الباب الثالث
حركة الحسين (عليه السّلام) في مواجهة الانقلاب الأموي
الفصل الأوّل
المرحلة الاُولى : السكوت والعمل السرّي في زمن معاوية
الفصل الثاني
المرحلة الثانية : النهضة للتغيير بعد موت معاوية
الفصل الثالث
طرف من أخبار شهادة الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السّلام)
الفصل الأوّل
المرحلة الاُولى : السكوت والعمل السري في عهد معاوية
خلاصة خطّة معاوية
استهدف معاوية من انقلابه أساساً أمرين اثنين :
الأمر الأوّل : دمج موقع الإمامة الدينية في موقع الحاكمية ؛ ليصبح حاكماً له سلطة تشريعية كالتي برز بها عمر في خلافته حين كان ينهى عن كثير من سنن النبي (صلّى الله عليه وآله) فيطاع(1) ، ثمّ أراد معاوية أن يضمن استمرار الخلافة بهذه الصفة لولده يزيد وذريته.
الأمر الثاني : محو الذكر الطيّب والموقع الهدايتي الخاص الذي منحه الله ورسوله لعليٍّ ولأهل بيته المعصومين (عليهم السّلام) من بعده ؛ بغضاً وحقداً ، ولكونه يتعارض مع هدفه الأوّل .
وكانت أمامه ثلاث عقبات لتحقيق ذلك , وهي :
1 ـ وجود الحسن (عليه السّلام) : وقد برزته سنوات الصلح مصلحاً رسالياً بمستوى جدهّ النبي (صلّى الله عليه وآله) , بما أعاد لذاكرة المسلمين من تشابه بين صلحه وصلح الحديبية من جهات عديدة مرّ ذكرها , وبما أخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) من حدث الصلح ، وبما ظهر من مكنون أخلاق الحسن (عليه السّلام) وسيرته من خلال معاشرته للناس في موسم الحجّ للسنوات العشر ماشياً , وفي غير موسم الحجّ ، وقبل ذلك بما انتشر من أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أخيه الحسين (عليهما السّلام) .
هذا مضافاً إلى أن أحد بنود الصلح الذي ينصّ على أن الأمر للحسن (عليه السّلام) بعد موت معاوية ، فإنْ حدث بالحسن (عليه السّلام) فإنّ الأمر للحسين (عليه السّلام) , وليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده .
2 ـ الكوفة بوصفها مركز شيعة علي (عليه السّلام) ، وبوصفها مركز الثقل في أهل العقد والحلّ الذين بايعوا الحسن (عليه السّلام) بيعة مشروعة قامت على إيمانهم بالنصّ ، ومن ثمّ كانت هذه البيعة عُدَّةَ الحسن (عليه السّلام) في مشروع صلحه العظيم ، كما كانت بيعة أهل المدينة مع النبي (صلّى الله عليه وآله) عُدَّتَه في مشروع صلحه العظيم مع قريش .
3 ـ انتشار الأحاديث النبويّة في فضل علي وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وفي ذمّ معاوية وبني أميّة في الشام مركز شيعة معاوية فضلاً عن غيرها . ومن جانب آخر انتشار أخبار سيرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وسيرة علي (عليه السّلام) الشخصية ، وأخبار سيرتهما في الحكم والحروب ، وهي سيرة واحدة ونور واحد (( علي منّي وأنا منه )) , (( أنا من رسول الله كالصنو من الصنو , وكالذراع من العضد )) . وفي قبالها انتشار سيرة الخلفاء الثلاثة في الحكم وفي الحروب ، وهي سيرة مغايرة لسيرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السّلام) : ( متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما ) .
وكانت إجراءات معاوية التي اتّخذها لتحقيق هدفيه الآنفي الذكر كما يلي :
الإجراء الأوّل : التخلّص من الحسن (عليه السّلام) بدسّ السمّ إليه عن طريق زوجته بنت الأشعث , وكذلك التخلّص من بعض الشخصيات التي تشكّل عقبة ، كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الشام ، وسعد بن أبي وقاص في المدينة .
الإجراء الثاني : لعن علي (عليه السّلام) وسبّه على منابر المسلمين بعد صلاة الجمعة ؛ لتربية الناشئة عليه .
الإجراء الثالث : تغيير نظام التعبئة من الأسباع إلى الأرباع ، وتغيير الكثافة السكانية الشيعية بتسيير خمسين ألف من أهل الكوفة والبصرة بعيالاتهم إلى خراسان وإشغالهم بالغزو .
الإجراء الرابع : قتل حجر وأصحابه بتلفيق التهم عليهم بأنّهم خلعوا معاوية ، وخرجوا على واليه في الكوفة .
الإجراء الخامس : تصفية الجيش في الكوفة من خلال عرض الناس على البراءة من علي ولعنه ، وقتل مَنْ يأبى ذلك ، وإسقاط اسم المتّهم بحبّ علي من ديوان العطاء ، واعتماد الحمراء والبخارية ليكونوا شرطة بدلاً من أهل القبائل .
الإجراء السادس : المنع من نشر أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله) في فضل علي وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وكلّ حديث فيه ذمّ لبني أميّة ، وحثّ الطامعين في الدنيا في الكذب على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ووضع أحاديث تمدح بني أميّة وغيرهم وتطعن في علي وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وكذلك وضع أحاديث تنزل من شخصية الرسول لتجعله بمستوى الإنسان الذي تصدر منه الأخطاء الفاضحة .
الإجراء السابع : إطلاق صفة خليفة الله (الخاصة بالمعصومين من الأنبياء وأوصيائهم) على الحاكم الأموي ، ووضع الأحاديث الكاذبة في السكوت على الظلم والجور ، وتحريف الوصية الخاصة بالأوصياء واستبدالها بولاية العهد ، وإلغاء دور الكتاب والسنّة في تشخيص مَنْ له حقّ الحكم ، ومصادرة دور الأمّة في ممارسة البيعة لمَنْ نصّ عليه الكتاب والسنّة .
الإجراء الثامن : تولية العهد لولده يزيد المعروف بفسقه وفجوره ، وأخذ البيعة من الأمّة له قهراً .
ردّ فعل الاُمّة إزاء غدر معاوية
حكم معاوية عشرين سنة ، كانت السنوات العشر الأولى منها في ظلّ حياة الحسن (عليه السّلام) ، وكان معاوية فيها مجبوراً على العودة بأهل الشام إلى جسم الأمّة والتقيّد بالشروط التي اشترطها للحسن (عليه السّلام) ، وبسبب ذلك لم يروِّع معاوية أي شيعي في هذه السنوات العشر بل كان يكرم وجوه الشيعة ، ويتحمّل صراحتهم ويظهر التودّد والترحّم
على علي (عليه السّلام) في المجالس العامّة كما في قصة ضرار وغيره ، وليس من شكٍّ أنّه كان يستبطن غير ذلك(2) .
وكانت السنوات العشر الثانية بعد وفاة الحسن (عليه السّلام) ، سنوات نقض الشروط ، وتعطيل الحدود ، وقتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وقد تدرج معاوية بخطّة مدروسة نَفَّذَ مقدّماتها في السنوات العشر الأولى التي كانت تستهدف تثبيت دعائم السلطة وملاحقة الخوارج ، وتعبئة الجو العام باتّجاه الفتوح .
كان الناس على أصناف أربعة إزاء إعلان السبّ لعلي (عليه السّلام) ؛ بوصفه رأس الحربة في الانقلاب :
الصنف الأوّل : الخوارج ، وهؤلاء كانوا مسرورين من ذلك ؛ لأنّهم ممّن يعلن البراءة من علي (عليه السّلام) أيضاً ، إلاّ إنّهم يرون معاوية امتداداً لعثمان الذي يتبرؤون منه كما يتبرؤون من علي بل يرون مواصلة الخروج على معاوية ، وقد توالى خروجهم عليه منذ بداية الصلح ولم ينقطع .
الصنف الثاني : قريش وأنصارها ، ويتوزّع قريشاً محوران هما :
1 ـ بنو اُميّة وكلّهم موتور من علي (عليه السّلام) ، مبغض له .
2 ـ عبد الله بن الزبير وشيعته ، وهو معروف ببغضه علياً (عليه السّلام) ، وقد تناول علياً وتنقّصه في فترة حكمه للحجاز .
الصنف الثالث : الحسين (عليه السّلام) وبنو هاشم ومركزهم المدينة ، وشيعة علي الذين تربّوا على يديه ، أمثال حجر وعمرو بن الحمق وحبيب بن مظاهر وغيرهم ، ومركزهم الكوفة ، وهذا الصنف يدرك تخطيط معاوية بعمق ، ويعمل على إحباطه بحكمة ، ويقدّم من أجل ذلك أغلى التضحيات .
الصنف الرابع : مَنْ عرف فضل علي (عليه السّلام) ووجوب محبته وحرمة بغضه من خلال أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله) التي انتشرت ، ولكنّه لم يكن راسخاً في موالاته . وأكثر هذا الصنف من عامّة الناس ورعاعهم ، وأغلبهم يتأثر بالجو العام ، وينعق مع الناعق المتسلط فيه ، وبشكل عام فإنّ أفاضل هذا الصنف من الصحابة والتابعين لم يكونوا يفطنون إلى الأبعاد الكاملة لخطّة معاوية ، وظنّوا أنّ إعلان السبّ لعلي هو فورة سرعان ما تهدأ .
الحسين (عليه السّلام) بين موقفين
كان أمام الحسين (عليه السّلام) أحد موقفين إزاء معاوية :
الموقف الأوّل : أن يتعامل مع معاوية في ضوء معرفته الخاصّة ، ومعرفة خُلَّص أصحابه بتخطيط معاوية ونواياه ، وبخاصّة بعد أن دسّ السمّ للحسن (عليه السّلام) ، فيبادر إلى الكوفة مركز شيعة أبيه ويعلن عن تمرّد عسكري , ثمّ يخوض معركة الجهاد ضدّ معاوية ، وكان هذا الموقف قد عرضه وجوه أصحاب أبيه وأخيه الحسن (عليه السّلام) بعد وفاته .
والذي لا شك فيه أنّ هذا الموقف سابق لأوانه وتواجهه مشكلات كثيرة ، بسبب عدم وضوح مبرّر هذا الفعل لدى الأمّة ككل ، وقدرة معاوية على احتوائه ؛ سواء انتهى بقتل الحسين (عليه السّلام) ، أو انتهى بانتصاره المحدود وتأسيسه دولة في الكوفة ؛ وذلك لأنّه في حالة انتهائه بالقتل سيكون مشابهاً لخرجات الخوارج التي تكرّرت في السنوات العشر الأولى (خاصّة من حكم معاوية) ، وانتهت بقتل قادتها ، ويستطيع معاوية هنا معالجة كون المقتول هو الحسين (عليه السّلام) حفيد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) بوضع أحاديث كذب تبرّر لمعاوية قتله .
أمّا إذا انتهى بالانتصار المحدود فإنّ هذا الانتصار له حالتان معقولتان :
الأولى : انتصار يملك مقوّمات استمرار دولة الكوفة إلى جنب دولة الشام ، وهذا سوف يعيد للواقع الخطر الذي دفعه الحسن (عليه السّلام) بصلحه ، وهو خطر انشقاق الأمّة إلى أمّتين ودولتين ، ثمّ
إلى قبلتين وكتابين ، ولا يترقّب من الحسين (عليه السّلام) أن يرضى بذلك ، شأنه شأن أخيه الحسن (عليه السلام)(3) .
الثانية : انتصار مؤقت ينتهي بقتل الحسين (عليه السّلام) على يد معاوية كما قتل ابن الزبير على يد عبد الملك بعد سبع سنوات من حكمه ، وهذا القتل تؤكّده الأخبار الغيبية الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) .
وخلاصة القول في الموقف الأوّل : أنّه إمّا أن ينتهي إلى عودة انشقاق الأمّة وما يستلزمه من اختلاف القبلة والكتاب ، أو ينتهي بقتل الحسين (عليه السّلام) مع قدرة معاوية على تشويه حركة الحسين (عليه السّلام) ، وخلط أوراقها يساعده على ذلك الجو العام الذي صنعه معاوية لإحياء حركة الفتوح والغزو وتعبئة الأمّة بشكل عام إزاءه هذا ، مع عدم ظهور كلّ نوايا معاوية العدوانية وأضغانه وموبقاته .
الموقف الثاني : أن يؤجّل الحسين (عليه السّلام) قيامه وتصدّيه إلى ما بعد وفاة معاوية ، ويكتفي بقيام وجوه شيعة أبيه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما بالإنكار اللساني ، ثمّ ممارسة التبليغ الفكري سرّاً ، وهذا الموقف هو الذي اختاره الحسين (عليه السّلام) وأمر به غالبية أصحابه حين قال لهم : (( كونوا أحلاس بيوتكم ))(4) .
وبعبارة اُخرى : فإنّ هذا الموقف يتكوّن من مرحلتين :
الاُولى : تسجيل الإنكار اللساني من قبل الوجوه كحجر وأمثاله ، ومواصلة التبليغ الفكري سرّاً .
الثانية : المواجهة الفكرية والسياسية المعلنة من الحسين (عليه السّلام) بعد وفاة معاوية ، وطلب النصرة من المسلمين لحمايته حتى يواصل تبليغه والإطاحة بسلطة بني أميّة كما صنع جده النبي (صلّى الله عليه وآله) مع قريش .
وليس من شك أنّ الموقف الثاني هذا سوف يجنّب الحسين (عليه السّلام) المشكلات التي يثيرها له الموقف الأوّل ، ويفتح أمامه عطاءات وآثار مهمّة للقيام والنهوض غير قابلة للاحتواء ؛ سواء انتهت حركته بشهادته ، أو انتهت بالنصر المؤزر ؛ وذلك لاتّضاح مبرّرات قيام الحسين (عليه السّلام) ، وأنّ قيامه ليس من أجل الملك بل من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتبليغ حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أهل بيته الذي مُحي من الساحة العامّة في المجتمع وحلّ محلّه الكذب على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتحرير الإسلام والأمّة من أخطر عدوّ أخبر عنه الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) .
وسيأتي كيف أنّ الله تعالى جعل البركة والعطاء العظيم في هذه الشهور الخمسة من حركة الحسين (عليه السّلام) التبليغية العامّة التي انتهت بشهادته .
وفيما يلي الحديث عن هذه الخطّة وآثارها .
خطّة الحسين (عليه السّلام) في التغيير
ليس من شك أنّ خروج الحسين (عليه السّلام) وثورته وقيامه لا يشبه خروج طلحة والزبير ؛ لأنّه لم يرتبط بعهد بيعة ثمّ نقضه ، ولا تشبه خروج وثورة الخوارج ؛ لأنّه لا يكفّر المسلمين ، ولا يبادئ أهل القبلة بقتال كما كان يصنعون ، وإنّما الذي تبنّاه من نشاطات وأهداف هو الاُمور التالية :
1 ـ العمل السرّي بين الأمّة لنشر الأحاديث الصحيحة التي عمل النظام الأموي على طمسها وإماتتها في المجتمع ، وكان آخر نشاط في هذا الصدد هو المؤتمر السرّي الذي عقده في موسم الحجّ قبل موت معاوية بسنة ، وسيأتي الحديث عنه .
2 ـ كسر الطوق الاجتماعي والسياسي المفروض على الأحاديث النبويّة الصحيحة بالمبادرة إلى التحديث بها علناً من قبل الحسين (عليه السّلام) بعد موت معاوية ؛ لإسماع مَنْ لم يسمعها ، وتذكير مَنْ كان قد سمعها ثمّ تناساها صاحبها خشية أن تناله أعظم العقوبة بسببها .
وهذا الهدف يناسبه أن يمارسه الحسين (عليه السّلام) في بقعة يتواجد فيها المسلمون من كلّ الأطراف ، وليس مثل مكة بلد في هذه الصفة ؛ إذ هي قبلة المسلمين جميعاً , ومهوى أفئدتهم في موسم العمرة والحج .
3 ـ إفهام المسلمين جميعاً أنّ السلطة الأموية مصمّمة على قتله ؛ لأنّه مصمّم على عدم الاستجابة لسياستها في كتمان الحقّ بل مصمّم على توعية الأمّة بأحاديث جدّه (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أبيه (عليه السّلام) ، وفي بني أميّة وفي أحكام الإسلام التي غيّروها ، ثمّ يعرض عليهم أن يحموه وتُحمى عملية التبليغ عن جدّه .
وليس من شك أنّ أفضل مكان يستطيع الحسين (عليه السّلام) فيه أن يلتقي بأخيار المسلمين من كلّ الأقطار هو مكّة ، وبخاصة في موسم العمرة والحج .
4 ـ أن تتوفّر له حماية أولية تسمح له أن يمارس في ظلّها حركته التبليغية المعلنة في مرحلتها الأولى ريثما يحصل على أنصار في بلد يتبنّى نصرته وحمايته . وقد تمثّلت هذه
الحماية ببني هاشم ؛ ( حيث هم للحسين (عليه السّلام) في هذه المرحلة كما كان آباؤهم للنبي (صلّى الله عليه وآله) من قبل ) .
5 ـ أن يهاجر إلى بلد النصرة والحماية ؛ ليقوم بتوعية أهله بأحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله) الصحيحة وإقامة العدل فيهم ، ثمّ جهاد السلطة الأموية وتطويق سياستها الضالّة الظالمة ومن ثمّ الإطاحة بها.
وقد تمثّل هذا البلد بالكوفة ، حيث وجد فيها أنصار للحسين (عليه السّلام) قادرون على حمايته ويقاتلون دونه ، كما وجد للنبي (صلّى الله عليه وآله) من قبل أنصار في المدينة حموه وقاتلوا دونه .
6 ـ باعتبار الأخبار الإلهية بواسطة النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ الحسين (عليه السّلام) سوف يستشهد في خروجه ذاك ، وهو أمر معروف عند الأمّة ، وقد أخبر به الحسين (عليه السّلام) في مواطن عدّة ، فهو (عليه السّلام) لا بدّ أن يُطلع خواص أصحابه على خطّته ، ويعهد إلى بعضهم بمواصلة تنفيذ ما بقي منها . وسيأتي الحديث عن هذا الجزء .
نشاط الحسين (عليه السّلام) زمن معاوية
من المؤسف أنّنا لا نملك معلومات كثيرة عن نشاط الحسين (عليه السّلام) في هذه المرحلة ، ولعل مردّ ذلك إلى السرّية التامّة التي طبعت أغلب نشاطاته فيها ، إلاّ إنّ المحفوظ منها على قلّته كاف في تسليط الضوء على طبيعة موقف الحسين (عليه السّلام) ونشاطه في هذه المرحلة .
روى البلاذري قال : لمّا توفي الحسن بن علي (عليه السّلام) اجتمعت الشيعة ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ واُمّ جعدة هي اُمّ هانئ بنت أبي طالب ـ في دار سليمان بن صرد ، فكتبوا للحسين كتاباً بالتعزية ، وقالوا في كتابهم : إنّ الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممّن مضى ، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك ، المحزونة بحزنك ، المسرورة بسرورك ، المنتظرة لأمرك .
وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن حال رأي أهل الكوفة فيه ، وحبّهم لقدومه ، وتطلّعهم إليه ، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه مَنْ يرضى هديه ، ويطمئن إلى قوله ، ويعرف
نجدته وبأسه ، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه ، ويسألونه الكتابة إليهم برأيه .
فكتب الحسين (عليه السّلام) إليهم : (( إنّي لأرجو أن يكون رأي أخي (رحمه الله) في الموادعة , ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً ؛ فالصقوا بالأرض ، واخفوا الشخص ، واكتموا الهوى ، واحترسوا من الأظنّاء(5) ما دام ابن هند حيّاً ؛ فإن يحدث به حدث وأنا حيٌّ يأتكم رأيي إن شاء الله ))(6) .
وفي كلام له (عليه السّلام) مع محمد بن بشر الهمداني وسفيان بن ليلى الهمداني : (( ليكن كلّ امرئ منكم حِلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الرجل حيّاً ، فإن يهلك (ونحن) وأنتم أحياء رجونا أن يخير الله لنا , ويؤتينا رشدنا , ولا يكلنا إلى أنفسنا ؛ فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ))(7) .
رسالة الحسين (عليه السّلام) إلى معاوية بعد قتل حجر وأصحابه
روى ابن قتيبة والكشي : أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية (وهو عامله على المدينة) أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وأنّه لا يُؤمن وثوبه . وقال : وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلافة ...(8) .
وفي رواية البلاذري : وكان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين يجلّونه ويعظّمونه ، ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم ، ويقولون إنّا لك عضد ويد ؛ ليتّخذوا الوسيلة إليه ، وهم لا يشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين
أحداً ، فلمّا كثر اختلافهم إليه أتى عمرو بن عثمان بن عفان مروان بن الحكم وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة ، فقال له : قد كثر اختلاف الناس إلى الحسين (عليه السّلام) ، والله لأرى أنّ لكم منه يوماً عصيباً .
فكتب مروان ذلك إلى معاوية , فكتب إليه معاوية : أن اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته , ولم يبد لك صفحته ، واكمن له كمون الشرى(9) .
وكتب معاوية إلى الحسين (عليه السّلام) : قد انتهت إليَّ اُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، وإن كانت باطلاً فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك . فمتى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتق الله في شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن تردهم إلى فتنة .
فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : (( ... أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ... ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً , وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة .
ألَست القاتل حجر بن عدي أخا كنده وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة ؛ جرأة على الله ، واستخفافاً بعهده ؟!
أوَ لَست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ؛ فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعدما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟!
أوَ لَست المدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك , وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . فتركت سنّة الرسول تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديـهم وأرجـلهم ، ويسمل أعينهم , ويصلبهم على جــذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك ؟!
أوَ لَست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم أنّهم على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه : أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يضرب عليه أباك ، وضربك عليه , وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه ؟!
وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة , وأن تردهم إلى فتنة , وإنّي لا أعلم فتنة على هذه الأمّة أعظم من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد أفضل من أن أجاهدك ؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله تعالى ، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمـري .
وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني ، وإن أكدك تكدني , فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك .
ولعمري ما وفيت بشرط , ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان , والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا ؛ فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يُدركوا .
فابشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب , وليس الله بناس لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث , يشرب الشراب , ويلعب بالقرود ))(10) .
الوليد بن عتبة يحجب أهل العراق عن الحسين (عليه السّلام) بعد سنة 57 هجرية
روى البلاذري عن العتبي قال : حجب الوليد بن عتبة بن أبي سفيان(11) أهل العراق عن الحسين ، فقال له الحسين : (( يا ظالماً لنفسه , عاصياً لربّه ، علامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك ؟ )) .
فقال الوليد : ليت حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك ، فجناية لسانك مغفورة ما سكنت يدك ، فلا تخطر بها فنخطر بك(12) .
مؤتمر الشيعة في الحجّ قبل موت معاوية بسنة
وروى سليم بن قيس : لما كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن علي (عليهما السّلام) وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ثمّ رجالهم ونساءهم ومواليهم ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن يعرفه الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) ، ثمّ أرسل رسلاً لا تدعون أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمِعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادقه ، عامّتهم من التابعين ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) .
فقام فيهم خطيباً ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( أمّا بعد ، فإنّ الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم , وعلمتم وشهدتم ، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني , وإن كذبت فكذّبوني . اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ؛ فمَنْ أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّي أتخوّف أن يُدْرس(13) هذا الأمر ، ويذهب الحقّ ويُغلب ، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون )) .
وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ... ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم ، وقد سمعنا وشهدنا . ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أثق به وائتمنه من الصحابة .
فقال : (( أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه ))(14) .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر معالم المدرستين ج1 ـ للسيد مرتضى العسكري .
(2) وقد فصّلنا ذلك في كتابنا (صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) قراءة جديدة) .
(3) وقد تناولنا الحديث مفصلاً عن هذا الاحتمال في بحثنا عن صلح الحسن (عليه السّلام) .
(4) كونوا أحلاس بيوتكم : أي الزموها ولا تبرحوها .
(5) جمع الظنين , وهو المتّهم الذي تظنّ به التّهمة ، ومصدرها الظِّنة . يُقال منه : أظنّه وأطنه (بالطاء والظاء) إذا اتّهمه . ورجل ظنين : متّهم من قوم أظنّاء . (لسان العرب) .
(6) أنساب الأشراف ـ تحقيق المحمودي 3 / 151 ـ 152 ، الأخبار الطوال ـ للدينوري / 222 .
(7) أنساب الأشراف 3 / 150 .
(8) الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ، اختيار معرفة الرجال للطوسي .
(9) أي راقبه في خفاء .
(10) رجال الكشي ـ ترجمة عمرو بن الحمق ، طبقات ابن سعد ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، أنساب الأشراف ترجمة معاوية، مختصر تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) .
(11) كان أميرا على المدينة لمعاوية سنة 57 ـ 60 .
(12) أنساب الأشراف ـ ترجمة الحسين 3 / 157 ، وأنساب الأشراف ـ ترجمة معاوية 4ق 1 / 302 .
(13) دروس الشيء : انمحاؤه .
(14) كتاب سليم بن قيس .