يتجر العامل لصاحب المال بما له على ان يقاسمه ارباح تلك التجاره.

4- عقد الجعاله: و فيه يعلن تاجر الاخشاب مثلا استعداده لمنح اى شخص يصنع له سريرا من تلك الاخشاب، نصف قيمه السرير

و فى كلا الاسلوبين السابقين لتحديد مكافاه العامل لايجوز لصاحب المال ان يضع على العامل شيئا من الخساره، بل يتحمل صاحب المال الخساره كلها ان حصلت، و حصب العامل من الخساره ان تضيع جهوده سدى.

و القاعده الاساسيه لمكافاه العامل ان يكون قد بذل جهدا ما فى عمليه الانتاج، و الا لاتجوز له ايه مكافاه.

و القاعده العامه فى نظريه الاقتصاد الاسلامى انه لايسمح لاى فرد بان يضمن لنفسه كسبا بدون عمل، لان العمل هو المبرر الاساسى للكسب فى النظريه.

[راجع التعليقه السابقه.]

و من امثله المدلول السلبى لهذه القاعده منع المستاجر للدار او الارض او ايه اداه انتاج عن ايجارها باجره اكبر مما كلفه استئجارها ما لم ينفق عليها عملا يستحق الزياده.

و من امثله ذلك ايضا منع الاجير عن استئجار غيره للقيام بالمهمه التى استوجر عليها باجره اقل مما حصل عليه.

[راجع: كتب الفقه الاسلامى بالنسبه لهذا الغرض.] فحصوله على الفرق بين الاجرتين يكون حراما لانه لايقابل عملا.

و احد تلك الامثله هو: الربا.

الربا و سبب تحريمه:

الربا فى القرض حرام فى الاسلام، و هو ان تقرض غيرك مالا الى موعد بفائده يدفعها المدين عند تسليم المال فى الموعد المتفق عليه. فلا يجوز القرض الا مجردا عن الفائده، و ليس للدائن الا استرجاع ماله الاصلى دون زياده، مهما كانت الزياده ضئيله.

و هذا الحكم يعتبر فى درجه وضوحه اسلاميا، فى مصاف الضروريات من التشريع الاسلامى.

و الفائده تعتبر فى العرف الراسما لى الذى يسمح بها، اجره راس المال النقدى الذى يسلفه الراسماليون للمشاريع التجاريه و غيرها، لقاء اجر سنوى يحدد بنسبه مئويه من المال المسلف، و يطلق على هذا الاجر اسم الفائده. و هم لايرون اى فرق بين تلك الاجره على المال و بين الاجره التى تحصل نتيجه ايجار العقارات و ادوات الانتاج.

لكن الاسلام يجد فرقا اساسيا بين الحالين وفق نظريته التى سبق شرحها. فوسيله الانتاج "الاله مثلا" التى يوجرها صاحبها هى عمل مختزن، يشترك فى الانتاج، و هى كالعامل الذى يبذل طاقته، و يكون ذلك بتاكلها و خضوعها للكسر و العطب، فتخرج بعد الانتاج غيرها قبل الانتاج، و هو ما نسميه "الاستهلاك"، و لذلك وجب لها الاجر. اما المال الذى يدخل فى الانتاج على اساس الفائده، فهو يبقى نفسه بعد الانتاج و قبله، فعلام يستحق الفائده؟ و القاعده ان لااجر بلا عمل!.

[راجع التعليقه السابقه العدد 30. فقد قلنا ان لو كان هذا صحيحا لما صحت المضاربه و كذلك غيرها من النظم الاقتصاديه الاسلاميه و سواها من الاحكام الشرعيه الفرعيه. اضفنا الى ذلك: ان المال الذى يدخل فى الانتاج لايبقى على حاله و ان بقى هو نفسه بعدها... و ذلك لوجود تقلبات و تحولات فى قيمته الشرائيه قوه و ضعفا... و اذن فاللازم- تبرير تحريم الربا بامر آخر اكثر واقعيه وانسجاما مع مجمل النظم و الاحكام الاقتصاديه فى الاسلام....]

و بما ان اموال المرابين غير معرضه للنقص بحال من الاحوال، نجد ان اموالهم تتضخم باستمرار بدون ان يقوموا باى عمل، و ذلك على حساب جهد الاخرين.

و هذا من اكبر عوامل الفقر، لانه ينمى طبقه المتمولين العاطلين عن العمل، فى حين يفقر طبقه العاملين الكادحين الذين اغلبهم من الفقراء. فهو من اكبر عوامل زياده التباين فى المجتع.

و قد سمح الشارع باسلوب المشاركه فى الناتج على اساس الارض فى عقد المزارعه

و المساقاه، و على اساس المال التجارى فى عقد المضاربه، و على اساس الماده الاوليه فى عقد الجعاله، ولكنه لم يسمح بالمشاركه فى الناتج فى ادوات الانتاج.

فاذا قدم صاحب راس المال الاله ليعمل بها العامل، لم يجز لصاحب الاله ان يشارك العامل فى نسبه الربح و الانتاج، بل ياخذ اجره على الاله تناسب ما يستهلك منها.

و عليه فان بعض الاشياء اجاز الشارع لها الاجره فقط، مثل البيت و الارض و الاله. فى حين جل لبعضها الاخر حقا فى نسبه الانتاج، مثل المال التجارى، و الارض مع البذر، و الماده الاوليه كالصوف و الخشب و خلافه. فما الفرق بين الحالين؟

ان البيت و الارض و ادوات الانتاج هى عمل مخزون ولكنه لايتضمن مشاركه فعليه من صاحبه فى عمليه الانتاج، فهو واسطه فقط للانتاج، و يستحق الاجره فقط. اما المال التجارى و البذر مع الارض و الماده الاوليه، فهى ممارسه مباشره لمالكها فى عمليه الانتاج.

[هذا خلاف قواعد الاسلام... بل هو ماخذو فى فلسفات الماركسيه و الا... فانه اذا كانت الارض مع البذر و الماده الاوليه عملا مخزونا و ممارسه مباشره لمالكها، فلماذا لا تكون الارض وحدها و ادوات الانتاج كذلك و هل البذر بدون الارض يعتبر عملا مخزونا او هما معا، اذا كانا معا كذلك فلتكن الارض وحدها كذلك: اليست الارض قد بذل فيها عمل لاحيائها استصلاحها؟ اضف الى ذلك انه لماذا كانت الارض مع البذر ممارسه فعليه و لا تكون الاله ممارسه فعليه ايضا بل لماذا لايكون العكس هو الصحيح؟ و هل صحيح: ان الارض مع البذر ممارسه فعليه؟ و كيف؟!.]

ففى المفهوم الاسلامى يكو الفرق فى القيمه بين الماده الاوليه قبل تصنيعها و بعد تصنيعها هو من حق مالك الماده الاوليه و من حق العامل،و ليس م حق الاله التى حولته.

[لماذا كذلك... هذا ليس من الاسلام فى شى ء... هذا كلام الشيوعيين كما قلنا.]

ففى عقد الجعاله يكون الناتج من حق صاحب الماده و الاجير الصانع.

[فى عقد الجعاله ليس للصانع فى الناتج حق كما هو ظاهر، بل له فقط ما يجلعه له صاحب المال.] اما الاله فلها حق الاجره

[هذا فى خصوص استئجار الاله و ليس فى عقد الجعاله.] فقط و ليست لها نسبه من الربح.

و كذا الامر فى عقد المزارعه، فالارض التى بذلها صاحبها مع البذر، يكون له حق فى الناتج فتكون له نسبه من الثمر، لان عمليه الزارعه ما هى الا انماء للبذره التى هى ملك لصاحب الارض.

و اما فى عقد المضاربه، فان صاحب المال يبذل ما له للعامل، فيشترى العامل البضاعه من ذلك المال، فتكون ملكا لصاحب المال،

[لوصح هذا لكان العامل يستحق الاجره فقط و لا يستحق فى نسبه الربح شيئا و يخرج بذلك عن كونه مضاربه.] و ما عمل العامل الا الاتجار بتلك البضاعه، فلصاحب المال حق فى الربح.

و فى كل هذه الاحوال نجد ان الاسلام يعطى الافضليه للعامل على وسائل الانتاج، اذ يحق له ان ياخذ نسبه مفتوحه من الانتاج، بخلاف الاله التى تاخذ فقط اجره محدوده.

و بناء على القاعده الاساسيه فى ان الاجر و الربح هو مقابل الجهد و العمل،

[هذه القاعده ليست اسلاميه و انما هى متصيده من افكار الماركسيين على ما يظهر.] حرم الاسلام انواعا حرم الاسلام انواعا كثيره من الموارد التى لاتخضع لهذا القانون، فحرم الربا و القمار واليا نصيب و غيرها.

تنميه الانتاج
و ننتقل الان الى الحديث عن: تنميه الانتاج، و هى من اهم عوامل مكافحه الفقر فى المجتمع الاسلامى.

الحض على العمل و الانتاج
خلق الله سبحانه الانسان و كرمه على كثير من المخلوات، اذ وهبه القدره و الاراده و التمييز، ليكون خليفته فى الارض،

[قد تقدم بعض الكلام فى ذلك فى تعليقه سابقه.] و خلق كل ما فى الكون من اجل خدمته و سعادته.

من هذا المنطلق العظيم يشعر المومن بقيمته و عظمته و سر وجوده و غايته، و ان كل ما هو موجود فى الطبيعه خلق من اجله، فمن واجبه ان ينهض للقيام بمسووليته، فيغور فى بحار العلم، و يخضع جميع الطاقات لمشيئته، و يكافح لتحقيق رسالته.

من هنا نجد ان الاسلام قد حرص على العمل و تنميه الانتاج، و فرض على المجتمع الاسلامى السير وفقا له، و جعل تنميه الثروه و الاستمتاع بالطبيعه الى اقصى حد، هدفا للمجتمع.

[هذا ينافى ما تقدم من المولف من ان الاسلام قد دعى للزهد و حارب فكره عبوديه الانسان للماده... و لعله يريد ان يقول انه اراد من المجتمع ان يعيش حياه كريمه و شريفه و ان يستمتع بثروات الطبيعه و يستفيد منها فى دفع مستواه الاقتصادى العام... مادام ان ذلك يساعد على سمو الانسان فى انسانيته و يضمن له كرامته و حريته.]

يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'ما اكل احد طعاما قط خيرا من عمل يده'.

وسائل الاسلام فى تنميه الانتاج
و الاسلام حين تبنى مبدا تنميه الثروه و الانتاج، جند كل امكاناته لتحقيق هذا الهدف، و ايجاد الوسائل التى يتوقف عليها.

و وسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين: وسائل يجب على المجتمع ايجادها و ضمانها. و وسائل تطبيقيه تجب على الدوله، برسم سياسه تخطيطيه متكامله، توجه نشاط المجتمع و تكمله.

و سنتكلم عن هذه الوسائل من الناحيه الفكريه و الناحيه التشريعيه.

الوسائل الفكريه
فمن الناحيه الفكريه حث الاسلام على العمل و الانتاج، و قيمه بقيمه كبيره، و ربط به كرامه الانسان و شانه عند الله. و بذلك خلق الارضيه الفكريه الصالحه لدفع الانتاج و تنميه الثروه. و قد اعطى مقاييس خلقيه عن العمل و البطاله، الصبح العمل بمقتضاها عباده يثاب عليها المرء، و اصبح العامل فى سبيل قوته افضل عند الله من المتعبد الذى لايعمل.

ففى الحديث ان الامام الصادق (عليه السلام) سال عن رجل، فقيل له: 'اصابته الحاجه، و هو فى البيت يعبد ربه، و اخوانه يقومون بمعيشته.'

فقال (عليه السلام): 'الذى يقوته اشد عباده منه'.

و عن الرسول (صلي الله عليه و آله) انه رفع يوما يد عامل مكدود، فقبلها و قال: 'طلب الحلال فريضه على كل مسلم و مسلمه. و من اكل من كد يده مر على الصراط كالبرق الخاطف. و من اكل من كد يده نظر الله اليه بالرحمه ثم لايعذبه ابدا. و من اكل من كد يده حلالا فتح له ابواب الجنه يدخل من ايها شاء'.

و فى روايه اخرى ان شخصا مر بالامام الباقر (عليه السلام) و هو يمارس العمل فى ارض له: و يجهد فى ذلك حتى يتصاب عرقا، فقال له: اصلحك الله ارايت لوجاء اجلك و انت على هذه الحاله! فاجابه الامام (عليه السلام) و هو يعبر عن مفهوم العمل فى الاسلام: 'لوجاءنى الموت و انا على هذه الحال، جاءنى و انا فى طاعه الله عزوجل'.

و كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) كما جاء فى سيرته الشريفه يسال عن الرجل اذا اعجبه مظهره، فان قيل له ليست له حرفه و لا عمل يمارسه، سقط من عينه، و يقول: 'ان المومن اذا لم تكن له حرفه يعيش بدينه'.

و عن النبى (صلي الله عليه و آله) قال: 'ما من مسلم يزرع زرعا او يغرس غرسا، فياكل منه الانسان او دابته الا و كتب له به صدقه'.

و قد اهاب سبحانه بالانسان الى استثمار مختلف المجالات فقال: 'هو الذى جعل لكم الارض ذلولا، فامشوا فى مناكبها و كلوا من رزقه، و اليه النشور" "الملك 15"

و كما قاوم الاسلام فكره البطاله و حث على العمل، كذلك قاوم فكره تعطيل بعض الثروات الطبيعيه و فكره تمجيد الاموال و كنزها.

الوسائل التشريعيه

اما من الناحيه التشريعيه، فقد جاءت، تشريعات الاسلام فى كثير من الحقول، تتفق مع مبدا تنميه الانتاج الذى يومن به الاقتصاد الاسلامى، و تساعد على تطبيقه.

و فيما يلى بعض تلك التشريعات و الاحكام:

منع الاسلام من كنز النقود و تجميدها

[جعل ضريبه الزكاه على المال لا تعنى حرمه كنزه.

]

و ذلك عن طريق فرض ضريبه على ما يكنز من القطع النقديه الذهبيه و الفضيه، التى كانت الدوله الاسلاميه تجرى على اساسها، و هى ضريبه الزكاه التى تستنفد المال المدخر على مر الزمن، لانها تتكرر كل عام، بنسبه 2/5 درصد تقريبا. و لاجل هذا تعتبر الزكاه مصادره تدريجيه للمال الذى يكنز و يوقف عن العمل.

[هذا خاص بالنقدين الذهب و الفضه و اما سائر ما تتعلق به الزكاه فلا ياتى فيه ذلك.

و على هذا... فقد كان ينبغى للمولف اعطاء الفرق بين النقدين و بين غيرهما من سائر- اصناف الزكاه.]

يقول تعالى: 'و الذين يكنزون الذهب و الفضه و لاينفقونها فى سبيل الله، فبشرهم بعذاب اليم' "التوبه 34"

[هذه الايه ناظره لاكتناز الاموال العامه و اموال بيت المال كما اشرنا اليه غير مره. راجع 'ابوذر، مسلمان يا سوسياليست'.]

و بالقضاء على الاكتناز تتدفق جميع الاموال الى حقول النشاط الاقتصادى، و تمارس دورا ايجابيا فى المسيره الاقتصاديه، و بذلك يزيد الانتاج و تزيد الارباح و يعيش الناس فى بحبوحه من العيش.

عن الامام الصادق (عليه السلام): 'ان الله انما اعطاكم هذه الفضول من الاموال، لتوجهوها حيث و جهها الله، و لم يعطكموها لتكنزوها'.

منع تركز الثروه فى يد افراد معدودين

و هو فحوى قوله تعالى:

'كى لايكون دوله بين الاغنياء منكم' "الحشر- 7"

لان الثروه حين تتركز فى ايد قليله، يعم البوس و تشتد الحاجه لدى الكثره الكاثره من الناس.

وضع الاسلام تشريعات الضمان الاجتماعى للفرد

و هذا الضمان الجماعى عدا عن اعطائه الفرد الحق فى حياه كريمه لائقه، فانه يعطى الفرد رصيدا نفسيا يدفعه الى مختلف ميادين الانتاج دون ان يخاف من الخساره و الاخفاق، و ينمى فيه عنصر الابداع و الابتكار.

[الثابت هو ان الاسلام قد جعل الضمان الاجتماعى لخصوص العجزه و القاصرين، اما من يتمكن من العمل و يعمل، يخسر او يربح، فان بلغ هذه الدرجه، شمله الضمان و الا فلا .]

لم يعط الاسلام الضمان السابق لمن لايعمل و هو قادر على العمل

و منع الناس من الاستجداء. و هذا يودى بطبيعته الى تجنيد كل طاقاتهم للانتاج و الاستثمار.

حرم الاسلام الاسراف

لما يرافقه من تبذير فى الحاجات الاستهلاكيه و هدر للاموال التى يلزم توظيفها للحركه الانتاجيه.

و يمكن ان نتكلم فى هذا الصدد حول عمل المراه فى الوظائف، و هو مما استهوته عقول النساء فى هذا الزمان، انجرافا وراء تقليد الاجانب. فقد خلق عمل المراه اليوم فى مجتمعاتنا معضله كبيره لم تكن قائمه من قبل. و ذلك ان كثيرا من النساء يذهبن الى الوظيفه للتسليه و الثرثره و ليس للعمل، ثم ياخذن المرتبات التى تصرف على آخر الازياء و الموضات فى اللباس و الزينه، فنشا عن ذلك ان العمل المنتج لم يزدد، فى حين انخفضت القيمه الشرائيه لمرتبات الرجال. فاصبحت المراه تقاسم الرجل نصف حقه، و تبذره فى شتى الاساليب. فكان من نتيجه ذلك ان افتقرت اغلب العائلات و لا سيما ذات العدد الكبير من الاولاد. و اصبح الرجل يضطر الى ممارسه عملين حتى يغطى نفقات اسرته.

و مما يزيد هذه المعضله وطاه ان تعمل فى هذه الظروف المراه المكتفيه التى لاتحتاج الى دخل، و هذه غالبا ما تنفق كامل معاشها على المظاهر الفارغه.

و مما يوكد هذا التبذير الذى ترتكبه نساونا فى الاهتمام الزائد بالالبسه و الكماليات، ان الاوروبيين بعد ان اجروا احصاء على استهلاك منتجاتهم فى كافه بلاد العالم، كتبوا على خارطه الشرق الاوسط: 'منطقه مبيعات الزينه و الكماليات'.

اوجب الاسلام فرض كفايه تعلم جميع العلوم و الفنون و الصناعات التى يحتاجها المجتمع الاسلامى

و شجع على اكتساب تلك العلوم التى غالبا

[ما هو الدليل على ذلك؟.] ما يبدع فيها الفقراء الذين يعتمدون على انفسهم فى بناء حياتهم.

اعطى الاسلام الحق لمن يستصلح ارضا للدوله ان تصبح ملكا له

فمن عمل فى ارض، و انفق عليها جهدا حتى احياها، فهو احق بها من غيره. و ذلك من مبدا تشجيع العمل و زياده الانتاج و تفضيل العامل الكادح على غيره. و ذلك من مبدا تشجيع العمل و زياده الانتاج و تفضيل العامل الكادح على غيره. و تكون الاولويه فى اعطاء تلك الاراضى للفقراء و المحتاجين، حتى لايستاثر الاغنياء بمساحات كبيره و يحرموا غيرهم من هذا الحق.

سمح الاسلام للدوله باستثمار اموال بيت المال لصالح المحتاجين

كما ان هذا الاستثمار يتيح فرص العمل لكل فقير قادر على العمل.

اعطى الاسلام الدوله الحق فى الاشراف على الانتاج

و تخطيطه مركزيا، حتى يسير على نهج منتظم تكاملى، بعيدا عن الفوضى و التخبط.

كفايه الموارد الطبيعيه لكل الناس:

ان الاسلام يرى ان الفقر و الجوع ليس منشوهما ندره موارد الانتاج و بخل الطبيعه، انما منشوهما الاناسن نفسه. يقول تعالى:

'الله الذى خلق السموات و الارض، و انزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم، و سخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بامره، و سخر لكم الانهار و سخرلكم الشمس و القمردائبين، و سخر لكم الليل و النهار، و آتاكم من كل ما سالتموه، و ان تعدوا نعمه الله لاتحصوها. ان الانسان لظلوم كفار' "ابراهيم- 32".

ان هذه الايات الكريمه بعد ان استعرضت مصادر الثروه التى انعم الله تعالى بها على الانسان، اكدت انها كافيه لاشباع الانسان و تحقيق كل حاجاته "و آتاكم من كل ما سالتموه". فالمشكله الواقعيه لم تنشا من بخل الطبيعه، او عجزها عن تلبيه حاجات الانسان، و انما نشات من الانسان نفسه عندما يكفر و يشذ عن النظام الالهى العادل "ان الانسان لظلوم كفار". فظلم الانسان فى توزيع الثروه و كفرانه للنعمه بعدم استغلال جميع المصادر التى تفضل الله بها عليه، هما السببان المزدوجان للمشكله التى يعيشها البائس منذ اقدم عصور التاريخ.

و هذا يعنى انه لايستطيع ان يحل مشكله الفقر غير مبادى الدين القائمه على الاخلاق و القيم و المبادى الروحيه.

مسئووليه الدوله فى الاقتصاد الاسلامى

و تتجلى هذه المسووليه فى مبداين اساسيين هما:

1- الضمان الاجتماعى. 2- التوازن الاجتماعى.

الضمان الاجتماعى

فرض الاسلام على الدوله ضمان معيشه افراد المجتمع الاسلامى ضمانا كاملا. و الدوله تقوم بهذه المهمه عاده وفق اتجاهين:

- تامين وسائل العمل للفرد، و فرصه المساهمه الكريمه فى النشاط الاقتصادى المثمر، ليعيش على اساس عمله و جهده.

- مبدا الضمان: فاذا كان الفرد عاجزا عن العمل و كسب معيشته بنفسه كسبا كاملا، فان الدوله تضمن له المال اللازم لسد حاجته و توفير حد كاف من المعيشه له.

و مبدا الضمان الاجتماعى هذا يرتكز على مبداين:

مبدا التكافل العام، و مبدا حق الجماعه فى موارد الدوله العامه.

فاما مبدا التكافل العام فيقتضى اشباع الحاجات الحياتيه و الملحه للفرد، بينما يزيد المبدا الثانى من ذلك، و يفرض اشباعا اوسع و مستوى ارفع فى الحياه.

مبدا حق الجماعه فى موارد الثروه

ينطلق هذا الحق لكل فرد فى المجتمع من حق الجماعه فى مصادر الثروه

[كان على المولف ان يقيم بعض الشواهد على ثبوت مثل هذا الحق، و اما الايه التى استدل بها و هى قوله تعالى 'كى لا تكون دوله بين الاغنياء' فلا تدل على ثبوت الحق فى الثروات الطبيعيه و انما تشير الى ان الاسلام يرغب فى ضمان التعادل و ان يصل الفقير الى حقوقه المشروعه و يمارس حريته فى الاستفاده من حقوقه...] و فى الاستفاده من ثروات الطبيعه. و على اساس هذا الحق تكون الدوله مسووله بصوره مباشره عن ضمان معيشه المعوزين و العاجزين.

و تغطى الدوله نفقات هذا الضمان مما يردها من الثروات و الانتاج "بيت المال"، فمن ذلك الزكاه و الخمس و الانفال و الفى ء و الخراج و الجزيه و الكفارات، اضافه الى تنميه موارد الدوله العامه و ملكيه الدوله.

يقول تعالى 'و ما افاء الله على رسوله من اهل القرى، فلله و للرسول و لذى القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل، كى لايكون دوله بين الاغنياء منكم' "الحشر- 7".

و الفى ء هو ما ياخذه المسلمون من الكفار بدون قتال، فهو ليس من حق المقاتلين و انما يوزع على اليتامى و المساكين.

و فى هذا النص القرآنى نجد الاساس الذى تقوم عليه فكره الضمان، و هو حق الجماعه كلها فى الثروه، و ذلك حتى يصبح المال متداولا و موجودا لدى جميع افراد المجتمع، و لا يكون وله بين الاغنياء خاصه 'كى لايكون دوله بين الاغنياء منكم'

جاء فى عهد الامام على (عليه السلام) الى مالك الاشتر:

'ثم الله الله فى الطبقه السفلى من الذين لاحيله لهم من المساكين و المحتاجين، و اهل البوسى و الزمنى، فان فى هذه الطبقه قانعا "الفقير الذى يقنع" و معترا "الفقير الذى يسال و لايقنع". واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت

مالك، و قسما من غلات صوافى الاسلام فى كل بلد. فان للاقصى منهم مثل الذى للادنى، و كل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لاتعذر بتضييعك التافه، لاحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، و لا تصعر خدك لهم. و تفقد امور من لايصل اليك منهم، ممن لاتقتحمه العيون "اى تستصغر العيون شانه" و تحقره الرجال، ففرغ لاولئك ثقتك من اهل الخشيه و التواضع، فليرفع اليك امورهم، ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هولاء من بين الرعيه احوج الى الانصاف من غيرهم. و كل فاعذر الى الله فى تاديه حقه اليه. و تعهد اهل اليتم و ذوى الرقه فى السن ممن لاحيله له و لا ينصب للمساله نفسه'.

فهذا النص يقرر بكل وضوح مبدا الضمان الاجتماعى، و يشرح المسووليه المباشره للدوله فى اعانه الفرد و توفير حد الكفايه له.

و لا يقتصر هذا الضمان على الافراد المسلمين، بل يمتد الى الرعايا المسيحيين و اليهود من اهل الذمه الذين يعيشون فى كنف الدوله الاسلاميه، اذا اكبر احدهم و عجز عن الكسب، كانت نفقته على بيت المال.

فعن الامام على (عليه السلام) انه مر بشيخ مكفوف كبير يسال. فقال اميرالمومنين: من هذا؟ فقيل له: انه نصرانى. فقال (عليه السلام): 'استعملتموه، حتى اذا كبر و عجز منعتموه؟! انفقوا عليه من بيت المال'.

و اما حدود هذا الضمان الذى يجب على الدوله لكل فرد فى المجتمع، فهى عريضه و لا تقتصر على الحاجات الملحه، بل تمتد الى تامين كل حاجاته الاساسيه، بحيث يتمتع بمستوى الكفايه من العيش. و الكفايه من المفاهيم المرنه التى يتسع مضمونها كلما ازدادت الحايه العامه يسرا ورخاء. و تزداد حدود هذا الضمان حتى تشمل الطعام و الكساء و المسكن، و كذلك الزواج و الحج و كثيرا ما كنا نسمع فى التاريخ ان اشخاصا كانوا ياتون الامام فيومن لهم عملا او يشترى لهم دارا، او يسعى فى تزويجهم، كل ذلك من بيت المال.

[كان من المناسب ذكر بعض الشواهد و المصادر لذلك.]

و من اعظم الامثله على هذا الضمان ما حصل فى كشمير. فقد ذكر لنا الدكتور ابوالخير العرقسوسى الاستاذ فى كليه التربيه بجامعه دمشق اليوم، انه حين راز باكستان و كان فيها ملحقا ثقافيا لسوريه، اعجب بتمسك الشيعه بنظام الخمس، فقد اقاموا له الجمعيات المنظمه التى تكفل جمعه و صرفه، و تبلغ حصيلته عندهم ملايين الملايين كل عام.

فلما حصلت مشكله كشمير و هاجر اهلها و عددهم خمسه ملايين الى باكستان تحت وطاه الاضطهاد الهندى، و صلوا باكستان حفاه عراه بعد ان كان بعضهم يملك المصانع و المتاجر و المزارع و كانوا كلهم من الشيعه، فاستطاعت الجمعيات الاسلاميه ان تحل قضيتهم فى شهر من الزمن على الرغم من فقرهم المدقع و عددهم الوافر. فلقد اعطت منظمات الخمس كل لاجى كشميرى مشترك عندها مقدارا من المال يكافى تماما ما كان يملكه فى بلاده، حتى ان احدهم كان يملك متجرا للمجوهرات، فانشاوا له متجرا مماثلا. و هنا تظهر حقيقه التضامن فى الاسلام.

مبدا التكافل العام

و هو المبدا الثانى للضمان الاجتماعى فى الاسلام، الذى ينطلق من مبدا كفاله المسلمين بعضهم لبعض، باعتبارهم اخوه فى الدين. يقول سبحانه:

'و المومنون و المومنات بعضهم اولياء بعض، يامرون بالمعروف و ينهون عن المنكر' "التوبه- 72"

و يتوجب هذا النوع من التكافل عندما لاتكفى الزكاه حاجه الفقراء و العاجزين، كما حصل فى اول الاسلام حين كان اكثر الذين دخلوا الاسلام من الفقراء و المحرومين. و كما يحصل فى حالات المجاعات و الحروب و الكوارث. فيجوز للحاكم الشرعى ان يفرض على القادرين فريضه ماليه لاخوانهم المحرومين.

يقول تعالى 'خذ من اموالهم صدقه تظهرهم و تزكيهم بها' "التوبه- 103"

و فى الحديث الصريح 'ان فى المال حقا سوى الزكاه' "صحيح الترمذى"

و جاء فى الحديث: 'ايما مومن منع مومنا شيئا مما يحتاج اليه، و هو يقدر عليه من عنده او من عند غيره، اقامه الله يوم القيامه مسودا وجهه، مزرقه عيناه، مغلو له يداه الى عنقه. فيقال: هذا الخائن الذى خان الله و رسوله، ثم يومر به الى النار'.

كما يجب هذا النوع من الضمان عندما تفقد الدوله الاسلاميه و ينتفى معها ضمانها للفقير وفق المبدا الاول.

و لاستيضاح حدود هذا الضمان نورد بعض النصوص التشريعيه الداله عليه:

عن الامام الرضا (عليه السلام) عن النبى (صلي الله عليه و آله) قيل: يا نبى الله! فى المال حق سوى الزكاه؟ قال: 'نعم، بر الرحم اذا ادبرت، وصله الجار المسلم، فما آمن بى من بات شبعان و جاره المسلم جائع'.

و يقول النبى (صلي الله عليه و آله): 'يا اباذر، من كان له قميصان فليلبس احدهما و ليلبس الاخر اخاه'.

و سال سماعه الامام الصادق (عليه السلام) عن قوم عندهم فضل، و باخوانهم حاجه شديده، و ليس يسعهم الزكاه. ايسعهم ان يشبعوا و يجوع اخوانهم؟ فان الزمان شديد. فرد الامام عليه قائلا: 'ان المسلم اخو المسلم، لايظلمه و لايخذله و لايحرمه، فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه و التواصل و التعاون عليه، و المواساه لاهل الحاجه'.

و عن ابى سعيد الخدرى قال سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: 'من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لاظهر له، و من كان له فضل زاد فليعد به على من لازاد له'.

و يمدح النبى (صلي الله عليه و آله) الاشعريين فيقول: 'ان الاشعريين اذا ارملوا فى الغزو او قل طعام عيالهم بالمدينه، جمعوا ما كان عندهم فى ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم باناء واحد بالسويه، فهم منى و انا منهم'.

وقائع حيه على مبدا التكافل

و يزخر تاريخ الائمه (عليه السلام) بالامثله الحيه على تطبيق مبدا التكافل العام فى صدر الاسلام حيث كان الفقر طاغيا على الناس. فقد كان الامام على "ع " يعمل فى سقايه النخل ليومن قرصيه و طمريه، ثم ينفق ما فضل عن كسبه فى اطعام الفقراء و تحرير العبيد.

و من اروع الوقائع على ذلك قصه تصدقه بالطعام هو و زوجته فاطمه و ولديه الحسن و الحسين (عليه السلام) حين امسوا صياما فاتاهم المسكين ثم اليتيم ثم الاسير، فباتوا جياعا ثلاثه ايام لايجدون عند افطارهم غير شربه الماء. حتى نزلت فيهم الايه:

'و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و اسيرا انما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء و لا شكورا' "الانسان- 9".

و صدق فيهم قول: الله تعالى:

'و يوثرون على انفسهم و لو كان بهم خصاصه' "الحشر- 9"

و من الوقائع الشهيره ما يروى عن تصدق الامام الحسين (عليه السلام) و الامام زين العابدين (عليه السلام)، حيث كان الواحد منهما يحمل الجراب على ظهره ليوصل الغذاء الى بيوت الفقراء و المحرومين، الذين منعتهم عفتهم عن الطلب و السوال.

يروى ان الامام زين العابدين (عليه السلام) كان يخرج فى الليله الظلماء فيحمل الجراب

على ظهره، و فيه الصرر من الدنانير و الدراهم، و ربما حمل على ظهره الطعام او الحطب، حتى ياتى بابا فيقرعه، ثم يناول من يخرج اليه. و كان يغطى وجهه اذا ناول فقيرا لئلا يعرفه.

فلما توفى (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا انه كان الامام على بن الحسين (عليه السلام). و لما وضع على المغتسل نظروا الى ظهره و عليه مثل ركب الابل، مما كان يحمل على ظهره الى منازل الفقراء المساكين

و لما ازدهرت الحياه الاجتماعيه فى عهد عمر بن عبدالعزيز، انعدم وجود الفقراء و المساكين، وضاق بيت المال بمايحويه، حتى اصبحت الزكاه تلقى على الطرقات و لايوجد من ياخذها.

فى هذا المجتمع الاسلامى الرافه، كان يرى الخليفه عمر بن عبدالعزيز قابما لمفرده فى كنف الليل فى احدى زوايا الطريق. فسئل مره عن سبب ذلك فقال:

انى ارابط هنا متحريا عن الذين يكتنفهم الجوع فى الليل، و لو كنت اعلم اين مكانهم لذبحت لهم ناقتى و حملتها اليهم اربا اربا حتى منازلهم. اجاركم الله هل بينكم من يدلنى على هولاء المرهقين؟.

فالخليفه العادل كان يبحث ليس عن المحتاجين و المساكين الذين نراهم عاده على ارصفه الطريق، و انما كان يبحث عن الفقراء المتعففين الذين يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف، ليوصل اليهم امانه الله فى عنقه، من حقهم فى بيت المال. فكان لايجد منهم احدا، فيستحلف الناس ان يدلوه على مكانهم.

و الحاجه المقصوده فى الاحاديث السابقه هى الحاجه الشديده و تتضمن الحاجات الحياتيه الملحه كالطعام و الكساء، و هى المفروضه فى مبدا التكافل العام.

و يامل النظام الاسلامى ان يصل المومن الى درجه من الايثار، لايعود يرى ان ما يملكه هو لنفسه خاصه، و انما هو مبذول لكل محتاج من اخوانه، فيسمح لاخوته فى الايمان ان ياخذوا ما يشاوون من صندوق ماله بدون اذنه و علمه.

يقول الامام الباقر (عليه السلام): 'ايجى احدكم الى اخيه، فيدخل يده فى كيسه، فياخذ حاجته فلايدفعه؟' فقلت: ما اعرف ذلك فينا.

فقال ابوجعفر (عليه السلام): 'فلا شى ء اذا.' قلت: فالهلاك؟ فقال (عليه السلام): 'ان القوم لم يعطوا احلامهم بعد'.

و فى هذا المعنى نورد القصه التاليه:

يحكى عن الشريف الرضى عليه الرحمه، ان احد الاغنياء احب ان يجود عليه و على تلاميذه بمال. فجاءه و هو يعطى درسا لاربعين من طلابه فى بيته. فعرض عليه العطاء. فقال: اما انا فلاحاجه لى بمال، و اما طلابى فلا مانع من اعطائهم. فدار الغنى عليهم فردا فردا يسالهم، و كلهم يجيب: حسبنا اننا نملك قوت يومنا، فما نصنع بالمال! و حين وصل الى الطالب الاربعين، تناول الطالب دينارا من الغنى و كسره قطعا، ثم اخذ قطعه واحده... و لما انصرف الغنى، التفت الشريف الى ذلك الطالب و قال له: ما دعاك الى فعلتك يا هذا؟ قال: جاءنى من اسبوع ضيوف، و ليس عندى زاد اطعمهم، فاستدنت شيئا من المال حتى اطعمتهم، و ما زال الدائنون يطالبوننى بحقهم، فذلك ما دعانى الى اخذ قطعه من الدينار اسد بها حاجتى، و ادفع عن نفسى مغبه الناس...

فلما سمع الشريف قوله، استدعى الحداد و قال له: هذا مفتاح خزانتى، فاصنع لى مثله اربعين مفتاحا. و وزع المفاتيح على طلابه، و قال لهم: من كانت له جاجه فلياخذها من خزانتى بدون علمى... و هذا منتهى البذل و الايثار.

التوازن الاجتماعى

و نعنى به تحقيق التوازن بين افراد المجتمع فى مستوى المعيشه، و ان اختلفوا فى مستوى الدخل. و التوازن فى مستوى المعيشه معناه ان يكون المال موجودا لدى افراد المجتمع و مداولا بينهم، الى درجه تتيح لكل فرد العيش فى المستوى العام.

قو قد قام الاسلام لتحقيق هذا الهدف بعملين، احدهما من الفوق و الاخر من التحت. فضغط مستوى المعيشه من اعلى بتحريم الاسراف على الغنى، و ضغط المستوى من الاسفل برفع مستوى المتدنين فى المعيشه الى مستوى ارفع. و بذلك تتقارب المستويات حتى تتقارب فى مستوى واحد، يضم درجات متفاوته تفاوتا جزئيا، و ليست متناقضه تناقضا كليا فى المستوى، كالتناقضات الصارخه بين مستويات المعيشه فى المجتمع الراسما لى.

يقول معاويه:

[ان كلمه معاويه هذه لاتدل على ما يريد المولف الاستدلال عليه، فان معاويه لم يدع الى رفع الطبقيه، بل هو يدعو الى ابقائها و تكريسها، حيث انه بالنسبه الى الفقير لم يطلب سوى الترفيه عنه و لعله لاسكاته. اما بالنسبه للغنى فانه طلب الحد من شراهته و جعلها شراهه معتدله و لم يطلب تقليص شرائه او تحديده و لا خفض مستوى المعيشه عنده... لتتقارب المستويات و يرتفع التناقض الطبقى.. و لا نتوقع من معاويه الذى كان حتى فى زمن عمر بن الخطاب يعيش حياه البذخ و الترف و النعيم... الا مثل هذه الكلمه المعبره عن نواياه و اهدافه... و هل مثل معاويه الجاهل بتعاليم الشريعه و احكام الدين فى مستوى من توخذ عنه نظريه و اطروحات الاسلام الاقتصاديه او غيرها؟!.] ان بالفقر تتواضع النفس، و يرق الطبع، و بالثراء يستفحل شر الخيلاء و العتو، فلنختر وسط الامرين، برفع مستوى الفقير الى ما يرفه عنه، و انزال

شراهه الثرى الى حدود الاعتدال، و بذلك تستقيم المساواه بين الناس.

و يهدف هذا المبدا ان يلحق كل محروم بمستوى الناس، اى يهدف الى اغناء كل فرد فى المجتمع الاسلامى.

جاء فى الخبر عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: 'تعطيه من الزكاه حتى تغنيه'.

و لحمايه هذا التوازن الاجتماعى شرع الاسلام جمله من التشريعات التى تحد من الفوارق بين الاغنياء و الفقراء، منها محاربه كنزالاموال

[قد تقدم بعض الكلام حول هذه العباره.] و تحريم الربا، و تشريع احكام الارث، و مطارده الاحتكار و الاستغلال و غلاء الاسعار، الى ما هنا لك من احكام.

جاء فى عهد الامام على (عليه السلام) الى مالك الاشتر حين ولاه مصر قوله:

'و اعلم ان فى كثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا، و احتكارا للمنافع، و تحكما فى البياعات. و ذلك باب مضره للعامه، و عيب على الولاه. فامنع الاحتكار، فان رسول الله (صلي الله عليه و آله) منع منه، وليكن البيع سمحا بموازين عدل، و اسعار لاتجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك اياه، فنكل به وعاقبه فى غير اسراف' "العهد 290 نهج".

و اختم موضوعى بالكلام عن ضروره وجود الدوله الاسلاميه، لمعالجه الفقر و ازالته.

ضروره قيام الدوله الاسلاميه

ان من اهم العوامل الضروريه لتطبيق مبادى الاسلام و رعايتها، وجود الدوله االحاكمه التى تستطيع تطبيق هذه المبادى. فالفقر الذى لايقره الاسلام لايمكن علاجه و استئصاله من المجتمع اذا لم توجد سلطه الدوله الاسلاميه. اذ ان دوله الطاغوت هى دائما حليفه الاستغلال، لانه فى ظلها تزدهر طبقه المتحكمين و المتسلطين و المتنفذين.

اذن لاتقام حدود الله الا بوجود الامام العادل، الذى هو قطب الرحى فى الدوله الاسلاميه. حيث يسعى المومنون من حوله كما تسعى الالكترونات الدائره فى الذره حول النواه، يستمدون منه القوه و الجاذبيه، فى وحده متوازنه متكامله.

و هذا الامام عدا عن كونه مركز الدوران و الارتباط، فانه يقوم بوظيفه التقليد، فهو القدوه التى يقلدها كل فرد فى المجتمع، و يسعى كل واحد ان يكون صوره مطابقه لها. و لا تخفى اهميه هذه القدوه فى تربيه المجتمع و اصلاحه، فاذا صلحت القدوه صلح

المجتمع كله و اذا فسدت فسد معها

و لقد سالنى احدهم عن اسباب نجاح الثوره الاسلاميه فى ايران، فقلت: ان من اول اسبابها الامام القدوه آيه الله العظمى السيد روح الله الخمينى، فهو بما اوتى من مواهب و سمات كان اكبر عامل لقيام الثوره المظفره و نجاحها.

و يتجلى ذلك فى النقاط التاليه:

ايمانه الراسخ و يقينه العميق بدينه و مبدئه و بتابيده من السماء
فهو حين يتكلم تشعر انه ملهم يرى بنور الله، و ينكشف له سجل المستقبل فيرى النصر الذى وعد الله به عباده المومنين. و ان كل ما وقع فى ايران من محن و خطوب لم يزده الا ايمانا و تصميما.

زهده بهذه الدنيا
و هى من سماته المشهوره، فهو كامله المرتضى (عليه السلام) لايعادل هذه الدنيا الفانيه بعفطه عنز. فترى على حياته آثار الزهد و التقشف، حتى انه يعيش كافقر شخص فى ايران

اخلاصه
فهو حين رفض هذه الدنيا بجميع ما فيها، كان هدفه ليس ذاته و انما شعبه، فبدا ينفق ثروات البلاد على كل ابناء مجتمعه بالتساوى، دون ان يميز العاصمه على غيرها، و لا المدينه على القريه. بل انه وجه اكبر همه لشق الطرقات و اقامه الخدمات التى تسهل على المناطق النائيه و المنعزله و الفقيره ان تلحق بركب الحضاره و الازدهار و الرفاهيه. و ان انجازات منظمه جهاد البناء "جهاد سازندگى" ليست خافيه على احد.

تفانيه فى اداء الواجب
فهو رغم طعنه فى السن، تراه يعمل ليل نهار بلا كلل و لا ملال، لخدمه امته و شعبه، مقاوما كل الموامرات و الدسائس التى يحيكها اعداء الحق و الاسلام.

و صحيح ان الناس على دين ملوكها و روسائها. و اذا صلح الراس صلحت الرعيه.

و هكذا نرى ان الاسلام قد حل معضله الفقر نظريا و عمليا. و حق له ان يكون افضل نظام مادى روحى عرفته البشريه و الانسانيه.

لبيب بيضون

 

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page