الجهةُ السابعة : لبسُ السواد حُزناً على الحُسين (عليه السلام)
بدايةً وردت روايات في باب لباس المصلّي ، مضمونها : أنّ لبس السواد هو لباس الأعداء ، ولباس أهل النار ، ولباس بني العبّاس ، وفتوى أكثر الفقهاء على كراهة لبس السواد خصوصاً في الصلاة .
وذهبَ بعض المحدّثين الإخباريين إلى الحرمة .
وقد ذكرنا في الفصل الأوّل : أنّ اتّخاذ الشعيرة يكفي فيه الحلّيّة بالمعنى الأعم ، فعلى افتراض كونه مكروهاً ؛ فإنّ ذلك لا يمنع من اتّخاذه شعيرة للحزن .
حيث إنّ الشعيرة الواردة في الأدلّة ليست حقيقة شرعيّة ، بل هي حقيقة عُرفيّة ، فيمكن استحداث واتّخاذ ممارسة مصاديق ورسوم جديدة ، هذا أوّلاً .
وثانياً : أنّ هذا السواد إنّما يكون مشمولاً للكراهة إذا اتُّخذ لباساً ، أمّا إذا اتُّخذ شعاراً لإظهار الحزن فهو غير مشمول لتلك الكراهة ، فمن ثَمّ ذهبَ ـ كما نقلنا في صدر البحث ـ صاحب الحدائق (1) ، والسيّد اليزدي (2) ، وعدّة من الفقهاء
إلى عدم كراهة لبس السواد حتّى في الصلاة إذا كان لأجل إظهار الشعائر .
(والمسألة محرّرة في كتاب الصلاة) .
فالروايات الناهية عن لبس السواد ليست متعرّضة لاتخاذه كشعار ، ولأجل إظهار الأسى والحزن ، نظير ألبِسة بعض الحِرف والمِهن ، أو المؤسّسات والدوائر ، فإنّ الهيئة الموحّدة في اللباس لديهم ليست زيّاً لباسيّاً في الحياة المعتادة ، بل الهيئة الموحّدة من اللون أو الشكل ، هي شعار يرمز إلى العمل الموحّد والانتساب المعيّن ، ومن ثَمّ أفتى جمهرة أعلام العصر بجواز لبس الأشخاص الذين يقومون بالشبيه (المسرحيّة لحادثة الطف) زيّ الجنس الآخر ، وإنّ ذلك لا يندرج في عموم حرمة تشبّه الرجال بالنساء أو العكس ، ولا يندرج في حرمة لبس الرجال للباس النساء ؛ وذلك لظهور المتعلّق في حكم الحرمة لمَا يُتّخذ لبساً في الحياة العاديّة المعيشيّة .
وثالثاً : المتتبّع للسيرة يقرأ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وأتباعهم ، ارتَدَوا ولبسوا السواد من أجل إظهار الحزن والتفجّع ، وذلك في موارد :
1- منها ما في شرح ابن أبي الحديد : أنّ الحسنين (عليهما السلام) لَبسا السواد على أبيهما في الكوفة بعد شهادته (3) .
2- ومنها ما في كتاب المحاسن للبرقي (4) : أنّ الفاطميّات والعقائل ـ بعد رجوعهنّ من كربلاء إلى المدينة ـ لبسنَ السواد والمَسوح ، وكان زين العابدين (عليه السلام) يطبخ لهم .
فذَكر فيه أنّ زين العابدين كان يطبخ ويُطعم النساء ؛ لأنّهنّ شُغلنَ بإقامة المأتم على الحسين (عليه السلام) ، ففيه نوع من تقرير المعصوم (عليه السلام) للبس السواد والمسوح .
3- ومنها ما في كتاب إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس (5) ، في فضيلة يوم الغدير ، حيث ورد فيه : وهو يوم تنفيس الكرب ، ويوم لبس الثياب ، ونزع السواد .
4- ومنها ما في مستدرك الوسائل (6) بسنده عن أبي ظبيان قال : (خرجَ علينا عليّ (عليه السلام) ، في إزار أصفر وخميصة (7) سوداء) .
وسنذكر بعد قليل المزيد من الأدلّة المنقولة على ذلك .
ورابعاً : أنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم بادئ الأمر ؛ من أجل إظهار حزنهم على الحسين (عليه السلام) ، وجعلوه ذريعة للانقضاض على بني أميّة ، ممّا يدلّ على أنّ لبس السواد كان متّخذاً لإظهار الحزن والتفجّع عند العرف الاجتماعي آنذاك ، وهو زمان حضور الأئمّة (عليهم السلام) ، وهذه الظاهرة يمكن التحقّق منها تاريخيّاً ، وإنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم ذريعةً وحيلةً في أنّه حُزنٌ على مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام) ، وإنّهم قاموا بعنوان الثأر لسيّد الشهداء ، وهو شعار الرضا من آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، ولكن استغلّوا ذلك للتسلّط على رقاب المؤمنين والمسلمين .
إذاً ، تتعاضد هذه الوجوه ، وتدفع الريبة في الكراهة ، وتؤيّد رجحان لبس السواد حُزناً لأجل مصاب أهل البيت (عليهم السلام) .
والآن نُقدّم ـ للقارئ الكريم ـ المزيد من الأدلّة والمؤيّدات على رجحان لبس السواد ؛ لإظهار الحزن والأسى على سادات وأئمّة الورى (عليهم السلام) :
بعضُ الأدلّة المنقولة في لبس السواد
1- لبسُ الحَسنان السواد على أبيهما بعد شهادته (عليه الس81) .
2- وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج : وكان قد خرج الحسن بن علي (عليه السلام) إليهم ـ إلى الناس بعد شهادة أبيه ـ وعليه ثياب سود (9) .
3- لبس نسُاء بني هاشم السواد والمسوح حُزناً على سيّد الشهداء (عليه السلام) ، كما ورد ذلك في كتاب المحاسن للبرقي ، بسنده عن عمر بن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : لمّا قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) لبسنَ نساء بني هاشم السواد والمسوح ، وكنّ لا يشتكينَ من حرّ ولا برد ، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم) (10) ووجه الدلالة على الاستحباب وعلى رفع الكراهة : هو أنّ ذلك الفعل كان بإمضائه وتقرير الإمام المعصوم (عليه السلام) ، إضافةً لدلالة الخبر على أنّ لبس السواد هو من شعار الحزن والعزاء على المفقود العزيز الجليل من قديم الزمان
وسالف العصر والأوان ، وكما هو المرسوم اليوم في جميع نقاط العالَم (11) .
4- وفي إقبال الأعمال (12) نقلاً عن كتاب (النشر والطيّ) بإسناده عن الرضا (عليه السلام) ، أنّه قال ـ في حديث في فضيلة يوم الغدير ـ : (وهو يوم تنفيس الكرب ويوم لبس الثياب ونزع السواد) .
5- ومثلها رويَ في مستدرك الوسائل عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان الحلّي بإسناده عن أحمد بن إسحاق ، عن الإمام العسكري (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في فضيلة يوم التاسع من ربيع الأول ، وأساميه ـ إلى أن قال ـ قال (عليه السلام) : (ويوم نزع السواد) (13) .
6- ما جرى في الشام على قافلة سيّد الشهداء (عليه السلام) ، بعدما أذِن لهم يزيد بالرجوع وطلبوا منه النوح على الحسين (عليه السلام) : فلم تبقَ هاشميّة ولا قريشيّة إلاّ ولَبست السواد على الحسين وندبوه (14) .
7- سكينة بنت الحسين ترى الزهراء (عليها السلام) في المنام وهي تندب الحسين وعليها ثياب سود ، يذكر ذلك المحقّق النوري في المستدرك حيث تقول سكينة (عليها السلام) : (... فإذا بخمس نسوة قد عظّم الله خلقتهنّ ، وزاد في نورهنّ وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة ناشرة شعرها ، وعليها ثياب سود ، وبيدها قميص مضمّخ بالدم
إلى أن ذكرت أنّها كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) (15) .
8- وفي مقتل أبي مخنف (16) ، عندما أخبر نعمان بن بشير بقتل الحسين (عليه السلام) ، فلم يبقَ في المدينة مخدّرة إلاّ وبرزت من خدرها ، ولبسوا السواد وصاروا يدعون بالويل والثبور .
9- وروى في الدعائم (17) عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، أنّه قال : (لا تلبس الحاد ـ المرأة في حِدادها على زوجها ـ ثياباً مصبّغة ولا تكتحل ولا تطيّب ولا تزيّن حتّى تنقضي عدّتها ، ولا بأس أن تلبس ثوباً مصبوغاً بسواد) ، وقد أفتى بمضمونه الشيخ في المبسوط (18) ، والمحقّق في الشرائع في حداد الزوجة وفي الإيضاح .
10- وروى الصفّار في بصائر الدرجات عن البزنطي ، عن أبان بن عثمان ، عن عيسى بن عبد الله وثابت ، عن حنظلة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : (خطبَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يوماً بعد أن صلّى الفجر في المسجد وعليه قميصة سوداء) ، وذكرَ (عليه السلام) أنّه توفّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك اليوم (19) .
وفي سيرة ابن هشام (20) : كان على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قميصة سوداء حين اشتدّ به وجعه .
11- وروى الكليني (21) ،
والدعائم (22) بسنده عن سليمان بن راشد ، عن أبيه قال : رأيتُ عليّ بن الحسين (عليه السلام) وعليه درّاعة سوداء وطيلسان أزرق .
12- وفي عيون الأخبار وفنون الآثار لعماد الدين إدريس القريشي (23) عن أبي نعيم ، بإسناده عن أمّ سلمة رضوان الله عليها ، أنّها لمّا بلغها مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ضربت قبّة سوداء في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولبست السواد .
13- وروى المجلسي في البحار (24) فيما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) بعد واقعة كربلاء ، إلى أن قال (عليه السلام) :(ثُمّ قال الوصيف : يا سكينة ، اخفضي صوتكِ فقد أبكيتِ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، ثُمّ أخذَ الوصيف بيدي فأدخلني القصر ، فإذا بخمس نسوة قد عظّم الله تعإلى خلقتهنّ وزاد في نورهنّ ، وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة ناشرة شعرها وعليها ثياب سود ، بيدها قميص مضمّخ بالدم ، وإذا قامت يقمنَ معها ، وإذا جلست جَلسن معها ، فقلتُ للوصيف : ما هؤلاء النسوة اللاتي قد عظّم الله خلقتهنّ ؟
فقال : يا سكينة ، هذه حوّاء أمّ البشر ، وهذه مريم بنت عمران ، وهذه خديجة بنت خويلد ، وهذه هاجر ، وهذه سارة ، وهذه التي بيدها القميص المضمّخ ـ وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها ـ هي جدّتك فاطمة الزهراء عليها السلام) الحديث .
14- وروى الشيخ في الغَيبة بسنده إلى كامل بن إبراهيم ، أنّه دخلَ على أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) ، فنظرَ إلى ثياب بياض ناعمة ، قال : فقلتُ في نفسي :
وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب ، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله ؟
فقال (عليه السلام) متبسّماً : (يا كامل ، وحسرَ عن ذراعيه فإذا مسح أسود خشن على جلده ، فقال : هذا لله وهذا لكم)(25) .
15- في كامل الزيارات ، بسنده : أنّ المَلَك الذي جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأخبره بقتل الحسين بن علي (عليه السلام) كان مَلَك البحار : وذلك أنّ مَلَكاً من ملائكة الفردوس نزلَ على البحر فنشر أجنحته عليها ثُمّ صاحَ صيحةً وقال : (يا أهل البحار ، ألبسوا أثواب الحزن فإنّ فرخ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مذبوح ...) (26) .
(1) الحدائق 7 : 118 . حيث قال فيها : (لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (عليه السلام) ؛ لمَا استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان .
(2) في أجوبة أسئلة حول الشعائر الحسينيّة ، الذي هو ملحق على تعليقته على رسالة الشيخ جعفر التستري ص 12 ، في لبس السواد .
(3)شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 8 .
(4) المحاسن 2 : 402 ، باب الإطعام ؛ باب 25 .
(5) الإقبال : 464 .
(6)مستدرك الوسائل 3 : 234 ، باب 45 أبواب لباس المصلّي .
(7)ثوب خَز ، أو صوف مُعلَم .
(8)مجمعُ الدُرر في المسائل الاثنتي عشر ، شيخ عبد الله المامقاني .
(9) شرح نهج البلاغة 16 : 22 .
(10) المحاسن 2 : 402 ـ وقد دوّنت هذه الرواية في كتب : الكافي ، والبحار ، والوسائل نقلاً عن كتاب المحاسن .
(11)راجع كتاب (إرشاد العباد إلى استحباب لبس السواد) للسيّد جعفر الطباطبائي الحائري ، تعليق السيّد محمد رضا الحسيني الاعراجي الفحّام ص : 28 ـ هامش (2) .
(12)إقبال الأعمال : 464 .
(13)وفيه : (ويوم نزع الأسواد) . ـ وقد أدرجه المجلسي في بحاره نقلاً عن كتاب زوائد الفوائد للسيّد ابن طاووس ؛ مستدرك الوسائل 3 : 326 ـ 327 .
(14) مستدرك الوسائل 3 : 327 .
(15) مستدرك الوسائل 3 : 327 .
(16) صفحة 222 .
(17) 2 : 291 .
(18) 5 : 265 ـ 264 .
(19) بصائر الدرجات : 305 ـ 304 ؛ بحار الأنوار 22 : 464 .
(20) 4 : 316 .
(21) الكافي 6 : 449 .
22) 2 : 161 .
(23) صفحة 109 .
(24) 45 : 195 .
(25) وسائل الشيعة 3 : 351 ؛ بحار الأنوار 50 : 253 وج 52 : 50 .
(26) كامل الزيارات : 67 / ح 3 ؛ مستدرك الوسائل 3 : 327 .