• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

من وحي الحج

من وحي الحج

الحمل الثقيل:

كنت احس ان على ظهري حملاً ثقيلاً طوال السنوات الماضية التي استطعت فيها مادياً، لإداء فريضة الحج، لا أدري متى اتخفف منه، والحج ـ كما كنت اتصوره ـ عبء شاق يحتاج الى مبلغ من المال غير يسير، لا تطيب النفس عنه بسهولة.

كما انه يستتبع الاتعاب والاوصاب لزحمة الناس، في بلد واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويستنفد جهداً كبيراً قد لا تجود النفس ببذله، وتحمله، وفوق ذلك كله الخوف من الأخطاء والرياء، وان يرد عليّ عملي، ولا يكون حجي مشكوراً، ولا مدخوراً ليوم الحساب.

هذا ما كنت احسه، واشعر به، وهو السبب الأول للتأخير والتقصير، اما اعتذاري وتعللي بأن حكام السعودية يمنعوني من الحج، أو يسيئون اليّ في ديارهم، لما كنيته عنهم في الصحف، وفي بعض مؤلفاتي بعد قضية الجبهان،

(3)

اما هذا التعليل فقد تبين انه وهم لا اساس له.. وربما كان منشأه الكسل والاهمال.

ومهما يكن، فقد شعرت بالرغبة الجدية في الحج هذا العام ـ 1383 هـ ـ والعزم الأكيد على إدائه مهما كانت العواقب، حتى ولو نصبت لي الأعواد على الحدود، وخسرت ما أملك من صحة ومال، اما سر هذه الرغبة، وهذا العزم فعلمه عند ربي، ومهما يكن، فانه ليس من ارادتي واختياري في شيء، لأن الارادة لا تعلل بالإرادة. الى البيت العتيق

اقلعت الطائرة من مطار بيروت الساعة السابعة من مساء ـ 4 ـ 64 الموافق 26 ذي القعدة سنة 83 هـ، ووصلت جدة حوالي التاسعة، وبت في اوتيل النهضة، وخرجت من جدة مساء اليوم التالي محرماً بالنذر، قاصداً مكة المكرمة، ثم جددت الاحرام في الحديبية(1) وبلغت مكة قبيل الغروب، وبينها وبين جدة 74 كيلومتراً، وكان اليوم يوم الخميس، وما اقتربت منها، حتى ذهلت عن نفسي، وحاضري ومستقبلي، وغمرني الشعور بالغبطة، لما وفق الله من تأدية ما فرضه في كتابه، وتسديد ما عليّ من حسابه، وانطلق

____________

(1) الحديبية المكان الذي صدت فيه قريش الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم عن دخول مكة المكرمة للعبادة، وتم الصلح بينه وبينهم، وسمي هذا الصلح باسم المكان.

(3)

لساني بالحمد والشكر على السكينة والتخفيف من ذاك الحمل والتكليف.. وقد تتهيأ الصحة لشخص، ويعوزه المال، وقد يوجد المال، وتعترضه مشكلة الصحة، وقد يوجدان معاً، ويعوقه الكسل والاهمال، اما من توافرت له هذه جميعاً فيحق له ان يفرح ويغتبط، وعليه ان يحمد ويشكر، وكل شيء كان لدي موفوراً وميسوراً: الصحة والمال والاقبال، فله الشكر والحمد. شعاب مكة:

وأول شيء سبق الى ذهني، وانا ألقي النظرة الاُولى على مكة المكرمة هو القول المشهور: «اهل مكة ادرى بشغابها». فأخذت أنظر يمنة ويسرة، اتبين هذه الشعاب، فرأيت بيوتاً متراكمة متراصة في أرض منخفضة تشرف عليه، وتحيط بها جبال وتلال احاطة السوار بالمعصم، وعلى هذه الجبال بيوت متواضعة، كما تبدو للناظر، وفي اليوم التالي طلبت من سائق التاكسي ان يذهب بي اليها، فقال: لا تصلها السيارات، وأصحاب البيوت فيها كلهم من الفقراء، لا يستطيعون ان يبنوا في الاحياء المنخفضة التي تحيط بالحرم الشريف. معنى العبادة:

دخلت البلد الأمين قبيل الغروب، وبعده قصدت

(3)

البيت العتيق، والمسجد الحرام، وكعبة المسلمين وقبلتهم، فرأيت الألوف بملابس الاحرام، مكشوفي الرؤوس، يطوفون ويصلون، ويرددون في تطوافهم: «يا كريم يا غفار» منصرفين الى الله وحده، حتى عن انفسهم وذويهم، متجهين إليه سبحانه بنفوس نقيه، وعاطفة تقية، وقلوب معبأة مهيأة الى فضل الله ورضوانه.

وفجأة، ودون أية سابقة، انتابتني رعشة هزتني من الاعماق تجلى تأثيرها ووقعها في بكائي وتضرعي، وانقطاعي اليه سبحانه، وشعرت كأني أمام الله وجهاً لوجه، واني في عالم كله نور وروح، وهذا هو معنى العبادة بروحها وجوهرها، انها اولاً وقبل شيء اليقين بالله، والاخلاص فيما ترجوه منه، والصدق في تضرعك له.

وقال قائل: ان العبادة ركوع وسجود، وسعي وطواف، وكفى.. وذهب آخر الى انها تفكير فلسفي. وزعم ثالث انها رياضة ومكاشفة؛ والحق انها قلب متطلع الى رحمة الله، واثق بمغفرة الله.. وكل حاج يحمل هذا القلب المتطلع الواثق فيما اعتقد ـ الا من اتخذ الحج وسيلة للعوائد والفوائد العاجلة. وان شككت في شيء فلن اشك بأن الله يقبل الجميع ما دام هو القصد والغاية، حتى الجاهل الذي لا يعرف مكان الدقة في الطواف، ولا يحسن انتقاء «الخرش البرش» من حصى الرمي.. سمعت إمرأة تقول، وهي تشير إلى الكعبة: رحمتك

(3)

يا رب للناس كلهم.. أي وحقه انه يرحم الناس، كل الناس الذين يقفون على بابه يرجون فضله وإحسانه. مع الطائفين العاكفين:

مكثت بمكة 19 يوماً، وكنت اذهب مساء كل يوم الى الحرم، ما عدا اليوم التاسع مع ذي الحجة، فاذا رأيت جماعة مقبلين على البيت للطواف خلطت بهم نفسي، وفعلت ما يفعلون، ورددت ما يقولون، وكنت أتقصد الاختلاط بالافريقيين السود، لما لمسته فيهم من الصفاء والاخلاص وأحسسته معهم من التوجه والانقطاع. وقد طفت مرات، ولكن لم تهتز مشاعري للدرجة التي كانت تهتز، وانا اطوف مع هؤلاء السود.

وذات مساء رأيت حزمة من اليمنيين قد تلاصقوا، وأخذ بعضهم بعضد بعض، واندفعوا كالسيل لا يلوون على شيء، فوضعت يدي بعنق الأخير منهم، فلم يلتفت الي، وأخذت أطوف معهم، واركذ واقفز. كما يركذون ويقفزون، وأردد معهم: «حج حج يا حاج حج».

وقصدت المسعى في ذات يوم، فحسبت ان جبالاً من البشرية تسير ذاهبة آيبة بين الصفا والمروة، وان الأرض ترتفع بهم الى اسماء، الى جنة المأوى، وان ملائكه الرحمة تتلقاهم بالبشر والترحاب تناديهم ان تلكم الجنة تعلمون اورثتموها بما كنتم.

(3)

الحجيج والضجيج:

أما ما نسب الى الامام زين العابدين عليه السلام من انه قال: ما أكثر الضجيج، وأقل الحجيج، ما حج الا انا ونافتي، ورجل من البصرة، فانه محل النظر والتأمل.

اولاً: انه لا يتفق مع دعائه في يوم عرفة، الذي جاء فيه: «اللهم وهذا يوم شرفته وكرمته وعظمته، نشرت فيه رحمتك، ومننت فيه بعفوك، واجزلت فيه عطيتك، وتفضلت به على عبادكء».

وبديهة ان معنى انتشار الرحمة شمولها للجميع لا للرجل والناقة فقط لا غير.. وقال ايضاً: «يا من عفوه اكثر من نقمته، ويا من رضاه اوفر من سخطه، ويا من تحمد الى خلقه بحسن التجاوز».

ثانياً: أي فرق بين هذا القول ما حج الخ، وبين قول الاعرابي: اللهم ارحمني، وارحم محمداً، ولا ترحم احداً معنا»..

ومعلوم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم انكر عليه، وقال: يا هذا ضيقت واسعاً.

ثالثاً: فهمنا حج الانسان، اما حج الناقة فم ندرك له معنى، وان كان المراد ان ناقة الامام حملت حاجاً، فان ناقة البصري كذلك، اللهم الا ان يكون البصري حج ماشياً.

وعلى اية حال، فان معنى الحديث، ان صح، ان الامام والبصري ينالان ثواب الحج بالاستحقاق، اما غيرهما

(3)

فبالتفضل(1) . ومهما يكن، فان النتيجة واحدة، وهي شمول الرحمة للجميع، ولكن يبقى اشكال حج الناقة قائماً. صور من الحج شاهدت في الحج صوراً تركت في نفسي اعمق الأثر، ولا اشك ان ما فاتني منها اكثر وابلغ في شكلها وموضوعها.. شاهدت رجلاً طاعناً في السن، يهتز من قرنه الى قدمه، واللعاب يسيل من فمه، والمخاط يتقاطر من انفه، يقوده شاب، لم يبلغ الثلاثين، أو لم يتجاوزها، يطوف به حول البيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويخدمه باخلاص، ويبذل الجهد لمرضاته وراحته. قلت للشاب: من اين؟ قال: من العراق. قلت: وهكذا من يكون؟. قال: ابي. قلت: وفقك الله. قال: الحمد لله الذي وفقني لإداء حقه، وأسعدني بخدمته.

وشاهدت آخر يحمل والدته على منكبيه، وقد تدلت رجلاها على صدوره، وهو ممسك بيديها، يطوف بها، ويسعى، وقد تبعته في الطواف والمسعى، وكنت اتصور، وانا انظر اليه، انه يرى نفسه اسعد من كان ويكون في هذه اللحظات لانه ضمن له مكاناً عظيماً في جنة الخلد

____________

(1) اتفق علماء الكلام على ان العاصي يعاقب بالاستحقاق، واختلفوا: هل يثاب الطائع استحقاقاً اوتفضلا؟.

(3)

بعد ان أدى للأموته حقها، ووفى لها بعهدها، كما تصورت شعورها بالغبطة بهذا الولد البار الذي حقق لها أعز الأماني والاحلام.

شاهدت هاتين الصورتين، فئذكرت من يتخذ من عطف الأب والأم وسيلة للتنمر عليهما، ومجابهتهما بالاساءة والعقوق.

وفي مساء 12 ذي الحجة شاهدت في زاوية من زوايا البيت مجموعة من المصريين نساء ورجالاً يصفقون بهدوء ويرددون الأناشيد بمدح الرسول وآله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم فرحون مستبشرون كأنهم في عرس، وإلى جانبهم رجل يصلي، وآخر يتلو القرآن، وثالث يتضرع ويبكي. فقلت بكى هذا خوفاً من عقاب الله، وغنى هؤلاء وصفقوا املاً بثواب الله، والكل سواء في رحمته، ما دامت قلوب الجميع عامرة بالتدين والايمان بجلاله وعظمته، وصلى الله على محمد وآله الذي قال: ان الطرق الى الله بعدد انفاس الخلائق. الحج وأتعابه: قال الفقهاء: ان التكليف مشتق من الكلفة، وهي المشقة.. اذن كل تكليف يستتبع نوعاً من الاتعاب، واشدها هي اتعاب الحج، اللهم الا الصوم، بخاصة على من اعتاد التدخين وشرب الشاي.

(3)

وقد شعرت بالاعياء والعناء في عرفة والمشعر ومنى، ولكن أتعاب الحج أشبه بالآلام الشديدة التي تعانيها الأم حين الوضع، فسرعان ما تستحيل الى لذة وسرور بعد ان ترى وليدها سالماً، بل هذه الآلام بداية حبها له، وتعلهقا به.. وهكذا الحاج ينسى جميع أتعابه وأوصابه، ويشعر بالغبطة والسعادة بعد ان يؤدي المناسك على وجهها ويشكر الله سبحانه لما هداه واعانه على تأدية ما فرضه من طاعته، اوجبه من عبادته(1) .

____________

(1) كانت ليلتنا في المشعر الحرام ليلة البرد والزمهرير في صحراء جرداء، لا مأوى فيها: ولم يكن معي غطاء ولا وطاء، وانا مكشوف الرأس، وعلى جسمي ملابس الاحرام، ينفذ الريح خلالها بسهولة ويسر، فأصابني رشح قوي لازمني مدة عشرين يوماً.

(3)

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page