• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سياسية عثمان الماليّة والإداريّة ونتائجها

 

سياسية عثمان الماليّة والإداريّة
وسار عثمان حين ولي الخلافة على سياسة في المال لم يعهدها المسلمون ممّن تقدّمه ، ولم يألفوها ؛ فقد راح يغدق الهبات الضخمة على آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش ، وعلى بعض أعضاء الشّورى بصورة خاصّة .
ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصّة لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنّها كانت من بيت المال الذي يشترك فيه المسلمون جميعاً . وقد سار عمّال عثمان في أنحاء الخلافة سيرته في المدينة ، فانكفؤوا على بيوت الأموال المحلية ينفقونها على آلهم وأنصارهم والمقرّبين إليهم(1) .
وقام عثمان بإجراء مالي فتح به للطّبقة الثريّة التي كان يخصّها بهباته وعطاياه أبواباً من النشاط المالي ، وأتاح لهم فرص التّمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك حين اقترح أن ينقل الناس فيهم من الأرض إلى حيث أقاموا ؛ فلمَنْ كان له أرض في العراق ، أو في الشام ، أو في مصر أن يبيعها ممّن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب .
وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء ، فاشتروا بأموالهم المُكدّسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا بأرضهم الحجاز أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والأحرار يعملون فيها ويستثمرونها ، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً ، وازدادت هذه الطّبقة الطّامحة إلى الحكم والطّامحة إلى السيادة قوّة إلى قوّتها .
وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على هذه الثروات الضّخمة في ذلك الوقت , « فقد بلغت ثورة الزبير خمسين ألف دينار ، وألف فرس ، وألف عبد ، وضياعاً وخططاً في البصرة ، والكوفة ، ومضر ، والإسكندرية .
وكانت غلّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر ، وبناحية الشّراة أكثر ممّا ذكرنا . وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة ، وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً .
وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار . ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمئة ألف دينار ، وديوناً ، وعقارات وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار .
أمّا عثمان نفسه فكان له يوم قُتل عند خازنه مئة وخمسون ألف دينار ، ومليون درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى ، وحنين وغيرهما مئة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً » .
ثمّ قال المسعودي بعد ذلك : « وهذا باب يتّسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمَنْ تملّك الأموال في أيّامه »(2) .
وقد جدّت إلى جانب هذه الطّبقة الثريّة طبقة أُخرى فقيرة ، لم تملك أرضاً ولا مالاً ، وليس لها عطاءات ضخمة ، تلك هي طبقة الجنود المُقاتلين وأهلهم وذراريهم .
وقد تكوّنت هذه الطبقة باستئثار عثمان وعمّاله بالفيء والغنائم لأنفسهم والمُقرّبين منهم ، وحرمان المقاتلين منها ؛ مدّعين أنّ الفيء لله وليس للمحارب إلاّ أجر قليل يُدفع إليه(3) .
أمّا السّواد ، سواد العراق ، فهو ـ على حدّ تعبير سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة ـ « إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت »(4) .
وأمّا أموال بيت المال فقد قال عثمان نفسه عنها : « لنأخُذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام »(4) .
ومضت الأيّام , والأحداث تزيد الهُوّة اتّساعاً بين هاتين الطبقتين ؛ فبينما تزداد الطّبقة الإرستقراطية الثريّة ثراء وتسلّطاً ، وتُمعن في اللهو والبطالة والعبث بحيث يُشارك بعض أولاد الخليفة نفسه في اللهو الحرام والمجون(6) , تُزداد الطّبقة الأُخرى فقراً وإحساساً بهذا الفقر .
ولم يكن المُسلمون بحاجة إلى وقت طويل ليتبيّن لهم أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا السّلطان الفعلي على المُسلمين إلى آله وذوي قرابته من بني أُميّة وآل أبي معيط ؛ فقد اتّضح في وقت مبكّر أنّ عثمان ليس إلاّ واجهة يكمن خلفها الاُمويّون . وسرعان ما عزّزت الأحداث هذا ؛ وذلك إنّ عثمان أسند إلى آله وذويه الولايات الكبرى في دولة الخلافة ، وهي : البصرة والكوفة ، والشام ومصر .
وهذه الولايات الكبرى الأربع هي الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع . فهي مركز الثروة المالية ، والزراعية لدولة الخلافة منها تُحمل الأموال والأقوات ، وهي مركز تجمّع الجيوش الإسلاميّة الوافدة من شتى بقاع الدولة ، وهي مركز عمليات الفتح الكبرى التي كانت إذ ذاك لا تزال في أوجها ، وما عدا هذه الولايات فذو شأن ثانوي لا يُؤبه له ، ولا يُلتف إليه .
لقد ولّى عثمان على البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز ، وعمره خمس وعشرون سنة ، وولّى على الكوفة أخاه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثمّ عزله تحت ضغط الرأي العام بعد أن ثبت عليه شرب الخمر والتهتّك ، وولّى مكانه سعيد بن العاص ، وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن فضمّ إليه عثمان ولاية حمص ، وفلسطين ، والجزيرة ، وبذلك مدّ له في أسباب السّلطان إلى أبعد مدى مُستطاع ، وولّى مصر أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
كان هؤلاء الولاة جميعاً من قرابة عثمان ، ولم يكن سلوكهم الديني أو الإداري أو هما معاً في أمصارهم ومع رعيتهم مُرضياً ومقبولاً ؛ فقد كانوا جميعاً من قريش ، وكانوا في تصرّفاتهم لا يخفون قبليتهم وتعصّبهم على غير قريش من قبائل العرب ؛ ففي الكوفة تجبّر سعيد بن العاص وتعصّب لقريش ، وقال : « إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت »(7) .
فلمّا اعترضه المسلمون من غير قريش نفاهم إلى الشام ، وإذا بمعاوية يناظرهم في فضل قريش وتقدّمها على سائر المسلمين ، فلمّا أنكروا عليه ذلك نفاهم إلى الجزيرة ـ وأميرها من قبل معاوية عبد الله بن خالد بن الوليد المخزومي ـ فأذلّهم ، وأظهر لهم سيادة قريش بامتهانه لهم ، وتحقيره لشأنهم ، وحطّه من مقامهم .
وفي مصر قسا عبد الله بن سعد في جباية الخراج ، فظلم وأسرف في الظلم ، ثمّ أظهر من العصبيّة لقريش ما أثار غير قريش من العرب المسلمين ودفعهم إلى أن يشكوه إلى عثمان ، فلمّا كتب إليه عثمان يأمره بالإقلاع عمّا هو عليه عدا على الشهود فعاقبهم ، وضرب رجلاً منهم حتّى قتله .
ولم يكن ولاة عثمان هؤلاء من ذوي السابقة في الدين والجهاد في الإسلام ، وإنّما كانوا متّهمين في دينهم , بل كان فيهم من أمره في الفسق ورِقّة الدين معروف مشهور .
كان فيهم عبد الله بن سعد الذي بالغ في إيذاء النبي (صلّى الله عليه وآله) والسُّخر منه ، وبالغ في الهُزء بالقرآن حتّى نزل القرآن بكفره ، والوليد بن عقبة ممّن أمره في الفُسق معروف مشهور ، وقد نزل فيه قرآن يُعلن فسقه .
وكان المُسلمون ـ أعيانهم وعامّتهم ـ يُراجعون عثمان في شأن هؤلاء الولاة من أقاربه ، ويطلبون منه عزلهم فلا يعزلهم ، ولا يسمع فيهم أيّة شكوى إلاّ كارهاً .
هذه السياسة التي سلكها عثمان في الولايات أثارت عليه وعلى عهده موجة عامّة من السّخط بين المسلمين ؛ لِما رأوه فيه من عصبية قبلية يمارسها هو وولاته من قريش .
وأثارت عليه سخط المسلمين والمعاهدين من غير العرب ؛ لِما عوملوا به من امتهان وقسوة من قبل ولاته وعمّاله , وأثارت عليه سخط الصحابة ؛ لأنّه ولّى أمور المسلمين وأموالهم وأبشارهم هؤلاء الغُلمة القرشيين الذين لا يحترمون الدين ولا يأبهون له ، والذين يظلمون دون أن يَردوا من قِبل عثمان .
وأثارت عليه سخط الأنصار ؛ لأنّهم حُرموا من الولايات بعد أن وعُدوا بأن يكونوا شركاء في الحكم ، ولم ينس الأنصار يوماً أنّ سيوفهم وقتلاهم وأموالهم هي التي بوّأت قريشاً هذه المنزلة .
وأثارت سخط شباب قريش والطامحين إلى الحكم من أعضاء الشورى ؛ لأنّهم أُهملوا ولم ينالوا ولاية من هذه الولايات .

موقف عثمان من معارضيه
ولقد كان سُلوك عثمان إزاء مُعارضي سياسته في المال والإدارة من كبار الصحابة سبباً في مُضاعفة النّقمة عليه في قريش وفي عامّة المسلمين ، وعاملاً مهمّاً من عوامل تعقيد الأزمة التي عاناها عثمان وعاناها المسلمون في عهد عثمان ؛ فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة ، وكان خازناً لبيت المال ، فاعترضه عثمان بقوله : « إنّما أنت خازن لنا » .
ثمّ اشتدّت معارضة ابن مسعود فأمر عثمان بضربه حتّى كسر بعض أضلاعه(8) , وعارضه أبو ذرّ الغفاري فنفاه إلى الشام(9) ، فلم يكُفّ عن المُعارضة ، بل أمدته أساليب معاوية في الناس بمادة جديدة ، فأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة ، وصادف كلامه هوى في نفوس رعية معاوية ، فكتب بشأنه إلى عثمان ، فأرسل إليه عثمان : « أرسل إليّ جندباً ـ وهذا اسم أبي ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره » .
فوصل أبو ذرّ إلى المدينة وقد تآكل لحم فخذيه من عنف السير ، ولكنّه لم يكُفّ عن المعارضة أيضاً ، فنفاه عثمان إلى الربذة ، ولبث فيها حتّى مات غريباً وحيداً سنة 32 هـ(10) .
وعارضه عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم ، فشتمه عثمان وضربه حتّى غُشي عليه سائر النهار ، ولكنّ هذا العنف لم يثنِ عماراً فاستمر في معارضته ، فشتمه عثمان وأمر به فطرح على الأرض ، ووطئه برجليه وهما في الخف حتّى أصابه الفتق(11) .
وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يقدم عليها ، والسياسة التي كان ينتهجها ، فلم يسمع منهم ولم يستجيب لهم .
وقد كانت هذه المُعارضة تشيع في المسلمين فينتظرون من عثمان أن يستجيب لها ؛ لأنّها كانت معارضة قائمة على إدراك حاجات المجتمع ، وكانت تعبيراً عن عدم رضا المسلمين عن السياسة التي كانوا يُساسون بها ، ولكنّهم بدل ذلك كانوا يرون ويسمعون أنّ عثمان وآله قد نكّلوا بالمعارضين هذا التنكيل الشديد ، ومسّوهم بهذا الأذى البالغ ، ولم يستجيبوا إلى شيء ممّا دعوا إليه .
وقد أثار موقفه هذا سخط عامّة المسلمين ؛ فهؤلاء المعارضون من أعلام الصحابة وأركان الدعوة ، يمتهنهم عثمان ويضطهدهم لدعائهم إيّاه إلى الإصلاح في الوقت الذي يسمع فيه من مروان بن الحكم وأشباهه من بني أُميّة وأنصارهم من مسلمة الفتح الطلقاء ، الذين ليس لهم سابقة ولا مكانة في الإسلام .
وهؤلاء المعارضون كانوا يعبّرون بمعارضتهم هذه عن إرادة جميع المسلمين الذي آذتهم سياسة عثمان في كراماتهم وأرزاقهم ، ولم يُفسّر المسلمون موقف عثمان من المعارضين إلاّ بأنّه عازم على المضي في سياسته دون الالتفات إلى أيّ نُصح أو تحذير .
وإلى جانب هذه المعارضة الصادقة المخلصة ، الهادفة إلى خير المسلمين جميعاً كانت توجد معارضة أخرى مدفوعة بأسباب مُغايرة ، وتستهدف نتائج مُغايرة .
وقد رأى زعماء هذه المعارضة في فساد الأوضاع العامّة ، وشيوع التذمّر والنقد فرصة يستغلّونها لاستعجال نهاية عهد عثمان التي تُمكّنهم من الوصول إلى مآربهم ، فأخذوا يُساهمون في نشر رُوح التذمّر وتعميقها .
وقد مكّن عثمان بسياسته الإدارية لهذه الطائفة من معارضيه أسباب القوّة والنفوذ ؛ وذلك حين أطلق لها أن تُنمي ثرواتها إلى أبعد مدى بإجرائه الذي قدّمنا الحديث عنه في الأراضي ، وتكوين الإقطاعات الضّخمة , وحين أطلق لها أن تُغادر المدينة إلى البلاد المفتوحة ؛ حيث راح أفرادها يستكثرون لأنفسهم من الأموال ، ويستكثرون من الأتباع ، ويُمنّون أنفسهم بالوصول إلى الخلافة ، ويمنّيهم بذلك أتباعهم وقبائلهم .
وقد أشار الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين إلى هذه الحقيقة فقال : « كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن وأجل(12) .
فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر , فانساحوا في البلاد ، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع مَنْ لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموراً في الناس ، وصاروا أوزاعاً إليهم ، وأمّلوهم وتقدّموا في ذلك ، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم ، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم ، فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام ، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلاّ ذلك »(13) .
وقال في موضع آخر : « ... فلمّا ولي عثمان خلى عنهم ، فاضطربوا في البلاد ، وانقطع إليهم الناس ... »(14) .

نتائج سياسة عثمان
فإذا لاحظنا أنّ عثمان فتح باب الهجرة أمام قريش فانساحوا في البلاد يستصلحون الأموال ، ويُكوّنون الثروات ، ويجمعون حولهم الأنصار بالمال ، والأصهار إلى قبائل العرب ، وبسمعتهم الدينية التي جاءتهم من صحبتهم للنبي (صلّى الله عليه وآله) , وسبقهم إلى الإسلام ، وجهادهم في سبيله .
وإنّ سلوك عمّال عثمان على الأمصار الكبرى ، وسلوك عثمان نفسه في المدينة مع ناصحيه والمشفقين عليه , وعلى الناس من سلوكه , كان يُقدّم للمسلمين أسباب التذمّر والشكوى ، وأنّ هؤلاء الصحابة من قريش كانوا يرون هذا ويسمعونه ويشاركون فيه ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما خلّفه تدبير الشّورى لدى هؤلاء من طموح إلى الخلافة ، وسعي في سبيلها ... إذا لاحظنا هذا كلّه اتّسقت لأعيننا الخطوط البارزة ، والعوامل الأساسية في ثورة المسلمين على عثمان وعلى عهده .
طبقة ارستقراطية دينية كوّنتها السقيفة بما بعثت من مركز قريش ، غدت ـ بالإضافة إلى ارستقراطيتها الدينية ـ تتمتّع بثروات طائلة بسبب مبدأ التفضيل في العطاء ، وسياسة عثمان في المال ، والأرض ، والهجرة ، وقد كوّن مبدأ الشّورى في نفوس كثير من أفرادها الطموح إلى الحكم ممّا دفعهم إلى استغلال كلّ الظروف المواتية للوصول إلى هذا الهدف ، يُقابل هذه الطبقة طبقة المحاربين والمسلمين الجُدد المحرومة من كافة الامتيازات ، والتي كانت أسباب تذمّرها مُتوفّرة .
لقد كانت جماهير المحاربين هي مادة الثورة ، أمّا وقودها فهو تصرّفات عثمان وولاته وآل بيته ، وأمّا الذي أجّجها فهم أصحاب المصلحة فيها . هم هؤلاء الزعماء الذين أوتوا من الطموح ما جعل الخلافة هدفهم ، ومن المال والمنزلة الدينية ما مكّنهم من جمع الأنصار حولهم ، ومن سوء الأوضاع ما سهّل عليهم أن يعدّوا الناس بخير ممّا هم فيه .
* * *
وقد تمخّضت هذه الملابسات والظروف السيئة عن حركة عامّة ، إن فقدت النظام بالمعنى الحزبي الدقيق ، فإنّها لم تفقد وحدة الأفكار الدافعة ، والأهداف المشتركة .
وقد سلك عثمان وبطانته من الاُمويِّين والمنتفعين تجاه هذه الحركة سلوكاً بعيداً عن الحكمة والعدل ؛ فبدلاً من أن تُجاب مطالب الثوّار رُدوا بعنف ، واستُهين بهم ، وجوبهوا بسياسة قاسية هي هذه السياسة التي تمخّض عنها مؤتمر عثمان مع عمّاله على الأمصار ، والتي قدّم لنا الطبري صورة عنها : « ... فقال له عبد الله بن عامر : رأيي يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تُجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دُبرة دابته ، وقمّل فروه ...
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ،وأمرهم بالتّضييق على مَنْ قبلهم ، وأمرهم بتجمير(15) الناس في البعوث ، وعزم على تحريم(16)  اُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه »(17) .
ولكنّ هذه الإجراءات العنيفة زادت نار المقاومة اشتعالاً ، بدل أن تُخفّف من شدّتها ؛ فقد رأى هؤلاء المحاربون الفقراء أنّهم خُدعوا ، فتكتّلوا من الكوفة والبصرة ، ومصر والحجاز ، ومن هنا وهناك للقيام بمسعى جماعي لإرغام عثمان على تغيير بطانته التي اعتبروها مسؤولة عن كثير من المآسي ، وتبديل عمّاله الذي أساؤوا السيرة ، وجاروا على الرعية ... وتغيير سياسته المالية .
وبينما كان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يُسفر بين الثوار وبين الخليفة ، فيُهدئ من ثورة اُولئك ، وينبّه عثمان وينصحه بالاستقامة والعدل ، نرى أنّ الآخرين من الطامحين إلى الخلافة ينتهزون فرصة ثورة الجماهير للوصول إلى هدفهم ، فيؤجّجون الثورة ، ويزيدون النّقمة اشتعالاً ، ويبذلون الأموال الطائلة في تمويل الثورة ، واصطناع قادتها ، وتسليح أفرادها .
وبلغت المأساة قمّتها بمقتل عثمان .
________________________________________

(1) انظر : مروج الذهب 2 / 341 ، أنساب الأشراف 5 / 25 ـ 28 , 48 , 54 , وغيرهما .
(2) انظر : مروج الذهب 1 / 34 , 2 / 341 ـ 343 ، الطبقات الكبرى 3 / 78 , 136 ، تأريخ الأمم والملوك 5 / 134 .
(3) انظر تاريخ الإسلام ـ حسن إبراهيم حسن 1 / 358 .
(4) انظر : تأريخ الطبري 3 / 365 ، الكامل في التأريخ 3 / 137 ، تأريخ مدينة دمشق 21 / 114 ، الطبقات الكبرى 5 / 32 ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 129 ، مروج الذهب 2 / 346 .
(5) انظر شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 3 / 49 .
(6) « قُتل عثمان وابنه الوليد ـ وكان صاحب شراب وفتوّة ومجون ـ وهو مُخَلق الوجه ، سكران ، عليه مصبغات واسعة » . انظر : مروج الذهب 2 / 341 ، المعارف ـ لابن قتيبة / 202 (دار الكتب / 1960) .
(7) انظر : تأريخ الطبري 3 / 365 ، الكامل في التأريخ 3 / 127 ، تأريخ مدينة دمشق 21 / 114 ، الطبقات الكبرى 5 / 32، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 129 ، مروج الذهب 2 / 346 .
(8) أبو عبد الرحمن ، وكان إسلامه قبل إسلام عمر بن الخطاب بزمان ، وشهد بيعة الرضوان ، وكان على قضاء الكوفة . انظر : المعارف ـ لابن قتيبة / 249 ، أُسد الغابة 3 / 384 ، سيرة ابن هشام 1 / 314 ، السيرة النبوية 2 / 82 ، مستدرك الحاكم 3 / 337 , 345 ، تأريخ الطبري 5 / 80 , 94 ، مسند أحمد 5 / 155 , 166 , 6 / 457 ، كنز العمال 6 / 29 , 170 ، العقد الفريد 3 / 91 ، تأريخ أبي الفداء 1 / 168 ، الإصابة 3 / 619 ، الطبقات ـ لابن سعد 5 / 8 ، أنساب الأشراف 5 / 28 .
(9) أبو ذرّ الغفاري : هو جندب بن السكن ، ولقبه بربر ، وقيل : اسمه بُريد بن جنادة ، وقيل : اسمه جندب بن جنادة وهو من غفار قبيلة من كنانة ، وهو : غفار بن مُليل بن حمزة بن بكى بن عبد مناة بن كنانة بن خُزيمة .
قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأسلم , ورجع إلى بلاد قومه فأقام ، ثم رجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ولكنّ عثمان نفاه إلى الربذة ، وليس له عقب . كان رابع أربعة سبقوا إلى الإسلام . انظر الطبقات الكبرى ـ لابن سعد 4 ق1 / 161 ، مسند أحمد 2 / 163 , 175 , 223 , 5 / 147 , 155 , 159 , 165 ـ 166 , 172 , 174 , 351 , 356 , 6 / 442 ، المستدرك 3 / 342 ، صحيح البخاري ـ مناقب أبي ذرّ ، صحيح البخاري وصحيح مسلم في باب المناقب ، سنن ابن ماجة ـ الباب الأوّل من المقدّمة ، مسند الطيالسي ح458 ، التقريب 2 / 420 . روى عنه أصحاب الصحاح (281) حديثاً .
(10) انظر : المصابيح ـ لأحمد بن إبراهيم / 288 .
(11) انظر : المصدر نفسه ، العقد الفريد 3 / 77 , 91 ، السيرة النبوية 2 / 82 , الطبعة الثانية مصر ، شرح النهج 1 / 66 , 233 ، مستدرك الحاكم 3 / 337 , 345 ، ابن الأثير 3 / 65 , 73 ، تأريخ الطبري 5 / 80 , 94 ، مسند أحمد 5 / 155 , 166 , 6 / 457 ، كنز العمال 6 / 170 ، المعارف ـ لابن قتيبة / 84 ، ابن كثير 7 / 452 ، تأريخ أبي الفداء 1 / 168 ، الإصابة 3 / 619 ، سنن البيهقي 8 / 61 ، الطبقات ـ لابن سعد 5 / 8 ، أنساب الأشراف 5 / 28 ، مرآة الجنان 1 / 85 ، كلّ هذه المصادر وغيرها نقلت لنا هذه المساوئ العثمانية بشكل مفصّل ، فمَنْ أراد المزيد فليراجع .
(12) قال عمر لمّا استأذنه الزبير بن العوام في الغزو « ها إنّي ممسك بثياب هذا الشعب أن يتفرّق أصحاب محمد في الناس فيُضلّوهم » انظر : شرح نهج البلاغة 20 / 20 . منه (رحمه الله) .
(13) انظر : تأريخ الطبري 5 / 134 .
(14) انظر : تأريخ الطبري 5 / 134 .
(15) جمر الناس : جمعهم . وجمر الجيش : حبسهم في أرض العدو ولم يقفهم (قاموس) . انظر : لسان العرب 4 / 146 . يريد عثمان من عمّاله أن يجمعوا الناس في البعوث العسكرية الطويلة الأمد ، لا يردّوهم إلى أوطانهم .
(16) حرم : منع .
(17) انظر : تأريخ الطبري 3 / 373 ـ 374 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page