• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

خير الوجود و ثوريه الحياه

خير الوجود و ثوريه الحياه

لشد ما رايناه يجعل ثوريه الحياه كلامن خير الوجود، و خير الوجود كلامن ثوريه الحياه!

و قالت الثوره: انا الهادمه البانيه!

و ليس من حق الوجود العادل الا ان يكون خيرا كريما. و ليس من طبيعته الاالعطاء. و هو لاياخذ ما يعطيه الاليعود الى بذله طيبا جديدا. و خير الوجود كيان من كيانه و جوهر من جوهره. و عهد على به هو هذا العهد. و احساسه بخيره هو احساسه بعد له لايقل و لايزيد. و على ذلك تحدث عن هذا الخير فاكثر الحديث و قد روينا من اقواله فى خير الوجود شيئا غير قليل. و لعل ما رويناه من تلك الروائع الصادقه نستطيع تلخيصه الان بكلمه قالها و كانه يوجز بها مذهبه المومن بخير الوجود: 'و ليس الله بما سئل باجود منه بما لم يسال'. فاذا عرفنا ان لفظه 'الله' تعنى فى اقصى ما تعينه عند القدماء من اصحاب الاصاله الذهنيه و الروحيه: مركز الوجود و الروابط الكونيه، عرفنا اى خير شامل عميم هو خير الوجود الذى يمنحك ما تسال ضمن شروط، ثم يعطيك فوق ما تسال، ثم يزيد!

و لما كان الانسان الذى يحسب انه جرم صغير، ممثلالهذا العالم الاكبر على ما يقول ابن ابى طالب، فلابد ان يكون هو ايضا صوره عن الوجود بخيره كما هو صوره عنه بعدله. فاذا اعطاك الوجود فوق ما تساله من خيره، يكون قد بداك لحاجه فى طبيعته الى ان يكون خيرا. و اذا كنت صوره عنه، فانت احوج الى اصطناع الخير من اهل الحاجه

اليه. و هذا ما يوكده على بقوله هذا: 'اهل المعروف الى اصطناعه احوج من اهل الحاجه اليه!' و هذا ما يوكده ايضا فى عباره يرجع اليها كلما تحدث عن اصطناع الخير بين الناس: 'و الفضل فى ذلك للبادى ء'.

و اذ نتقل الى النظر فى الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس، امكننا ان نجرى آراء ابن ابى طالب فى المجارى التاليه:

اولا، الخير بين الناس يكمن فى ان يتعاونوا و يتساندوا، و ان يعمل واحدهم من اجل نفسه و الاخرين سواء بسواء، و الايكون فى هذا العمل رياء من جانب هذا و لااكراه من جانب ذاك لكى 'يعمل فى الرغبه لافى الرهبه' على حد ما يقول على، ثم ان يضحى بالقليل و الكثير توفيرا لراحه الاخرين و اطمئنان الخلق بعضهم الى بعض، و ان تاتى هذه التضحيه مبادره لابعد سوال و لابعد قسر و اجبار. و كل ما من شانه ان ينفع و يفيد، سواء اكان ذلك على صعيد مادى او روحى، كان خيرا.

ثانيا، يرى على ان الخير لا ياتى الا عملا اولا، ثم قولا، لان الانسان يجب ان يكون واحدا كالوجود الواحد، و ان يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعده، فان قال فعل، و ان فعل قال. و من روائع ابن ابى طالب كلمه قالها فى رجل يرجو الله فى امر و لايعمل من اجل هذا الرجاء: 'يدعى بزعمه انه يرجو الله! كذب و العظيم! ما باله لايتبين رجاءه فى عمله، فكل من رجا عرف رجاوه فى عمله!' اما اذا عملت خيرا، فمن حقك عند ذاك ان تقول خيرا: 'قل خيرا و افعل خيرا!'

ثالثا، يفسح على فى المجال امام قوى الخير لان تنطلق ابعد ما يكون الانطلاق، و ذلك بان يجعل قبول التوبه عن الشر قاعده يعمل بها. فاذا اثم المرء مسيئا الى الاخرين، فان فى التوبه بابا يلجه من جديد الى عالم الخير اذا شاء. يقول على: 'اقبل عذر من اعتذر اليك، و اخر الشر ما استطعت'. و يعرف التاريخ مقدار الاساءه التى لحقت بعلى عن طريق ابى موسى الاشعرى، و يعرف كذلك ان عليا لاينزع الاعن مذهبه ايه كانت الظروف و الصعوبات، لذلك نراه يبعث الى ابى موسى قائلا: 'اما بعد، فانك امروء ضللك الهوى، و استدرجك الغرور، فاستقل الله يقلك عثرتك، فان من استقال الله اقاله!'

رابعا، يومن على بان قوى الخير فى الانسان تتداعى و يشد بعضها بعضا شدا مكينا. فاذا وجد فى انسان جانب من الخير فلابد من ارتباطه بجوانب اخرى منه، و لابد من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. و فى هذه النظره اشاره صريحه الى ان الوجود واحد متكافى ء عادل خير سواء اكان وجودا عاما كبيرا، او وجودا خاصا مصغرا يتمثل بالانسان: 'اذا كان فى رجل خله رائقه فانتظروا اخواتها!'

خامسا، و مثل هذه العدوى الخيره بين الخلال الرائقه، عدوى مماثله تنتقل من الخير الى الشر بين الناس و الناس: 'جالس اهل الخير تكن منهم!' و 'اطلبوا الخير و اهله'.

سادسا، الايمان العميق بان فى طاقه الانسان ايا كان ان ينهج نهج الخير، و انه ليس من انسان اجدر من انسان آخر بهذا النهج: 'و لايقولن احدكم ان احدا اولى بفعل الخير منى!'

سابعا، على المرء الايستكثر من فعل الخير كثيرا. بل ان ما يفعله من خير يظل قليلامهما كان كثيرا لان فى الاكتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و انكارا لطاقه الانسان الذى ينطوى فيه العالم الاكبر. يقول على فى اهل الخير: 'و لايرضون من اعمالهم القليل، و لايستكثرون الكثير، فهم لانفسهم متهمون، و من اعمالهم مشفقون'

[من اعمالهم مشفقون: خائفون من التقصير فيها.]

ثامنا، لابد من الاشاره الى النظره العميقه التى يلقيها على على مفاهيم النزوع الانسانى الى ما يجعل الناس، كل الناس، فى نعيم.

فاذا نحن نظرنا فى آثار معظم المفكرين الذين اعاروا شوون الناس اهتمامهم، راينا ان لفظه 'السعاده' هى التى تتردد فى هذه الاثار، و ان مدلول هذه اللفظه انما، هو بالذات، مدار ابحاثهم و غايه ما يريدون. اما على فقد استبدل بلفظه 'السعاده' هذه ما هو ابعد مدى، و اعمق معنى، و ارحب افقا، و اجل شانا فى ما يجب ان تتصف به الطبيعه الانسانيه و تصبو اليه. لقد استبدل ب' السعاده' هذه، لفظه 'الخير' فما كان يوجه القلوب اليها بل اليه. لان فى السعاده ما هو محصور فى نطاق الفرد، و لان الخير ليس

بمحصور فى مثل هذا النطاق. فالخير اذن اعظم! ثم ان الخير يحتوى السعاده و لاتحتويه، فهو اشمل! اضف الى ذلك ان بعض الناس قد يسعدون بما لايشرف الانسان، و انهم قد يسعدون بما يوذى الاخرين، و انهم قد يتفهون و يترهلون و هم يحسبون انهم بذلك سعداء. اما الخير فهو غير السعاده اذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعاده منوطه بسعاده الناس جميعا. و هو الرضى عن احوال الجسد و العقل و الضمير! لذلك اكثر على من استخدام هذا اللفظ فى دعوته الحاره الى كل ما يرفع من شان الانسان!

و لم اعثر فى آثار ابن ابى طالب على لفظه 'السعاده' الامره واحده. ولكنه لايخرج بمعناها الذى يقصد عن مفهوم الخير بما يحملها من حدوده و معانيه. اما العباره التى وردت فيها لفظه 'السعاده' فهى هذه: 'من سعاده الرجل ان تكون زوجته صالحه و اولاده ابرارا و اخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه فى بلده'. فانظر كيف ربط سعاده المرء بسعاده المحيطين به من افراد عائلته ثم بسعاده اخوانه و جيرانه جميعا. بعد ذلك ناط سعاده هذا الرجل بسعاده بلاده مستندا الى انها بلاد تنتج الرزق لجميع ابنائها و هو واحد منهم!

تاسعا، ان خير الوجود و خير الانسان يستلزمان، بالضروره، الثقه بالضمير الانسانى ثقه تجعله حكما اخيرا فى ما يضر و ينفع. و لنا فى هذا الموضوع راى نفصله نقول:

من روائع ابن ابى طالب ما يخاطب به العقل وحده. و منها ما يخاطب به الضمير. و اكثرها مما يتوجه به الى العقل و الضمير مجتمعين. اما تلك التى يخاطب بها العقل، فقل انها الغايه فى الاصاله، و انها نتيجه محتومه لنشاط العقل الذى لاحظ و دقق و تمرس بخير الزمان و شره، و عرف من التجارب كل ما يكشف له عن الحقائق و يجليها، فاذا هى مصوغه على قواعد هندسيه ذات حدود و ابعاد لشده ما ترتبط بالحقائق، و مظهره فى اروع اطار فنى لشده ما ترتبط بالجماليه التعبيريه، مما يجعلها، من حيث الماده و الشكل، فى اصول الادب الكلاسيكى العربى.

و فى هذا النوع من الحكم الموجهه الى العقل، نرى عليا يصور تاركا للناس ان يحكموا بما يرون. فياخذوا اذا شاووا او يتركوا. لذلك لانرى فى هذا النوع من الحكم صيغ الطلب. انما نرى حكما صيغت بقالب خبرى خالص جرد من صور الامر و النهى جميعا.

حكما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدو، و المحسن و المسى ء، و الاحمق و العاقل، و البخيل و الكريم، و الصادق و المنافق، و الظالم و المظلوم، و المعوز و المتخم، و صاحب الحق و صاحب الباطل، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم، و شوون الجاهل و العالم، و الناطق و الصامت، و الارعن و الحليم، و صفات الطامع و القانع، و احوال العسر و اليسر، و تقلبات الزمان و ما لها من اثر فى اخلاق الرجال، و ما الى ذلك من امور لاتحصى فى فصل او باب.

اما تلك التى يخاطب بها الضمير، و العقل و الضمير مجتمعين، فاليك ما هى و ما حولها:

من الثابت ان الذين راوا فى الانظمه و التشريعات وحدها سلامه الانسان و كفايه المجتمع، قد اخطاوا خطا عظيما. فان هذه الانظمه و التشريعات التى تعلن عن حقوق الانسان و تامر برعايتها و المحافظه عليها، لايضبطها فى النتيجه، كما لايخلص فى اكتشافها و ابتداعها، الاعقل سليم و نفس مهذبه و ضمير راق. فان دنيا الناس هذه يرتبط كل ما فيها، ضمن حدود معينه طبعا، باخلاق القيمين على دساتيرها و انظمتها، و بمدى الخير الذى يتسع فى نفوسهم او يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعه التى تولف ميدان هذه الانظمه و الدساتير و تبرر وجودها. هذا، مع الاعتراف بان الانظمه الاجتماعيه الحديثه تتفاوت تفاوتا عظيما فى سماحها للقيمين عليها بمسايرتها او بالخروج عليها. و ذلك بحكم طبيعتها و بنسبه ما تحويه اصولها من امكانات التنفيذ. اما الانظمه و الدساتير القديمه، فقد كانت اكثر تاثرا باخلاق القيمين عليها المشرفين على اقامه ما تقتضيه من حدود. و لذلك اسباب ليست من موضوع حديثنا هذا.

و بالرغم من ان الانظمه و التشريعات الصالحه من شانها ان توجه الناس و تفرض عليهم ما يودى الى نفعهم فرضا، فان هذا التوجيه و هذا الفرض يظلان خارج حدود القيمه الانسانيه ان لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات. و فى مذهبنا ان كل عمل ياتيه الانسان لابد انه فاقد الدف ء الانسانى، و هو اثمن و اعظم ما يوافق الصنيع الانسانى، ان لم يحمل و هج الضمير و عبق النفس و اراده العطاء على غير قسر و اكراه. و لاتنجح الانظمه

و التشريعات فى اقامه العلاقات الانسانيه الابمقدار ما يمكنها ان تتوجه الى العقل و الضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين اتاحه الفرصه للعمل النافع و اراده العامل فى وحده تكفل للفرد و للجماعه الصعود فى طريق الحضاره.

و ما يصدق، بهذا الصدد، فى نطاق الافراد و الجماعات، يصدق كذلك فى تاريخ المفكرين و المشترعين و العلماء و المكتشفين و من اليهم. فانك لترى، اذا انت استعرضت تاريخ هولاء الذين خدموا الانسان و الحضاره، ان العقل الذى دلهم على الطريق الصحيح فى كل ميدان، لم يكن وحده فى تاريخهم. فالعقل بارد، جاف، لايتعرف الاالى الارقام و الاقسام و الوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلك على الطريق ولكنه لايشدك الى سلوكه و لايدفعك فى سهله و وعره. اما الدافع، فالضمير السليم و العاطفه الحاره. فما الذى حمل ماركونى على العزله القاسيه و الانفراد الموحش الكئيب، ان لم يكن الضمير الذى يحسن له الانصراف عن مباهج الحياه الى كابه الوحده فى سبيل الحضاره و الانسان؟ و ان لم يكن العاطفه التى تغمر هذا الضمير السليم بالحراره و الدف ء فلايفتر ابدا.

و ما يقال فى ماركونى يقال فى باستور، و غاليليو، و غاندى، و بتهوفن، و بوذا، و افلاطون، و غيتى، و فى غيرهم من اصحاب المركب الانسانى القريب من الكمال.

و الدليل الايجابى على هذه الحقيقه يستتبع دليلاسلبيا لزياده الايضاح. فهذا ادولف هتلر، و جانكيزخان، و هولاكو، و الحجاج بن يوسف الثقفى، و قيصر بورجيا بطل كتاب 'الامير' المشووم لمكيا فيللى،

[مكيافيللى: نابغه ايطالى عاش فى عصر الرسام العظيم رافاييل، و كان صديقا له و معينا. و قد دفعه عقله الفذ و خلقه الكريم الى مهاجمه اساليب الظلم و البربريه عند حكام التاريخ، فالف كتابه الشهير 'الامير' الذى يصف فيه وقاحه اولئك الحكام، و شخصياتهم المبتذله، بطريقه غير مباشره اذ دفع الى الناس صوره عن شخصيه الامير الذى يخلو من كل ضمير و كل عقل و كل ذوق و يلجا لشتى و سائل العنف فى التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمركزه... مشيرا الى ان امارات التاريخ و العصر الذى هم فيه انما 'تركزت' على هذا الاسلوب السمج. و قد اخذ مكيافيللى صفات 'الامير' فى كتابه هذا من شخصيه قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفه. و يطلق على المبدا القائل باللجوء الى هذا الاسلوب توسلاالى الحكم ثم الى تركيزه، اسم المكيافيليه، نسبه لمكيافيللى صاحب الكتاب.] و بعض علماء الذره المعاصرين الذين يوافقون

على تجربتها على الادميين، الم يتميز هولاء جميعا بعقول واسعه و مدارك قد تهون امامها مدارك الاخرين؟ و مع ذلك، فما كان من شانهم الاالتقتيل و التدمير و الاعتداء على مقدسات الحضاره و مخلفات الجهود الانسانيه، و على كرامه الحياه و الاحياء و خير الوجود!

ذلك ان عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمه و العواطف الكريمه! فحيث لاضمير و لاعاطفه، لانفع من العقل، بل قل انه الى المضره اقرب.

و لااريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الانسان من عاطفه و ضمير و عقل و ما اليها، فهى و لاشك تتفاعل و تتعاون. غير ان ما اردته بالعقل هو القوه التى تعقل الامور على صعيد يربط السبب بالنتيجه و يحكم بين العله و المعلول، فيدور فى نطاق من الارقام و الحدود التى لاتتاثر، بحد ذاتها، بالبيئه الانسانيه الخاصه و العامه. و على هذا الضوء اجزت هذا التفصيل.

اذن، فالعقل المكتشف لابد لصاحبه من ضمير و عاطفه يدفعانه فى طريق الخير. و ما يصح بهذا الشان فى المشترع يصح فى المشترع له. فالافراد الذين يطلب اليهم ان يسيروا على هذا النظام الخير او ذاك، لابد لهم من اقتناع وجدانى، الى جانب الاقتناع العقلى المجرد، يدفعهم فى طريق التهذيب الانسانى الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لابد لهم من التمرس بالفضائل الاخلاقيه التى تحيط الانظمه و التشريعات بحصون رفيعه منيعه. لابد لهم من ان يكونوا خيرين!

لذلك راح على يحرك فى الافراد عواطف الخير على ما راينا، و يوقظ فيهم ما غشته الايام من الضمائر السليمه. و يعمل على انمائها و ينصح برعايتها.

توجه على الى الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و اقواله جميعا. لانه لم يفته ان لتهذيب الخلق شانا فى رعايه النظم العادله، و فى بث الحراره فى المعاملات بين الناس. و لم يفته كذلك، ان هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الانسانيه، كما يطلب لحمايه العداله الاجتماعيه و سننها بما هو ضبط لوازع و توجيه لاخرى. و قد ساعده فى ذلك ما اوتى من مقدره خارقه ينفذ بها الى اعماق الناس افرادا و جماعات، فيدرك ميولهم و اهواءهم، و يعرف طباعهم و اخلاقهم، فيزن خيرها و شرها، ثم يصور، و يطور، و يامر و ينهى، على ضوء ثقته الراسخه بالضمير الانسانى الذى يتوجه اليه.

كانت ثقه ابن ابى طالب بالضمير الانسانى ثقه العظماء الذين تالف فيهم العقل النير و القلب الزاخر بالدف ء الانسانى، النابض بالحب العميق الذى لا يعرف حدودا.

كانت ثقته بهذا الضمير ثقه بوذا و بتهوفن و روسو و غاندى و سائر العظماء الذين مدهم القلب بنور يخبو لديه كل نور. و على اساس هذه الثقه ارسى ابن ابى طالب حكمه و امثاله، و على اساسها تترابط الافكار و التوجيهات التى يخاطب بها و جدانات الناس.

و اذا كان للامام على مثل هذه الثقه بنواحى الخير فى الناس، على ما منى به على ايديهم من نكبات و فواجع، فانه يابى الا ان يلقى بذور هذه الثقه فى قلوبهم جميعا. فهو يعرف 'ان فى ايدى الناس حقا و باطلا، و كذبا و صدقا'. ولكن الاولى بالمرء ان يفتح عينيه و قلبه على نواحى الخير هذه، فلعلها هى التى تنمو دون نواحى الشر. و لعل التعليم بالمثل و السيره يكون اجل و اجدى. و قد طالما كرر على وصاياه بضروره هذه الثقه بالضمير الانسانى، و فى جمله ما يقوله: 'من ظن بك خيرا فصدق ظنه'. و يقول فى مكان آخر: 'لا تظنن بكلمه خرجت من احد سوءا و انت تجد لها فى الخير محتملا' و 'ليس من العدل القضاء بالظن على الثقه' و 'و اذا استولى الصلاح على الزمان و اهله ثم اساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزيه، فقد ظلم' و 'اسوا الناس حالا من لم يثق باحد لسوء ظنه، و لم يثق به احد لسوء فعله!'

و قد اخطا دارسو الامام على ساعه راوا انه متشائم بالناس شديد التشاوم، متبرم بهم كثير التبرم. و ساعه احتجوا لرايهم هذا باقوال له يهاجم بها ابناء زمانه بشده و عنف. اما راينا نحن فعلى العكس من ذلك تماما. راينا ان عليا لم ينقض ثقته بالانسان ساعه واحده و ان نقضها ببعض الناس فى بعض الظروف. فمن عرف طاقه ابن ابى طالب على احتمال المكاره تاتيه من الناس، و جلده العجيب فى مقاساه الاهوال الناجمه عن الغدر و الخيانه و الفجور فى الكثير من خصومه و انصاره، ثم ما كان من اموره معهم جميعا اذ ياخذهم بالرفق و العطف ما امكنه ان يرفق و ان يعطف، اقول: من عرف ذلك ادرك ان عليا عظيم التفاول بحقيقه الانسان، و بفطرته التى اضلها المجتمع فى بعض احواله. لا يختلف فى ذلك عن اخيه العظيم روسو.

و اذا كان له فى ذم اهل الخيانه و الغدر و الظلم قول كثير، فما ذاك الا لانه يعترف، ضمنا، ان الانسان ممكنا اصلاحه و لو طال على ذلك الزمن. فان المتفائل وحده هو الذى يزجر المسى ء كما يثيب المحسن املا منه بتقويم الاعوجاج فى الخلق و المسلك. و لو لم يكن لابن ابى طالب مثل هذا الامل، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التى جرها عليه المسيئون، و لما صبر على ما يكره! و هو ان قال فى الدنيا و اهلها: 'فانما اهلها كلاب عاويه و سباع ضاريه، يهر بعضها بعضا، و ياكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها'، فانما يقول ذلك لانه قاسى من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه. فوبخهم هذا التوبيخ الموجع ايثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يكون كلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا ياكل ذليلا او كبيرا يقهر صغيرا! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضارى و العزيز الظالم و الكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم ايثارا منه لسلامه البدن و الروح، بل ايثارا منه للحياه على الموت، و تفاولا بحسن النجاه!

اذن، فالامام على، و هو الذى يحترم الحياه: اعظم ما خلق الله، و يحترم الناس الاحياء: اجمل نماذج هذه الحياه، عظيم الثقه بالخير الانسانى. عظيم التفاول بالانسان يريده حرا كما يجب ان يكون!

و لولا هذه الثقه و هذا التفاول لما كان من امره مع الناس ما كان، و لما قال: 'لا تظنن بكلمه خرجت من احد سوءا و انت تجد لها فى الخير محتملا!' ثم لما توجه الى الضمير الفردى و الجماعى بوصاياه التى تجمع عمق الفهم و حراره العاطفه الى سمو الغايه و نبل المقصد. هذه الوصايا التى ارادها حصنا منيعا للاخلاق العامه، و العاطفه الانسانيه، و تركيز العمل النافع على اسس الايجابيه فى العقل و الضمير. و استنادا الى هذه الثقه بالضمير الانسانى، و تحصينا للعمل الخير الشريف، نراه يقيم على الناس ارصادا من انفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا: 'اعلموا ان عليكم رصدا من انفسكم و عيونا من جوارحكم و حفاظ صدق يحفظون اعمالكم و عدد انفاسكم!'

و استنادا الى هذه الثقه بخير الوجود و عدله، و الى عظمه الحياه و الاحياء، يخاطب على ابن ابى طالب ابناء زمانه بما يوقظهم على ان الحياه حره لا تطيق من القيود الا ما كان

سببا فى مجراها و واسطه لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها. و انها لا يطيب لها البقاء فى مهد الامس. فعليهم الا يحاولوا غلها و تقييدها و الا اسنت و انقلبت الى فناء. فالحياه جميله، كريمه، حره، خيره كالوجود ابيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابته لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.

و هى متجدده ابدا، متطوره ابدا، لا ترضى عن تجددها و تطورها بديلا و هما اسلوب تنهجه فى فتوحاتها التى تستهدف خيرا اكثر و بقاء اصلح. و ملاحظه ابن ابى طالب الدقيقه العميقه للحياه و نواميسها و هى اعظم موجودات الوجود الخير ، مكنت فى نفسه الايمان بثوريه الحياه المتطلعه ابدا الى الامام، المتحركه ابدا فى اتجاه الخير الاكثر. و ثوريه الحياه اصل تحركها و سبب تطورها من حسن الى احسن. و لهذا كانت الحياه حره غير مقيده الا بشروط وجودها. و ثوريه الحياه اصل تحرك المجتمع الانسانى و سبب تطوره. و لولا هذه الخاصه لكانت الحياه شيئا من الموت و الاحياء اشياء من الجماد.

آمن ابن ابى طالب بثوريه الحياه ايمانا اشبه بالمعرفه، او قل هو المعرفه. فترتب عليه ايمان عظيم بان الاحياء يستطيعون ان يصلحوا انفسهم و ذلك بان يماشوا قوانين الحياه. و يستطيعون ان يكونوا اسياد مصائرهم و ذلك بان يخضعوا لعبقريه الحياه. و قد سبق ان قلنا فى حديث مضى ان ثوريه الحياه الصق مزايا الحياه بها و اعظمها دلاله على امكاناتها العظيمه. و هى تستلزم من المومنين بها ان يعملوا على اساس من الثقه المطلقه بالتطور المحتوم، و ان ينبهوا الخواطر اليه، و ان يستخدموا الدليل و البرهان فى زجر المحافظين عن كل تصرف غبى يتوهم اصحابه انهم يستطيعون الوقوف فى وجه الحياه الثائره المتطوره بثورتها.

بهذه الثقه و بهذا الايمان خاطب ابن ابى طالب الانسان بقوله: 'فانك اول ما خلقت جاهلا ثم علمت، و ما اكثر ما تجهل من الامر، و يتحير فيه رايك، و يضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك!' ففى هذا القول اعتراف بان الحياه متطوره، و ان التعلم انما هو الانتفاع بما تخزن الحياه من عبقريتها فى صدور ابنائها، على ما قلنا سابقا. و فيه ايمان بالقابليه الانسانيه العظيمه للتقدم، او قل للخير. و ما دعوته الحاره الى المعرفه التى تكشف كل

يوم عن جديد، و تبنى كل يوم جديدا، الا دليل عن الايمان بثوريه الحياه الخيره و امكانات الاحياء. فالمعرفه لديه كشف و فتح لا يهدآن.

و هو بهذا الايمان و هذه الثقه يخاطب ابناء زمانه يقول: 'لا تقسروا اولادكم على اخلاقكم، فانهم مخلوقون لزمان غير زمانكم'. فلولا تفاوله العظيم بان فى الحياه جمالا، و بان فى الناس قابليه التطور الى الخير، لما اطلق هذا القول الذى يوجز علمه بثوريه الحياه، و يوجز تفاوله بامكانات الانسان المتطور مع الحياه، كما يوجز روح التربيه الصحيحه، و يخلص كل جيل من الناس من اغلال العرف و العاده التى ارتضاها لنفسه جيل سابق.

و لا بن ابى طالب فى هذا المعنى قول كثير منه هذه الايات الخالده التى يمجد بها العمل بوصفه حقيقه و ثوره و خيرا: 'من ابطا به عمله لم يسرع به نسبه' و 'قيمه كل امرى ء ما يحسنه' و 'اعلموا ان الناس ابناء ما يحسنون' و 'لكل امرى ء ما اكتسب'.

و من اقواله ما يدفع به المرء الى ان يطلب التقدم بالعمل، و الا يحجم او يتراجع اذا هو اخفق كثيرا او قليلا، لان الوجود الخير لا يحرم ابناءه ما يستحقون. و اذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا كله. و قد يسوى الامر فى دفعه ثانيه من الطلب بواسطه العمل. و من قوله فى ذلك هذه الايه: 'من طلب شيئا ناله او بعضه'. و اظن ان القارى ء فطن الى روح هذه العباره التى تتالق و كانها انبثاق عن كلمه المسيح الشهيره: 'اقرعوا اقرعوا يفتح لكم'.

و لعل اجمل ما فى المذهب العلوى بهذا الشان، ان صاحبه كان يوحد ثوريه الحياه و خير الوجود نصا كما كان يوحدهما روحا و معنى. فلشد ما نراه يوحد معنى التطور، او ثوريه الحياه، بمعنى خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلك، و لا تلك شيئا من هذا، بل يجعل ثوريه الحياه كلا من خير الوجود، و خير الوجود كلا من ثوريه الحياه. و ان فى آياته هذه لدليلا كريما على صحه ما نقول فليس فيها ما يحتاج الى شرح او تعليق. و اليك نموذجا عنها: 'العاقل من كان يومه خيرا من امسه' و 'من كان

غده شرا من يومه فهو محروم' و 'من اعتدل يوماه فهو مغبون'. و اخيرا اليك هذه الرائعه التى تجمع كل ما نحن بصدده الان، الى دف ء الحنان العميق، الى جمال الفن الاصيل، الى اشراك الايام باحاسيس البشر:

'ما من يوم يمر على ابن آدم الا قال له: انا يوم جديد، و انا عليك شهيد، فقل فى خيرا و اعمل خيرا فانك لن ترانى بعد ابد!'

و لسوف نسوق فى هذا الكتاب روائع لابن ابى طالب ستبقى ما بقى الانسان الخير. و انها لطائفه تولف نهجا فى الاخلاق الكريمه، و الاحلام العظيمه، و التهذيب الانسانى الرفيع الذى اراده انبثاقا عن ثوريه الحياه و خير الوجود!

بيروت جورج جرداق

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page