• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

لخاتمة

 

الخاتمة
يحسن الحديث فيها حول أمرين يتعلّقان بفاجعة الطفّ وما استتبعته من إيضاح معالم دين الإسلام ووضوح حجّته .
الأوّل : أثر ذلك في تعديل مسار الفكر الديني والإنساني عامّة ، وإيضاح الضوابط التي ينبغي أن ينهجها طالب الحقيقة .
الثاني : في أهمّية إحياء الفاجعة ، والسعي لتجديدها والتذكير بها  ، وآليّة ذلك .
وذلك يكون في فصلين :

الفصل الأوّل
في أثر وضوح معالم الإسلام في استقامة
منهج الفكر الإنساني

لا يخفى أنّ كبح جماح انحراف السلطة ، والحيلولة دون تحكّمها في الدين ، وقيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه ، ونشاط فرقة الإمامية الاثني عشرية المؤكّدة على إمامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والمتبنّية لثقافتهم الرفيعة ، وتعاليمهم المنطقية الموافقة للفطرة السليمة ، والمنكرة للظلم والطغيان ، وتشويه الحقائق ، وتحريف مفاهيم الدين الحنيف ؛ نتيجة العوامل المتقدّمة ، كلّ ذلك وإن كان بالدرجة الأولى فتحاً مبيناً لدين الإسلام العظيم ورموزه الشامخة ،
إلاّ إنّه في الوقت نفسه نصر للأديان السماوية عامّة ، ولرموزها المقدّسة .

دافعت ثقافة الإسلام الحقّ عن الأديان السابقة ونبهت لتحريفه
حيث نبّهت هذه التعاليم الموافقة للفطرة السليمة على تحريف تلك الأديان وتشويه صورة رموزها بفعل الظالمين ، وإنّ تلك الأديان ـ في الحقيقة ـ منزّهة عمّا نسبته لها يد التحريف من مفاهيم وتعاليم متناقضة أو خرافية أو تافهة أو جائرة ؛ لتكون آلة بيد المؤسسات السلطوية والمافيات الإجرامية ؛ لتقوية نفوذها وتعزيز مواقعها ، ولا يصل إلى جمهور الناس منها إلاّ طقوس جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
وإنّ تلك الأديان في حقيقتها تحمل مفاهيم سليمة ، وتعاليم سامية مطابقة للحكمة والفطرة ؛ من أجل إصلاح البشرية عامّة ، وتنظيم علاقتها فيما بينها على أفضل وجه ، وتقريبها من الله (عزّ وجلّ) ، وهدايتها إلى الصراط المستقيم .

تنزيه رموز تلك الأديان عمّا نسبته لهم يد التحريف
كما إنّ رموزها العظام (عليهم السّلام) في غاية الرفعة والجلالة والقدسية والكرامة على الله تعالى ، والفناء في ذاته والقرب منه (جلّ شأنه) ، وهم معصومون من الزلل ، مطهّرون من الرجس .
وإنّهم (عليهم السّلام) قد جدّوا واجتهدوا في أداء رسالاتهم والتبليغ بها ، والنصح لأممهم ، وحملهم على الطريق الواضح من دون أن تأخذهم في الله لومة لائم .
وهم أيضاً منزّهون عمّا نسبته لهم يد التحريف الظالمة من الرذائل والموبقات ممّا يندى له الجبين ، وتأباه كرامة الإنسان ، ويهوي به إلى الحضيض .
وببيان آخر : الضوابط والتعاليم العامّة في دين الإسلام العظيم التي
يتبّناها القرآن المجيد ، والسُنّة الشريفة ، والثقافة المتميّزة لأهل البيت (صلوات الله عليهم) لا تبتني على الاختصاص بالإسلام ، بل على العموم لجميع الأديان السماوية ؛ سواء التي وصلت بقاياها لنا ، أم التي لم تصل ؛ لاشتراكها جميعاً في كونها مشرّعة من قبل الله (عزّ وجلّ) ، وهو الحكيم المطلق ، المحيط بكلّ شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، والرؤوف بعباده الرحيم بهم ، والعالم بما يصلحهم .
ولازم ذلك :
أوّلاً : أن لا يشرّع لهم من الدين إلاّ ما يصلح شأنهم ويقرّبهم منه (عزّ وجلّ) .
وثانياً : أن لا يأتمن على دينه وعباده إلاّ مَنْ هو أهل لهذه الأمانة العظمى في علمه وورعه وعمله ؛ ليعرّفهم بدينه ، ويبلغهم به ، ويحملهم عليه بقوله وسيرته ، ويكون قدوة لهم يهتدون بهداه ، ويستضيئون بنوره .
وكلّ ما خرج عن ذلك ممّا نُسب لتلك الأديان ورموزها المقدّسة لا بدّ أن يكون بهتاناً وزوراً ، وتشويهاً ظالماً حتى لو صدرت نسبة ذلك ممّنْ ينتسب لتلك الأديان ويُعدّ من أتباعها .
كما إنّه ورد عن النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) الكثير من مفردات ذلك ، وبيان تعاليم تلك الأديان التي تعالج مشاكل البشرية ، والتأكيد على رفعة مقام رموزها العظام ونزاهتهم ، وجهادهم في سبيل أداء رسالتهم ، وما نالهم من الظلم والعدوان من أعداء دعوتهم ومن أممهم .
ولأجل ذلك فالحفاظ على الثقافة الإسلامية الأصيلة ـ نتيجة العوامل السابقة ـ كما يكون نصراً للإسلام العظيم يكون انتصاراً لتلك الأديان الشريفة ودفاعاً عنها ، وحفاظاً على كرامتها وكرامة رموزها وقدسيتهم .

تحريف الأديان بنحو مهين
ومن الملفت للنظر أنّه قد حصل بسبب تحريف تلك الأديان من التعدّي على مقام الله (عزّ وجلّ) ، وعلى الوسائط بينه وبين خلقه ـ من الرسل والأوصياء (صلوات الله عليهم) ـ وعلى تشريعاته القويمة ما ترفضه العقول وتأباه النفوس بفطرته ، بل يندى له الجبين وتقشعرّ لهوله الأبدان .
إلاّ إنّ ذلك وحده لا يكفي في وضوح بطلان ذلك وتكذيبه ، وظهور الحقيقة ، وتنزيه تلك الأديان إذا لم تكن هناك ثقافة سليمة متكاملة ذات قواعد وأصول محكمة متينة ، وكان لتلك الثقافة دعوة مسموعة يلجأ إليها طالب الحقيقة .
وبدون ذلك يبقى الإنسان الذي يحترم نفسه ، ويعتزّ بعقله ، ويستضيء به مذبذباً بين الدعاوى المتناقضة للأديان المختلفة غير الخالية في نفسها عن السلبيات المذكورة حتى قد يرفضها جميعاً ويكفر بها ، ويلجأ للثقافة المادية الصرفة ، أو يعتنق بعض تلك الأديان بمجرد الانتساب تقليداً للآباء من دون إيمان حقيقي متركز في أعماق النفس ودخائله .

لو تمّ تحريف الإسلام لضاعت معالم الحقّ على البشرية
ونتيجة لذلك فلو فُتح المجال لتحريف الإسلام الخاتم للأديان ، ولم يكبح جماحه ؛ نتيجة العوامل المتقدّمة ، لضاعت المعالم ولم يبقَ بيد الناس حقيقة مقدّسة تقبلها العقول ، وتركن إليها النفوس ، وتأخذ بمجامع القلوب ، وتتفاعل بها من أجل خيرها وصلاحها .
ولبقي المجتمع الإنساني في حيرة وضياع بين الثقافات الدينية المحرّفة ـ المملوءة بالأساطير والخرافات والسلبيات ، التي تأباها النفوس وترفضها العقول ، كما سبق ـ والثقافة المادية الجافة التي تأباها الفطرة السليمة ، والتي
تسير بالمجتمع نحو الدمار الشامل في الأخلاق والمثل .
وحتى في مقوّمات نمو المجتمع الإنساني وبقائه في المعمورة ؛ لاهتمام الثقافة المادية بحرية الفرد ، وفسحها المجال لتمتّعه باللذة من أقرب طرقها من دون تركيز على بناء المجتمع ، وتنظيم علاقة بعضه ببعض على أسس رصينة .
وقد كان لكبح جماح التحريف في الإسلام ، وظهور دعوة الحقّ فيه أعظم الأثر في وضوح كثير من الحقائق في حق الله (عزّ وجلّ) وحق ملائكته وأنبيائه (صلوات الله عليهم) وتشريعاته القويمة ، وظهور تشويهها في الأديان الأخرى ، وحتى في بعض تراث المسلمين المشوّه .
ومن هنا كان لفاجعة الطفّ وغيرها من خطوات أهل البيت (عليهم السّلام) السابقة وجهودهم التي حدّت من محاولات التحريف لدين الإسلام العظيم ، الفضل على الفكر الإنساني عامّة في وضوح منهجه وتعديل مساره .

ظهور السلبيات التي أفرزها التحريف
ويتضح ذلك بملاحظة أمر له أهميته ، وهو أنّ الغرض المباشر من إقحام التراث المشوّه في الأديان ـ بما في ذلك دين الإسلام العظيم ـ هو تقبّل أتباعها له وإيمانهم به ، وهو لا يكون إلاّ لوجود الأرضية الصالحة لذلك بسبب اختلاط الأمر على الناس ، وعدم وضوح معالم الحقّ من الباطل لهم . فوجود التراث المذكور في الأديان يكشف عن تحقّق تلك الأرضية حين إقحامه .
ولو أنّ الإسلام جرى على سنن الأديان السابقة ، وتمّ للخطّ المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ما أرادوا ، ولم يكبح جماح الانحراف والتحريف نتيجة ما سبق ، لبقيت هذه الأرضية ولتقبّل أهل كلّ دين تراثهم على ما هو عليه من التشويه ، ولم يتوجهوا للسلبيات ؛ لتشابه الأديان في ذلك كواقع قائم ، ولبقي الأمر مختلطاً على الناس .
بينما نرى الآن أنّ ما يحمله التشوّه ـ من خرافات أو ظلم للحقيقة لا يتناسب مع حقيّة تلك الأديان ، أو تنافي كمال الله (عزّ وجلّ) المشرع له ، أو قدسية الوسائط بينه وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) ـ قد صار سمة عار على تلك الأديان وعلى المنتسبين إليه .
بحيث يكون مثاراً للنقد ، بل الهجوم من طرف الخصوم ، وسبباً لإحراج المنتسبين لتلك الأديان حتى قد يضطرون لتأويلها والخروج عن ظاهرها إن وجدوا لذلك سبيلاً ، أو للفّ والدوران ، وإشغال الخصوم بأمور جانبية تهرّباً من الجواب .
وربما يتهرّبون من فتح باب الحوار ، أو يغلقونه بعد فتحه ؛ لشعورهم بالعجز عن الدفاع والاستمرار في حلبة الجدال والصراع .
بل كثيراً ما يحاول حملة تلك الأديان والمعنيون بها صرف أتباع دينهم عن النظر في تراثه والاطلاع عليه والتدبّر فيه ، أو منعهم عن فتح باب الحوار مع الآخرين والاطلاع على تراثهم والتعرّف على وجهة نظرهم ، حذراً من أن يُصاب أتباع ذلك الدين بصدمة تزعزع عقيدتهم ، وتجعلهم يبحثون عن البديل له .
وذلك يكشف عن اهتزاز تلك الأرضية ، وأنّ معالم الحقّ والباطل أخذت موقعها المناسب من مرتكزات الناس ، وصارت من الوضوح بحيث يتسالم عليها الكلّ ، وقامت الثوابت التي يرجع إليها في مقام البحث والاستدلال .
كلّ ذلك بسبب كبح جماح الانحراف في الإسلام نتيجة الجهود المتقدّمة. ولا أقلّ من أنّ لذلك تأثيره المهم من هذه الجهة .
ولا نعني بذلك أنّ الناس قد اهتدت للدين الحقّ ، ورفضت الأديان المحرّفة ؛ إذ لازالت الحواجز عن ذلك قائمة من تقليد ، أو تعصّب أو مصالح مادية ، أو عدم الاهتمام بمعرفة الحقيقة ... إلى غير ذلك من العوامل .
بل كلّ ما حصل هو وضوح معالم الحقّ بحيث جعل أهل الأديان المحرّفة يدركون سلبيات أديانهم ، ويضيقون به على خلاف ما كان عليه أسلافهم .
أمّا الاهتداء للدين الحقّ فيبقى منوطاً بأسبابه ، وأهمّها النظرة الموضوعية في الأدلّة والحجج ، والشجاعة في تخطّي الحواجز ، والاهتمام بالوصول للحقيقة ، مع التوفيق والتسديد الإلهي . و( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )(1) .

الفصل الثاني
في إحياء فاجعة الطفّ

قد تبيّن في غير موضع ممّا سبق أهمية إحياء فاجعة الطفّ ، وجميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) بمختلف الوجوه ؛ من زيارة مراقدهم الشريفة ، وتعاهد مشاهدهم الكريمة وعمارتها ، وإقامة المجالس المذكرة في مناسبات أحزانهم وأفراحهم ، والقيام بمظاهر الحزن والأسى ، أو مظاهر الفرح والسرور بالنحو الذي يتناسب مع الحدث ، وقول الشعر فيهم (عليهم السّلام) ... إلى غير ذلك .
ولاسيما مع تأكيد الأئمّة (صلوات الله عليهم) على ذلك بوجه مذهل لا يدع مجالاً لقائل ، ولا عذراً لمعتذر كما يظهر بالرجوع لتراثهم الرفيع .
والذي يهمّنا هنا هو التنبيه لأمور تتعلّق بإحياء هذه المناسبات كنّا قد تعرّضنا لها في مناسبات مختلفة بنحو متفرّق ، ويحسن بنا هنا جمعها ، وربما أضفنا هنا ما لم نتعرّض له سابقاً .

اختلاف الناس في مظاهر التعبير عن شعورهم إزاء الأحداث
الأمر الأوّل : إنّ الناس تختلف في مظاهر تعبيرها عن عواطفها نحو الأحداث المتعلّقة بأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، ومناسبات أفراحهم وأحزانهم ، فلكلّ فئة من الناس مظهر وطريقة في التعبير تتناسب مع مداركها وأحاسيسها وبيئاتها وخصوصياتها المزاجية ، ولو حملت على طريقة أخرى لم تتأثّر به ، أو لم تتفاعل معها كتفاعلها مع ما تألفه .
فاللازم أن تُترك لكلّ فئة الحرية في أن تختار لنفسها الطريقة التي تناسبها في التعبير عن شعورها وعواطفها ما لم يتجاوز الحدّ المشروع .
إذ لو حرمت منه ، وحملت على طريقة أُخرى لم تتجاوب معها ، أو لم تتفاعل بها ذلك التفاعل ، وخبت جذوة العاطفة فيها تدريجاً بمرور الزمن ، وخسرنا طاقاتها في إبراز شعورها وعاطفتها نحو الحدث .

أهمية السواد الأعظم في حمل الدعوة والحفاظ عليها
كما إنّ الأحداث والتجارب من أعماق التاريخ حتى يومنا الحاضر قد أثبتت أنّ الذين يحملون لواء دعوة الحقّ وعناءه ، ويستطيعون الاستمرار بها ـ عبر المعوّقات والمشاكل والمتاعب والمخاطر ـ هم جمهور المؤمنين وكثرتهم الكاثرة ، وسوادهم الأعظم .
حيث إنّهم ـ بسبب كثرتهم ـ لا يسهل القضاء عليهم من قِبَل أعداء تلك الدعوة ، ولا تجميد فعالياتهم وإيقاف مدّهم ، ولا يتيسّر تبديل مفاهيمهم بالإغراء والتضليل .
ولاسيما أنّ مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أفراحهم وأحزانهم قد أخذت موقعها في نفوس عموم المؤمنين ، وتجذّرت في أعماقهم ؛ نتيجة انشدادهم لأهل البيت (عليهم السّلام) ولاءً وتقديساً كما ذكرناه سابقاً .

موقع الخاصة من الدعوة
أمّا الخاصة من المؤمنين ـ كرجال الدين والمثقّفين ، وأهل المال ، وذوي المقام الاجتماعي الرفيع ـ فهم وإن كان لهم موقعهم المهمّ في دعوة الحقّ ، بل هم أوسمة فخر تتزيّن به ، وفيهم الهداة لأتباعها في مسيرتهم ، والحصون الواقية للدعوة الشريفة نفسها من التحريف والتشويه ، والقوى الداعمة لها مادياً ومعنوياً ، إلاّ إنّهم لا يستطيعون لوحدهم الوقوف أمام الهجمة المعادية ؛ بسبب قلّتهم وتميّزهم .
بل يسهل على الأعداء الحدّ من فعالياتهم ، والمنع من تأثيرهم ؛ إمّا بتصفيتهم جسدياً ، أو تطويقهم وتجميد فعالياتهم بالسجن أو التخويف أو نحوهم ، أو صرفهم بالترغيب والترهيب عن خدمة دعوة الحقّ ، بل قد يحاولون حملهم على الوقوف ضدّها .
ولا يحمي الدعوة الشريفة إلاّ الجمهور والسواد الأعظم الذين يحملون لواءها ؛ فهم الحصن الحصين لها ، والدرع التي تقيها من كيد الأعداء كما سبق .
بل إنّهم ـ بسبب كثرتهم وإصرارهم ـ قد يحمون الخاصة من ذوي المقام المتميّز في الدعوة ؛ لأنّ في التنكيل بهم جرحاً لشعور الجمهور ، ومثاراً لسخطهم قد يحسب له الخصم حسابه ، ويخشى عاقبته .

أهمية فعاليات الجمهور في إحياء المناسبات الدينية
ونتيجة لِما سبق يجب تمكين جمهور الناس والسواد الأعظم من الطريقة التي يختارونها في التعبير عن شعورهم في المناسبات الدينية المختلفة ، بل تشجيعهم على ذلك بمختلف الوسائل ؛ لتتجذر في أعماقهم ، وتنتشر بينهم من أجل أن يؤدّوا دورهم الرسالي على أرض الواقع باستمرار وإصرار .
وليكونوا ذخراً في الأزمات ، وأمام الضغوط التي تضطر الخاصة للوقوف مكتوفي الأيدي لا يستطيعون حتى الإشارة والتلميح بما يختلج في صدورهم ، بل قد يضطرون أو يختار بعضهم ـ نتيجة المغريات ـ تثبيط العزائم وإضعاف الهمم .
بينما نرى السواد الأعظم إذا اقتنعوا بإحياء المناسبات ، وتجذّر ذلك في أعماقهم فهم أقدر على التمسّك بعاداتهم والاستمرار عليها ؛ لأنّهم أبعد عن الضغوط ، وأقدر على التخلّص منها أو الالتفاف عليها ، ولنا في تجربة العراق القريبة أعظم العبر .
ويزيد في أهمية فعاليات الجمهور والسواد الأعظم أنّ كثرتهم ، وسعة رقعة تواجدهم ، واختيارهم في التعبير عن شعورهم الطريقة الأكثر إلفاتاً للحدث والأقوى وقعاً في التنبيه له ، كلّ ذلك يجعل ممارساتهم سبباً في تبدّل جوّ المجتمع الذي يعيشون فيه ، وتحويل صورته لصالح الحدث بنحو يدعو الجاهل ، وينبّه الغافل ، ويشدّ في اندفاع العامل ، ويزيده ثباتاً وإصراراً وعزماً وتصميماً .
وبذلك تترك الممارسات المذكورة بصماتها في المجتمع وتجعله يعيش الحدث ، ويتفاعل معه حتى يكون جزءاً من كيانه .

على الخاصة دعم الجمهور في إحياء المناسبات بطريقتهم
وإذا كانت الخاصة لا تستطيع المشاركة في هذه الممارسات عند الأزمات ، بل قد لا تستطيع الإعلان عن شرعيتها فضلاً عن التشجيع عليها ؛ للأسباب السابقة ، فإنّها تستطيع ذلك كلّه عند انفراج الأزمة ، وإطلاق الحريات .
فاللازم قيامها بذلك حينئذ من أجل رفع معنويات الجمهور ، وإشعارهم بأهمّية موقعهم وموقفهم في إحياء المناسبات المذكورة ، وتأكيد شرعية ذلك كلّه ، وشكرهم عليه .
وبذلك تسدّ الطريق على مَنْ يحاول أن يفتّ في عضد الجمهور في ممارساتهم ، ويحطّ من قدرهم ، ويصمهم أو يشنّع عليهم بالجهل في قيامهم
بتلك الممارسات ؛ من أجل تهوين أمرها ، أو التنفير عنها ، والحدّ من اتساعها وانتشارها .
ولاسيما أنّ هذه الممارسات لاتزال مدعومة بالمدّ الإلهي ، والكرامات الباهرة ، والمعاجز الخارقة التي يلمسها الناس بأيديهم ويعيشونها في واقعهم باستمرار ؛ حيث يكشف ذلك عن حبّ الله (عزّ وجلّ) لها ، وشكره للقائمين بها وتشجيعهم عليها .
بل لذلك أعظم الأثر في تمسّك الناس بها وإصرارهم عليها ، واستمرارهم فيها رغم المعوّقات الكثيرة ، والمقاومات العنيفة المادية والمعنوية على مدى الزمن .

أهمّية الممارسات الصارخة
الأمر الثاني : إنّ للممارسات الصارخة التي تلفت الأنظار ، والتي يقوم بها كثير من جمهور الشيعة وعامتهم ، ويتحمّلون عناءها وجهدها ، أعظم الأثر في إحياء فاجعة الطفّ وانتشارها على الصعيد العام ؛ لأنّها الأحرى بإظهار عواطف الجمهور نحو الفاجعة ، وتفاعلهم بها ، وتجذّرها في أعماقهم ، واستنكارهم للظلم الذي تعرّض له الإمام الحسين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) عموماً ، كما تعرّض له شيعتهم تبعاً لهم على امتداد التاريخ .
كما إنّ هذه الممارسات هي الأحرى بإلفات نظر الآخرين وتنبيههم للحدث ، وحملهم على السؤال والاستفسار عن حقيقته ، والتعرّف على خصوصياته وتفاصيله ، ثمّ التجاوب مع الشيعة واحترام شعورهم ، والتفاعل معهم أو مشاركتهم في آخر الأمر ، بل الدخول في حوزتهم والانتماء لخطّهم في ظلّ ولاية أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
وها نحن نرى هذه الأيام أثر هذه الممارسات في إلفات نظر العالم ، وتوجيه وسائل الإعلام المختلفة نحو الفاجعة في مواسمها المشهودة .
وذلك يفسّر ما سبق في حديث معاوية بن وهب من دعاء الإمام الصادق (عليه السّلام) لزوّار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وقوله : (( اللّهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا ، خلافاً منهم على مَنْ خالفنا ؛ فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حضرة أبي عبد الله (عليه السّلام) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا ... ))(2) .
نعم ، لا بدّ أن ينضمّ إلى تلك الممارسات بعض الممارسات الهادئة ، كقراءة المقتل الفجيع ، ومجالس العزاء الشارحة لظروف الفاجعة وأهدافها ، والكتب أو النشرات المتحدّثة عنها بإسهاب أو إيجاز ، كلّ على اختلاف الظروف والمناسبات .
كلّ ذلك من أجل التثقيف العام ، والتعريف بالحدث ، والتذكير به ، واستيعاب مفرداته ومقارناته التي تزيد في وقعه ، والتفاعل به .

الكلام في تطوير طرق إحياء المناسبات
الأمر الثالث : قد يظنّ الظانّ أنّ تطوّر الأوضاع في العالم المعاصر يلزم بتطوير وسائل الدعوة للمبدأ وكيفية إحياء هذه المناسبات ، وتبديلها بما يتلاءم مع واقع العصر وينسجم معها .
لكنّنا في الوقت الذي نحبّذ فيه إيجاد وسائل تناسب التطوّر المذكور ، نرى أنّ ذلك يجب أن يكون مصاحباً لهذه الشعائر بواقعها المعهود المألوف لا بدلاً عنها ؛
فإنّ هذه الشعائر والممارسات حينما وجدت في غابر الزمان وجدت غريبة عن الواقع الذي قامت فيه حينئذٍ ، وتعرّضت لأقسى أنواع المقاومة والتشنيع والتهريج كما يشير إليه ما سبق في دعاء الإمام الصادق (عليه السّلام) وغيره .
لكنّها ثبتت وفرضت نفسها متحدّية ذلك الواقع ، وحقّقت أهدافها على أفضل وجوهها وأكملها ، وكما لم تمنعها غرابتها من ذلك فيما مضى ، فهي لا تمنعها منه في الوقت الحاضر بتسديد الله (عزّ وجلّ) ورعايته .
ولاسيما أنّ التطوير والتبديل المذكور كثيراً ما لا يتناسب مع واقع الجمهور ومداركه وأحاسيسه ، فلا يتفاعل به ، ولا يتجاوب معه ، فلا يفي بالغرض كما سبق التعرّض له في الأمر الأوّل .
والعالم مليء بالممارسات والنشاطات التي تمتاز بها بعض الفئات والمجتمعات ، وهي غريبة عن الآخرين من دون أن يمنعها ذلك من القيام بها والاستمرار عليها ، كما لا تكون سبباً للتهريج والتشنيع على مَنْ يقوم بها . فلماذا التهريج والتشنيع هنا ؟!
والظاهر أنّ من أهم أسباب التهريج على مَنْ يقوم بهذه الممارسات هو شعور أعداء التشيّع بالمكاسب العظيمة التي حصل عليها التشيّع بسببها على ما ذكرناه آنفاَ .
ومن هنا لا موجب للشعور بالضعف ، ومحاولة التراجع لمجرّد كون الممارسات المذكورة غير مألوفة للآخرين ، أو مورداً لاستغرابهم ، أو استغلال الأعداء لذلك من أجل التهريج والتشنيع عليهم .
مضافاً إلى أمرين :
أوّلهما : إنّ تهيّب نقد الآخرين والاهتمام بإرضائهم تجعل الإنسان ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ يضخّم التهريج والتشنيع ، ويهولهما ويحيطهما بهالة من الأوهام والمبالغات ، ويتخيّل كثيراً من ردود الفعل السيئة والسلبيات المترتبة عليه من دون أن يكون لشيء من ذلك وجود على أرض الواقع ، بل هي ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )(3) .
ولنا في التجربة الحاضرة أعظم شاهد على ذلك ؛ فإنّ انفتاح العالم على التشيّع وعلى هذه الممارسات في بلادنا بدأ بعد الحرب العالمية الأولى حيث ارتفع حاجز التقيّة نسبياً ، وبدأ العالم يتصل بعضه ببعض ، وأخذت هذه الممارسات الصارخة تظهر للآخرين .
وقد بدأت سهام النقد والاستنكار لها في موجة (العلمانية الثقافية) التي حاولت اكتساح الدين عموماً ، والاستهانة به وبممارساته كافة ، وقد استشعر كثير ممّنْ ينتسب للدين بالضعف والوهن .
وحسب بعضهم أنّ هذه الممارسات هي سبب الحملة المذكورة ، أو من أسبابه ؛ فارتفعت أصواتهم باستنكارها باسم الإصلاح أملاً في رضى الآخرين ؛ غفلة عن حقيقة الحال ، لكنّه لم يفلح في منعها بسبب إصرار الجماهير غير المحدود عليها .
حتى إذا انحسرت تلك الموجة ، واسترجع الدين موقعه في النفوس ، وبدأ احترامه عالمياً لم نسمع صيحات الاستنكار لهذه الممارسات إلاّ من قِبَل أعداء أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، ومن بعض مَنْ هو مغرم بالتجديد والتطوير حبّاً له ، أو حذراً من نقد الآخرين .
ولذا لم توجب هذه الممارسات تأخّر التشيّع عالمياً في هذه المدّة الطويلة ، بل هو في تقدّم مستمر رغم إغراق الجمهور الشيعي في الممارسات المذكورة وظهورها للعالم أجمع .
وها نحن نرى أنّ اهتمام الإعلام العالمي هذه الأيام إنّما كان بتغطية ممارسات الشيعة في أنحاء المعمورة في إحياء ذكرى فاجعة الطفّ وعرضها ، وبيان تعاطف الآخرين معها من دون أن يركّز على نقد هذه الممارسات والتشنيع عليها من قبل أعداء أهل البيت (عليهم السّلام) ، وخصوم شيعتهم أو غيرهم بنحو يوحي بعزلة هؤلاء الناقدين والمهرّجين ويشعر بخيبتهم .
ثانيهما : إنّ التهريج والتشنيع حيث كان المقصود منه تراجع الشيعة عن هذه الممارسات ، فإذا لم يجد أذناً صاغية خفّت تدريجاً ؛ لشعور أصحابها بالخيبة والفشل ، واضطروا للتعامل مع هذه الممارسات كما يتعاملون مع سائر الأمور المفروضة على أرض الواقع ممّا لا يعجبهم .  
أمّا إذا وجد أذناً صاغية وبدأ الشيعة يتراجعون عن بعض هذه الممارسات من أجله ، فإنّ القائمين بالتهريج والتشنيع يشعرون بنجاح مشروعهم ؛ فيزيدون فيهما من أجل تراجع الشيعة عمّا تبقّى من هذه الممارسات حتى تُنسى هذه الفاجعة ، ويخسر الشيعة أقوى دعامة لهم في نشر دعوتهم ، وإسماع صوتهم وبيان ظلامتهم وامتداد وجودهم ، وهو الذي يريده أعداؤهم على امتداد التاريخ .

الوظيفة عند اختلاف وجهات النظر
الأمر الرابع : إنّه قد تختلف وجهات النظر حول بعض الممارسات ، إمّا للاختلاف في الحكم الشرعي اجتهاداً أو تقليداً ، أو للاختلاف في حصول ما يؤكّد رجحانها ويقتضي التشبّث بها ، أو يوجب مرجوحيتها ويقتضي الإعراض عنها من العناوين الثانوية .
واللازم حينئذ على كلّ طرف من أطراف الخلاف الاقتصار على بيان وجهة نظره ، أو محاولة الإقناع به بالتي هي أحسن كما حثّ الشارع على ذلك في سائر موارد الخلاف .
ولا ينبغي تجاوز ذلك إلى إرغام الغير على تقبّل وجهة نظره ، أو الصراع الحاد والتشنجات ، أو التهريج والتشنيع والتوهين ... إلى غير ذلك ممّا يؤدّي إلى انشقاق الطائفة على نفسها ، وتمزيق وحدتها ، ووهنها أمام الآخرين ، وشماتة الأعداء بها ، بل قد يؤدّي إلى الإحراج في اتخاذ المواقف والتعامل مع الآخرين .
كما يؤدّي إلى هدر كثير من الطاقات المادية والمعنوية من أجل انتصار كلّ طرف لوجهة نظره ، بدلاً من صرف تلك الطاقات لصالح هذه الطائفة المتعبة ، وخدمة مشتركاتها ، وتخفيف محنتها .
ومادامت الطائفة في وضعها الحالي تفقد الرعاية الظاهرة من الإمام المعصوم (صلوات الله عليه وعجّل فرجه) ، ولا يتيسّر لها تحكيمه في خلافاتها ، فلا يحقّ لأيّ شخص فرض وجهة نظره على غيره ، أو التعدّي عليه مادياً أو معنوياً ؛ لعدم قناعته برأيه وانصياعه له .

دعوى اختصاص أهمّية الإحياء بما إذا كان مقارعة للظلم
الأمر الخامس : إنّه قد يدّعي المدّعي أنّ أهمّية هذه الأمور تختصّ بالظروف الحرجة حيث يكون القيام بها صراعاً مع الظلم والطغيان ، وجهاداً مريراً في سبيل الدعوة إلى الله ، ولا حاجة للتأكيد عليها مع الانفتاح والحرية ، بل تبقى عادات صرفة ، وتقاليد مجرّدة ، لا أهمية لها ، ولا جهد ولا جهاد في البقاء عليها ، ولا تكون مورداً للحثّ الشرعي ، ولا للأجر الموعود به عليها .

دفع الدعوى المذكورة
لكن لا مجال للبناء على ذلك :
أوّلاً : لأنّ فوائد هذه الأمور لا تختصّ بالصراع مع الظالمين والجهاد في وجه الطغيان ، بل لها فوائد أُخرى مهمّة جدّاً سبق التعرّض لها في المطلب الثاني عند التعرّض لما كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ .
والأهم من الكلّ حثّ الشارع الأقدس عليها بوجه مؤكّد ، وما أعدّه من الأجر العظيم والثواب الجزيل لمَنْ يقوم به من دون أن يتضمّن التقييد بزمان خاص أو حال خاص ، كما هو الحال في الحجّ والعمرة وغيرهما من الواجبات والمستحبات الشرعية . فالتقييد المذكور تخرّص في تحريف الحكم الشرعي .
وثانياً : لأنّ الشيعة حينما بدأوا بهذه الممارسات ـ بدفع من الأئمّة (صلوات الله عليهم) ـ لم يكونوا في مقام مواجهة الطغاة ومقارعتهم بها ، بل قاموا بها بصورة فردية سرّية خوفاً من الظالمين ، ولم يكن الدافع لهم إلاّ الأخذ بتوجيهات أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والسير على تعاليمهم ، وتأكيد الولاء لهم ، وأداء حقّهم .
وخاصةً الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي يتميّز بموقع عاطفي عميق في نفوس الشيعة ؛ نتيجة فاجعة الطفّ وأبعادها المأساوية المثيرة .
غاية الأمر أنّ ظهور قيام الشيعة بهذه الممارسات ، وإصرارهم عليها تدريجاً ، أثار حفيظة الظالمين ؛ فجدّوا في منعها والتنكيل بالقائمين بها ، وبدأ الصراع بين الطرفين نتيجة ذلك .
فالصراع مع الطغاة ومقارعتهم أمر طارئ على هذه الممارسات من دون أن يكون مأخوذاً في صميمها ، ولا سبباً للحثّ عليه ، أو شرطاً فيها .
وثالثاً : لأنّ كثيراً من هذه الممارسات التي ورد الحثّ عليها ، والوعد بالأجر والثواب عليها تبتني على التخفّي والتستّر من دون أن يكون لها مظهر يثير الطغاة ويزعجهم ، مثل ما تضمّنته رواية مسمع كردين الآتية في الأمر
الثامن ، ونحوها غيره ، وما ورد مستفيضاً في زيارة مَنْ بعدت شقته .
ففي حديث طويل لسدير ، قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يا سدير ، وما عليك أن تزور قبر الحسين (عليه السّلام) في كلّ جمعة خمس مرّات ، وفي كلّ يوم مرّة )) .
قلت : جعلت فداك ، إنّ بيننا وبينه فراسخ كثيرة .
فقال : (( تصعد فوق سطحك ، ثمّ تلتفت يمنة ويسرة ، ثمّ ترفع رأسك إلى السماء ، ثمّ تتحرّى نحو قبر الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ تقول : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، السّلام عليك ورحمة الله وبركاته . يكتب لك زورة . والزورة حجّة وعمرة )) .
قال سدير : فربما فعلته في النهار [الشهر] أكثر من عشرين مرّة(4) . وورد نحو ذلك في زيارة بقيّة المعصومين (صلوات الله عليهم) .
ومن الظاهر أنّ مثل هذه الزيارة لا ظهور لها ، ولا مظهر فيها لمقارعة الطغاة والصراع مع الظالمين ، والجهاد في سبيل الله تعالى ، بل تتمحّض في كونها مظهراً للولاء ، وسبباً لتأكيد الانشداد لأهل البيت (عليهم السّلام) .
وإذا كانت مثل هذه الزيارة الخفيفة المؤونة تعدل حجّة وعمرة فكيف يكون حال زيارة القاصد من مسافة بعيدة ، والذي يبذل جهداً بدنياً أو مالياً مكثفاً في سبيل الوصول للقبر الشريف وأداء حقّ المزور (عليه السّلام) ؟
وذلك كلّه وغيره يشهد بأنّ تشريع هذه الممارسات وترتّب الثواب العظيم عليها ليس من أجل الجهاد ومقارعة الظلم والطغيان ، بل لكونها مظهراً للولاء لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وسبباً للانشداد لهم ، وأداءً لعظيم حقّهم وغير ذلك من الفوائد المتقدّمة .
غاية الأمر أنّ ذلك قد يثير الطغاة والظالمين ؛ إمّا لعدائهم لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، أو لعدائهم للتشيّع كعقيدة دينية ، وشعورهم بأنّ هذه
الممارسات سبب لتركيزها ، وتقوية كيان الشيعة ، وبعث الحيوية فيهم .
ورابعاً : لأنّ الصراع بها مع الظالمين ، والجهاد والثبات عليها في وجه الطغاة عند منعهم يتوقّف على الثبات عليها في حال الرخاء ، والتمسّك بها في حال الدعة ؛ لأنّها بذلك تصبح جزءاً من كيان الأُمّة ، ومن موروثاتها العريقة المقدّسة التي يصعب عليها تركها والتجرّد منها .
ويكون منع الطغاة لها جرحاً لشعور الأُمّة وتعدّياً عليها بنظر كلّ منصف ، فيكون من حقّها الطبيعي أن تثأر لكرامتها ، وتبدأ ردود الفعل والصراع المرير بينها وبين الطغاة ؛ لتثبيت شخصيتها ، والثبات على عاداتها وموروثاتها ، والحفاظ على مقدّساتها .
أمّا إذا تهاونت بها في حالة الرخاء والدعة ، ولم تؤكّد عليها ولا تمسّكت بها فهي لا تستطيع القيام بها في حالة الشدّة ومنع الطغاة لها :
أوّلاً : لعدم تفاعلها معها وعدم اعتزازها بها ؛ بسبب ألفتها لتركها حيث لا يكون لها من القوّة والتركز في نفوسها ما يدفعها للقيام بها ، والصراع والتضحية في سبيلها .
وثانياً : لأنّ الحاكم لا يكون معتدياً في منعه لها ؛ ليكون للأُمّة المبرّر في مقاومته والصراع معه ، بل تكون الأُمّة هي المتعدّية والملومة في إقامتها والاهتمام بها بعد أن لم تكن متمسّكة بها من قبل .
حيث تتمحّض النشاطات المذكورة في تحدّي الحاكم ، والشغب ضدّه ، وسبباً طبيعياً لإثارته ، ومبرّراً له في منعها ، والتنكيل بمَنْ يقوم بها ، وقمعه وإنزال عقابه به ، وقسوته معه ، وتخسر الأُمّة أخيراً الصفقة في الصراع ، وهذا أمر حقيق بالتأمّل والتدبّر ، والله سبحانه من وراء القصد ، وهو المسدّد .

تأكيد رجحان إحياء المناسبات المذكورة في بعض الحالات
نعم ، إحياء هذه المناسبات ـ كغيره من جهات الخير ـ يتأكّد رجحانه ، ويزيد ثوابه إذا ترتّب عليه أمر آخر راجح في نفسه ، كتشجيع الآخرين على الخير ، وإغاظة الظالمين ، وكمقارعة الظلم والطغيان ، والجهاد في سبيل إعلان دعوة الحقّ وإعلاء كلمة الله (عزّ وجلّ) وغير ذلك ؛ لتعدّد سبب الثواب فيه حينئذٍ .
ويناسب ذلك ما تضمّنته النصوص الكثيرة من الحثّ على زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) على خوف ووجل(5) ، وإن كان تحديد ذلك فقهياً موكولاً إلى محلّه .
لكنّ ذلك أمر آخر غير ما سبق من دعوى اختصاص أهمّية إحياء المناسبات الشرعية بما إذا كان في إحيائها مقارعة للظلم إلى آخر ما سبق .

في آداب إحياء المناسبات المذكورة
الأمر السادس : إنّه لا بدّ أوّلاً : من الحفاظ على قدسية هذه الممارسات ونزاهتها ، وعدم الخروج بها عن الضوابط الشرعية ، وحسن سلوك القائمين بها ، والتزامهم الديني والخلقي . وقد أكّد أئمّتنا (صلوات الله عليهم) على ذلك عموم ، ومن الطبيعي أن يكون رجحان ذلك هنا آكد ، بل قد ورد عنهم (عليهم السّلام) في بيان آداب الزيارة الشيء الكثير .
وثانياً : من التأكيد على جانب الشجا والحزن ، وما هو الأحرى باستثارة العاطفة والحسرة ، واستدرار الدمعة في مناسبات الأحزان ومجالس العزاء . وليكن الإبداع واستعمال الطاقات منصبّاً إلى هذا الجانب ومعنيّاً به .
ولا يكون الغرض متمحّضاً في الإبداع والتفنن والتجديد من دون مراعاة لهذه الجهة ؛ فإنّ في ذلك خروجاً بهذه الممارسات عن أهدافها السامية التي أكّد عليها أئمّتنا (صلوات الله عليهم) ، وتحجيماً لدورها في خدمة المذهب الحقّ ، وتنقلب إلى مباريات فنّية عقيمة .
وثالثاً : من إبعادها عن أن تكون مسرحاً لإبراز العضلات والتسابق والتشاح من أجل إظهار المميّزات والقدرات الشخصية أو نحوها ؛ لإلفات الأنظار ، وحبّاً في السمعة والجاه ، ونحو ذلك ممّا لا يناسب قدسية هذه الممارسات وسمو أهدافها ، وشرف انتسابها لأهل البيت (صلوات الله عليهم) .
وأولى بذلك إبعادها عن المحرّمات ، كالموسيقى والتبرّج ؛ فإنّها مناسبات دينية روحانية مقدّسة يفترض فيها أن تذكّر بالله (عزّ وجلّ) ، وبقدسية أوليائه وأصفيائه ، وتكون رادعة عن كلّ ما لا يناسب ذلك .
وهذا يجري حتى في مناسبات الأفراح ، كالمواليد الشريفة ونحوها ؛ لأنّها تتعلّق بزمرة القديسين الذين هم سفراء الله (عزّ وجلّ) الناطقون عنه والمذكرون به ، والذين هم مثال الالتزام الديني والأخلاقي .
فنحن في الوقت الذي نفرح فيه لإنعام الله تعالى على البشرية بهم ، ونشكر الله تعالى على توفيقنا لموالاتهم والانتساب لهم ، وإحياء أمرهم ، والفرح لفرحهم ، والحزن لحزنهم ، علينا أن نؤدّي فروض شكر ذلك بطاعة الله تعالى وتجنّب معصيته ، والحفاظ على هيبة تلك الشعائر وقدسيتها .
وليكن في مرتكز القائمين بها وقرارة نفوسهم أنّ المعصومين (صلوات الله عليهم) ـ خصوصاً إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ـ يشرفون على هذه النشاطات والممارسات أو يشاركونهم فيها ؛ ليكون سلوكهم وأداؤهم مناسباً لذلك ، ومنسجماً معه .
بل الله (عزّ وجلّ) لا تخفى عليه خافية ، وهو من ورائهم محيط ، وبيده أسباب التوفيق والخذلان ، والثواب والعقاب ؛ فاللازم مراقبته في كلّ صغيرة وكبيرة تتعلّق بهذه الأمور ، وعدم الخروج بها عمّا يريده (جلّ شأنه) منه .
ولاسيما أنّ الأعداء والمنحرفين يضيقون ذرعاً به ، ويحاولون تهوين أمره ، بل تنشيعه ، ويستغلّون الثغرات والسلبيات ؛ فيغرقون في تضخيمها والتشنيع بها أملاً في صرف الناس عن هذه النشاطات ، وتنفيرهم منها ، وحملهم على الاستهانة بها أو تركها ؛ فلا يحسن بنا أن نعينهم على أنفسنا ، ونحقّق لهم ما يريدون .

لا تكن هذه المناسبات مسرحاً للصراعات
الأمر السابع : اللازم عدم الخروج بهذه الممارسات عمّا شُرّعت له من إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام) ـ في التذكير بمظلوميتهم ، ورفيع مقامهم ، ونشر تعاليمهم ، وما جرى هذا المجرى ـ إلى أمور خارجة عن ذلك ؛ لتكون معرضاً للشعارات المختلفة ، ومسرحاً للصراعات الحادّة ، والاتجاهات المتباينة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان ؛ فإنّ ذلك يشوّه صورتها ويوجب الزهد فيها ، بل قد يتخذ ذريعة لمنعها ، ومبرّراً للقضاء عليها كما مرّت لنا في ذلك تجارب سابقة .
وبذلك ـ لا سمح الله ـ نكون قد خسرنا أضخم دعامة لمذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) حملت لواءه على مرّ العصور وتعاقب الدهور ، وشدّة المحن وظلمات الفتن ، ونتحمّل مسؤولية ذلك أمام الله تعالى ، وأمام أهل البيت (عليهم السّلام) ومبادئهم السامية .
بل ينبغي أن تنسى أو تتناسى الخلافات في سبيل وحدة الهدف من هذه الممارسات وشرفها ، وتكون المناسبات المذكورة محفّزة على التقارب والتركيز على الثوابت والمشتركات .

أهمّية الجهد الفردي مهما تيسّر
الأمر الثامن : من الظاهر أنّ الداعي لإحياء هذه المناسبات الشريفة هو الحبّ والولاء لأهل البيت (صلوات الله عليهم) الذي ينبض به قلب المؤمن ، ويصرخ في أعماق نفسه .
وفي حديث الأربعمئة المعتبر عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنّه قال : (( إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منّا وإلينا ))(6) .
وقد أكّد ذلك الحثّ الشرعي المكثّف ، كما أشرنا إليه آنفاً .
ونتيجة لذلك كلّه يندفع المؤمن لإبراز شعوره على أرض الواقع بدافعه الشخصي النابع من قلبه ، بما يتيسّر له من وسائل التعبير عن هذا الشعور من دون أن يتوقّف على أمر آخر ؛ من تجمّع ، أو تنظيم ، أو قدرات خاصة ... إلى غير ذلك ممّا قد لا يتيسّر لبعض الناس ، أو في بعض الأوقات أو الأحوال .
وكلّ جهد في ذلك ـ مهما قلّ ـ مقبول إن شاء الله تعالى بعد شرف الغاية وسمّوها ، وعظيم الثمرة وبركتها .

حديث مسمع كردين
وفي حديث مسمع كردين عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يا مسمع ، أنت من أهل العراق ، أما تأتي قبر الحسين (عليه السّلام) ؟ )) .
قلت : لا ، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة . وعندنا مَنْ يتبع هوى هذا الخليفة . وعدوّنا كثير [وأعداؤنا كثيرة] من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم ؛ ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثّلون بي [فيميلون عليّ] .
قال لي : (( أفما تذكر ما صُنع به ؟ )) .
قلت : نعم .
قال : (( فتجزع ؟ )) .
قلت : إي والله ، وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ ، فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي .
قال : (( رحم الله دمعتك . أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويخافون لخوفنا ، ويأمنون إذا أمنا .
أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ، ووصيتهم ملك الموت بك ، وما يلقونك به من البشارة أفضل ، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها ... ))(7) .
وهذا من أهم أسباب استمرار شيعة أهل البيت (رفع الله تعالى شأنهم) في إحياء مناسباتهم الشريفة ، وعدم انقطاعهم عنها رغم المعوّقات الكثيرة والصراع المرير ؛ لأنّ التجمّع والقيود والرتابة وغيرها كثيراً ما لا تتيسّر للفرد وللمجتمع ، فلو كان ذلك عائقاً عن إحيائها لتركوه في فترة تعذّر هذه الأمور .
وبتركهم له تخبو جذوة العاطفة نحو الحدث ، ويُنسى تدريجاً ، ويحتاج تذكيرهم به وإرجاعهم إلى ما كانوا عليه إلى جهود مكثفة قد لا تتيسّر ، بل قد لا تثمر .
بخلاف ما إذا شعر كلّ فرد منهم بأنّه يستطيع الاستمرار في إحياء المناسبات المذكورة ولو لوحده ، وبما يتيسّر له وإن قلّ ، فإنّ ذلك موجب لاستمراره في التفاعل بالمناسبة وفي إحيائها ، وفي نقمته وتنمّره من الضغوط الخانقة والعوائق المانعة من تكثف الإحياء وتوسّعه .
حتى إذا ارتفعت العوائق ، وانكسر الطوق الخانق انفجر المخزون العاطفي للأفراد ؛ ليشكّل مظهراً جماهيرياً في إحياء المناسبات يهزّ المجتمع ويدفعه بالاتجاه المذكور ؛ ليحقّق أفضل النتائج كما حصل عياناً في مناسبات كثيرة ، ومنها تجربة العراق الأخيرة .
فاللازم بالدرجة الأولى الاهتمام بالجهد الفردي مهما تيسّر ، والحفاظ عليه والتشبّث به وعدم الاستهانة به مهما قلّ ، ثمّ الاهتمام بتكثيفه وتوسّعه كمّاً وكيفاً مهما أمكن ، تبعاً لاختلاف الظروف والأحوال ، والله (عزّ وجلّ) وراء ذلك ، وهو المسبب للأسباب والميسّر لها ، وإليه يرجع الأمر كلّه .

ثبوت الأجر العظيم على إحياء أمرهم (عليهم السّلام)
الأمر التاسع : استفاضت النصوص ، بل تواترت إجمالاً بعظيم أجر إحياء أمر أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وخصوصاً ما يتعلّق بالإمام الحسين (عليه السّلام) في زيارته والبكاء عليه ، وقول الشعر فيه وغير ذلك على اختلاف أنحاء الأجر من غفران الذنوب ، وإثبات الحسنات ، ورفع الدرجات ، وضمان الجنّة ، والوعد بالشفاعة وغير ذلك كلّ بوجه مكثّف ، وبنحو مذهل كما يظهر بأدنى ملاحظة لتراث أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
وذلك إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أهمية إحياء أمرهم (صلوات الله عليهم) دينياً بنحو يناسب الثمرات المهمّة له في صالح الدين على النحو الذي تقدّم شرحه في محاولتنا هذه .

شبهة أنّ ذلك يشجع على المعصية
نعم ، ربما حامت الشبه أو الوساوس حول ذلك في محاولة استبعاده ـ رغم استفاضة النصوص به ، كما تقدّم ـ لدعوى أنّ في ذلك فسح الطريق للقائمين بممارسات الإحياء لأن يقارفوا المعاصي ، ويأمنوا عقابها ومغبّتها نتيجة ممارساتهم المذكورة .
بل قد يبلغ حدّ التشجيع عليه بلحاظ ما هو المعلوم من كون كثير من المعاصي مرغوباً نفسيّاً رغبة ملحّة ؛ نتيجة الشهوة العارمة ، والغرائز المتوثّبة ، فالتنبيه على غفرانها بهذه الممارسات يؤول إلى التشجيع عليها .

دفع الشبهة المذكورة
لكن من الظاهر أنّ ذلك لا يختصّ بإحياء مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) وجميع ما يتعلّق بهم ، بل ورد في غيرها أيضاً .
قال الله (عزّ وجلّ) : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )(8) .
وفي صحيح الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السّلام) الوارد في شامة ظهرت في آدم لمّا هبط إلى الأرض اسودّ منها جسمه ، وأنّ جبرئيل (عليه السّلام) هبط عليه وأمره بالصلوات الخمس ، فكلّما صلّى واحدة انحطّت الشامة بسوادها للأسفل حتى إذا صلّى الخامسة خرج من الشامة ، وابيضّ جسمه .
فقال له جبرئيل (عليه السّلام) : (( يا آدم ، مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة . مَنْ صلّى من ولدك في كلّ يوم وليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشامة ))(9) .
وممّا ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قوله : (( تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ؛ فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ... ، وإنّها لتحُتّ الذنوب حتّ الورق ، وتطلقها إطلاق الرَبَق(10) ، وشبهها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالحِمّة(11) تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدَرَن(12) ... ))(13) .
وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الحجّ والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ))(14) .
وفي موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( إنّ الله (عزّ وجلّ) ليغفر للحاج ولأهل بيت الحاج ولعشيرة الحاج ولمَنْ يستغفر له الحاج بقيّة ذي الحجّة ، والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من شهر ربيع الآخر ))(15) ... إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة جدّاً الواردة في الصلاة والحجّ وغيرهم .
ومجرّد الوعد أو القطع بغفران الذنوب لا يقتضي التأمين منها المستلزم للتشجيع عليها ، بل هو ـ نظير الحثّ على التوبة والوعد بغفران الذنوب معها ـ من أسباب صلاح الإنسان ؛ لأنّ شعوره بالتخلّص من تبعة الذنوب والتخفّف منه ، وبشرف علاقته بالله (عزّ وجلّ) ، وقبوله تعالى له ، ودخوله في حظيرة طاعته سبحانه ، وكونه مورداً لفيضه وثوابه ، واستشعاره لذّة ذلك ، وانشراح صدره
به ، كلّ ذلك يكون محفّزاً له على المزيد حتى قد ينتهي بصلاحه وتهذيب نفسه وبعده عن التمرّد والعصيان .
وكلّما كان الحثّ من الشارع الأقدس على العمل القربي أشدّ ، والثواب عليه أكثر كشف عن أهمّيته وشدّة قرب القائم به والمؤدّي له عند الله تعالى ، وكان أحرى بإصلاح الإنسان ، وحمله على طاعة الله (عزّ وجلّ) ، وإبعاده عن معصيته .
ولاسيما إذا كان العمل بنفسه مدرسة تربوية تهذّب الإنسان وتذكّره بالله تعالى ، كالصلاة بأفعالها وأذكارها ، والحجّ بمناسكه ومشاعره ، وإحياء أمر أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما يتعلّق بهم ممّا يوجب الانشداد لهم وتأكّد حبّهم والتعلّق بهم ، والتعرّف على تعاليمهم وسلوكهم حيث يوجب القبول منهم والتفاعل بسيرتهم وتعاليمهم .
ولذا لم نعهد مؤمناً ملتزماً في نفسه قد تحلّل وقارف المعاصي نتيجة توفيقه لمثل الصلاة والحجّ ، وإحياء مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام) اتكالاً على عظيم الثواب عليها وتكفيرها للذنوب .
بينما نعهد الكثير من غير الملتزمين قد صار توفيقهم لشيء من هذه الأمور محفّزاً لهم على الالتزام الديني تدريجاً ، وسبباً لصلاحهم وتهذيبهم .

لا محذور في التركيز على نصوص الأجر والثواب
وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا مجال لدعوى أنّ النصوص الشريفة وإن تضمّنت الثواب العظيم على إحياء أمر أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وخصوصاً ما يتعلّق بالإمام الحسين (عليه السّلام) لمصالح هم (عليهم السّلام) أعلم به ، إلاّ إنّه لا يحسن الإعلان بذلك والتأكيد عليه أمام الجمهور ؛ حذراً من اغترارهم بذلك وتسامحهم دينياً اتكالاً عليه .
حيث اتضح ممّا سبق أنّه لا منشأ للحذر المذكور على أنّ النصوص إنّما وردت لإعلام المؤمنين بمضامينها ، وحثّهم على هذه الممارسات من طريق ذلك . فلا وجه لكتمان ذلك ، والامتناع من إعلامهم بها .

رجحان الوعظ والتذكير باهتمام أهل البيت (عليهم السّلام) بالالتزام الديني
نعم ، من الراجح جدّاً وعظ القائمين بهذه الممارسات وحملهم على الالتزام الديني ، وتنبيههم إلى حثّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) لشيعتهم أن يعينوهم بالتقوى والورع ، ويتنافسوا في الدرجات وأن يكونوا زيناً لهم ، ولا يكونوا شيناً عليهم ، وإلى أنّ أعمالهم تُعرض على النبي والأئمّة من آله (صلوات الله عليهم أجميعن) فما كان فيها من حسن سرّهم ، وما كان فيها من سيء أساءهم(16) .
بل الله (عزّ وجلّ) محيط من ورائهم بكلّ شيء ، فقد يكون تورّط العبد بالموبقات سبباً لمقته له مقتاً يستتبع خذلانه تعالى إيّاه ، وسلب نعمة الولاية لأهل البيت (عليهم السّلام) منه ... إلى غير ذلك من وجوه الترغيب والترهيب . وقد سبق أنّ مناسبات إحياء أمرهم (عليهم السّلام) مواسم للتثقيف ، خصوصاً الديني منه .
وذلك أولى من التشكيك فيما استفاض من نصوص أجر الأعمال الصالحة ونصوص الشفاعة ونحوها ، أو إغفالها وحرمان جمهور المؤمنين من الاطلاع عليها ؛ حذراً من اتكالهم عليها ؛ لأنّ ما ذكرنا هو الأنسب بغرض أهل البيت (صلوات الله عليهم) من بيان تعاليمهم الشريفة وثقافتهم الرفيعة .

حديث يزيد بن خليفة
وبالمناسبة قد يحسن ذكر معتبر يزيد بن خليفة ، وهو رجل من بني الحارث بن كعب قال : أتيت المدينة وزياد بن عبيد الله الحارثي عليه ، فاستأذنت على أبي عبد الله (عليه السّلام) ، فدخلت عليه وسلّمت عليه وتمكّنت من مجلسي .
قال : فقلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : إنّي رجل من بني الحارث بن كعب ، وقد هداني الله (عزّ وجلّ) إلى محبّتكم ومودّتكم أهل البيت .
قال : فقال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( وكيف اهتديت إلى مودّتنا أهل البيت ؟ فوالله إنّ محبّتنا في بني الحارث بن كعب لقليل )) .
قال : فقلت له : جعلت فداك ، إنّ لي غلاماً خراساني ، وهو يعمل القصارة ، وله همشهريجون(1) [همشهرجين] أربعة ، وهم يتداعون كلّ جمعة ، فيقع الدعوة على رجل منهم ، فيصيب غلامي كلّ خمس جمع جمعة ، فيجعل لهم النبيذ واللحم . قال : ثمّ إذا فرغوا من الطعام واللحم جاء بإجانة فملأها نبيذاً ، ثمّ جاء بمطهّرة ، فإذا ناول إنساناً منهم قال له : لا تشرب حتى تصلّي على محمد وآل محمد ، فاهتديت إلى مودّتكم بهذا الغلام .
قال : فقال لي : (( استوص به خيراً ، واقرأه منّي السّلام ، وقل له : يقول لك جعفر بن محمد : انظر شرابك هذا الذي تشربه فإنّ كان يسكر كثيره فلا تقربنّ قليله ؛ فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : كلّ مسكر حرام . وقال : ما أسكر كثيره فقليله حرام )) .
قال : فجئت إلى الكوفة ، وأقرأت الغلام السّلام من جعفر بن محمد (عليهم السّلام) . قال : فبكى . ثمّ قال لي : اهتمّ بي جعفر بن محمد (عليهم السّلام) حتى يقرئني السّلام ؟!
قال :
1 ـ يعني : جماعة من أهل بلده . والكلمة فارسية الأصل .
قلت : نعم . وقد قال لي : قل له : (( انظر شرابك هذا الذي تشربه ، فإنّ كان يسكر كثيره فلا تقربنّ قليله ؛ فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام )) . وقد أوصاني بك . فاذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى .
قال : فقال الغلام : والله ، إنّه لشراب ما يدخل جوفي ما بقيت في الدنيا(17) .
هذا ما تيسّر لنا من الحديث عن إحياء فاجعة الطفّ وجميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما يتعلّق بذلك .
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدّ القائمين بإحياء هذه المناسبات بالتسديد والتأييد ، ويشدّ من أزرهم ، ويوفّقهم لاختيار الطريق الأمثل في خدمة قضيتهم ومبدئهم ، ويتقبّلها منهم ، ويشكر سعيهم ، ويُعظِم أجرهم ، ويدفع عنهم ، ويعزّ نصرهم ، ويزيدهم إيماناً وتسليماً ، وتوفّيقاً لطاعته ومجانبة معصيته كما يوفقنا لنكون منهم ، ونحسب عليهم إنّه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين .
وبهذا ينتهي الكلام في المقام . وكان ذلك يوم الجمعة السادس من شهر محرّم الحرام . سنة ألف وأربعمئة وثمان وعشرين للهجرة النبوية (على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية) . في النجف الأشرف ، بيمن الحرم المشرّف (على مشرّفه الصلاة والسّلام) . بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) (عُفي عنه) ، نجل سماحة آية الله (السيد محمد علي) الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته) . حامداً مصلّياً مسلّماً ، وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل .
كما انتهى إعادة النظر فيه وإضافة الشيء الكثير له ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ألف وأربعمئة وتسعة وعشرين للهجرة بيمنى مؤلّفه (عُفي عنه) حامداً مصلّياً مسلّماً .
________________________________________
1 ـ سورة الأعراف / 43 .
2 ـ تقدّم في / 480 ـ 481 .
3 ـ سورة النور / 39 .
4 ـ كامل الزيارات / 480 ـ 481 ، واللفظ له ، الكافي 4 / 589 .
5 ـ كامل الزيارات / 242 ـ 245 .
6 ـ الخصال / 635 ، واللفظ له ، بحار الأنوار 10 / 114 .
7 ـ كامل الزيارات / 203 ـ 204 ، واللفظ له ، بحار الأنوار 44 / 289 ـ 290 .
8 ـ سورة هود / 114 .
9 ـ وسائل الشيعة 3 / 9 ـ 10 باب 2 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح 9 .
10 ـ الرَبَق : جمع ربقة ، وهي عروة الحبل . وقد شبه (عليه السّلام) الذنوب بعرى الحبل التي يربق بها الأسرى ، والصلاة تطلق المذنب منه .
11 ـ الحِمة : العين الحارة الماء ، يستشفي بها الأعلاء والمرضى .
12 ـ الدرن : الوسخ .
13 ـ نهج البلاغة 2 / 178 ـ 179 .
14 ـ وسائل الشيعة 8 / 74 باب 38 من أبواب وجوب الحجّ والعمرة وشرائطه ح 43 .
15 ـ وسائل الشيعة 8 / 71 باب 38 من أبواب وجوب الحجّ والعمرة وشرائطه ح 31 .
16 ـ راجع وسائل الشيعة 11 باب 101 من أبواب جهاد النفس .
17 ـ الكافي 6 / 411 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page