• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الحنان العميق

الحنان العميق

و ادرك على ان منطق الحنان ارفع من منطق القانون، و ان عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات، انما هو حجه الحياه على الموت، و الوجود على العدم!

و لم يكن موقف على من المراه ذلك الموقف الذى صوروه!

اذا كان من عداله الكون و تكافو الوجود ان تلتقى على صعيد واحد بوارح الصيف و معصرات الشتاء، و ان تفنى فى حقيقه واحده السوافى و الاعاصير و النسيمات اللينات، و ان تحمل الطبيعه بذاتها، بكل مظهر من مظاهرها، قانون الثواب والعقاب، فمن هذه العداله ايضا و من هذا التكافو ان تتعاطى قوى الطبيعه و تتداخل سواء فى ذلك عناصر الجماد و عناصر الحياه. و سواء فى ذلك ما انبثق عن هذه او انسلخ عن تلك.

و لما كانت صفات الانسان و اخلاقه و ميوله و احاسيسه منبثقه عن عناصر الحياه التى تتحد فتولف ما نسميه شخصيه الانسان، فهى متعاطيه متداخله، تثبت ذلك الملاحظه الطويله و الموازنه الدقيقه ثم قواعد العلم الحديث الذى لاحظ و وازن و ارسى مكتشفاته على اسس و اركان.

و قد مر معنا ان الانسان فى مذهب على بن ابى طالب هو الصوره المثلى للكون الامثل. و مما يعزى اليه هذا القول يخاطب به الانسان:

و تحسب انك جرم صغير++

و فيك انطوى العالم الاكبر

فمن الطبيعى فى مثل هذه الحال ان يلح على فى طلب كل ما يتعلق بالانسان مما يطاله زمانه و امكانات عصره. و من الطبيعى كذلك ان يلح فى الكشف عما فى هذا 'الجرم الذى انطوى فيه العالم الاكبر' من مظاهر العداله الكونيه و تكافو الوجود ضمن الاطار الذى دارت آراوه فيه.

احس على احساسا مباشرا عميقا ان بين الكائنات روابط لا تزول الا بزوال هذه الكائنات. و ان كل ما ينقص هذه الروابط ينقص من معنى الوجود ذاته. و اذا كان الانسان احد هذه الكائنات، فانه مرتبط بها ارتباط وجود. و اذا كان ذلك- و هو كائن- فان ارتباط الكائن بشبيهه اجدر و اولى. اما اذا كان هذا الكائن من الاحياء، فان ما يشده الى الاحياء من جنسه اثبت و اقوى. و اما الانسان- راس الكائنات الحيه- فان ارتباطه باخيه الانسان هو الضروره الاولى لوجوده فردا و جماعه.

و حين يقرر على ان المجتمع الصالح هو المجتمع الذى تسوده العداله الاجتماعيه باوسع معانيها و اشرف اشكالها، انما يسن قانونا او ما هو من باب القانون. و لكن هذا القانون لا ينجلى فى ذهنه و لا يصبح ضروره، الا لانه انبثاق طبيعى عما اسميناه روح العداله الكونيه الشامله، التى تفرض وجود هذا القانون. لذلك نرى ابن ابى طالب ملحا شديد الالحاح على النظر فى ما وراء القوانين، و على رعايتها بما هو اسمى منها: بالحنان الانسانى.

و ما يكون الحنان الا هذا النزوع الروحى و المادى العميق الى الاكتمال و السمو. فهو بذلك ضروره خلقيه لانه ضروره وجوديه.

الصفحه الاولى التى ينشرها على من صفحات الحنان تبدا بان يذكر الناس بانهم جميعا اخوه فينعتهم ب 'اخوانى' نعتا صريحا و هو امير عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الولاه بانهم اخوان الناس جميع الناس، و بان هذا الاخاء يستلزم العطف بالضروره، قائلا الى امرائه على الجيوش: 'فان حقا على الوالى ان لا يغيره فضل ناله، و لا طول خص به، و ان يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده و عطفا على اخوانه'. و ما يذكره لنفسه و للولاه بانهم و الناس اخوان بالموده و الحنان، يعود فيقرره بحكمه شامله يتجه بها الى البشر جميعا دون تفرقه او تمييز، قائلا: و انما انتم اخوان ما فرق بينكم الا خبث السرائر و سوء الضمائر'. و هو بذلك يضع خبث السريره و سوء الضمير فى طرف، و حنان القلب و موده النفس فى طرف آخر. و لما كان من الحق الوجودى للانسان ان

ينعم بحنان الانسان، فان الطبيعه التى تحمل بذاتها القيم و المقاييس لابد لها من التعويض على صالح ضيعه الجيران و الاقربون و الاهل فما لفوه برداء من حنان، بعطف و حنان كثيرين ياتيانه من الاباعد، فيقول على: 'من ضيعه الاقرب اتيح له الابعد!'

و هو فى سبيل رعايه هذه الاخوه القائمه بالحنان الانسانى، لا يقبل حتى بالهنات الهينات لان فيها انحرافا مبدئيا عن كرم الحنان: 'اما بعد، فلولا هنات كن فيك لكنت المقدم فى هذا الامر'.

و اذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن ابى طالب بان يحارب المتامرين به، فانه لايفعل الا بعد ان يراعى كل جوانب الحنان فى نفسه و قلبه، و بعد ان يستشير كل روابط الاخاء البشرى فى نفوس مقاتليه و قلوبهم. و هو ان فعل فى خاتمه الامر فانما يفعل مكرها لا مختارا، حزينا باكيا لا فرحا ضاحكا، فاذا شعوره بالنصر بعد القتال آلم و اوجع من شعور مناوئيه بالهزيمه!

و اذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن ابى طالب بان يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدى انصاره و بنيه يقاتلونهم و يقتصون منهم لضلال مشوا به و اليه، فان الرافه بالانسان و هى لديه وراء كل قانون، تحمله حملا على ان يخاطب انصاره و بنيه بهذا القول العظيم: 'لا تقاتلوا الخوارج من بعدى، فليس من طلب الحق فاخطاه كمن طلب الباطل فادركه'.

و هو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعاده المرء بسعاده جاره، اى بسعاده الانسانيه كلها، لان لجار المرء جيرانا، و ما يجوز عليه بالنسبه له يجوز عليهم بالنسبه لسائر الناس. و من سعادته ايضا ان يطغى عليه هذا الحنان فاذا بابناء الاخرين يحظون منه بالعطف الذى يحظى به ابناوه: 'ادب اليتيم بما تودب به ولدك'. و ان يستشعر الجميع روح العداله الاساسيه التى تفوق القوانين الوضعيه قيمه و جمالا لانها تحمل الدف ء الانسانى و تصل الخلق بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: 'ليتاس صغيركم بكبيركم، و ليراف كبيركم بصغيركم'.

و اذا كان العجز عن اتيان المكرمات نقصا، فان منطق الحنان على لسان على يجعل العاجز

عن اكتساب اخوه الناس اكثرهم نقصا: 'اعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان'. و يضيف على الى هذا العجز عجزا آخر هو الميل الى المراء و الخصومه قائلا: 'اياكم و المراء و الخصومه' بل ان الاولى هو لين الكلام لما فيه من شد الاواصر بين القلب، منبع الحنان، و القلب: 'و ان من الكرم لين الكلام'. و ليس بين نزعات القلب ما هو ادعى الى الراحه من شعور المرء بان له فى جميع الناس اخوانا احباء، فاذا تالم ابن ابى طالب من سيئات زمانه، جعل الخبز و هو اله البقاء، و الصدق و هو ركيزه البقاء، و مواخاه الناس فى منزله واحده، فقال فى ناس زمانه: 'يوشك ان يفقد الناس ثلاثا: درهما حلالا، و لسانا صادقا، و اخا يستراح اليه'.

و اذا كانت الغربه قساوه كبرى لانها تستدعى الوحده، فان اشدها يكون ساعه يفقد الانسان اخوانه و احباءه لانه يفقد اذ ذاك قلوبا يعز بعطفها و يحيا بحنانها: 'و الغريب من لم يكن له حبيب' و 'فقد الاحبه غربه'.

و لا بد لنا ان نشير الى موقف ابن ابى طالب من المراه على هذا الصعيد. فالمراه نصف الانسان، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الاخر؟ و هل النصف الاخر مدعو الى ان يجور على مقاييس العداله الكونيه القاضيه بحنان الانسان على الانسان؟

لقد اول الكثير بعض اقوال على فى المراه تاويلا شاووا به الطرافه و الترفيه فوق ما شاووا به ان يبرزوا موقف على منها. فالحوا على كلمات له قالها فى ظروف كان ابرز ما فيها عداء امراه معينه له و هو لم يسى ء و لم يامر الا بمعروف. و فاتهم ان مثل هذه الاقوال الخاضعه لظرف محدود بذاته، و الراميه الى ايضاح الاسباب فى صراع بين عقليتين مختلفتين كل الاختلاف، انما قال فى بعض الرجال اشد منها و اقسى. و هو بذلك لا يعنى الرجال قاطبه و فى كل حالاتهم. كما انه، حين اطلق تلك الاقوال فى المراه، لم يكن ليعنى النساء قاطبه و فى كل حالاتهن. فان مسببى الويلات التى المت به و بالخير عن طريقه، تعرضوا لمثل هذه الاقوال سواء اكانوا رجالا او نسوه لهن قوه الرجال و نفوذهم. و هو ان هاجم هولاء و هولاء من نسوه و رجال، فانما كان يهاجم فيهم مواقف معينه وقفوها من الحق و العدل و اصحابهما. و فى ذلك ما ينفى الادعاء بالاساءه الى المراه من قبل على. و انى لاسال من يعنيهم الامر ان يوافونى بكلمه واحده يسى ء بها على الى المراه و لم تكن

موجهه الى انسان معين فى ظرف معين، او من وحى هذا الانسان فى هذا الظرف! لقد هاجم المراه عندما كانت سببا فى الفتنه، و هاجم الرجل فى مثل هذه الحال. فهو بذلك يهاجم الفتنه و حسب!

اما موقف على من المراه كانسان، فهو موقفه من الرجل كانسان، لافرق فى ذلك و لاتمييز. اوليس فى حزنه العميق على زوجه فاطمه و قد توفيت، دليل على احساسه بقيمه المراه كانسان له كل حقوق الانسان و عليه كل واجباته، و فى اساس هذه الحقوق و الواجبات ان ينعم بالحنان الانسانى و ينعم به الاخرين؟

اولم يكن الناس فى الجاهليه و بعد الجاهليه يتفاءلون بمولد الذكر و يفرحون، و يتشاءمون بمولد الانثى و يحزنون!

اولم يكن موقف الفرزدق تعبيرا عن نظره عصره الى المراه، و هو عصر متصل بزمن ابن ابى طالب، ساعه ماتت زوجته، و كان يحبها على ما زعموا، فقال فيها هذا القول العجيب:

·                                 و اهون مفقود، اذا الموت ناله،++ على المرء من اصحابه، من تقنعا

·                                 على المرء من اصحابه، من تقنعا على المرء من اصحابه، من تقنعا

اى ان اهون فقيد على المرء من اصحابه و معارفه فقيد يلبس القناع، و يريد به المراه. فالمراه فى قلبه و على لسانه لاتستحق ان تبكى، و لاان يحزن عليها. لماذا؟ لالشى ء الالانها امراه!

و على، الم يكن من ابناء ذلك الزمان؟ و لكنه كان انفذهم تفكيرا و اشرفهم نظرا و اعمقهم احساسا، فقال فى جمله ما قال بهذا الشان متلوما على اصحاب تلك العقليه الرعناء: 'و ان بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث الخ'. اذن، فالذكور و الاناث بمنزله واحده عند على تجمعهم صفه الانسان و حسب.

اضف الى ذلك ان عليا الذى يعطف على الناس عموما، و على الضعفاء منهم خصوصا، يفرض على الخلق الكريم ان يكون اشد حنانا على المراه لانها مستضعفه ان لم تكن ضعيفه، فيقول: 'و انصروا المظلوم و خذوا فوق يد الظالم المريب و احسنوا الى نسائكم'. و يقول فى مكان آخر: 'آمركم بالنهى عن المنكر و الاحسان الى نسائكم'.

و يتابع ابن ابى طالب حلقات هذا المسلك المتماسك فى دعوته الى ان يلتف الناس جميعا، ثم الناس و سائر الكائنات، بدف ء الحنان، فيقول فى العلم- و قد عرفنا قيمه العلم فى مذهبه-: 'راس العلم الرفق'. و هو لايرى فى كثره الذنوب ما يهول اكثر من انها مدعاه الى القسوه بحكم تعودها، و من ثم فهى سبب فى نفور بارد يحل فى القلوب محل حنان دافى ء، فيقول: 'ما جفت الدموع الالقسوه القلوب، و ما قست القلوب الالكثره الذنوب!' و اذا لم تكن من اهل الذنوب فانت من اهل الحنان و من حقك ان تبذل- بهذا الحنان- كل ما تملك لنصره اخيك الانسان: 'فان كنت من اخيك على ثقه فابذل له مالك و يدك، و اعنه، و اظهر له الحسن'.

و اخيرا يطلق على مجموعه من الاقوال تدور فى مدار الدعوه الى تفانى الناس فى الناس عطفا و حنانا. و هى تعتبر بحق من اسمى ما يملكه الانسان من تراث خلقى عظيم. و منها هذه الروائع: 'صل من قطعك و اعط من حرمك. احسن الى جميع الناس كما تحب ان يحسن اليك. احسن الى من اساء اليك. عودوا بالفضل على من حرمكم الخ...'

و انجازا لهذه الدعوه الكريمه يشرك ابن ابى طالب البهائم و البقاع و الناس فى حق لها مشترك فى الحنان فيقول: 'اتقوا الله فى عباده و بلاده فانكم مسوولون حتى عن البقاع و البهائم!'

و هكذا، فان عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات انما هو حجه الحياه على الموت، بل هو اراده من اراده الوجود العادل!

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page