سياسية عثمان الماليّة والإداريّة
وسار عثمان حين ولي الخلافة على سياسة في المال لم يعهدها المسلمون ممّن تقدّمه ، ولم يألفوها ؛ فقد راح يغدق الهبات الضخمة على آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش ، وعلى بعض أعضاء الشّورى بصورة خاصّة .
ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصّة لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنّها كانت من بيت المال الذي يشترك فيه المسلمون جميعاً . وقد سار عمّال عثمان في أنحاء الخلافة سيرته في المدينة ، فانكفؤوا على بيوت الأموال المحلية ينفقونها على آلهم وأنصارهم والمقرّبين إليهم(1) .
وقام عثمان بإجراء مالي فتح به للطّبقة الثريّة التي كان يخصّها بهباته وعطاياه أبواباً من النشاط المالي ، وأتاح لهم فرص التّمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك حين اقترح أن ينقل الناس فيهم من الأرض إلى حيث أقاموا ؛ فلمَنْ كان له أرض في العراق ، أو في الشام ، أو في مصر أن يبيعها ممّن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب .
وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء ، فاشتروا بأموالهم المُكدّسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا بأرضهم الحجاز أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والأحرار يعملون فيها ويستثمرونها ، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً ، وازدادت هذه الطّبقة الطّامحة إلى الحكم والطّامحة إلى السيادة قوّة إلى قوّتها .
وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على هذه الثروات الضّخمة في ذلك الوقت , « فقد بلغت ثورة الزبير خمسين ألف دينار ، وألف فرس ، وألف عبد ، وضياعاً وخططاً في البصرة ، والكوفة ، ومضر ، والإسكندرية .
وكانت غلّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر ، وبناحية الشّراة أكثر ممّا ذكرنا . وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة ، وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً .
وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار . ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمئة ألف دينار ، وديوناً ، وعقارات وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار .
أمّا عثمان نفسه فكان له يوم قُتل عند خازنه مئة وخمسون ألف دينار ، ومليون درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى ، وحنين وغيرهما مئة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً » .
ثمّ قال المسعودي بعد ذلك : « وهذا باب يتّسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمَنْ تملّك الأموال في أيّامه »(2) .
وقد جدّت إلى جانب هذه الطّبقة الثريّة طبقة أُخرى فقيرة ، لم تملك أرضاً ولا مالاً ، وليس لها عطاءات ضخمة ، تلك هي طبقة الجنود المُقاتلين وأهلهم وذراريهم .
وقد تكوّنت هذه الطبقة باستئثار عثمان وعمّاله بالفيء والغنائم لأنفسهم والمُقرّبين منهم ، وحرمان المقاتلين منها ؛ مدّعين أنّ الفيء لله وليس للمحارب إلاّ أجر قليل يُدفع إليه(3) .
أمّا السّواد ، سواد العراق ، فهو ـ على حدّ تعبير سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة ـ « إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت »(4) .
وأمّا أموال بيت المال فقد قال عثمان نفسه عنها : « لنأخُذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام »(4) .
ومضت الأيّام , والأحداث تزيد الهُوّة اتّساعاً بين هاتين الطبقتين ؛ فبينما تزداد الطّبقة الإرستقراطية الثريّة ثراء وتسلّطاً ، وتُمعن في اللهو والبطالة والعبث بحيث يُشارك بعض أولاد الخليفة نفسه في اللهو الحرام والمجون(6) , تُزداد الطّبقة الأُخرى فقراً وإحساساً بهذا الفقر .
ولم يكن المُسلمون بحاجة إلى وقت طويل ليتبيّن لهم أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا السّلطان الفعلي على المُسلمين إلى آله وذوي قرابته من بني أُميّة وآل أبي معيط ؛ فقد اتّضح في وقت مبكّر أنّ عثمان ليس إلاّ واجهة يكمن خلفها الاُمويّون . وسرعان ما عزّزت الأحداث هذا ؛ وذلك إنّ عثمان أسند إلى آله وذويه الولايات الكبرى في دولة الخلافة ، وهي : البصرة والكوفة ، والشام ومصر .
وهذه الولايات الكبرى الأربع هي الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع . فهي مركز الثروة المالية ، والزراعية لدولة الخلافة منها تُحمل الأموال والأقوات ، وهي مركز تجمّع الجيوش الإسلاميّة الوافدة من شتى بقاع الدولة ، وهي مركز عمليات الفتح الكبرى التي كانت إذ ذاك لا تزال في أوجها ، وما عدا هذه الولايات فذو شأن ثانوي لا يُؤبه له ، ولا يُلتف إليه .
لقد ولّى عثمان على البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز ، وعمره خمس وعشرون سنة ، وولّى على الكوفة أخاه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثمّ عزله تحت ضغط الرأي العام بعد أن ثبت عليه شرب الخمر والتهتّك ، وولّى مكانه سعيد بن العاص ، وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن فضمّ إليه عثمان ولاية حمص ، وفلسطين ، والجزيرة ، وبذلك مدّ له في أسباب السّلطان إلى أبعد مدى مُستطاع ، وولّى مصر أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
كان هؤلاء الولاة جميعاً من قرابة عثمان ، ولم يكن سلوكهم الديني أو الإداري أو هما معاً في أمصارهم ومع رعيتهم مُرضياً ومقبولاً ؛ فقد كانوا جميعاً من قريش ، وكانوا في تصرّفاتهم لا يخفون قبليتهم وتعصّبهم على غير قريش من قبائل العرب ؛ ففي الكوفة تجبّر سعيد بن العاص وتعصّب لقريش ، وقال : « إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت »(7) .
فلمّا اعترضه المسلمون من غير قريش نفاهم إلى الشام ، وإذا بمعاوية يناظرهم في فضل قريش وتقدّمها على سائر المسلمين ، فلمّا أنكروا عليه ذلك نفاهم إلى الجزيرة ـ وأميرها من قبل معاوية عبد الله بن خالد بن الوليد المخزومي ـ فأذلّهم ، وأظهر لهم سيادة قريش بامتهانه لهم ، وتحقيره لشأنهم ، وحطّه من مقامهم .
وفي مصر قسا عبد الله بن سعد في جباية الخراج ، فظلم وأسرف في الظلم ، ثمّ أظهر من العصبيّة لقريش ما أثار غير قريش من العرب المسلمين ودفعهم إلى أن يشكوه إلى عثمان ، فلمّا كتب إليه عثمان يأمره بالإقلاع عمّا هو عليه عدا على الشهود فعاقبهم ، وضرب رجلاً منهم حتّى قتله .
ولم يكن ولاة عثمان هؤلاء من ذوي السابقة في الدين والجهاد في الإسلام ، وإنّما كانوا متّهمين في دينهم , بل كان فيهم من أمره في الفسق ورِقّة الدين معروف مشهور .
كان فيهم عبد الله بن سعد الذي بالغ في إيذاء النبي (صلّى الله عليه وآله) والسُّخر منه ، وبالغ في الهُزء بالقرآن حتّى نزل القرآن بكفره ، والوليد بن عقبة ممّن أمره في الفُسق معروف مشهور ، وقد نزل فيه قرآن يُعلن فسقه .
وكان المُسلمون ـ أعيانهم وعامّتهم ـ يُراجعون عثمان في شأن هؤلاء الولاة من أقاربه ، ويطلبون منه عزلهم فلا يعزلهم ، ولا يسمع فيهم أيّة شكوى إلاّ كارهاً .
هذه السياسة التي سلكها عثمان في الولايات أثارت عليه وعلى عهده موجة عامّة من السّخط بين المسلمين ؛ لِما رأوه فيه من عصبية قبلية يمارسها هو وولاته من قريش .
وأثارت عليه سخط المسلمين والمعاهدين من غير العرب ؛ لِما عوملوا به من امتهان وقسوة من قبل ولاته وعمّاله , وأثارت عليه سخط الصحابة ؛ لأنّه ولّى أمور المسلمين وأموالهم وأبشارهم هؤلاء الغُلمة القرشيين الذين لا يحترمون الدين ولا يأبهون له ، والذين يظلمون دون أن يَردوا من قِبل عثمان .
وأثارت عليه سخط الأنصار ؛ لأنّهم حُرموا من الولايات بعد أن وعُدوا بأن يكونوا شركاء في الحكم ، ولم ينس الأنصار يوماً أنّ سيوفهم وقتلاهم وأموالهم هي التي بوّأت قريشاً هذه المنزلة .
وأثارت سخط شباب قريش والطامحين إلى الحكم من أعضاء الشورى ؛ لأنّهم أُهملوا ولم ينالوا ولاية من هذه الولايات .
موقف عثمان من معارضيه
ولقد كان سُلوك عثمان إزاء مُعارضي سياسته في المال والإدارة من كبار الصحابة سبباً في مُضاعفة النّقمة عليه في قريش وفي عامّة المسلمين ، وعاملاً مهمّاً من عوامل تعقيد الأزمة التي عاناها عثمان وعاناها المسلمون في عهد عثمان ؛ فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة ، وكان خازناً لبيت المال ، فاعترضه عثمان بقوله : « إنّما أنت خازن لنا » .
ثمّ اشتدّت معارضة ابن مسعود فأمر عثمان بضربه حتّى كسر بعض أضلاعه(8) , وعارضه أبو ذرّ الغفاري فنفاه إلى الشام(9) ، فلم يكُفّ عن المُعارضة ، بل أمدته أساليب معاوية في الناس بمادة جديدة ، فأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة ، وصادف كلامه هوى في نفوس رعية معاوية ، فكتب بشأنه إلى عثمان ، فأرسل إليه عثمان : « أرسل إليّ جندباً ـ وهذا اسم أبي ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره » .
فوصل أبو ذرّ إلى المدينة وقد تآكل لحم فخذيه من عنف السير ، ولكنّه لم يكُفّ عن المعارضة أيضاً ، فنفاه عثمان إلى الربذة ، ولبث فيها حتّى مات غريباً وحيداً سنة 32 هـ(10) .
وعارضه عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم ، فشتمه عثمان وضربه حتّى غُشي عليه سائر النهار ، ولكنّ هذا العنف لم يثنِ عماراً فاستمر في معارضته ، فشتمه عثمان وأمر به فطرح على الأرض ، ووطئه برجليه وهما في الخف حتّى أصابه الفتق(11) .
وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يقدم عليها ، والسياسة التي كان ينتهجها ، فلم يسمع منهم ولم يستجيب لهم .
وقد كانت هذه المُعارضة تشيع في المسلمين فينتظرون من عثمان أن يستجيب لها ؛ لأنّها كانت معارضة قائمة على إدراك حاجات المجتمع ، وكانت تعبيراً عن عدم رضا المسلمين عن السياسة التي كانوا يُساسون بها ، ولكنّهم بدل ذلك كانوا يرون ويسمعون أنّ عثمان وآله قد نكّلوا بالمعارضين هذا التنكيل الشديد ، ومسّوهم بهذا الأذى البالغ ، ولم يستجيبوا إلى شيء ممّا دعوا إليه .
وقد أثار موقفه هذا سخط عامّة المسلمين ؛ فهؤلاء المعارضون من أعلام الصحابة وأركان الدعوة ، يمتهنهم عثمان ويضطهدهم لدعائهم إيّاه إلى الإصلاح في الوقت الذي يسمع فيه من مروان بن الحكم وأشباهه من بني أُميّة وأنصارهم من مسلمة الفتح الطلقاء ، الذين ليس لهم سابقة ولا مكانة في الإسلام .
وهؤلاء المعارضون كانوا يعبّرون بمعارضتهم هذه عن إرادة جميع المسلمين الذي آذتهم سياسة عثمان في كراماتهم وأرزاقهم ، ولم يُفسّر المسلمون موقف عثمان من المعارضين إلاّ بأنّه عازم على المضي في سياسته دون الالتفات إلى أيّ نُصح أو تحذير .
وإلى جانب هذه المعارضة الصادقة المخلصة ، الهادفة إلى خير المسلمين جميعاً كانت توجد معارضة أخرى مدفوعة بأسباب مُغايرة ، وتستهدف نتائج مُغايرة .
وقد رأى زعماء هذه المعارضة في فساد الأوضاع العامّة ، وشيوع التذمّر والنقد فرصة يستغلّونها لاستعجال نهاية عهد عثمان التي تُمكّنهم من الوصول إلى مآربهم ، فأخذوا يُساهمون في نشر رُوح التذمّر وتعميقها .
وقد مكّن عثمان بسياسته الإدارية لهذه الطائفة من معارضيه أسباب القوّة والنفوذ ؛ وذلك حين أطلق لها أن تُنمي ثرواتها إلى أبعد مدى بإجرائه الذي قدّمنا الحديث عنه في الأراضي ، وتكوين الإقطاعات الضّخمة , وحين أطلق لها أن تُغادر المدينة إلى البلاد المفتوحة ؛ حيث راح أفرادها يستكثرون لأنفسهم من الأموال ، ويستكثرون من الأتباع ، ويُمنّون أنفسهم بالوصول إلى الخلافة ، ويمنّيهم بذلك أتباعهم وقبائلهم .
وقد أشار الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين إلى هذه الحقيقة فقال : « كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن وأجل(12) .
فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر , فانساحوا في البلاد ، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع مَنْ لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموراً في الناس ، وصاروا أوزاعاً إليهم ، وأمّلوهم وتقدّموا في ذلك ، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم ، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم ، فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام ، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلاّ ذلك »(13) .
وقال في موضع آخر : « ... فلمّا ولي عثمان خلى عنهم ، فاضطربوا في البلاد ، وانقطع إليهم الناس ... »(14) .
نتائج سياسة عثمان
فإذا لاحظنا أنّ عثمان فتح باب الهجرة أمام قريش فانساحوا في البلاد يستصلحون الأموال ، ويُكوّنون الثروات ، ويجمعون حولهم الأنصار بالمال ، والأصهار إلى قبائل العرب ، وبسمعتهم الدينية التي جاءتهم من صحبتهم للنبي (صلّى الله عليه وآله) , وسبقهم إلى الإسلام ، وجهادهم في سبيله .
وإنّ سلوك عمّال عثمان على الأمصار الكبرى ، وسلوك عثمان نفسه في المدينة مع ناصحيه والمشفقين عليه , وعلى الناس من سلوكه , كان يُقدّم للمسلمين أسباب التذمّر والشكوى ، وأنّ هؤلاء الصحابة من قريش كانوا يرون هذا ويسمعونه ويشاركون فيه ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما خلّفه تدبير الشّورى لدى هؤلاء من طموح إلى الخلافة ، وسعي في سبيلها ... إذا لاحظنا هذا كلّه اتّسقت لأعيننا الخطوط البارزة ، والعوامل الأساسية في ثورة المسلمين على عثمان وعلى عهده .
طبقة ارستقراطية دينية كوّنتها السقيفة بما بعثت من مركز قريش ، غدت ـ بالإضافة إلى ارستقراطيتها الدينية ـ تتمتّع بثروات طائلة بسبب مبدأ التفضيل في العطاء ، وسياسة عثمان في المال ، والأرض ، والهجرة ، وقد كوّن مبدأ الشّورى في نفوس كثير من أفرادها الطموح إلى الحكم ممّا دفعهم إلى استغلال كلّ الظروف المواتية للوصول إلى هذا الهدف ، يُقابل هذه الطبقة طبقة المحاربين والمسلمين الجُدد المحرومة من كافة الامتيازات ، والتي كانت أسباب تذمّرها مُتوفّرة .
لقد كانت جماهير المحاربين هي مادة الثورة ، أمّا وقودها فهو تصرّفات عثمان وولاته وآل بيته ، وأمّا الذي أجّجها فهم أصحاب المصلحة فيها . هم هؤلاء الزعماء الذين أوتوا من الطموح ما جعل الخلافة هدفهم ، ومن المال والمنزلة الدينية ما مكّنهم من جمع الأنصار حولهم ، ومن سوء الأوضاع ما سهّل عليهم أن يعدّوا الناس بخير ممّا هم فيه .
* * *
وقد تمخّضت هذه الملابسات والظروف السيئة عن حركة عامّة ، إن فقدت النظام بالمعنى الحزبي الدقيق ، فإنّها لم تفقد وحدة الأفكار الدافعة ، والأهداف المشتركة .
وقد سلك عثمان وبطانته من الاُمويِّين والمنتفعين تجاه هذه الحركة سلوكاً بعيداً عن الحكمة والعدل ؛ فبدلاً من أن تُجاب مطالب الثوّار رُدوا بعنف ، واستُهين بهم ، وجوبهوا بسياسة قاسية هي هذه السياسة التي تمخّض عنها مؤتمر عثمان مع عمّاله على الأمصار ، والتي قدّم لنا الطبري صورة عنها : « ... فقال له عبد الله بن عامر : رأيي يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تُجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دُبرة دابته ، وقمّل فروه ...
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ،وأمرهم بالتّضييق على مَنْ قبلهم ، وأمرهم بتجمير(15) الناس في البعوث ، وعزم على تحريم(16) اُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه »(17) .
ولكنّ هذه الإجراءات العنيفة زادت نار المقاومة اشتعالاً ، بدل أن تُخفّف من شدّتها ؛ فقد رأى هؤلاء المحاربون الفقراء أنّهم خُدعوا ، فتكتّلوا من الكوفة والبصرة ، ومصر والحجاز ، ومن هنا وهناك للقيام بمسعى جماعي لإرغام عثمان على تغيير بطانته التي اعتبروها مسؤولة عن كثير من المآسي ، وتبديل عمّاله الذي أساؤوا السيرة ، وجاروا على الرعية ... وتغيير سياسته المالية .
وبينما كان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يُسفر بين الثوار وبين الخليفة ، فيُهدئ من ثورة اُولئك ، وينبّه عثمان وينصحه بالاستقامة والعدل ، نرى أنّ الآخرين من الطامحين إلى الخلافة ينتهزون فرصة ثورة الجماهير للوصول إلى هدفهم ، فيؤجّجون الثورة ، ويزيدون النّقمة اشتعالاً ، ويبذلون الأموال الطائلة في تمويل الثورة ، واصطناع قادتها ، وتسليح أفرادها .
وبلغت المأساة قمّتها بمقتل عثمان .
________________________________________
(1) انظر : مروج الذهب 2 / 341 ، أنساب الأشراف 5 / 25 ـ 28 , 48 , 54 , وغيرهما .
(2) انظر : مروج الذهب 1 / 34 , 2 / 341 ـ 343 ، الطبقات الكبرى 3 / 78 , 136 ، تأريخ الأمم والملوك 5 / 134 .
(3) انظر تاريخ الإسلام ـ حسن إبراهيم حسن 1 / 358 .
(4) انظر : تأريخ الطبري 3 / 365 ، الكامل في التأريخ 3 / 137 ، تأريخ مدينة دمشق 21 / 114 ، الطبقات الكبرى 5 / 32 ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 129 ، مروج الذهب 2 / 346 .
(5) انظر شرح نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 3 / 49 .
(6) « قُتل عثمان وابنه الوليد ـ وكان صاحب شراب وفتوّة ومجون ـ وهو مُخَلق الوجه ، سكران ، عليه مصبغات واسعة » . انظر : مروج الذهب 2 / 341 ، المعارف ـ لابن قتيبة / 202 (دار الكتب / 1960) .
(7) انظر : تأريخ الطبري 3 / 365 ، الكامل في التأريخ 3 / 127 ، تأريخ مدينة دمشق 21 / 114 ، الطبقات الكبرى 5 / 32، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 129 ، مروج الذهب 2 / 346 .
(8) أبو عبد الرحمن ، وكان إسلامه قبل إسلام عمر بن الخطاب بزمان ، وشهد بيعة الرضوان ، وكان على قضاء الكوفة . انظر : المعارف ـ لابن قتيبة / 249 ، أُسد الغابة 3 / 384 ، سيرة ابن هشام 1 / 314 ، السيرة النبوية 2 / 82 ، مستدرك الحاكم 3 / 337 , 345 ، تأريخ الطبري 5 / 80 , 94 ، مسند أحمد 5 / 155 , 166 , 6 / 457 ، كنز العمال 6 / 29 , 170 ، العقد الفريد 3 / 91 ، تأريخ أبي الفداء 1 / 168 ، الإصابة 3 / 619 ، الطبقات ـ لابن سعد 5 / 8 ، أنساب الأشراف 5 / 28 .
(9) أبو ذرّ الغفاري : هو جندب بن السكن ، ولقبه بربر ، وقيل : اسمه بُريد بن جنادة ، وقيل : اسمه جندب بن جنادة وهو من غفار قبيلة من كنانة ، وهو : غفار بن مُليل بن حمزة بن بكى بن عبد مناة بن كنانة بن خُزيمة .
قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأسلم , ورجع إلى بلاد قومه فأقام ، ثم رجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ولكنّ عثمان نفاه إلى الربذة ، وليس له عقب . كان رابع أربعة سبقوا إلى الإسلام . انظر الطبقات الكبرى ـ لابن سعد 4 ق1 / 161 ، مسند أحمد 2 / 163 , 175 , 223 , 5 / 147 , 155 , 159 , 165 ـ 166 , 172 , 174 , 351 , 356 , 6 / 442 ، المستدرك 3 / 342 ، صحيح البخاري ـ مناقب أبي ذرّ ، صحيح البخاري وصحيح مسلم في باب المناقب ، سنن ابن ماجة ـ الباب الأوّل من المقدّمة ، مسند الطيالسي ح458 ، التقريب 2 / 420 . روى عنه أصحاب الصحاح (281) حديثاً .
(10) انظر : المصابيح ـ لأحمد بن إبراهيم / 288 .
(11) انظر : المصدر نفسه ، العقد الفريد 3 / 77 , 91 ، السيرة النبوية 2 / 82 , الطبعة الثانية مصر ، شرح النهج 1 / 66 , 233 ، مستدرك الحاكم 3 / 337 , 345 ، ابن الأثير 3 / 65 , 73 ، تأريخ الطبري 5 / 80 , 94 ، مسند أحمد 5 / 155 , 166 , 6 / 457 ، كنز العمال 6 / 170 ، المعارف ـ لابن قتيبة / 84 ، ابن كثير 7 / 452 ، تأريخ أبي الفداء 1 / 168 ، الإصابة 3 / 619 ، سنن البيهقي 8 / 61 ، الطبقات ـ لابن سعد 5 / 8 ، أنساب الأشراف 5 / 28 ، مرآة الجنان 1 / 85 ، كلّ هذه المصادر وغيرها نقلت لنا هذه المساوئ العثمانية بشكل مفصّل ، فمَنْ أراد المزيد فليراجع .
(12) قال عمر لمّا استأذنه الزبير بن العوام في الغزو « ها إنّي ممسك بثياب هذا الشعب أن يتفرّق أصحاب محمد في الناس فيُضلّوهم » انظر : شرح نهج البلاغة 20 / 20 . منه (رحمه الله) .
(13) انظر : تأريخ الطبري 5 / 134 .
(14) انظر : تأريخ الطبري 5 / 134 .
(15) جمر الناس : جمعهم . وجمر الجيش : حبسهم في أرض العدو ولم يقفهم (قاموس) . انظر : لسان العرب 4 / 146 . يريد عثمان من عمّاله أن يجمعوا الناس في البعوث العسكرية الطويلة الأمد ، لا يردّوهم إلى أوطانهم .
(16) حرم : منع .
(17) انظر : تأريخ الطبري 3 / 373 ـ 374 .