• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ

 

الفصل الثاني
في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ

ويحسن التعرّض لها هنا من أجل أن يسترشد بها الناس عامّة ، والذين يحاولون الإصلاح خاصّة .
والكلام هنا في مقامين :

المقام الأوّل
في آليّة العمل

إنّ الناظر في نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يرى بوضوح الحفاظ في هذه النهضة المباركة على المبادئ الشريفة والمثل السامية ، ووضوح الهدف ، والبعد عن اللف والدوران كما يظهر من كثير ممّا تقدّم وغيره .

سلامة آليّة العمل وشرفه
1ـ فالإمام الحسين (صلوات الله عليه) يعلن من يومه الأوّل في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية المتقدّمة أنّ هدفه الإصلاح في الأُمّة والسير بسيرة جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما) ، وإن كانت هذه السيرة لا تعجب الكثيرين على ما أشرنا إليه آنفاً(1) .
2ـ كما إنّه يعلن فيها عن أنّ موقفه ممّن يردّ عليه ذلك هو الصبر وانتظار حكم الله تعالى من دون أن يهدّد بالعنف والانتقام منه ، أو يلجأ للشتم والتهريج والتشنيع(2) .
3ـ ويعلن في كتابه إلى بني هاشم أنّ مصير مَنْ يتبعه الشهادة ؛ ليكونوا على بصيرة من أمرهم من دون أن يلوّح لهم بأمل النجاح العسكري من أجل حثّهم على الالتحاق به ونصره(3) .
4ـ وبنحو ذلك يعلن في خطبته في مكة المكرّمة المتقدّمة عندما عزم على الخروج إلى العراق حيث أعلن (عليه السّلام) أنّه سوف يُقتل ، وأنّه لا بدّ لمَنْ يتبعه أن يكون باذلاً في أهل البيت (صلوات الله عليهم) مهجته ، موطّناً على لقاء الله (عزّ وجلّ) نفسه(4) .
5ـ ولمّا أرسل (صلوات الله عليه) مسلم بن عقيل (عليه السّلام) إلى الكوفة لم يمنه النصر ، بل قال له : (( إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي الله في أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ... ))(5) .
6ـ وحينما بلغه (عليه السّلام) في الطريق مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وخذلان أهل الكوفة له ، خطب مَنْ معه وأعلمهم بذلك ، وأذن لهم بالانصراف .
فانصرف عنه كثير ممّن تبعه في الطريق ؛ لظنّهم أنّه يأتي بلداً أطاعه أهله ،
فكره (صلوات الله عليه) أن يسيروا معه إلاّ على علم بما يقدمون عليه(6) .
7ـ ولمّا طلبوا من سفيره مسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد حينما جاء لزيارة شريك في دار هاني بن عروة لم يفعل ما أرادوا منه ، ولمّا سُئل عن ذلك كان في جملة عذره حديث النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي قال فيه : (( إنّ الإيمان قيد الفتك ))(7) .
8ـ وفي شراف أمر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فتيانه أن يستكثروا من الماء ، وسقى به جيش الحرّ بن يزيد الرياحي تفضّلاً منه عليهم ؛ لتحلّيه بمكارم الأخلاق مع أنّهم في صف أعدائه ، وقد جاؤوا ليأخذوه ومَنْ معه أسرى إلى ابن زياد ؛ ليمضي حكمه فيهم(8) .
9ـ ولمّا منعه الحرّ من النزول في نينوى أو الغاضرية أو شفية قال زهير بن القين (رضوان الله تعالى عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام) : إنّه لا يكون والله بعد ما ترون إلاّ ما هو أشدّ منه يابن رسول الله ، وإنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا من بعدهم ؛ فلعمري ، ليأتينا من بعد مَنْ ترى ما لا قِبَل لنا به .
فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه) : (( ما كنت لأبدأهم بالقتال ))(9) .
وذلك منه (عليه السّلام) غاية في التنزّه عن البغي والعدوان ، أو عن أن يتّهم بشيء
من ذلك تحريفاً للواقع ، وتشويهاً للحقيقة ، وتهريجاً عليه .
10ـ ومثله ما ورد من أنّ أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا أشعلوا النار في الحطب في الخندق الذي حفروه حولهم عندما حوصروا ، نادى الشمر : يا حسين ، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة .
فقال مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام) : يابن رسول الله جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم ؟ فإنّه قد أمكنني ، وليس يسقط سهم . فالفاسق من أعظم الجبّارين .
فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه) : (( لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم ))(10) .
11ـ ولمّا حوصر (عليه السّلام) وهُدّد بالمناجزة والقتال ، خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرّم وقال في جملة ما قال : (( أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً . ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حِلّ ليس عليكم منّي ذمام . هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي . فجزاكم الله جميعاً خيراً . ثمّ تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله ؛ فإنّ القوم يطلبونني ، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري ))(11) .
كلّ ذلك من أجل أن يكون موقف أصحابه معه عن قناعة تامّة غير مشوبة بإحراج أو حياء أو نحو ذلك ممّا قد يستغلّه المصلحيون ، خصوصاً في مثل هذه الظروف الحرجة ؛ حيث قد يسلكون فيها الطرق الملتوية ويتشبّثون بالذرائع الواهية في محاولة تكثير الأعوان ، وضمان نصرتهم له .
12ـ ومثل ذلك ما عن الأسود بن قيس العبدي قال : قيل لمحمد بن بشير الحضرمي : قد أُسر ابنك بثغر الرّي .
قال : عند الله أحتسبه ونفسي . ما كنت أحبّ أن يؤسر ، ولا أن أبقى بعده .
فسمع قوله الحسين (عليه السّلام) ، فقال له : (( رحمك الله . أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك )) .
قال : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك .
قال : (( فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه )) ، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار(12) ... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ هذه النهضة المقدّسة ممّا يشهد بالتزام المبادئ والدين والخلق الرفيع فيه .
وهو الذي جرى عليه أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جميع مواقفهم ونشاطاتهم ، وعُرف عنهم ، وكان سبباً في فرض احترامهم على العدو والصديق ، بل تقديسهم لهم .

على مدّعي الإصلاح التزام سلامة آليّة العمل
فاللازم على مدّعي الإصلاح التمسّك بذلك ، والحفاظ عليه أوّلاً ؛ لأنّ ذلك هو اللازم في نفسه ، لشرف تلك المبادئ ، وسمو تلك المثل .
وثانياً : لتكون الوسيلة مناسبة للهدف ؛ حيث يكشف ذلك عن صدق مدّعي الإصلاح في دعواه ، وسلامة هدفه وغايته .
وأمّا ما قد يُدّعى من أنّ ذلك قد يُعيق عملية الإصلاح ؛ حيث قد يستغل الطرف الآخر ذلك من أجل الالتفاف على المصلح ، والقضاء على مشروعه كما حصل كثيراً .
فهو مرفوض أوّلاً ؛ لأنّ التخلّي عن مشروع الإصلاح والالتزام بتعذّره ، أو الاكتفاء منه بالقليل الممكن مع الحفاظ على المبادئ المذكورة أهون بكثير من الخروج في وسيلة الإصلاح عن الدين والمبادئ الشريفة والمثل السامية ، كما قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : (( لا أرى إصلاحكم بفساد نفسي ))(13) .
وثانياً : لأنّ الحفاظ في الأوقات الحرجة على الدين والمبادئ الشريفة هو بنفسه إصلاح للمجتمع على الأمد البعيد ؛ لأنّه يذكر بالدين والمبادئ المذكورة ، وينّبه إلى أهميته ، وإلى أنّ هذه المبادئ عملية قابلة للتطبيق ، ولا يتخلّى عنها أهلها مهما كلّفتهم من تضحيات ، وليست هي فرضيات صرفة ، أو شعارات برّاقة لإقناع الناس واصطياد الأتباع .
وذلك في حقيقته حثّ عملي عليها يوجب تركزها في النفوس ، وله أعظم الأثر في إصلاح المجتمع ورفع مستواه الخلقي .

لا يتابع مدّعي الإصلاح مع عدم سلامة آليّة العمل
ويترتب على ما ذكرنا أنّه لا ينبغي لعموم الناس التجاوب مع مدّعي الإصلاح إذا لم يلتزم بالمبادئ والمثل ، وسوّغ لنفسه الخروج عليه ؛ لأنّ ذلك يكشف إمّا عن كذبه في دعوى الإصلاح ، أو عن ضعفه أمام المغريات والمبرّرات المزعومة بنحو لا يؤمَن عليه من الانحراف في نهاية المطاف ، فيكون التعاون معه تغريراً وتفريطاً لا يُعذر صاحبه فيه .
والحذر ثمّ الحذر من أن تجرّ شدّة الانفعال من الفساد ، والرغبة العارمة في الإصلاح إلى مواقف انفعالية عاطفية يفقد الإنسان بها رشده ، فيتخلّى في سبيل
تحقيق هدفه عن المبادئ الشريفة ، والتعاليم الدينية القويمة بأعذار ومبرّرات ما أنزل الله بها من سلطان ، فيكون قد أعطى باليمين ما أخذه باليسار .
بل قد يزيد في الفساد ؛ لأنّه إذا فتحت الباب للأعذار والمبرّرات صعب غلقها أو تحجيمها وتحديدها ، وكلّما استمر الإنسان على ذلك زاد هو وكلّ مَنْ هو على خطّه جرأة على الخروج عن المبادئ الشريفة والتعاليم السامية حتى يتمحّض مشروعه في الجريمة .
على أنّه ربما يفشل في مشروعه ، ويبقى عليه تبعة الخروج في سبيل تحقيق هدفه عن الموازين الدينية والعقلية والأخلاقية .
مع إنّ تبرير الجريمة في نفسه من أجل الغاية من قِبَل الشخصيات ذات الوجود الاجتماعي المحترم موجب لتخفيف حدّة الجريمة في نفوس العامّة ، وضعف الرادع الوجداني عنها تدريجاً ، فيسهل ارتكابها ، وبذلك تضيع معالم الحقّ ، وهو من أعظم الجرائم في حق المجتمع .
وما أكثر ما استغلّ المصلحيون والانتهازيون في سبيل تحقيق مصالحهم وأهدافهم الجهنمية تأجيج العواطف ضدّ الفساد ، والدعوة للإصلاح ؛ من أجل إغفال أتباعهم عن واقعهم المشبوه وسلوكهم المشين ، فسار الناس وراءهم متغافلين عن كلّ ما يصدر منهم ، ثمّ لم ينتبهوا إلاّ بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم . ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والسداد .

المقام الثاني
في النتائج

سبق أن أشرنا إلى أنّ تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في السلطة كشفت عن تعذّر إصلاح المجتمع الإسلامي بإقامة حكم يطبّق الإسلام عملياً بنحو كامل .
لكنّ اهتمام شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) والموالين لهم في الكوفة بالإصلاح ، ومعاناتهم من الفساد ، وشعورهم بالتقصير آنفاً إزاء أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كلّ ذلك جعلهم يستسهلون الصعاب في سبيل الإصلاح المذكور ، وأفقدهم النظرة الموضوعية في الموازنة بين قوى الخير والشرّ ، وفي التمييز بين ذوي المبادئ والتصميم حتى النفس الأخير ، وغيرهم ممّنْ ينهار إذا جدّ الجدّ وضاقت الأمور ، أو يكون انتهازياً في مواقفه من أوّل الأمر .
وقد جعلهم ذلك يترددون على الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في عهد معاوية يحاولون حملهما على الخروج عليه ، لكنّهما (عليهما السّلام) لم يستجيبا لهم ؛ لعدم تحقّق الظرف المناسب على ما يأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى .
حتى إذا انتهى عهد معاوية تخيّلوا إمكان تحقيق حلمهم في الإصلاح ؛ فاندفعوا في سبيل ذلك ، وتحمّلوا مسؤولية تعهّدهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وحملهم له على تلك النهضة المقدّسة ، وتبعات تقصيرهم في حقّه ، والعدوان الذي حصل عليه وعلى مَنْ معه .
وإذا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد استجاب لهم من أجل التضحية لصالح الدين ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ فإنّ ذلك لم يكن هو مشروعهم الذي تحرّكوا من أجله ، بل حاولوا إقامة حكم إسلامي أصيل يطبّق الإسلام عملياً بالوجه الكامل .

كشفت فاجعة الطفّ عن تعذّر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل
وقد كشفت فاجعة الطفّ أخيراً عن تعذّر ذلك ، وأكّدت ما كشفت عنه تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من قبل .
وكلّما امتدّ الزمن كان ذلك أولى بالتعذّر ؛ فإنّ ظرف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتميّز عمّا بعده من العصور بأمور :
الأوّل : شخص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو أعرف الناس بحقيقة الإسلام ، مع مؤهلاته الشخصية الأخرى من حكمة واستقامة ، وقوّة وتصميم ، وصلابة موقف ... إلى غير ذلك .
مضافاً إلى أنّه خامس أصحاب الكساء (عليهم السلام) ، وقد فرض احترامه على عموم المسلمين ، وهم يرونه في قرارة نفوسهم الرجل الأوّل فيهم كما سبق .
الثاني : القرب من العهد النبوي ؛ حيث يوجد بقيّة من كبار الصحابة والتابعين الذين هم على علم بكثير من الحقائق قد تكون خفيت بعد ذلك .
الثالث : التدهور السريع نتيجة الانحراف ، خصوصاً في العهد الأموي الذي تمادى فيه الانحراف لصالح مَنْ يعرف عنهم المسلمون أنّهم أعداء الإسلام ، حيث صدمهم ذلك ، وعظم وقعه عليهم .
أمّا بعد ذلك فيهون ما استصعبوه أوّلاً ؛ إذ كلّما طال الزمن وتعاقبت الأجيال يخفّ وقع الانحراف والتدهور ، ويألفه المجتمع حتى يكون جزءاً من
كيانهم ، ولا يستفزّهم .
الرابع : وجود نخبة صالحة قد تعرّفت على الحقيقة الكاملة من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، وصمّمت على التضحية في سبيل هذه الحقيقة .
ولا نعني بذلك كلّ مَنْ كتب إلى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، أو بايع ؛ إذ كثير منهم انتهازيون قد قاموا بذلك لتخيّلهم نجاح الإمام (عليه السّلام) في الاستيلاء على السلطة ، وكثير منهم همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق .
بل نعني به مَنْ كان مصمّماً على التضحية عن جدّ وإخلاص ، وهم كثيرون نسبياً ؛ سواء مَنْ ضحى بالفعل ، أم مَنْ لم يضحِ ؛ إمّا لأنّه منع من الوصول للإمام الحسين (عليه السّلام) لسجن ، أو لقطع الطرق وجعل المراصد ـ كما أشرنا إليه في المقدّمة ـ ، أو لأنّ عزمه قد ضعف عندما جدّ الجدّ ، أو عندما يئس من انتصار الإمام الحسين (عليه السّلام) عسكرياً .
ومع كلّ هذه الأمور الأربعة لم يتسنَّ للنهضة الشريفة النجاح العسكري ؛ بسبب غشم السلطة ، وفساد المجتمع ، وتخاذله أمام الغشم المذكور .
كما قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته في الطريق أو حينما نزل كربلاء : (( الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون ))(14) .
وقد تجاهلت السلطة كلّ الحواجز والمثبّطات ، وقامت بهذه الجريمة النكراء بأبعادها المتقدّمة ، وتبعها مَنْ تبعها ، وكُمّت الأفواه بين الخوف والرجاء .
وذلك كافٍ لأن يكون عبرة ودليلاً على تعذّر الإصلاح الكامل ؛ إذ لا ينتظر وجود قائد أكفأ من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، ولا وجود أُناس
أصلح ممّنْ كان في عصره ، ولا تهيؤ ظرف أحسن من ظرفه بحسب الوضع الطبيعي ، بل كلّما استمر الزمن زاد الفساد وألِفه الناس .

لا ينبغي الاغترار باندفاعات الناس العاطفية
ولا ينبغي الاغترار بمواقف الناس العاطفية حتى لو صدقت ؛ نتيجة اكتوائهم بآلام الفساد وتعطشهم للإصلاح ؛ لأنّ ذلك قصير الأمد ، ثمّ لا بدّ من التراجع نتيجة العوامل المختلفة من خوف أو رجاء ، أو ملل أو وهن أمام المتاعب والعقبات التي تقف في طريق الإصلاح ... إلى غير ذلك .
ولو فرض تحقّق فرصة لانتصار المشروع عسكرياً في ظروف استثنائية ، فيتعذّر الاحتفاظ به مع الحفاظ على المبادئ ، بل لا بدّ إمّا من الإجهاز عليه أخيراً ـ كما حدث في تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ـ أو الانحراف به تدريجاً حتى يُمسخ ؛ نتيجة فساد المجتمع ، وتكالب قوى الشرّ والطغيان كما حصل في كثير من المحاولات .

ينحصر الأمر بمحاولة الإصلاح النسبي
ومن هنا ينحصر الأمر بالإصلاح النسبي الراجع لتخفيف الفساد ؛ إمّا على الصعيد الفردي بالتربية الصالحة ، والموعظة الحسنة ، والتثقيف الديني السليم ، وإمّا على الصعيد الاجتماعي العام بتخفيف نسبة الفساد فيه ولو إلى أمد قصير ؛ فإنّ الميسور لا يُترك بالمعسور ، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه .
نعم ، لا بدّ :
أوّلاً : من إحراز المبرّر الشرعي للتحرّك .
وثانياً : من الموازنة الموضوعية بين الخسائر التي تقع في طريق العمل ،
والفوائد المترتبة عليه بحيث يكون العمل مثمراً ولازماً أو سائغاً .
وذلك يختلف باختلاف الظروف والمقارنات ، كما تختلف فيه وفي أساليبه الأنظار والقناعات ، ولكلّ وجهة نظره ، وهو يتحمّل مسؤولية عمله من دون أن يتحمّل الإسلام سلبيات ذلك ، والحساب على الله (عزّ وجلّ) .
وثالثاً : من الإصحار بالهدف على حقيقته ، وعدم إطلاق الدعاوى العريضة ، والمواعيد الكبيرة من أجل جمع الأعوان والتغرير بالناس . كلّ ذلك للحفاظ على سلامة آليّة العمل كما سبق .
وهذه الحقيقة وإن كانت مرّة إلاّ إنّها واقع قائم لا مفرّ منه ، ويجب الاعتراف به ؛ نتيجة النظرة الموضوعية ، ثمّ التعامل مع هذا الواقع بحكمة ورويّة ، وبعد نظر بعيداً عن النظرة العاطفية ، والمواقف الانفعالية .
وقد سبق أنّ ذلك لم يكن يخفى على الإمامين الشهيدين أمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهما) ، وأنّهما لم يقدما على ما أقدما عليه من أجل تحقيق العدل المطلق ، وإقامة النظام الإسلامي الأكمل ، بل كان هدفهما رضى الله سبحانه وتعالى والقيام بتكليفهما .
وقد ظهر لنا من ثمرات تحرّكهما وجهادهما كبح جماح الانحراف في الدين ، وتخفيف الفساد بظهور صوت الحقّ المنكر عليه ، وإقامة الحجّة على الحقّ ، وإسماع دعوته ، وقطع العذر على مَنْ يخرج عنه ... إلى آخر ما تقدّم .
وإذا كان شيعة أهل البيت قبل فاجعة الطفّ لا يستوعبون هذه الحقيقة ، ولا يذعنون بتعذّر الإصلاح الكامل وتعديل مسار السلطة في الإسلام ؛ لقلّة تجربتهم وشدّة إنكارهم للظلم ، وعظيم ما قاسوه منه ، واغترارهم بمواقف الناس الانفعالية ، وبتعهّدهم بالانتصار للحق ، وبالثبات على ذلك .

الموقف المسالم للسلطة من الأئمّة المتأخرين (عليهم السّلام)
فمن القريب جدّاً أن تكون صدمتهم بفاجعة الطفّ الفظيعة ـ بأبعادها المأساوية المتقدّمة ـ وما ظهر من نقض الناس للعهود ، وتخاذلهم إذا جدّ الجدّ قد أعادت لكثير منهم رشدهم ؛ فأخذوا يتقبّلون من الأئمّة من ذريّة الإمام الحسين (صلوات الله عليه وعليهم) إصرارهم على الموقف المسالم للسلطة ، والرافض للخروج عليها بالسيف ، وإعلانهم (عليهم السّلام) عن أنّ قيام دولة الحقّ إنّما يكون بظهور خاتمهم القائم المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .
حتى صار ذلك شعاراً للأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وعرفه عنهم الجمهور ، وتميّزوا به عن غيرهم ـ من الفاطميين وغيرهم ـ ممّنْ يدعو للثورة ، والكفاح المسلّح ضدّ الظالمين ، وإقامة نظام بديل عن نظامهم .
وقد صار ذلك سبباً لتعاطف عامّة الناس معهم (عليهم السّلام) ، وشعورهم بمظلوميتهم عند تعرّضهم لضغط السلطة وتنكيلها بعد أن لم يكونوا بصدد منافستها والخروج عليها .
ولاسيما مع ما لهم (صلوات الله عليهم) من الكرامة والاحترام في نفوس المسلمين عامّة ؛ نتيجة مقامهم الرفيع في النسب والعلم والعمل .
ولا يظهر الإنكار على الأئمّة (عليهم السّلام) من شيعتهم ، أو التململ من الموقف المذكور إلاّ بصورة فردية انفعالية يسهل عليهم (عليهم السّلام) تجاهلها أو الردّ عليها ، وإفهام مَنْ يصدر منه ذلك بخطئه ، وسوء تقديره للأمور .
ولاسيما بعد أن تبلور مفهوم عصمة الإمام ، ووجوب التسليم له . وقد حفظ لنا التراث الشيعي كثيراً من مفردات ذلك .

حديث سدير الصيرفي
وقد يحسن بنا أن نذكر هنا حديث سدير الصيرفي ، قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) ، فقلت له : والله ما يسعك القعود .
فقال : (( ولِمَ يا سدير ؟ )) .
قلت : لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك . والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ما لَكَ من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم وعدي .
فقال : (( يا سدير ، وكم عسى أن يكونوا ؟ )) .
قلت : مئة ألف .
قال : (( مئة ألف ؟! )) .
قلت : نعم ، ومئتي ألف .
قال : (( مئتي ألف ؟! )) .
قلت : نعم ، ونصف الدنيا .
قال : فسكت عنّي . ثمّ قال : (( يخفُّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع ؟ )) .
قلت : نعم .
فأمر بحمار وبغل أن يُسرج ... فمضينا ، فحانت الصلاة ، فقال : (( يا سدير ، انزل بنا نصلّي )) . ثمّ قال : (( هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها )) .
فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ، نظر إلى غلام يرعى جداءً ، فقال : (( والله يا سدير ، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود )) .
ونزلنا وصلّينا ، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر(15) .
ومن الطبيعي أن يكون مراده (عليه السّلام) من الشيعة هنا الخلّص ذوي الثبات والتسليم ، والتصميم على الوجه الأكمل الذين لا تزعزعهم المحن والبليات ، ولا تزيلهم الشبهات والمغريات .
وقد يشير إلى ذلك حديث أبي مريم عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال : (( قال أبي يوماً وعنده أصحابه : مَنْ منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفّه ، فيمسكها حتى تطفُ ؟ )) .
قال : (( فكاع الناس كلّهم ونكلوا ، فقمت وقلت : يا أبة أتأمر أن أفعل ؟ فقال : ليس إيّاك عنيت ؛ إنّما أنت منّي وأنا منك ، بل إيّاهم أردت [ قال : ] وكرّرها ثلاثاً . ثمّ قال : ما أكثر الوصف ، وأقلّ الفعل . إنّ أهل الفعل قليل ، إنّ أهل الفعل قليل ، وإنّا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً ، وما كان هذا منّا
تعامياً عليكم ، بل لنبلوا أخباركم ، ونكتب آثاركم )) .
فقال : (( والله لكأنّما مادت بهم الأرض حياء ممّا قال ... ، فلمّا رأى ذلك منهم قال : رحمكم الله ، فما أردت إلاّ خيراً . إنّ الجنّة درجات ، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم )) .
قال : (( فوالله ، لكأنّما نشطوا من عقال ))(16) .
وعلى ذلك يجري قوله تعالى : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أنّهم فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيت )(17) .
نعم ، قد تعرّض الأئمّة (صلوات الله عليهم) للإنكار عليهم ممّنْ يتبنّى خطّ الثورة من العلويين وغيرهم ، إلاّ إنّهم (عليهم السّلام) لم يكترثوا بذلك بعد رضوخ شيعتهم لهم ، وتقبّلهم لموقفهم ، ولاسيّما بعد ظهور فشل محاولات الثورة والإصلاح الكثيرة عسكرياً ، أو عملياً بانحراف الثورة حين قيامها أو بعد نجاحها .
والحاصل : إنّ فاجعة الطفّ قد خفّفت من ضغط الدعوة للثورة على سلطان الجور عن الأئمّة (صلوات الله عليهم) ، وسهّلت عليهم إقناع شيعتهم بعدم الجدوى فيه ، وانتظار الفرج بقيام الحجّة المهدي المنتظر (صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه) .
وهذه فائدة مهمّة لفاجعة الطفّ حيث سهّلت على الأئمّة (عليهم السّلام) بناء الشيعة ثقافياً كما يريدون ، بعيداً عن الضجيج والعجيج ، وهي في الحقيقة من جملة الثمرات الدينية لفاجعة الطفّ تضاف لما سبق في الفصل الأوّل .

دعوى أنّ ذلك لا يتناسب مع قابلية الإسلام للتطبيق
هذا وقد يدّعي المدّعي أنّ ذلك لا يتناسب مع ما نعتقده ـ نحن وعامّة المسلمين ـ من ابتناء التشريع الإسلامي على حكم الإسلام في الأرض ؛ وما ذلك إلاّ لقابلية نظام الإسلام للتطبيق بوجه كامل من أجل إصلاح المجتمع ، وتطهيره من الفساد ، وتعميم العدل ، فكيف يدّعى تعذّر ذلك ، خصوصاً في عصر حضور الأئمّة (صلوات الله عليهم) ؟!

دفع الدعوى المذكورة
والجواب عن ذلك : إنّ من تتمّة نظام الإسلام العظيم أن يكون المشرف على تطبيقه بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) هم الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، المأمونين عليه نتيجة عصمتهم ، والمحكمين فيه نتيجة وجوب موالاتهم وطاعتهم ، وبذلك كمال الدين وتمام النعمة .
ولو أنّ الصحابة الأوّلين من المهاجرين والأنصار أجمعوا على ذلك ، واتّحدت كلمتهم ، وتسلّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) السلطة بناء على ذلك وإقراراً له لاختلف كيان الإسلام عمّا انتهى إليه بسبب الانحراف ؛ إذ يُقرّ قولاً وعملاً بنحو إجماعي عند المسلمين نظام الخلافة حينئذٍ على ما أراده الله تعالى من خلافة الإمام المعصوم المنصوص عليه ، بدءاً بأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، وهو الذي كان يد النبي (صلّى الله عليه وآله) الضاربة ، وسيفه الصارم في جهاده الطويل ، والمبلّغ عنه والناطق باسمه .
والذي هو امتداد طبيعي لوجوده (صلّى الله عليه وآله) الشريف في كونه عميداً لبني هاشم ، القبيلة ذات المقام الرفيع في نفوس العرب الذي زاد فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) أضعافاً كثيرة .
كما إنّه (عليه السّلام) امتداد طبيعي للنبي (صلّى الله عليه وآله) في قوّة شخصيته (عليه السّلام) وصلابته وهيمنته ، وفي علمه وعمله ، وفي مبادئه ومثاليته .
ويترتّب على ذلك أمور في غاية الأهمية :
الأوّل : انصياع العرب لأمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ويتجنّب المسلمون كثيراً من الحروب التي سمّيت بحروب الردّة ، أو جميعها .
كما يناسبه قول سلمان الفارسي حينما بويع أبو بكر : أصبتم ذا السنّ منكم ، وأخطأتم أهل بيت نبيّكم . لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ، ولأكلتموها رغداً(18) .
وقول أبي ذرّ : لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم اثنان(19) .
إذ الظاهر أنّ كثيراً من تلك الحروب أو كلّها إنّما كانت من أجل تثبيت السلطة الجديدة المهزوزة دينياً ؛ لعدم كونها بعهد من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واجتماعياً ؛ لاستهانة العرب بأبي بكر وقبيلته ، ولسقوط هيبة الإسلام باختلاف المسلمين وانشقاقهم على ما أوضحناه في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة) .
الثاني : قطع آمال الآخرين في السلطة إلى الأبد ، ويتجنّب المسلمون الصراع عليه ، ذلك الصراع الذي فرّقهم ونخر في كيانهم ، بل دمّرهم .
الثالث : تحجيم دور المنافقين وحديثي الإسلام في إدارة الأمور ، وفي نشر مفاهيمهم ، وقطع الطريق عليهم من أجل قضاء مآربهم الخبيثة على حساب الإسلام .
الرابع : قوّة نفوذ السابقين من الصحابة المعروفين بقوّة الدين ، والإخلاص والأثر الحميد في الإسلام ، والتابعين لهم بإحسان من ذوي الإيمان والتقوى
والالتزام العملي .
وبذلك يتجنّب الإسلام كثيراً من السلبيات والمفارقات التي تقدّم منّا التعرّض لبعضها في حديثنا هذا .
ومن الطبيعي حينئذ أن تسير عجلة الإسلام بتعاليمه الكاملة ومثله السامية على الطريق الواضح من دون أي انحراف أو تحوير أو وهن ، ويتجسّد بواقعه الثقافي والعملي على ما أراده الله (عزّ وجلّ) كما تضمّنت ذلك النصوص الكثيرة .
فإذا تمّت الفتوح في عهد هذا الإسلام الأصيل وهذه القيادة الفذة ، والجماعة الصالحة ، واتّسعت رقعته ، وجاءت بسببها الغنائم والخيرات ، والعزّة والكرامة قوي هذا الإسلام وارتفع شأنه ، وتركّز في النفوس وتجذّر في أعماقها .
وبذلك يقوم كيان الإسلام على الاستقامة والصلاح مهما اتسع وانتشر من دون أن يكون هناك ما يدعو للخروج عليه ، أو الانحراف به .

صلاح المجتمع مدعاة للتسديد والفيض الإلهي
ولاسيما أنّ المجتمع المذكور يكون حينئذ مورداً للفيض الإلهي ، كما قال الله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ )(20) ، وقال (عزّ وجلّ) : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أنّهم أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ... )(21) .
وقد تقدّم قريباً في كلام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ما يناسب ذلك ، ونحوه في كلام له آخر(22) .
وفي كلام له ثالث : لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ، ومن تحت
أرجلهم(23) .
وفي كلام أبي ذرّ : أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله ، وأخّرتم مَنْ أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم(24) .
ومن الظاهر أنّ الفيض الإلهي المذكور يقلل من فرص الخلاف والشقاق ، ومن الخروج على السلطة الشرعية ؛ لفقد المبرّر له ، ورفض المسلمين لذلك حينئذٍ .
بل قد ورد في كلام غير واحد من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ووجوه الصحابة القطع بعدم تحقّق الخلاف والشقاق حينئذٍ ، كما يناسبه ما سبق في كلامي سلمان وأبي ذرّ .
وقالت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في خطبتها الكبرى : (( فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ... ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً للفرقة ))(25) .
وقال عبد الله بن جعفر في حديث له مع معاوية : فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أُخذ فيها بسُنّة رسول الله فأولوا رسول الله ... ، وأيم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر في موضعه ؛ لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان(26) ... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأُمّة لو لم تنحرف من أوّل الأمر لاستمرت في استقامتها وتماسكها .
ولو فرض أن سوّلت بعض النفوس لأصحابها بذلك كان خارجاً عن جماعة المسلمين محارباً من قبلهم ، لا مجال لتبرير موقفه بعد اتفاقهم على وجوب طاعة الإمام وعصمته اللذين لا مجال معهما للاجتهاد والاختلاف .
ولاسيما بعد إدراكهم خير ذلك وبركته بنحو يقتضي تجذّر الاستقامة والانقياد للحق في نفوسهم ، والاهتمام بالحفاظ عليه ، والدفاع عنه .

إنّما يتعذّر الإصلاح الكامل بعد حصول الانحراف
وإنّما قلنا آنفاً بتعذّر الإصلاح التام وتطبيق حكم الإسلام كاملاً من أجل الواقع الذي حصل حيث انحرفت من اليوم الأوّل مسيرة السلطة في الإسلام ، فترتّب على ذلك التلاعب في الدين ، وإبعاد المخلصين ، ونفوذ المنافقين ، واختلاف الأُمّة وانشقاقها على نفسها ، وطمع في السلطة مَنْ ليس أهلاً له من دون ضابط ولا وازعٍ حتى انتهى الأمر إلى أعداء الإسلام والمسلمين ، والموتورين منه ومنهم .
ثمّ ظهرت الفرق في الأُمّة ، وانشقّت على نفسها ، وصار لكلّ فرقة دينها الذي تختص به ، ومقاييسها التي تجري عليها ، وتجذّر في أعماقها بحيث يصعب التحرّر منها ، والفحص عن الحقّ بموضوعية خالصة.
وفتح باب الاجتهاد والتشبّث بالمبرّرات للخروج عن النصّ ، ومرضت النفوس ، وتعوّدت على اللف والدوران ، والبغي والعدوان ، وظهرت كوامن النفوس الشريرة ، وشيب الحقّ بالباطل .

زيادة الأمر تعقّداً في عصر الغيبة
ويزيد الأمر تعقّداً في عصر الغيبة ؛ حيث لا معصوم ناطق يرعى بالمباشرة

الدين والدولة ، وغاية ما نملك مجتهدون معرّضون للخطأ ، وهم يختلفون في معرفة الحكم الشرعي وتحديده ، وفي الطريق الأمثل لتطبيقه نسبياً ، ولا يملك أي منهم القدرة على إقناع الآخرين بما أدّى إليه اجتهاده ، وليس له الحقّ في فرض قناعته على غيره .
مضافاً إلى ما أفرزته التداعيات السابقة من نظريات مناهضة للدين يروّج لها الأعداء والنفعيون ، وعقبات وألغام يزرعونها في طريق العاملين المخلصين الثابتين الذين هم أقلّ القليل .
ويدعمها في ذلك قوى هائلة ظاهرة وخفية تحاول أن تمسك بزمام الأمور ، لا يهمّها تدمير المجتمع الإنساني في سبيل مصالحها الخاصة ، ومن أجل تنفيذ مخططاتها الجهنّمية .
وكلّما امتدّ الزمن بالمجتمع الإنساني المريض زادت الأوضاع سوءاً والأمور تعقّداً ، وتضاعفت المشاكل والسلبيات ، إلاّ إن تتدخل العناية الإلهية بنحو خاص ، ولا مفرّج إلاّ الله (عزّ وجلّ) وإليه يرجع الأمر كلّه .

لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور
نعم ، لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور ، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه ، ولكلّ وجهة نظره ، والله سبحانه وتعالى من وراء القصد . ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )(28) .
وعلى كلّ حال فذلك كلّه ليس لقصور في النظام الإسلامي الرفيع ، ولا في التشريع الإلهي القويم ، بل لتقصير الأُمّة في واجبها من اليوم الأوّل حيث فسحت المجال للانحراف ، وغضّت الطرف عنه ، ولم تقم بواجبها في إنكار
المنكر والاستجابة للإمام المعصوم (صلوات الله عليه) من أجل تعديل المسار وإصلاح الأوضاع .
فتبوء هي بذنبها ، وتتحمّل مسؤولية عملها من دون أن يتحمّل الإسلام ولا رموزه العظام شيئاً من ذلك ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ونسأله (عزّ وجلّ) التسديد والتوفيق ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونعتصم به من الشيطان الرجيم ، ومن مضلات الفتن ، إنّه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
________________________________________
1 ـ تقدّم في /  398 .
2 ـ تقدّم في /  56 .
3 ـ تقدّم في /  45 ـ 46 .
4 ـ تقدّم في / 27 .
5 ـ مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 196 في مقتل مسلم بن عقيل ، واللفظ له ، الفتوح ـ لابن أعثم 5 / 36 ذكر كتاب الحسين بن علي إلى أهل الكوفة .
6 ـ مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 229 واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 43 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر مسير الحسين إلى الكوفة ، تاريخ الطبري 4 / 301 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، الفصول المهمة 2 / 806 ـ 807 الفصل الثالث ، فصل في ذكر مخرجه (عليه السّلام) ، وقريب منه في البداية والنهاية 8 / 182 أحداث سنة ستين من الهجرة ، صفة مخرج الحسين إلى العراق ، وغيرها من المصادر .
7 ـ مقاتل الطالبيين / 65 مقتل الحسين بن علي (عليه السّلام) ، تاريخ الطبري 4 / 271 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) ، الكامل في التاريخ 4 / 27 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) .
8 ـ تقدّمت مصادره في / 31 .
9 ـ تقدّمت مصادره في / 34 .
10 ـ تاريخ الطبري 4 / 322 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .
11 ـ الكامل في التاريخ 4 / 57 ـ 58 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه) ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 4 / 317 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .
12 ـ تاريخ دمشق 14 / 182 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب ، واللفظ له ، تهذيب الكمال 6 / 407 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب ، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد / 71 ح 292 .
13ـ أنساب الأشراف 3 / 215 غارة بسر بن أبي أرطاة القرشي ، الإرشاد 1 / 273 ، الأمالي ـ للمفيد / 207 ، بحار الأنوار 34 / 14.
14ـ تقدّمت مصادره في / 36 .
15ـ الكافي 2 / 242 ـ 243 ح 4 .
16 ـ الكافي 8 / 227 ـ 228 ح 289 .
17 ـ سورة النساء / 65 ـ 66 .
18 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 49 ، و6 / 43 .
19 ـ شرح نهج البلاغة 6 / 13 ، واللفظ له ، و2 / 49 ، بحار الأنوار 28 / 195 .
20 ـ سورة الأعراف / 96 .
21 ـ سورة المائدة / 65 ـ 66 .
22 ـ المصنّف ـ لابن أبي شيبة 8 / 586 كتاب المغازي ، ما جاء في خلافة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) .
24 ـ أنساب الأشراف 2 / 274 أمر السقيفة .
25 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 171 أيام عثمان .
26 ـ راجع ملحق رقم (1) .
27 ـ الإمامة والسياسة 1 / 140 ما تكلم به عبد الله بن جعفر ، جمهرة خطب العرب 2 / 247 الباب الثالث ، الخطب والوصايا في العصر الأموي ، خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها ، خطبة عبد الله بن جعفر .
28 ـ سورة العنكبوت / 69 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page