• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني الفطرة والميثاق وعالم الذر

 

الفصل الثاني
الفطرة والميثاق وعالم الذر


عالم الذر
تفسير نور الثقلين:1/55: (في كتاب علل الشرايع بإسناده إلى حبيب قال: حدثني الثقة عن أبي عبدالله(ع)  قال: إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .
وبإسناده إلى حبيب ، عمن رواه ، عن أبي عبد الله(ع) قال: ما تقول في الأرواح إنها جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ؟ قال فقلت إنا نقول ذلك ، قال: فإنه كذلك ، إن الله عز وجل أخذ من العباد ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد وهو قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، إلى آخر الآية ، قال: فمن أقر به يومئذ جاءت ألفته هاهنا ، ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هاهنا .
في كتاب التوحيد ، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبدالله (ع)  قال: قلت له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمن يوم القيمة ؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيمة ، فقلت متى ؟ قال: حين قال لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، ثم سكت ساعة ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيمة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير فقلت له: جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال: لا ، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر. وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون .
في الكافي ، محمد بن يحيى ، عن محمد بن موسى ، عن العباس بن معروف ، عن ابن أبي نجران ، عن عبد الله بن سنان ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (ع)  قال: قال له رجل: كيف سميت الجمعة جمعة ؟ قال: إن الله عز  وجل جمع فيها خلقه لولاية محمد(ص) ووصيه في الميثاق ، فسماه يوم الجمعة لجمعه فيه خلقه .
في غوالي اللئالي ، وقال(ع) : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ، يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم، وتلا: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى .
في الكافي ، أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن أبي عميرة ، عن عبد الرحمان الحذاء ، عن أبي عبد الله(ع) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأساً ، أتقرأ هذه الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، فكل شئ أخذ الله منه الميثاق فهو خارج وإن كان على صخرة صماء .
عن ابن مسكان، عن بعض أصحابه ، عن أبي جعفر(ع) قال قال رسول الله(ص): إن أمتي عرضت علي في الميثاق ، فكان أول من آمن بي علي (ع)  ، وهو أول من صدقني حين بعثت، وهو الصديق الأكبر ، والفاروق يفرق بين الحق والباطل.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع)  في قول الله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، قالوا بألسنتهم ؟ قال: نعم وقالوا بقلوبهم ، فقلت: وأي شئ كانوا يومئذ ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به .
عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي (ع)  قال: أتاه ابن الكوا فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحداً من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال علي (ع) : قد كلم الله جميع خلقه برّهم وفاجرهم وردوا عليه الجواب ، فثقل ذلك علي ابن الكوا ولم يعرفه ، فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له: أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، فقد أسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب ، كما تسمع في قول الله يابن الكوا وقالوا بلى ، فقال لهم: إني أنا الله لا إله إلا أنا ، وأنا الرحمان ، فأقروا له بالطاعة والربوبية ، وميز الرسل والأنبياء والاوصياء، وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق، فقال الملائكة عند إقرارهم: شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين .
في الكافي ، محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد عن موسى بن عمر ، عن ابن سنان عن سعيد القماط ، عن بكير بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (ع) : لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يضع في غيره ؟ ولأي علة يُقَبَّل ؟ ولأي علة أخرج من الجنة ، ولأي علة وضع ميثاق العباد فيه والعهد فيه ولم يوضع في غيره ، وكيف السبب ذلك ؟ تخبرني جعلني الله فداك فإن تفكري فيه لعجب! قال فقال: سألت وأعضلت في المسالة واستقصيت ، فافهم الجواب وفرغ قلبك وأصغ سمعك ، أخبرك إن شاء الله ، إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم(ع) فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان وفي ذلك المكان ترائى لهم ، وفي ذلك المكان يهبط الطير على القائم(ع) فأول من يبايعه ذلك الطير ، وهو والله جبرئيل(ع)  وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره وهو الحجة والدليل على القائم ، وهو الشاهد لمن وافى في ذلك المكان ، والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل على العباد .
فأما علة ما أخرجه الله من الجنة ، فهل تدري ما كان الحجر ؟ قلت: لا ، قال: كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك ، فاتخذه لله أميناً على جميع خلقه ، فألقمه الميثاق وأودعه عنده ، واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل عليهم ، ثم جعله الله مع آدم في الجنة يذكره الميثاق ويجدد عنده الإقرار في كل سنة ، فلما عصى آدم أخرج من الجنة أنساه الله العهد والميثاق الذي أخذ الله عليه وعلى ولده لمحمد(ص) ولوصيه(ع) وجعله تائهاً حيراناً ، فلما تاب الله على آدم حول ذلك الملك في صورة بيضاء ، فرماه من الجنة إلى آدم وهو بأرض الهند ، فلما نظر إليه أنس إليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة، وأنطقه الله عز وجل، فقال له: ياآدم أتعرفني؟ قال لا ، قال: أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ، ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم(ع) في الجنة ، فقال لادم: أين العهد والميثاق ، فوثب إليه آدم(ع) وذكر الميثاق وبكى وخضع وقبله ، وجدد الإقرار بالعهد والميثاق ، ثم حوله الله عز وجل إلى جوهرة درة بيضاء صافية تضي ، فحمله آدم على عاتقه إجلالاً له وتعظيماً ، فكان إذا أعيا حمله عنه جبرئيل(ع) حتى وافى به مكة فما زال يأنس به بمكة ويجدد الإقرار له كل يوم وليلة ، ثم إن الله عز وجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان ، لأنه تبارك وتعالى حين أخذ الميثاق من ولد آدم أخذه في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان ألقم الله الملك الميثاق ، ولذلك وضع في ذلك الركن وتنحى آدم من مكان البيت إلى الصفا وحوالي المروة ، ووضع الحجر في ذلك الركن ، فلما نظر آدم من الصفا وقد وضع الحجر في الركن كبر الله وهلله ومجده ، فلذلك جرت السنة بالتكبير واستقبال الركن الذي فيه الحجر من الصفا ، فإن الله أودعه الميثاق والعهد دون غيره من الملائكة...
بحار الأنوار:3/276:
سن البزنطي ، عن رفاعة ، عن أبي عبد الله(ع) في قول الله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى. قال: نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا وقبض يده. نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق ، هكذا وقبض يده .
بحار الأنوار:5/244:
عن أبي جعفر (ع)  قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب ، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ، ثم بعثهم في الظلال: فقلت وأي شئ الظلال ؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ ؟ ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله وهو قوله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ، ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأنكر بعض وأقر بعض ، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب ، وأنكرها من أبغض ، وهو قوله عز وجل: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، ثم قال أبو جعفر (ع) : كان التكذيب ثَمَّ .
توضيح: قوله(ع) : في الظلال ، أي عالم الأرواح بناء على أنها أجسام لطيفة ، ويحتمل أن يكون التشبيه للتجرد أيضاً تقريباً إلى الافهام ، أو عالم المثال على القول به قبل الانتقال إلى الابدان .

تذكير الأنبياء بميثاق الفطرة
سمى الله عز وجل القرآن الكريم: الذِّكْرَ ، ووصف عمل النبي(ص) بأنه تذكير ، واستعمل مادة التذكير في القرآن للتذكير بالله تعالى ، والتذكير باليوم الآخر ، والتذكير بالفطرة والميثاق .
ووصف أمير المؤمنين علي(ع) عمل الأنبياء^بأنه مطالبة للناس بالانسجام مع ميثاق الفطرة ، قال(ع) في خطبة طويلة في نهج البلاغة:1/23 ، يذكر فيها خلق آدم(ع) وصفته:
« فأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية ، اصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الانداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع.... إلى آخر الخطبة » .
وقال الشيخ محمد عبده في شرح قوله(ع) « ليستأدوهم ميثاق فطرته »: كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى ، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق له ، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات ، فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق ، أي ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم وما ينبغي أن تسوقهم إليه غرائزهم .
دفائن العقول: أنوار العرفان التي تكشف للانسان أسرار الكائنات ، وترتفع به إلى الايقان بصانع الموجودات ، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام وحجب من الخيال ، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة وإبراز تلك الأسرار الباطنة .
وقال الراغب الأصفهاني في المفردات/179:
الذِّكْرَ: تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشئ القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان ، وكل واحد منهما ضربان ، ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ. وكل قول يقال له ذكر .
فمن الذكر باللسان قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ، وقوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ، وقوله: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِىَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِى، وقوله: أَءُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ، أي القرآن ، وقوله تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ ... ومن الذكر عن النسيان قوله: فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ .
ومن الذكر بالقلب واللسان معاً قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا، وقوله: فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ . . .
والذكرى: كثرة الذكر ، وهو أبلغ من الذكر ، قال تعالى: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِى الأَلْبَابِ ، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين... .
وقال الراغب أيضاً: الوعظ زجر مقترن بتخويف. قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. والعظة والموعظة الاسم ، قال تعالى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ . ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ... .
وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية/121:
الفرق بين التذكير والتنبيه: أن قولك ذكر الشئ ، يقتضي أنه كان عالماً به ثم نسيه فرده إلى ذكره ببعض الأسباب ، وذلك أن الذكر هو العلم الحادث بعد النسيان على ما ذكرنا. ويجوز أن ينبه الرجل على الشئ لم يعرفه قط ، ألا ترى أن الله ينبه على معرفته بالزلازل والصواعق وفيهم من لم يعرفه البتة فيكون ذلك تنبيهاً له كما يكون تنبيهاً لغيره ، ولا يجوز أن يذكره ما لم يعلمه قط . انتهى .
وفيما ذكره اللغويون فوائد ومحال للنظر ، وحاصل المسألة: أنه يصح القول إن تسمية القرآن والدين بالذكر لأنه يدل على ما أودعه الله تعالى في عمق فكر الإنسان ومشاعره من الفطرة على التوحيد ومعرفة الله ، ولكن السبب الأهم أنه يثير ما بقي في ذهنه ووجدانه من نشأته الأولى وحنينه إلى عالم الغيب والآخرة ، وإحساسه بالميثاق الذي أخذ عليه في تلك النشأة .
وقد لاحظت أن الروايات صريحة في أخذ الميثاق على الناس قبل خلقهم في هذه الدنيا ، وهي متواترة في مصادر المسلمين ، ولذا فإن تفسير تذكير الأنبياء لا يصح حصره بتذكير الإنسان بفطرته لكي ينسجم معها ، والتغافل عن التذكير الحقيقي بالميثاق الذي صرحت به الأحاديث الشريفة .

كل مولود يولد على الفطرة
الكافي:2/12:
قال رسول الله(ص): كل مولود يولد على الفطرة ، يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه ، كذلك قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ .
علل الشرائع:2/376:
أبي(رض) قال: حدثنا محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن الحكم ، عن فضيل بن عثمان الأعور قال: سمعت أبا عبدالله(ع)  يقول: ما من مولود ولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، وإنما أعطى رسول الله(ص)الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهودوا ولا ينصروا ولا يمجسوا . فأما الأولاد وأهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم ! انتهى. ورواه الصدوق في الفقيه:2/49 ، وفي التوحيد/330 ، وروى المجلسي عدداً من هذه الأحاديث في بحار الأنوار:100/65 ، والعاملي في وسائل الشيعة:11/96
من لا يحضره الفقيه:2 هامش/50:
وقال الفاضل التفرشي: قوله: إلا على الفطرة ، أي على فطرة الإسلام وخلقته ، أي المولود خلق في نفسه على الخلقة الصحيحة التي لو خلي وطبعه كان مسلماً صحيح الإعتقاد والأفعال ، وإنما يعرض له الفساد من خارج ، فصيرورته يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً إنما هي من قبل أبويه غالباً لأنهما أشد الناس اختلاطاً وتربية له، ولعل وجه انتفاء ذمتهم أن ذمة رسول الله(ص)لم تشملهم، بل أعطاهم الذمة بسبب أن لا يفسدوا اعتقاد أولادهم ليحتاجوا إلى الذمة. ولم يعطوا الذمة من قبل الأوصياء^لعدم تمكنهم في تصرفات الإمامة ، وإنما يعطوها من قبل من ليس له تلك الولاية ، فإذا ظهر الحق وقام القائم(ع) لم يقروا على ذلك ولا يقبل منهم إلا الإسلام. وأخذ الجزية منهم هذا الزمان من قبيل أخذ الخراج من الأرض ، والمنع عن التعرض لهم باعتبار الأمان. وأما قوله في حديث زرارة الآتي: ذلك إلى الإمام ، فمعناه أنه إذا كان متمكناً ويرى المصلحة في أخذ الجزية منهم كما وقع في زمان رسول الله(ص)وهو لا ينافي انتفاء الذمة عنهم اليوم. انتهى .
تفسير التبيان:8/247: (قال مجاهد: فطرة الله الإسلام ، وقيل فطر الناس عليها ولها وبها بمعنى واحد ، كما يقول القائل لرسوله: بعثتك على هذا ولهذا وبهذا بمعنى واحد. ونصب فطرة الله على المصدر ، وقيل تقديره: اتبع فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لأن الله تعالى خلق الخلق للإيمان ، ومنه قوله(ص): كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه .
ومعنى الفطر الشق ابتداءً ، يقولون: أنا فطرت هذا الشئ أي أنا ابتدأته ، والمعنى خلق الله الخلق للتوحيد والإسلام .
بحار الأنوار:3/22: (غوالي: قال النبي(ص): كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه .
بيان: قال السيد المرتضى(رض) في كتاب الغرر والدرر بعد نقل بعض التأويلات عن المخالفين في هذا الخبر: والصحيح في تأويله أن قوله يولد على الفطرة ، يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تكون الفطرة هاهنا الدين ، ويكون على بمعنى اللام ، فكأنه قال: كل مولود يولد للدين ومن أجل الدين ، لأن الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلفين إلا ليعبده فينتفع بعبادته ، يشهد بذلك قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ . والدليل على أن على تقوم مقام اللام ما حكاه يعقوب بن السكيت عن أبي يزيد ، عن العرب أنهم يقولون: صف عليَّ كذا وكذا حتى أعرفه ، بمعنى صف لي ، ويقولون: ما أغبطك عليَّ يريدون ما أغبطك لي ، والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض ، وإنما ساغ أن يريد بالفطرة التي هي الخلقة في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها ، وقد يجري على الشئ اسم ماله به هذا الضرب من التعلق والاختصاص ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، أراد دين الله الذي خلق الخلق له. وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، أراد به أن ما خلق الله العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف حتى يخلق قوماً للطاعة وآخرين للمعصية . ويجوز أن يريد بذلك الأمر ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فكأنه قال: لا تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا .
والوجه الآخر في تأويل قوله(ع) على الفطرة: أن يكون المراد به الخلقة ، وتكون لفظة ( على ) على ظاهرها لم يرد بها غيره ، ويكون المعنى: كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والإيمان به ، لأنه عز وجل قد صور الخلق وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والإيمان به وإن لم ينظروا ويعرفوا ، فكأنه (ع)  قال: كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله تعالى وإن عدل بعضهم فصار يهودياً أو نصرانياً. وهذا الوجه أيضاً يحتمله قوله تعالى: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا .
وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله عليه الصلاة والسلام: حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن من كان يهودياً أو نصرانياً ممن خلقته لعبادتي وديني فإنما جعله أبواه كذلك ، أو من جرى مجراهما ممن أوقع له الشبهة وقلده الضلال عن الدين ، وإنما خص الابوين لأن الأولاد في الاكثر ينشؤون على مذاهب آبائهم ويألفون أديانهم ونحلهم ، ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله تعالى عن ضلال العباد وكفرهم ، وأنه إنما خلقهم للإيمان فصدهم عنه آباؤهم ، أو من جرى مجراهم .
والوجه الآخر: أن يكون معنى يهودانه وينصرانه أي يلحقانه بأحكامهما ، لأن أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم ، فكأنه(ع) قال: لا تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم أنهم خلقوا لدينهم ، بل لم يخلقوا إلا للإيمان والدين الصحيح ، لكن آباءهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم ، وعبر عن إدخالهم في أحكامهم بقوله: يهودانه وينصرانه .
* *
وقال البخاري في صحيحه:2/97: (أن أبا هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول أبو هريرة (رض): فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .
وقال في:2/104: (عن أبي هريرة (رض) قال قال رسول الله (ص): كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة ، هل ترى فيها جدعاء. انتهى. وروى نحوه في:6/20 وفي:7/211 ورواه أحمد في مسنده:2/233 كما في رواية البخاري الأولى. ورواه في:2/275 وزاد ( ثم يقول واقرؤوا إن شئتم: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) .
وروى أحمد في:2/282: (عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي(ص)قال: كل مولود ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ، مثل الأنعام تنتج صحاحاً فتكوى آذانها. انتهى. وروى نحوه في:2/346 وج 3/353 ، وروى نحوه مسلم في:8/52 وأبو داود في:2/416 ، والترمذيج 3/303 ، والحاكم:2/323 ، وكنز العمال:1/266 ، والسيوطي في الدر المنثور:2/224 وج5/155 ، والبيهقي في سننه:6/202 و:9/130
وفي شعب الإيمان:1/97: عن أبي هريرة ، وروى عنه أيضاً أن رسول الله (ص) قال: كل إنسان تلده أمه على الفطرة يلكزه الشيطان في حضنيه ، إلا مريم وابنها. انتهى. وهو غريب يشبه مقولات النصارى .

وكل الحيوانات فطرت على معرفة الله تعالى
الكافي:6/539: (أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبدالجبار ، عن الحجال ، وابن فضال ، عن ثعلبة ، عن يعقوب بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبدالله(ع) قال: مهما أبهم على البهائم من شئ فلا يبهم عليها أربعة خصال: معرفة أن لها خالقاً ، ومعرفة طلب الرزق ومعرفة الذكر من الأنثى ، ومخافة الموت. انتهى .
ورواه في من لايحضره الفقيه:2/288 وقال: (وأما الخبر الذي روي عن الصادق(ع) أنه قال: لو عرفت البهائم من الموت ما تعرفون ما أكلتم منها سميناً قط ، فليس بخلاف هذا الخبر ، لأنها تعرف الموت لكنها لا تعرف منه ما تعرفون. انتهى ، ورواه في وسائل الشيعة:8/352 .
ومحل هذا الموضوع في المعرفة ، لكن أوردناه هنا ليتضح أن الإنسان والحيوان مفطوران على معرفة الله تعالى ، بل والجماد أيضاً كما قال تعالى ( وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ).
التوجه الفطري إلى الله تعالى
شرح الأسماء الحسنى:1/67: (يا ملجئي عند اضطراري: فإن الإنسان إذا انقطعت جميع وسائله وانبتت تمام حبائله التجأ إليه تعالى بالفطرة وتشبث به بالجبلة ، ولذا استدل الأئمة المعصومون كثيراً على منكري الصانع بالحالات المشاهدة ، والوقوع في مظان التهلكة .
شرح الأسماء الحسنى:1/164: ( يا أحب من كل حبيب: أما أنه أحب من كل حبيب لأهله فواضح، وقد مر ، وأما أنه أحب للكل كما هو مقتضى الإطلاق فلأن كل كمال وإفضال لما كان عكس كماله وإفضاله ومحبوبيتها باعتبار وجهها إلى الله ، رجع محبوبيتها إلى محبوبيته ، فإليه يرجع عواقب الثناء كما ورد عن المعصوم ، ولكن لا يستشعر بذلك إلا الخواص .
والتفاضل والإيمان والكفر بذلك الاستشعار ، أو لأنه أحب لهم إجمالاً أو فطرة ، كما أن الجاهل يعلم أن العالم خير منه، والغضبان يصدق بأن الحليم أشرف منه ، والبخيل بأن الجواد أفضل منه ، فهم يحبون الصفات الحميدة فطرةً وإن أحبوا تلك الرذايل بالغريزة الثانية .
شرح الأسماء الحسنى:2/4 : (تنبيهاً على أنه تعالى هو المعروف بتلك الصلات والصفات عند الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، فلا تذهب العقول إلى غيره تعالى حتى عقول الكفار ، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ، وحين قال الخليل (ع) : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، لم ينكره نمرود بل بهت ، لأن فطرته حاكمة بأن القادر على ذلك ليس إلا هو .

رأي صاحب تفسير الميزان في عالم الذر والمعرفة والميثاق
تفسير الميزان للطباطبائي:8/305: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أخذ الشئ من الشئ يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء ، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها والإعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح ، وهو نوع من الأخذ ، وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب ، أو الجواد أو البائع أو المعير، وهو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى ، وكأخذ العلم من العالم وأخذ الأهبة من المجلس وأخذ الحظ من لقاء الصديق ، وهو نوع ، وأخذ الولد من والده للتربية، وهو نوع.. إلى غير ذلك .
فمجرد ذكر الأخذ من الشئ لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد ، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ ، الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض: قوله مِنْ ظُهُورِهِمْ ، ليدل على نوع الفصل والأخذ ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ، ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تاماً مستقلاً من نوع المأخوذ منه ، فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده وقد كان جزء ، ثم يجعل بعد الأخذ والفصل إنساناً تاماً مستقلاً من والديه بعد ما كان جزء منهما ، ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ وينفصل كل جزء عما كان جزء منه ويتفرق الأناسي وينتشر الأفراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ، ويكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها وعليها ما عليها .
فهذا مفاد قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، ولو قال أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك ، بقي المعنى على إبهامه .
وقوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، ينبي عن فعل آخر إلهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض ، وفصل بين كل واحد منهم وغيره ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، والإشهاد على الشئ هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علماً تحملاً شهودياً ، فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ، ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا .
وللنفس في كل ذي نَفَس جهات من التعلق والإرتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض ، غير أن قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، يوضح ما أشهدوا لأجله وأريد شهادتهم عليه ، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة . فالإنسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته ، لا يسعه أن ينكر أنه لايملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره، ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها ، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ، ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ماوراءها والإنقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها ، وليس إلى الإنسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها.
فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الإنسان ، والفقر مكتوب على نفسه ، والضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء. فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل ، يشاهد من نفسه أن له رباً يملكه ويدبر أمره ، وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية ، وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه .
فقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ بيان ما أشهد عليه ، وقوله: قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ، اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه .
ولذا قيل إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والأحكام ، ومعنى الآية إنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا. وعلى هذا يكون قولهم بلى شهدنا من قبيل القول بلسان الحال أو إسناداً للازم القول إلى القائل بالملزوم ، حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمهم الإعتراف بمن يحتاجون إليه .
والفرق بين لسان الحال والقول بلازم القول ، أن الأول انكشاف المعنى عن الشئ لدلالة صفه من صفاته وحال من أحواله عليه ، سواء شعر به أم لا ، كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها وكيف لعب الدهر بهم وعدت عادية الايام عليهم فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم ، وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله. والثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام .
فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال والقول بالإستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ، والأول أقرب وأنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الإلتزام . ومن المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الإستشهاد المذكور في قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به ، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن تحمل عليه هذه المساءلة والمجاوبة ، فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل والإيجاد ، كلام حقيقي ، وإن كان بنحو التحليل كما تقدم مراراً في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، وقولهم: بَلَى شَهِدْنَا ، من ذاك القبيل ، وسيجئ للكلام تتمة .
وكيف كان ، فقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ . . . الآية ، يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض وإشهاد كل واحد منهم على نفسه ، وأخذ الإعتراف على الربوبية منه ، ويدل ذيل الآية وما يتلوه ـ أعني قوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ـ على الغرض من هذا الأخذ والإشهاد. و هو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله ، وبيان أنه لولا هذا الأخذ والإشهاد وأخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة بإحدى حجتين يدفعون بها تمام الحجة عليهم في شركهم بالله والقضاء بالنار على ذلك من الله سبحانه .
والتدبر في الآيتين وقد عطفت إحدى الحجتين على الأخرى بأو الترديدية ، وبنيت الحجتان جميعاً على العلم اللازم للإشهاد ، ونقلتا جميعاً عن بني آدم المأخوذين المفرقين ، يعطي أن الحجتين كل واحدة منهما مبنيه على تقدير من تقديري عدم الاشهاد كذلك .
والمراد إنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم وأشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة ، ولو لم نفعل هذا ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه ، فإن كنا أهملنا الاشهاد من رأس ، فلم يشهد أحد نفسه وأن الله ربه ولم يعلم به، لأقاموا جميعاً الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا ، ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة ، وهو قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ .
وإن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض، بأن أشهدنا الإباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الإباء شركاً عن علم بأن الله هو الرب لا رب غيره ، فكانت معصية منهم ، وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالاً ولا تفصيلاً ، ومتابعة عملية محضة لآبائهم ، فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر ، وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك ، ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم ، فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لأن الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء ، فهم المستحقون للمؤاخذة والفعل فعلهم ، وأما الذرية فلم يعرفوا حقاً حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئاً ولم يبطلوا حقاً ، وحينئذ لم تتم حجة على الذرية فلم تتم الحجة على جميع بني آدم. وهذا معنى قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
فإن قلت: هنا بعض تقادير أخر لا يفي بها البيان السابق ، كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الاباء مثلاً ، أو إشهاد بعض الذرية مثلاً ، كما أن تكامل النوع الإنساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق ويزيد عليه بأشياء ، فيحصل للاّحق ما لم يحصل للسابق .
قلت: على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا ، وأما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية ، فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا ، ولا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق ، كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الأولى ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) .
وأما حديث تكامل الإنسان في العلم والحضارة تدريجاً فإنما هو في العلوم النظرية الإكتسابية التي هي نتائج وفروع تحصل للانسان شيئاً فشيئاً ، وأما شهود الإنسان نفسه وأنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج ، وهو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس انطباعاً أولياً ثم يتفرع عليها الفروع. وما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولاً ، وكيف لا ونوع الإنسان إنما يتدرج إلى معارفه وعلومه عن الحس الباطني بالحاجة ، كما قرر في محله .
فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ، ثم أشهدهم جميعاً على أنفسهم وأخذ منهم الميثاق بربوبيته ، فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد وما أخذ منهم من الميثاق ، حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية ، أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك وعصى آباؤهم وهم برآء .
ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ، هو الدنيا ، والآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الإلهية الجارية على الإنسان في الدنيا ، فإن الله سبحانه يخرج الذرية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ومنها إلى الدنيا ، ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم ويريهم آثار صنعه وآيات وحدانيته ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة ، الدالة على وجوده ووحدانيته ، فكأنه يقول لهم عند ذلك أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، وهم يجيبونه بلسان حالهم بَلَى شَهِدْنَا بذلك وأنت ربنا لا رب غيرك ، وإنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة ، أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا ، وأما الذرية فلم يكونوا عارفين بها وإنما هم ذرية من بعدهم نشأوا على شركهم من غير ذنب .
وقد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر ، وأن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم وعرفهم نفسه ، وأخذ منهم الميثاق على ربوبيته ، فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة . وقد ذكروا وجوهاً في إبطال دلالة الآيتين عليه وطرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب ، وهي:
1 ـ أنه لا يخلو إما أنه جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك ، فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى ، وإن جعلهم عقلاء وأخذ منهم الميثاق وبنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك ولا ينسوه ، لأن أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان ، كما ينص عليه قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . ونحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئاً ، فليس المراد بالآية إلا موقف الإنسان في الدنيا وما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه ويدبر أمره و هو رب كل شئ .
2 ـ أنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء أمراً قد كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره ولا واحد منهم ، وليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا وهم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ . . . إلى آخر الآيات ، الصافات : 51 . وقد حكى نظير ذلك عن أهل النار كقوله: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ .ص : 62 . . . إلى غير ذلك من الآيات .
ولو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلف خلقه فيما مضى من الزمن ثم أعادهم ليثيبهم أو ليعاقبهم جزاء لأعمالهم في الخلق الأول وقد نسوا ذلك ، ولازم ذلك صحة قول التناسخية أن المعاد إنما هو خروج النفس عن بدنها ثم دخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأول .
3 ـ ما أورد على الأخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريته وأخذ منهم الميثاق بأن الله سبحانه قال: أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ ولم يقل من آدم ، وقال مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ، وقال ذُرِّيَّتَهُمْ ولم يقل ذريته ، ثم أخبر بأنه إنما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أو يقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ . . . الآية. وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه .
ومن هنا قال بعضهم إن الآية خاصة ببعض بني آدم غير عامة لجميعهم ، فإنها لا تشمل آدم وولده لصلبه وجميع المؤمنين ، ومن المشركين من ليس له آباء مشركون ، بل تختص بالمشركين الذين لهم سلف مشرك .
4 ـ إن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم كما في الآية: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا لدلالته على وجود آباء لهم مشركين ، وهو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي .
5 ـ ما ذكره بعضهم أن الروايات مقبولة مسلمة غير أنها ليست بتأويل للآية ، والذي تقصه من حديث عالم الذر إنما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ليجروا بذلك على الأعراق الكريمة في معرفة ربوبيته ، كما روي أنهم ولدوا على الفطرة ، وكما قيل إن نعيم الأطفال في الجنة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذر. وأما الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات ، فإن الآية تذكر أنه إنما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجتهم يوم القيامه: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، ولو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذر لكان لهم أن يحتجوا على الله فيقولوا ربنا إنك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم فكنا على يقين بأنك ربنا ، كما أنا اليوم وهو يوم القيامة على يقين من ذلك لكنك أنسيتنا موقف الإشهاد في الدنيا التي هي موطن التكليف والعمل ووكلتنا إلى عقولنا ، فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله وأنكرها من أنكرها بعقله ، كل ذلك بالإستدلال ، فما ذنبنا في ذلك وقد نزعت منا عين المشاهدة وجهزتنا بجهاز شأنه الإستدلال وهو يخطئ ويصيب .
6 ـ أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لإمكان حملها على التمثيل ، وأما الروايات فهي إما مرفوعة أو موقوفة ولا حجية فيها .
هذه جملة ما أوردوه على دلالة الآية وحجية الروايات ، وقد زيفها المثبتون لنشأة الذر وهم عامة أهل الحديث وجمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة:
فالجواب عن الأول ، أن نسيان الموقف وخصوصياته لا يضر بتمام الحجة ، وإنما المضر نسيان أصل الميثاق وزوال معرفة وحدانية الرب تعالى وهو غير منسي ولا زائل عن النفس ، وذلك يكفي في تمام الحجة ، ألا ترى أنك إذا أردت أن تأخذ ميثاقاً من زيد فدعوته إليك وأدخلته بيتك وأجلسته مجلس الكرامة ثم بشرته وأنذرته ما استطعت ولم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد وأخذت منه الميثاق ، فهو مأخوذ بميثاقه مادام ذاكراً لأصله وإن نسي حضوره عندك ودخوله بيتك وجميع ما جرى بينك وبينه وقت أخذ الميثاق ، غير أصل العهد .
والجواب عن الثاني ، أن الإمتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الإمتناع ، مضافاً إلى أن أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا وهو يكفي في تمام الحجة ، وأما حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصراً في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ما مضى عليهم في الخلق الأول، حتى لو لم يستحل ذلك صح القول بالتناسخ ، بل لابطال القول به دليل آخر كما يعلم بالرجوع إلى محله ، وبالجملة لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر .
والجواب عن الثالث ، أن الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه ، فإن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ ، كاف وحده في الدلالة عليه ، فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مؤونة زائدة ، ثم إخراج ذريتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الأولاد من صلب الأولاد وهكذا ، ويتحصل منه أن الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ثم أولادهم من أصلابهم ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهى إلى آخرهم ، نظير ما يجري عليه الأمر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد والتناسل .
وقد أجاب الرازي عنه في تفسيره بأن الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر ، كما أن الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية ، فبمجموع الآية والخبر تتم الدلالة على المجموع ، وهو كما ترى .
وأما الأخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرية آدم من صلبه وأخذ الميثاق منهم ، فهي في مقام شرح القصة لا في مقام تفسير ألفاظ الآية حتى يورد عليها بعدم موافقه الكتاب أو مخالفته. وأما عدم شمول الآية لأولاد آدم من صلبه لعدم وجود آباء مشركين لهم وكذا بعض من عداهم فلا يضر شيئاً ، لأن مراد الآية أن الله سبحانه إنما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا ، ولا أن يقول كل واحد منهم إنما أشرك آبائي ، فهذا مما لم يتعلق به الغرض ألبتة ، فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كل واحد ، فيؤول المعنى إلى أنا لو لم نفعل ذلك لكان كل من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول لم أشرك أنا وإنما أشرك من كان قبلي ولم أكن إلا ذرياً وتابعاً لا متبوعاً .
والجواب عن الرابع ، يظهر من الجواب عن سابقه ، قد دلت الآية والرواية على أن الله فصل هناك بين الآباء والأبناء ثم ردهم إلى حال الجمع .
والجواب عن الخامس ، أنه خلاف ظاهر بعض الروايات وخلاف صريح بعض آخر منها ، وما في ذيله من عدم تمام الحجة من جهة عروض النسيان ، ظهر الجواب عنه من الجواب عن الإشكال الأول .
والجواب عن السادس ، أن استقرار الظهور في الكلام كاف في حجيته ، ولا يتوقف ذلك على صفة الصراحة ، وإمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقق هناك مانع عن حمله على ظاهره، وقد تبين أن لا مانع من ذلك.
وإما أن الروايات ضعيفة لا معول عليها فليس كذلك ، فإن فيها ما هو الصحيح ، وفيها ما يوثق بصدوره كما سيجئ إن شاء الله تعالى في البحث الروائي التالي .
هذا ملخص ما جرى بينهم من البحث فيما استفيد من الآية من حديث عالم الذر إثباتاً ونفياً ، واعتراضاً وجواباً . واستيفاء التدبر في الآية والروايات ، والتأمل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم ويدفعه المنكرون بإنكارهم ، يوجب توجيه البحث إلى جهة أخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم ونفيهم .
فالذي فهمه المثبتون من الرواية ثم حملوه على الآية وانتهضوا لإثباته محصله: أن الله سبحانه بعدما خلق آدم إنساناً تاماً سوياً أخرج نطفه التي تكونت في صلبه ثم صارت هي بعينها أولاده الصلبيين إلى الخارج من صلبه ، ثم أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولاداً له صلبيين ففصل بين أجزائها والأجزاء الأصلية التي اشتقت منها ، ثم من أجزاء هذه النطف أجزاء أخرى هي نطفها ثم من أجزاء الأجزاء أجزاءها ، ولم يزل حتى أتى آخر جزء مشتق من الأجزاء المتعاقبة في التجزي .
وبعبارة أخرى: أخرج نطفة آدم التي هي مادة البشر ووزعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم بحذاء كل فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم ، وهي ذرات منبثة غير محصورة ، ثم جعل الله سبحانه هذه الذرات المنبثة عند ذلك أو كان قد جعلها قبل ذلك كل ذرة منها إنساناً تاماً في إنسانيته هو بعينه الإنسان الدنيوي الذي هو جزء المقدم له ، فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه والذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه ، فجعلهم ذوي حياة وعقل وجعل لهم ما يسمعون به وما يتكلمون به وما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها ، وعند ذلك عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه وأعطوه الإقرار بالربوبية ، إما بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفة ذلك .
ثم إن الله سبحانه ردهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب حتى اجتمعوا في صلب آدم وهي على حياتها ومعرفتها بالربوبية وإن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الإشهاد وأخذ الميثاق ، وهم بأعيانهم موجودون في الأصلاب حتى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون ، وعندهم ما حصلوه في الخلق الأول من معرفة الربوبية ، وهي حكمهم بوجود رب لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم ويدبر أمرهم .
هذا ما يفهمه القوم من الخبر والآية ويرومون إثباته ، وهو مما تدفعه الضرورة وينفيه القرآن والحديث بلا ريب ، وكيف الطريق إلى اثبات أن ذرة من ذرات بدن زيد وهو الجزء الذري الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد هو زيد بعينه وله إدراك زيد وعقله وضميره وسمعه وبصره ، وهو الذي يتوجه إليه التكليف وتتم له الحجة ويحمل عليه العهود والمواثيق ويقع عليه الثواب والعقاب، وقد صح بالحجة القاطعة من طريق العقل والنقل أن إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي ، وقد تقدم شطر من البحث فيها .
على أنه قد ثبت بالبحث القطعي أن هذه العلوم التصديقية البديهية والنظرية ، ومنها التصديق بأن له رباً يملكه ويدبر أمره ، تحصل للانسان بعد حصول التطورات ، والجميع تنتهي إلى الإحساسات الظاهرة والباطنة ، وهي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادي ، فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأن له رباً هو القائم برفع حاجته .
على أن هذه الحجة إن كانت متوقفة في تمامها على العقل والمعرفة معاً فالعقل مسلوب عن الذرة حين أرجعت إلى موطنها الصلبي حتى تظهر ثانياً في الدنيا ، وإن قيل إنه لم يسلب عنها ما تجري في الأصلاب والأرحام فهو مسلوب عن الإنسان ما بين ولادته وبلوغه أعني أيام الطفولية ، ويختل بذلك أمر الحجة على الإنسان وإن كانت غير متوقفة عليه، بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة ، فأي حاجة إلى الاشهاد وأخذ الميثاق، وظاهر الآية أن الإشهاد وأخذ الميثاق إنما هما لأجل إتمام الحجة ، فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة فيؤول المعنى إلى ما فسرها به المنكرون .
وبتقرير آخر إن كانت الحجة إنما تتم بمجموع الإشهاد والتعريف وأخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض وقد نسي الإشهاد والتكليم وأخذ الميثاق ، وإن كان الإشهاد وأخذ الميثاق جميعاً مقدمة لثبوت المعرفة ثم زالت المقدمة ولزمت المعرفة وبها تمام الحجة ، تمت الحجة على كل إنسان حتى الجنين والطفل والمعتوه والجاهل ، ولا يساعد عليه عقل ولا نقل ، وإن كانت المعرفة في تمام الحجة بها متوقفة على حصول العقل والبلوغ ونحو ذلك وقد كانت حصلت في عالم الذر فتمت الحجة ثم زالت وبقيت المعرفة حجة ناقصة ثم كملت ثانياً لبعضهم في الدنيا فتمت الحجة ثانياً بالنسبة إليهم ، فكما أن لحصول العقل في الدنيا أسباباً تكوينية يحصل بها وهي الحوادث المتكررة من الخير والشر ، وحصول الملكة المميزة بينهما من التجارب حصولاً تدريجياً ينتهي من جانب إلى حد من الكمال ومن جانب إلى حد من الضعف لا يعبأ به ، كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهي الإنسان إلى التلبس بها وليست تحصل قبل ذلك ، وإذا كانت تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل ، فأي حاجة إلى تكوينه تكويناً آخر في سالف من الزمان لاتمام الحجة والحجة تامة دونه وماذا يغني ذلك .
على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة ولا ينفع إشهاد ولا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر ، المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للانسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية ، فتتكرر عليه حوادث الخير والشر وتهيج عواطفه وإحساساته الباطنية نحو جلب النفع ودفع الضرر ، فتتعاقب عليه الأعمال عن علم وإرادة فيخطي ويصيب ، حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطأ والخير من الشر والنفع من الضر .
والظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي ، إذ ليس فيه شرائط حصوله وأسبابه ، ولو فرضوه موطناً له وفيه أسبابه وشرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلاً على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر وبعث إليهم الأنبياء والاوصياء فصدقهم بعض وكذبهم آخرون ، ولا يجري ما هاهنا إلا على ما جرى به ما هنالك ، إلى غير ذلك مما ذكروه ، كان ذلك إثباتاً لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالأدوار والأكوار ، واحتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الإنسان ، لأن عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن ، فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد وتعريف حتى تحصل المعرفة وتتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق ألبتة .
على أن الإنسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الإشهاد ويوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية ، لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان ، فما بال آدم وحواء استثنيا من هذه الكلية ، فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما وأكرم ، وإن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري ، فلكل من ذريتهما أيضاً خلقة تامة في ظرفه الخاص به ، فلم لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم ولهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتى تتم عند ذلك الحجة ، وأي حاجة إلى التقديم.
فهذه جهات من الإشكال في تحقق الوجود الذري للإنسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلها بالأبحاث العلمية، ولا حمل الآية عليه معها حتى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلت عليه الرواية وإن لم يساعد عليه لفظ الآية، لأن الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال.
وأما الحشوية وبعض المحدثين ممن يبطل حجة العقل الضرورية قبال الرواية ويتمسك بالآحاد في المعارف اليقينية ، فلا بحث لنا معهم .
هذا ما على المثبتين. بقي الكلام فيما ذكره النافون أن الآية تشير إلى ما عليه حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، وهو أن الله سبحانه أخرج كلا من آحاد الإنسان من الأصلاب والأرحام إلى مرحلة الإنفصال والتفرق ، وركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته واحتياجهم إليه ، كأنه قال لهم إذا وجه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، وكأنهم لما سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا بذلك ، وإنما فعل الله ذلك لتتم عليهم حجتة بالمعرفة وتنقطع حجتهم عليه بعدم المعرفة ، وهذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر والإنسان يجري معه .
والآية بسياقها لا تساعد عليه ، فإنه تعالى افتتح الآية بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ . . . الآية فعبر عن ظرف هذه القضية بإذ ، وهو يدل على الزمن الماضي أو على أي ظرف محقق الوقوع نحوه ، كما في قوله: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ آنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ، إلى أن قال: قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ . المائدة : 119 ، فعبر بإذ عن ظرف مستقبل لتحقق وقوعه .
وقوله: وإذ أخذ ربك خطاب للنبي (ص) أوله ولغيره كما يدل عليه قوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . . . الآية ، إن كان الخطاب متوجهاً إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها والخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا ، والظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا أو زمن حياة النوع الإنساني فيها وعمره الذي هو طول إقامته الأرض ، والقصة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود النوع في الدنيا فلا مصحح للتعبير عن ظرفها بلفظة إذ الدالة على تقدم ظرف القصة على ظرف الخطاب ، ولا عناية أخرى في المقام تصحح هذا التعبير من قبيل تحقق الوقوع ونحوه وهو ظاهر .
فقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، في عين أنه يدل على قصة خلقه تعالى النوع الإنساني بنحو التوليد ، وأخذ الفرد من الفرد وبث الكثير من القليل، كما هو المشهود في نحو تكون الآحاد من الإنسان وحفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب ، يدل على أن للقصة وهي تنطبق على الحال المشهود نوعاً من التقدم على هذا المشهود من جريان الخلقة وسيرها .
وقد تقدمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدم من تقدم هذه الخلقة بنحو تقدماً زمانياً بأن يأخذ الله أول فرد من هذا النوع فيأخذ منه مادة النطفة التي منها نسل هذا النوع فيجزؤها أجزاء ذرية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ، ثم يلبس وجود كل فرد بعينه بحياته وعقله وسمعه وبصره وضميره وظهره وبطنه ويكسيه وجوده التي هي له قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده نفسه ويأخذ منه الميثاق ، ثم ينزعه منها ويردها إلى مكانها الصلبي ، حتى يسير سيره الطبيعي وينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا ، فقدتقدم بطلان ذلك وأن الآية أجنبية عنه .
لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الإنسان بماله من الشخصية الدنيوية مرتين في الدنيا واحدة بعد أخرى، المستلزم لكون الشئ غير نفسه بتعدد شخصيته ، فهو الأصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة .
وأما وجود الإنسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله ورجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام متفاوتة الحكم فليس بمحال ، وهو مما يثبته القرآن الكريم ولو كره ذلك الكافرون الذين يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر فقد أثبت الله الحياة الآخرة للإنسان وغيره يوم البعث وفيه هذا الإنسان بعينه ، وقد وصفه بنظام وأحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاماً وأحكاماً. وقد أثبت حياة برزخية لهذا الإنسان بعينه وهي غير الحياة الدنيوية نظاماً وحكماً. وأثبت بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَئٍْ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. الحجر : 21 ، أن لكل شئ عنده وجوداً وسيعاً غير مقدر في خزائنه وإنما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلاً ، فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه ، أنزله إلى هذه النشأة .
وأثبت بقوله: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَئٍْ. يس : 83 ، وقوله: وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ. القمر : 50 ، وما يشابههما من الآيات .
أن هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشئ ويلقيه إليه بكلمة كن ، إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي .
فلوجود هذه الأشياء وجهان: وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجاً ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ، ويظهر ناقصاً ثم لا يزال يتكامل حتى يفنى ويرجع إلى ربه .
ووجه إلى الله سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أمور تدريجية ، وكل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل .
وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشئ واحد ، وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة ، وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح ، وسيجي إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه .
ومقتضى هذه الآيات أن للعالم الإنساني على ما له من السعة وجوداً جميعاً عند الله سبحانه ، وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم ، وكيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه ، وهذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت ، ويقول: وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. الانعام: 75 ويشير إليه بقوله:كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . التكاثر: 7 .
وأما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني ، وهو الذي يفرق بين الآحاد ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان وتطبيقها على مر الليالي والأيام ويحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية واللذائذ الحسية ، فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه. وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعاً كن ويكون في قوله تعالى: أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . يس : 82 .
ويتبين بذلك أن هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أخرى إنسانية هي هي بعينها غير أن الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربهم ، يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهده أنفسهم ، لا من طريق الإستدلال ، بل لأنهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه ويعترفون به وبكل حق من قبله. وأما قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلا فعله تعالى القائم به ، فافهم ذلك .
وأنت إذا تدبرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... الآية ، وأجدت التدبر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله ، فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرق الله فيها بين أفراد هذا النوع وميز بينهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ  قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا .
ولا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذر من الروايات على ما تقدم ، فإن هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات والنشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الإنسانية الدنيوية زماناً ، بل هي معها محيطة بها لكنها سابقة عليها السبق الذي في قوله تعالى: كُنْ فَيَكوُنْ ، ولا يرد عليه شئ من المحاذير المذكورة .
ولا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الإنساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته لقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ، ثم التجوز في الإشهاد بإرادة التعريف منه وفي الخطاب بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ بإرادة دلالة الحال ، وكذا في قوله: قالوا بلى ، وقوله: شَهِدْنَا ، بل الظرف ظرف سابق على الدنيا وهو غيرها ، والإشهاد على حقيقته والخطاب على حقيقته .
ولا يرد عليه أنه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدل عليه ، فإن الآية لا تأبى عنه ، وسائر الآيات تشير إليه بضم بعضها إلى بعض .
وأما الروايات فسيأتي أن بعضها يدل على أصل تحقق هذه النشأة الإنسانية كالآية ، وبعضها يذكر أن الله كشف لادم(ع) عن هذه النشأة الإنسانية وأراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الإنساني وما وقع فيه من الاشهاد وأخذ الميثاق ، كما أرى إبراهيم(ع) ملكوت السماوات والأرض .
رجعنا إلى الآية ، قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ، أي واذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق ، أو واذكر للناس في بيان ما نزلت السورة 20: لاجل بيانه ، وهو أن لله عهداً على الإنسان وهو سائله عنه وأن أكثر الناس لا يفون به وقد تمت عليهم الحجة ، أذكر لهم موطناً قبل الدنيا أخذ فيه ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم فما من أحد منهم إلا استقل من غيره وتميز منه فاجتمعوا هناك جميعاً وهم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم وأشهدهم على أنفسهم فلم يحتجبوا عنه وعاينوا أنه ربهم ، كما أن كل شئ بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه ، وهو ظاهر الآيات القرآنية كقوله: وَ إِنْ مِنْ شَئٍْ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. الاسراء : 44 .
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، وهو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال ، وتكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الإعتراف وإعطاء الموثق ، ولا نعني بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد ، وكذا الكلام في قوله: قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا .
وقوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، الخطاب للمخاطبين بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ القائلين بَلَى شَهِدْنَا ، فهم هناك يعاينون الاشهاد والتكليم من الله
والتكلم بالإعتراف من أنفسهم ، وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالإستدلال ، ثم إذا كان يوم البعث وانطوى بساط الدنيا وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم ، وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم . ويحتمل أن يكون الخطاب راجعاً إلينا معاشر المخاطبين بالآيات ، أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا وكذا ، والأول أقرب ويؤيده قراءة أن يقولوا بلفظ الغيبة .
وقوله: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ، هذه حجة الناس إن فرض الإشهاد وأخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية ، كما أن قوله أن تقولوا الخ ، حجة للناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد ولا أخذ ميثاق من أحد منهم .
ومن المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد وأخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم وبين ربهم في تلك النشأة ، فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهاداً وأخذ ميثاق ، وأما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب وهو المعرفة من طريق الإستدلال ، فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد وأخذ ميثاق كان لازمه في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلاً ، وحينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم وليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم والنشوء على شركهم من غير علم ، فصح لهم أن يقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ .
قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . ، تفصيل الآيات تفريق بعضها وتمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها ولا تختلط وجوه دلالتها ، وقوله: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، عطف على مقدر والتقدير لغايات عالية كذا وكذا ولعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق .
( ثم أورد صاحب الميزان(رض) رواية ابن الكوا المتقدمة ، وقال ):
أقول والرواية كما تقدم وبعض ما يأتي من الروايات يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم وإراءتهم إياه. وكان تشبيههم بالذر كما في كثير من الروايات تمثيل لكثرتهم كالذر لا لصغرهم جسماً أو غير ذلك ، ولكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سميت هذه النشأة بعالم الذر .
وفي الرواية دلالة ظاهرة على أن هذا التكليم كان تكليماً حقيقياً لا مجرد دلالة الحال على المعنى. وفيها دلالة على أن الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب ، بل على النبوة وغير ذلك. وفي كل ذلك تأييد لما قدمناه .
وفي تفسير العياشي عن رفاعة قال: سالت أبا عبدالله عن قول الله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، قال نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا ، وقبض يده .
أقول: وظاهر الرواية أنها تفسر الأخذ في الآية بمعنى الإحاطة والملك .
وفي تفسير القمي عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن مسكان ، عن أبي عبدالله(ع) في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، قلت: معاينة كان هذا ؟ قال: نعم . . . ( إلى آخر الرواية المتقدمة ) . .
أقول: والرواية ترد على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذر تفسيرهم قوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، أن المراد به أنه عرفهم آياته الدالة على ربوبيته ، والرواية صحيحة ومثلها في الصراحة والصحة ما سيأتي من رواية زرارة وغيره .
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن زرارة: أن رجلاً سأل أبا جعفر (ع)  عن قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.. إلى آخر الآية ، فقال وأبوه يسمع: حدثني أبي أن الله عز وجل قبض قبضه من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات، ثم تركها أربعين صباحاً ، ثم صب عليها الماء المالح الاجاج ، فتركها أربعين صباحاً ، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركاً شديداً ، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار ، فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً ، وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها .
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر ، وكأن الأمر بدخول النار كناية عن الدخول حظيرة العبودية والإنقياد للطاعة .
وفيه بإسناده عن عبدالله بن محمد الحنفي وعقبه جميعاً عن أبي جعفر(ع) قال: إن الله عز وجل خلق الخلق ، فخلق من أحب مما أحب ، فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض مما أبغض ، وكان ما أبغض أن خلقه من طينه النار ، ثم بعثهم في الظلال ، فقيل: وأي شئ الظلال قال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ ، ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله ، وهو قوله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ، ثم دعوهم إلى الإقرار فأقر بعضهم وأنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا ، فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، ثم قال أبوجعفر(ع) كان التكذيب ثَمَّ .
أقول: والرواية وإن لم تكن مما وردت في تفسير آية الذر ، غير أنا أوردناها لاشتمالها على قصة أخذ الميثاق وفيها ذكر الظلال ، وقد تكرر ذكر الظلال في لسان أئمة أهل البيت^والمرادبه كما هو ظاهر الرواية وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي وبوجه غيره ، وله أحكام غير أحكام الدنيا بوجه وعينها بوجه ، فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدم .
وفي الكافي وتفسير العياشي عن أبي بصير قال: قلت لابي عبدالله (ع) كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ، وزاد العياشي يعني في الميثاق .
أقول: وما زاده العياشي من كلام الراوي ، وليس المراد بقوله جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه دلالة حالهم على ذلك ، بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية استبعد صدوره عن الذر ، فسأل عن ذلك فأجابه(ع) بأن الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جواباً دنيوياً باللسان والكلام اللفظي ، ويؤيده قوله(ع) ما إذا سألهم ولم يقل ما لو تكلموا ونحو ذلك .
وفي تفسير العياشي أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبدالله(ع) : في قول الله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالوا بألسنتهم ؟ قال نعم وقالوا بقلوبهم ، فقلت وأين كانوا يومئذ ؟ قال صنع منهم ما اكتفى به..
أقول: جوابه(ع) إنهم قالوا بلى بألسنتهم وقلوبهم مبني على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جواباً بلسان على النحو المعهود في الدنيا ، لكن اللسان والقلب هناك واحد ، ولذلك قال(ع) نعم وبقلوبهم فصدق اللسان وأضاف إليه القلب. ثم لما كان في ذهن الراوي أنه أمر واقع في الدنيا ونشأة الطبيعة وقد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصة إخراج الذرية من ظهر آدم تعيين المكان له وقد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير ، سأله(ع) عن مكانهم بقوله وأين كانوا يومئذ ؟ فأجابه(ع) بقوله: صنع منهم ما اكتفى به ، فلم يجبه بتعيين المكان بل بأن الله سبحانه خلقهم خلقاً يصح معه السؤال والجواب ، وكل ذلك يؤيد ما قدمناه في وصف هذا العالم .
والرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أن التكليم والتكلم في الآية على الحقيقة دون المجاز ، بل هي صريحة فيه .
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وأبوالشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، عن أبي إمامة أن رسول الله (ص) قال: خلق الله الخلق وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه ، وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى ، وكلتا يدي الرحمن يمين ، فقال: يا أصحاب اليمين ، فاستجابوا له ، فقالوا: لبيك ربنا وسعديك ، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . قال: يا أصحاب الشمال ، فاستجابوا له ، فقالوا: لبيك ربنا وسعديك ، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قالوا: بلى. فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم: رب لم خلطت بيننا ، قال وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، ثم ردهم في صلب آدم ، فأهل الجنة أهلها وأهل النار أهلها . فقال قائل يا رسول الله فما الأعمال ؟ قال: يعمل كل قوم لمنازلهم ، فقال عمر بن الخطاب: إذاً نجتهد .
أقول: قوله (ص): وعرشه على الماء ، كناية عن تقدم أخذ الميثاق وليس المراد به تقدم خلق الأرواح على الأجساد زماناً ، فإن عليه من الإشكال ما على عالم الذر بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين ، وقد تقدم .
وقوله (ص) يعمل كل قوم لمنازلهم ، أي أن كل واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا ، فإن كان العامل من أهل الجنة عمل الخير لا محالة وإن كان من أهل النار عمل الشر لا محالة ، والدعوة إلى الجنة وعمل الخير ، لأن عمل الخير يعيِّن منزله في الجنة وإن عمل الشر يعيِّن منزله في النار لا محالة ، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ. البقره : 148 فلم يمنع تعين الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات ، ولا منافاة بين تعين السعادة والشقاوة بالنظر إلى العلل التامة ، وبين عدم تعينها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله ، فإنه جزء العلة وجزء علة الشئ لا يتعين معه وجود الشئ ولا عدمه بخلاف تمام العلة ، وقد تقدم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب ، وآخرها في تفسير قوله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ . فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ الاعراف : 30 ، وأخبار الطينة المتقدمة من أخبار هذا الباب بوجه .
وفيه ، أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس: في قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ الآية ، قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم.
أقول: وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة ، لكن الجميع تشترك في أصل المعنى وهو إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق منهم .
وفيه ، أخرج ابن عبدالبر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وناس من الصحابة: في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة ، قبل تهبيطه من السماء مسح صفحه ظهره اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال لهم أدخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال ادخلوا النار ولا أبالي ، فذلك قوله أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. ثم أخذ منهم الميثاق ، فقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، فأعطاه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين على وجه التقية ، فقال هو والملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ، قالوا فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز وجل: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَ الأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وذلك قوله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، يعني يوم أخذ الميثاق .
أقول: وقد روى حديث الذر كما في الروايه موقوفة وموصولة عن عدة من أصحاب رسول الله(ص)، كعلي(ع) ، وابن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة ، وأبي سعيد الخدري ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالرحمان بن قتادة ، وأبي الدرداء وأنس ومعاوية وأبي موسى الأشعري . كما روي من طرق الشيعة عن علي وعلي بن الحسين ، ( ومحمد بن علي ) ، وجعفر بن محمد ، والحسن بن علي العسكري^.
ومن طرق أهل السنة أيضاً عن علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد بطرق كثيرة ، فليس من البعيد أن يدعي تواتره المعنوي .
واعلم أن الروايات في الذر كثيره جداً ، وقد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها . وهنا روايات أخر في أخذ الميثاق عن النبي(ص)وسائر الأنبياء ^سنوردها في محلها إن شاء الله تعالى. انتهى.

عوالم وجود الإنسان
تحصل من بحث صاحب الميزان(رض) أنه جعل الاقوال في عالم الذر ثلاثة:
الأول: نفي وجود عالم الذر ، والقول بأن ما ورد في الآية من إشهاد الناس وإقرارهم بالربوبية ، إنما هو تعبير مجازي عن تكوينهم الذي يهديهم إلى ربهم تعالى. وهو قول عدد من المتأثرين بالفلسفة اليونانية من القدماء ، وبالثقافة الغربية من المتأخرين .
الثاني: أن عالم الذر بمعنى أن الله تعالى استخرج نطف أبناء آدم(ع) من ظهره ، ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ، ثم كونهم بشكل معين وأشهدهم فأقروا ، ثم أعادهم إلى حالتهم الأولى في ظهر آدم(ع) . وقد ذهب إليه بعض المفسرين من السنة والشيعة .
الثالث: أن عالم الذر هو عالم الملكوت والخزائن ، وهو الوجه الذي اختاره صاحب الميزان(رض) وأطال في الكلام حوله واختصر في الإستدلال عليه .
ولكن يرد عليه إشكالات متعددة ، أهمها:
أولاً: أن عالم الملكوت اسم عام لكل عوالم ملك الله تعالى ، وتفسير عالم الذر به لا يحل المشكلة ، لأنه يبقى السؤال وارداً: في أي عالم من ملكوت الله تعالى تم خلق الناس وأخذ الميثاق منهم ؟
ثانياً: أن تفسير عالم الذر بعالم الملكوت تفسير استحساني لا دليل عليه، وطريقنا إلى معرفة عوالم خلق الله وأفعاله سبحانه وتعالى ، محصور بما أخبرنا به النبي وآله صلى الله عليهم ، وما دل العقل عليه بدلالة قطعية ، لا ظنية أو احتمالية.
ثالثاً: أن عوالم وجود النبي وآله(ص) ووجود الناس قبل هذا العالم ، وردت فيها أحاديث كثيرة لا يمكن إغفالها في البحث ، كما فعل بعضهم ، ولا نفيها بجرة قلم كما فعل بعضهم ، كما لا يمكن دمجها في عالم واحد كعالم الملكوت أو الخزائن كما فعل صاحب الميزان(رض) بل هي عوالم متعددة قد تصل إلى عشرة عوالم ، نذكر منها:
عالم الأنوار الأولى: أو عالم الاشباح ، وهو أول ظلال أو في خلقه الله تعالى من نور عظمته ، وهو نور نبينا وآله صلى الله عليه وعليهم .
عالم الأظلة: الذي تم فيه خلق جميع الناس وتعارفهم .
عالم الذر ، الذي أخذ فيه الميثاق على الناس ، وتدل الأحاديث على أنه نفس عالم الأظلة أو مرتبط به بنحو من الإرتباط .
عالم الطينة ، التي خلق منها الناس .
وذكرت أحاديث أخرى أن خلق الأرواح تم قبل خلق الاجساد . . الخ .
كما ذكرت الآيات والأحاديث عوالم أخرى مثل قوله تعالى : هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُوراً . أي كان في ذلك الحين شيئاً ، ولكنه غير مذكور ، كما ورد في الرواية عن الإمام الباقر(ع) .
وهذه العوالم كلها من عالم الملكوت ومن خزائن ملكه تعالى ، ولكنها ليست نفس عالم الملكوت ولا الخزائن .
وقد تقدم عدد من روايات العوالم الأربعة الأولى ، ونورد فيما يلي عدداً آخر ، وبعضها نص على أن عالم الذر هو عالم الأظلة .
من روايات عالم الأشباح ( ظلال النور )
الأصول الستة عشر/15: (عباد عن عمرو ، عن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين(ع) يقول: إن الله خلق محمداً وعلياً وأحد عشر من ولده من نور عظمته ، فأقامهم أشباحاً في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق ، يسبحون الله ويقدسونه ، وهم الأئمة من ولد رسول الله(ص).
ورواه الكليني في الكافي:1/530 ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي سعيد العصفوري ، عن عمرو بن ثابت ، عن أبي حمزة . . . كما في الأصول الستة عشر .
الكافي:1/442 : (الحسين ( عن محمد ) بن عبد الله ، بن محمد بن سنان ، عن المفضل ، عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر(ع) : يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً(ص) وعترته الهداة المهتدين ، فكانوا أشباح نور بين يدي الله ، قلت: وما الأشباح ؟ قال: ظل النور ، أبدان نورانية بلا أرواح ، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس ، فبه كان يعبد الله وعترته ، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء ، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ، ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون. انتهى. ورواه البحراني في حلية الأبرار:1/19
علل الشرائع:1/208: (حدثنا إبراهيم بن هارون الهاشمي قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج قال: حدثنا عيسى بن مهران قال: حدثنا منذر الشراك قال: حدثنا إسماعيل بن علية قال: أخبرني أسلم بن ميسرة العجلي ، عن أنس بن مالك ، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله(ص)قال: إن الله عز وجل خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام. قلت فأين كنتم يا رسول الله ؟ قال: قدام العرش نسبح الله تعالى ونحمده ونقدسه ونمجده. قلت: على أي مثال ؟ قال: أشباح نور ، حتى إذا أراد الله عز وجل أن يخلق صورنا صيرنا عمود نور ، ثم قذفنا في صلب آدم ، ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر ، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون ، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب ، ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة والنصف إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة علياً ، ثم أعاد عز وجل العمود إلي فخرجت مني فاطمة ، ثم أعاد عز وجل العمود إلى علي فخرج منه الحسن والحسين ـ يعني من النصفين جميعاً ـ فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن ، وما كان من نوري صار في ولد الحسين ، فهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة .
شرح الأخبار:3/6: (صفوان الجمال قال: دخلت على أبي عبدالله جعفر بن محمد(ع) وهو يقرأ هذه الآية: فَتَلَقَّىءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. ثم التفت إلى فقال: يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم(ع) أن يرمي بطرفه نحو العرش ، فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبحون الله ويقدسونه ، فقال آدم: يا رب من هؤلاء ؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي ، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ، خلقت الجنة لهم ولمن والاهم ، والنار لمن عاداهم. لو أن عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي ثم توسل إليّ بحق هؤلاء لعفوت له .
فلما أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا رب بحق هؤلاء الأشباح اغفر لي ، فأوحى الله عز وجل إليه: إنك توسلت إلي بصفوتي وقد عفوت لك. قال آدم: يا رب بالمغفرة التي غفرت إلا أخبرتني من هم ؟ فأوحى الله إليه: يا آدم هؤلاء خمسة من ولدك ، لعظيم حقهم عندي اشتققت لهم خمسة أسماء من أسمائي ، فأنا المحمود وهذا محمد ، وأنا الأعلى وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا المحسن وهذا الحسن ، وأنا الإحسان وهذا الحسين .
شرح الأخبار:3/514: (عن عبدالقادر بن أبي صالح ، عن هبة الله بن موسى ، عن هناد بن إبراهيم ، عن الحسن بن محمد ، عن محمد بن فرحان ، عن محمد بن يزيد ، عن الليث بن سعد ، عن العلاء بن عبدالرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي (‘): أنه لما خلق الله تعالى آدم أبا البشر ونفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة أشباح . . . الحديث .
شرح الأخبار:2/500: (أحمد بن محمد بن عيسى المصري ، بإسناده عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (‘) يقول: لما خلق الله عز وجل آدم ((ع) ) ونفخ فيه من روحه ، نظر آدم ((ع) ) يمنة العرش ، فإذا من النور خمسة أشباح على صورته ركعاً سجداً فقال: يا رب هل خلقت أحداً من البشر قبلي ؟ قال: لا. قال: فمن هؤلاء الذين أراهم على هيئتي وعلى صورتي ؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك ، لولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الإنس ولا الجن ، هؤلاء خمسة اشتققت لهم أسماء من أسمائي ، فأنا المحمود وهذا محمد وأنا الأعلى وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا حسن ، وأنا المحسن وهذا الحسين... .
تحف العقول/163:
ـ... بل اشتقاق الحقيقة والمعنى من اسمه تعالى كما جاء في حديث المعراج: إن الله تعالى قال لي: يا محمد اشتققت لك إسماً من أسمائي فأنا المحمود وأنت محمد ، واشتققت لعلي إسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو علي ، وهكذا فاطمة والحسن والحسين^فكلهم أشباح نور من نوره تعالى جل اسمه .
كفاية الاثر/70: (قال هارون: حدثنا حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي ، قال حدثني أبوالنصر محمد بن مسعود العياشي ، عن يوسف بن المشحت البصري ، قال حدثنا إسحق بن الحارث ، قال حدثنا محمد بن البشار ، عن محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة ، عن هشام بن يزيد ، عن أنس بن مالك قال: كنت أنا وأبوذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند النبي(ص)ودخل الحسن والحسين (‘) فقبلهما رسول الله(ص)وقام أبوذر فانكب عليهما وقبل أيديهما ، ثم رجع فقعد معنا ، فقلنا له سراً: أرأيت رجلاً شيخاً من أصحاب رسول الله(ص)يقوم إلى صبيين من بني هاشم فينكب عليهما ويقبل أيديهما ؟ فقال: نعم ، لو سمعتم ما سمعت فيهما من رسول الله(ص)لفعلتم بهما أكثر مما فعلت. قلنا: وماذا سمعت يا أباذر ؟ قال: سمعته يقول لعلي ولهما: يا علي والله لو أن رجلاً صلى وصام حتى يصير كالشن البالي إذاً ما نفعه صلاته وصومه إلا بحبكم ، يا علي من توسل إلى الله بحبكم فحق على الله أن لا يرده ، يا علي من أحبكم وتمسك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى. قال: ثم قام أبوذر وخرج ، وتقدمنا إلى رسول الله(ص)فقلنا: يا رسول الله أخبرنا أبوذر عنك بكيت وكيت .
قال: صدق أبوذر ، صدق والله ، ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. ثم قال: خلقني الله تبارك وتعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق آدم بسبعة آلاف عام ، ثم نقلنا إلى صلب آدم ، ثم نقلنا من صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، فقلت: يا رسول الله فأين كنتم وعلى أي مثال كنتم ؟ قال: كنا أشباحاً من نور تحت العرش نسبح الله تعالى ونمجده ، ثم قال: لما عرج بي إلى السماء وبلغت سدرة المنتهى ودعني جبرئيل (ع) فقلت:حبيبي جبرئيل أفي هذا المقام تفارقني ؟ فقال: يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي .
ثم زج بي في النور ما شاء الله ، فأوحى الله إلي: يا محمد إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً ، ثم اطلعت ثانياً فاخترت منها علياً فجعلته وصيك ووارث علمك والإمام بعدك ، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي ، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنة ولا النار. يا محمد أتحب أن تراهم قلت: نعم يا رب ، فنوديت: يا محمد إرفع رأسك ، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ، والحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري ، فقلت: يا رب من هؤلاء ، ومن هذا ؟ قال: يا محمد هم الأئمة بعدك المطهرون من صلبك ، وهو الحجة الذي يملا الأرض قسطاً وعدلاً ويشفي صدور قوم مؤمنين .
قلنا: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجباً. فقال(ع) : وأعجب من هذا أن قوماً يسمعون مني هذا ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ، ويؤذوني فيهم ، لا أنالهم الله شفاعتي .
بصائر الدرجات/83: (أحمد بن محمد ويعقوب بن يزيد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد بن الحلبي ، عن أبي عبدالله(ع) قال قال رسول الله(ص): إن الله مثَّل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كلها ، كما علم آدم الأسماء كلها ، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته ، إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة ، قيل يا رسول الله وما هي ؟ قال المغفرة منهم لمن آمن واتقى ، لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة ، ولهم تبدل السيئات حسنات .
الحسن بن محبوب عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله(ع) : أن بعض قريش قال لرسول الله(ص): بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ قال: إني كنت أول من أقر بربي وأول من أجاب ، حيث أخذ الله ميثاق النبيين وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، وكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله .
حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن النعمي ، عن ابن مسكان ، عن عبدالرحيم القصير ، عن أبي جعفر(ع) قال قال رسول الله(ص): إن أمتي عرضت عليَّ عند الميثاق ، وكان أول من آمن وصدقني علي ، وكان أول من آمن بي وصدقني حيث بعثت فهو الصديق الأكبر .
حدثنا العباس بن معروف ، عن حماد بن عيسى ، عن أبي الجارود ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله(ص)ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقني إخواني مرتين، فقال من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول ؟ فقال: لا ، إنكم أصحابي ، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني ، لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء ، أو كالقابض على جمر الغضا. أولئك مصابيح الدجى ، ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة. انتهى. وروايات البصائر هذه ليس فيها تصريح بعالم الأظلة أو الأشباح ، لكن يصح حملها عليه بالقرائن .

من روايات عالم الاظلة
الإعتقادات للصدوق/26: (وقال النبي(ص): الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف. وقال الصادق(ع) : إن الله آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام ، فلو قد قام قائمنا أهل البيت لورَّث الأخ الذي آخا بينهما في الأظلة ، ولم يورث الأخ من الولادة. انتهى. ورواه في الفقيه:4/352 ، ورواه في بحار الأنوار:6/249 ، ورواه الصدوق في الخصال/169 ، قال:حدثنا علي بن أحمد بن موسى (رض) قال: حدثنا حمزة بن القاسم العلوي قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن عمران البرقي قال: حدثنا محمد بن علي الهمداني ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي عبدالله وأبي الحسن (‘) قالا: لو قد قام القائم لحكم بثلاث لم يحكم بها أحد قبله: يقتل الشيخ الزاني ، ويقتل مانع الزكاة ، ويورث الأخ أخاه في الأظلة .
الكافي:1/441: (علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن علي بن إبراهيم ، عن علي بن حماد ، عن المفضل قال: قلت لابي عبدالله(ع) : كيف كنتم حيث كنتم في الاظلة ؟ فقال: يا مفضل كنا عند ربنا ليس عنده أحد غيرنا ، في ظلة خضراء نسبحه ونقدسه ونهلله ونمجده ، وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا ، حتى بدا له في خلق الأشياء ، فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم ، ثم أنهى علم ذلك إلينا. انتهى. والمقصود بقوله(ع) : ثم أنهى علم ذلك إلينا ، شبيه قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهَا .
الكافي:1/436: (محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن صالح بن عقبة ، عن عبدالله بن محمد الجعفري ، عن أبي جعفر(ع) وعن عقبة ، عن أبي جعفر(ع) قال: إن الله خلق ، فخلق ما أحب مما أحب ، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق ما أبغض مما أبغض ، وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ، ثم بعثهم في الظلال. فقلت: وأي شئ الظلال ؟ قال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شئ وليس بشئ ، ثم بعث الله فيهم النبيين يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ . ثم دعاهم إلى الإقرار بالنبيين ، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم، ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض ، وهو قوله: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. ثم قال أبو جعفر(ع) : كان التكذيب ثَمَّ. انتهى.
ورواه في الكافي:2/10: عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة ، عن عبدالله بن محمد الجعفي وعقبة ، جميعاً عن أبي جعفر(ع) قال... ورواه في علل الشرائع:1/118 ، رواه في بصائر الدرجات /80 ، وفيه ( كان التكذيب ثمت ) .
الكافي:8/2: (حدثني علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن حفص المؤذن ، عن أبي عبد الله(ع) ، وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله(ع) أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم ، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها .
قال: وحدثني الحسن بن محمد ، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي ، عن القاسم بن الربيع الصحاف ، عن إسماعيل بن مخلد السراج ، عن أبي عبدالله(ع)  قال: خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (ع)  إلى أصحابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد ، فاسألوا ربكم
العافية ، وعليكم بالدعة والوقار والسكينة ، وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم ، وعليكم بمجاملة أهل الباطل... .
وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه ، وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه.. وعليكم بالدعاء ، فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه... .
فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية أن أتم الله لكم ما أعطاكم ، فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم... .
واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شئ ، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى لا رأي ولا مقائيس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم ، كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم ، وهم الذين من سألهم ـ وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم ـ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه ، وإلى جميع سبل الحق ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الاظلة ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم ، وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان... .
الأصول الستة عشر/63: (جابر قال سألت أبا جعفر(ع) عن تفسير هذه الآية ، عن قول الله عز وجل: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ، يعني لو أنهم استقاموا على الولاية في الأصل تحت الأظلة ، حين أخذ الله ميثاق ذرية آدم ، لاسقيناهم ماء غدقاً: يعني لأسقينا أظلتهم الماء العذب الفرات .
تفسير القمي:2/391: (أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن جابر قال سمعت أبا جعفر(ع)  يقول في هذه الآية: وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقاً: يعني من جرى فيه شئ من شرك الشيطان. على الطريقة: يعني على الولاية في الأصل عند الأظلة ، حين أخذ الله ميثاق ذرية آدم. انتهى. ونحوه في تفسير نور الثقلين:5/438بصائر الدرجات/73: (حدثنا أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميره ، عن أبي بكر الحضرمي ، عن حذيفة بن أسيد الغفار ، قال: قال رسول الله(ص): ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ، ومثلوا له ، فأقروا بطاعتهم وولايتهم .تفسير العياشي:2/126: (عن زرارة وحمران ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (‘) قالا: إن الله خلق الخلق وهي أظلة ، فأرسل رسوله محمداً(ص) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه ، ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن في الأظلة ، وجحده من جحد به يومئذ ، فقال: ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل .
تفسير فرات الكوفي/147:
( فرات قال: حدثني عثمان بن محمد معنعناً: عن أبي خديجة قال: قال محمد بن علي (‘): لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما اختلف فيه اثنان.
قال: قلت: متى ؟ قال فقال لي: في الأظلة حين أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى. محمد نبيكم ، علي أمير المؤمنين وليكم . )
الايضاح لابن شاذان/106: (( . . . فوالله ما الحق إلا واضح بيِّن منير ، وما الباطل إلا مظلم كدر ، وقد عرفتم موضعه ومستقره ، إلا أن الميثاق قد تقدم في الاظلة بالسعادة والشقاوة ، وقد بين الله جل ذكره لنا ذلك بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) .
شرح الأسماء الحسنى:1/166: ( قد عرف النور بأنه الظاهر بذاته المظهر لغيره وهو القدر المشترك بين جميع مراتبه من الضوء وضوء الضوء والظل وظل الظل ، في كل بحسبه وهذا المعنى حق حقيقة الوجود ، إذ كما أنها الموجودة بذاتها وبها توجد المهيات المعدومة بذواتها بل لا موجودة ولا معدومة ، كذلك تلك الحقيقة ظاهرة بذاتها مظهرة لغيرها من الأعيان ، والمهيات المظلمة بذواتها بل لا مظلمة ولا نورية ، فمراتب الوجود من الحقايق والرقايق والأرواح والأشباح والأشعة والأظلة كلها أنوار لتحقق هذا المعنى فيها ، حتى في الأشباح المادية وأظلال الأظلال. انتهى .
ويدل النص التالي على أن حديث عالم الظلال كان معروفاً في حياة النبي(ص) ثم غاب من بعده كما غابت أحاديث كثيرة في فضائله(ص)والسبب في ذلك أن هذه الأحاديث فيها ذكر فضل بني هاشم وبني عبد المطلب وفضل علي وفاطمة والأئمة الإثني عشر الموعودين في هذه الأمة ! وقد عتموا عليها ما استطاعوا ! وما رووه منها من فضائل النبي(ص)جردوه من فضائل أهل بيته وعترته إلا ما أفلت منها ، وما رواه أهل البيت^وشيعتهم ! )
قال في كنز العمال:12/427: ( عن ابن عباس قال: سألت رسول الله(ص)فقلت: فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح ، وقذف بي في صلب أبي إبراهيم ، لم يلتق أبواي قط على سفاح ، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذباً ، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما ، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي ، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري ، وبين كل نبي صفتي ، تشرق الأرض بنوري والغمام لوجهي ، وعلمني كتابه ، ورقى بي في سمائه وشق لي اسماً من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد ، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر ، وأن يجعلني أول مشفع ، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي وهم الحمادون ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي (ص):
من قبلها طبت في الظلال وفي        مستودع حيث يُخْصَف الورقُ
ثم   سكنت   البلاد    لا    بشرٌ        أنت   ولا    نطفةٌ    ولا    علقُ
مطهرٌ   تركب    السفين    وقد        ألجمَ    أهل    الضلالة   الغرق
تُنقل من    صلب    إلى   رحم        إذا   مضى   عالم    بدا    طبـق
فقال النبي (ص): يرحم الله حساناً ! فقال علي بن أبي طالب: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة. كر ، وقال: هذا حديث غريب جداً ، والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس. انتهى. ولكن نسبة هذه الأبيات إلى حسان أولى ، فهي تشبه شعره إلى حد كبير ، ولم يعهد في التاريخ شعر للعباس عم النبي ، كما عهد لعمه أبي طالب(ص). ورواه في مجمع الزوائد للعباس في:8/217 ، وقال: رواه الطبراني وفيهم من لم أعرفهم ، قال:
وعن خريم بن أوس بن جارية بن لام قال: كنا عند النبي(ص)فقال له العباس بن عبدالمطلب: يا رسول الله إني أريد أن أمدحك ، فقال له (ص): هات لا يفضض الله فاك ، فأنشأ يقول:
قبلها طبت في  الظلال  وفي        مستودع حيث يخصف الورق
ثم   هبطت   البلاد   لا  بشر        أنت   ولا   مضغة    ولا   علق
بل نطفة تركب السفين وقد        ألجم    نسراً    وأهله    الغـرق
تنقل   من  صالب إلى رحم        إذا    مضى    عالم    بدا  طبق
حتى  احتوى  بيتك المهيمن        من خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأ        رض   وضاءت  بنورك الأفق
فنحن في  ذلك  الضياء وفي        النور   سبل   الرشاد   نختـرق
وروى نحوه في مناقب آل ابي طالب:1/27
وفي مناقب آل ابي طالب:2/17:
أشباحكم  كن في  بدو  الظلال  له    دون   البرية   خداماً    وحجابا
وأنتمُ    الكلمات    اللاي   لقنها        جبريل آدم عند الذنب  إذ تابا
وأنتمُ  قبلة   الدين   التي  جعلت        للقاصدين إلى الرحمن محرابا
وقد روى إخواننا السنة أحاديث كثيرة وصححوا عدداً منها تنص على أن خلق النبي ونبوته(ص)قد تما قبل خلق آدم(ع) ولكنها مجردة عن فضل أهل بيته ، ففي مسند أحمد:4/127: (الكلبي عن عبد الله بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية قال: قال رسول الله (ص): إني عبد الله لخاتم النبيين وإن آدم(ع) لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْنَ. انتهى. ورواه في مستدرك الحاكم:2/418 وص600 في/608 وزاد فيه: ( وإن أم رسول الله(ص)رأت حين وضعته له نورا أضاءت لها قصور الشام ، ثم تلا: يا أيها النبي يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجًا مُنِيرًا. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ورواه في مجمع الزوائد:8/223 تحت عنوان: باب قدم نبوته(ص) كما في الحاكم وقال ( رواه أحمد بأسانيد ، والبزار ، والطبراني بنحوه ، وقال: سأحدثكم بتأويل ذلك: دعوة إبراهيم دعا ، وابعث فيهم رسولاً منهم ، وبشارة عيسى بن مريم قوله ، ومبشراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد ، ورؤيا أمي التي رأت في منامها أنها وضعت نوراً أضاءت منه قصور الشام. وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان .
وعن ميسرة العجر قال قلت يا رسول الله متى كتبت نبياً ؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وعن عبدالله بن شقيق عن رجل قال قلت يا رسول الله متى جعلت نبياً ؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح .
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله متى كتبت نبياً ؟ قال وآدم بين الروح والجسد. رواه الطبراني في الأوسط والبزار ، وفيه جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف.
وعن أبي مريم قال أقبل أعرابي حتى أتى النبي(ص)وعنده خلق من الناس فقال: ألا تعطيني شيئاً أتعلمه وأحمله وينفعني ولا يضرك، فقال الناس مه أجلس ، فقال النبي(ص)دعوه فإنما يسأل الرجل ليعلم ، فأفرجوا له حتى جلس ، فقال: أي شئ كان أول نبوتك ؟ قال: أخذ الميثاق كما أخذ من النبيين ، ثم تلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ، وبشرى المسيح عيسى بن مريم ، ورأت أم رسول الله (ص)في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام .
فقال الأعرابي هاه وأدنى منه رأسه وكان في سمعه شئ ، فقال النبي(ص)ووراء ذلك. رواه الطبراني ورجاله وثقوا .
وروى أحاديثه في كنز العمال:11/409 وقال في مصادرها: ( ابن سعد ، حل ـ عن ميسرة الفجر ، ابن سعد ـ عن ابن أبي الجدعاء ، طب ـ عن ابن عباس ). وقال في هامشه: أخرجه الترمذي كتاب المناقب باب فضل البني(ص)رقم( 3609 ) وقال: حسن صحيح غريب .
وفي:11/418 وص 449 وص 450 ، وقال في مصادره ( حم ، طب ، ك ، حل ، هب ـ عن عرباض بن سارية ) . ( حم وابن سعد ، طب ، ك ، حل هب ـ عن عرباض بن سارية ) ( ابن سعد ـ عن مطرف بن عبدالله بن الشخير ) ( ابن سعد ـ عن عبدالله بن شقيق عن أبيه أبي الجدعاء ، ابن قانع ـ عن عبدالله بن شقيق عن أبيه ، طب ـ عن ابن عباس ، ابن سعد ـ عن ميسرة الفجر ) ( ابن عساكر ـ عن أبي هريرة )
ورواها السيوطي عن المصادر المتقدمة وغيرها في الدر المنثور:1/139 وج 5/184 وص 207 وج 6/213 .
وروى إخواننا كذلك أحاديث متعددة عن اختيار الله تعالى لبني هاشم تؤيد هذه الأحاديث ، وليس هذا مقام الكلام فيها .

من روايات عالم طينة الخلق
مجمع الزوائد:9/128: (وعن بريدة قال: بعث رسول الله(ص)علياً أميراً على اليمن ، وبعث خالد بن الوليد على الجبل ، فقال: إن اجتمعتما فعلي على الناس ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله ، وأخذ عليٌّ جاريةً من الخمس ، فدعا خالد ابن الوليد بريدة فقال: إغتنمها فأخبر النبي(ص)ما صنع !
فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله(ص)في منزله ، وناس من أصحابه على بابه ، فقالوا: ما الخبر يا بريدة ؟
فقلت: خيراً فتح الله على المسلمين. فقالوا: ما أقدمك ؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس ! فجئت لاخبر النبى(ص).
فقالوا: فأخبر النبي(ص)فإنه يسقط من عين النبي(ص)! ورسول الله(ص)يسمع الكلام ، فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تنقص علياً فقد تنقصني ، ومن فارق علياً فقد فارقني. إن علياً مني وأنا منه ، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . يا بريدة أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ ، وأنه وليكم بعدي ! فقلت: يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً ! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام. رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه جماعة لم أعرفهم وحسين الأشقر ضعفه الجمهور ، ووثقه ابن حبان .مجمع الزوائد:5/208: (وعن جابر ـ قال: لما قدم جعفر من أرض الحبشة تلقاه رسول الله ، فلما نظر إلى رسول الله حجل إعظاماً لرسول الله(ص)فقبل رسول الله بين عينيه ، وقال له: يا حبيبي أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي ، وخلقت من الطينة التي خلقت منها ، يا حبيبي حدثني عن بعض عجائب أهل الحبشة. قال: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بينا أنا قائم في بعض طرقها إذ أنا بعجوز على رأسها مكيل ، وأقبل شاب يركض على فرس فزحمها وألقى المكيل عن رأسها ، واستوت قائمة وأتبعته البصر وهي تقول: الويل لك غداً إذا جلس الملك على كرسيه فاقتص للمظلوم من الظالم ! قال جابر: فنظر إلى رسول الله(ص)وهو يقول: لا قدس الله أمة لا تأخذ للمظلوم حقه من الظالم غير متعتع. رواه الطبراني في الأوسط وفيه مكي بن عبد الله الرعيني وهو ضعيف. انتهى. ورواه في مجمع الزوائد:9/272 ، وروى أيضاً:
وعن أسامة بن زيد أن النبي(ص)قال لجعفر: خلقك كخلقي وأشبه خلقي خلفك فأنت مني ، وأنت يا علي فمني وأبو ولدي. رواه الطبراني عن شيخه أحمد بن عبدالرحمن بن عفال وهو ضعيف .
كنز العمال:11/662: (خلق الناس من أشجار شتى ، وخلقت أنا وجعفر من طينة واحدة. ابن عساكر عن وهب بن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً ، ووهب كان يضع الحديث .
مسند جابر بن عبدالله ، عن مكي بن عبدالله الرعيني ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن الزبير ، عن جابر قال: لما قدم جعفر من أرض الحبشة تلقاه رسول الله ، فلما نظر جعفر إلى رسول الله حجل إعظاماً منه لرسول الله(ص)، فقبل رسول الله بين عينيه وقال: يا حبيبي ! أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي وخلقت من الطينة التي خلقت منها يا حبيبي. عق ، وأبو نعيم ، قال عق غير محفوظ ، وقال في الميزان: مكي له مناكير ، وقال في المغني: تفرد عن ابن عيينة بحديث عب. انتهى. ورواه في كنز العمال:11/662، بعدة روايات في بعضها من طينتي وفي بعضها من شجرتي.
الكافي:2/2: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله عن رجل، عن علي بن الحسين (‘) قال: إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين: قلوبهم وأبدانهم ، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة و ( جعل ) خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك وخلق الكفار من طينة سجين ، قلوبهم وأبدانهم ، فخلط بين الطينتين ، فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن ، ومن هاهنا يصيب المؤمن السيئة ، ومن هاهنا يصيب الكافر الحسنة. فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه. انتهى. ورواه في علل الشرائع:1/82 وروى في/116: محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن ، عن النضر بن شعيب ، عن عبدالغفار الجازي ، عن أبي عبدالله(ع) قال: إن الله عز وجل خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار. وقال: إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئاً من الخير إلا عرفه ولا يسمع شيئاً من المنكر إلا أنكره .
قال وسمعته يقول: الطينات ثلاث: طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطينة إلا أن الأنبياء هم من صفوتها ، هم الأصل ولهم فضلهم ، والمؤمنون الفرع من طين لازب ، كذلك لا يفرق الله عز وجل بينهم وبين شيعتهم. وقال: طينة الناصب من حمأ مسنون ، وأما المستضعفون فمن تراب ، لا يتحول مؤمن عن إيمانه ولا ناصب عن نصبه ، ولله المشيئة فيهم .
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن صالح بن سهل قال: قلت لابي عبد الله(ع) : جعلت فداك من أي شئ خلق الله عزوجل طينة المؤمن ؟ فقال: من طينة الأنبياء ، فلم تنجس أبداً .
محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد وغيره ، عن محمد بن خلف ، عن أبي نهشل قال: حدثني محمد بن إسماعيل ، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: إن الله عز وجل خلقنا من أعلى عليين ، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، وقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ، ثم تلا هذه الآية: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ .كتاب مرقوم يشهده المقربون. وخلق عدونا من سجين ، وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوي إليهم ، لأنها خلقت مما خلقوا منه ، ثم تلا هذه الآية: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . انتهى. ورواه في علل الشرائع: 1/116
الكافي:1/389: (أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن محمد بن شعيب ، عن عمران بن إسحاق الزعفراني ، عن محمد بن مروان ، عن أبي عبدالله(ع) قال: سمعته يقول: إن الله خلقنا من نور عظمته ، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش ، فأسكن ذلك النور فيه ، فكنا نحن خلقاً وبشراً نورانيين لم يجعل لاحد في مثل الذي خلقنا منه نصيباً ، وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من تلك الطينة . . . الحديث .
الكافي:1/402: (أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسين ، عن منصور بن العباس ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير قال: قال أبو عبد الله(ع) : يا أبا محمد . . . وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله أمرنا الله بتبليغه ، فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه ، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً ، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته^ومن نور خلق الله منه محمداً وذريته ، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمداً وذريته ، فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك ، وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا ، فلولا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك ، لا والله ما احتملوه . . . الحديث .

من آيات وروايات عالم الملكوت
قال تعالى: أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَئٍْ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ . الاعراف 184-185
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَيْلُ رَآ كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ . فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِى رَبِّى لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . الأنعام : 75 ـ 77
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَئٍْ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ . المؤمنون : 88 ـ 89
فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَئٍْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . ي
س : 83
نهج البلاغة:1/162: (. . . هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه ... .
نهج البلاغة:1/163: (وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته ، ما دلنا باضطرار قيام الحجة . . .
نهج البلاغة:1/168: (ثم خلق سبحانه لاسكان سماواته ، وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته ، خلقاً بديعاً من ملائكته ملا بهم فروج فجاجها ، وحشى بهم فتوق أجوائها . وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد. ووراء ذلك الرجيج الذي تستك منه الأسماع . . . .
نهج البلاغة:2/45: (الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته ، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته... .
مستدرك الوسائل:11/185: (الآمدي في الغرر ، عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين .
الكافي:1/35: (عن حفص بن غياث قال: قال لي أبوعبدالله(ع) : من تعلم العلم وعمل به وعلم لله، دعي في ملكوت السماوات عظيماً، فقيل: تعلم لله واعمل لله وعلم لله. انتهى .
وروى نحوه في كنز العمال:10/164 وفي سنن الترمذي:4/155 ، وروى في مجمع الزوائد:10/248: ( البراء بن عازب قال قال رسول الله (ص): من قضى نهمته في الدنيا حيل بينه وبين شهوته في الآخرة ، ومن مد عينيه إلى زينة المترفين ، كان مهيناً في ملكوت السموات. ومن صبر على القوت الشديد صبراً جميلاً أسكنه الله من الفردوس حيث شاء .
وسائل الشيعة:11/278: (ثم قال: وذلك إذا انتهكت المحارم ، واكتسب المآثم ، وتسلط الأشرار على الاخيار ، ويفشو الكذب ، وتظهر الحاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في الناس ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. إلى أن قال: فأولئك يدعون في ملكوت السماء: الأرجاس الأنجاس.... الحديث .
الكافي:1/93: (محمد بن أبي عبدالله رفعه قال: قال أبوعبدالله(ع) : يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق أبرة لغطاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض ، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول .
الكافي:1/273: (علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى، قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله (ص)وهو مع الأئمة ، وهو من الملكوت .
الكافي:2/263: (علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني، عن أبي عبدالله(ع)  قال: قال النبي(ص): طوبى للمساكين بالصبر ، وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض .
تفسير الإمام العسكري/513:
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، قوى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين ، فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا ، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما ، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم أكفف دعوتك من عبادي وإمائي . . . الحديث . انتهى . وروى نحوه في الكافي:8/305 وفي كنز العمال:4/269 .
علل الشرائع:1/131: (قالوا حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي الأسدي ، عن موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن سالم عن أبيه ، عن ثابت بن دينار قال سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب(ع) عن الله جل جلاله: هل يوصف بمكان ؟ فقال: تعالى عن ذلك. قلت: فلم أسرى بنبيه محمد(ص)إلى السماء ؟ قال: ليريه ملكوت السموات ، وما فيها من عجائب صنعه وبدايع خلقه . . . .
علل الشرائع:1/15: (حدثنا علي بن أحمد ، عن محمد بن أبي عبدالله ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي قال: حدثنا جعفر بن سليمان بن أيوب الخزاز قال: حدثنا عبدالله بن الفضل الهاشمي قال: قلت لابي عبدالله(ع) : لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل ؟ فقال(ع) : إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل ، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على بعض ورفع بعضها على بعض في الدنيا ، ورفع بعضها فوق بعض درجات في الآخرة ، وكفى بعضها ببعض .
قلت: فقول الله عز وجل: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى .؟ قال: ذاك
رسول الله(ص)دنا من حجب النور فرأى ملكوت السموات ، ثم تدلى(ص)فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض، كقاب قوسين أو أدنى .
وقد روت مصادر إخواننا السنة عدداً من الروايات عن عالم الملكوت ، كالتي رواها أحمد في مسنده:2/363 ، من حديث المعراج . . . فلما نزلت وانتهيت إلى سماء الدنيا فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت من هؤلاء ؟ قال: الشياطين يحرفون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأت العجائب .
\وروى الهيثمي في مجمع الزوائد:9/178: (وعن رقبة بن مصقلة قال لما حصر الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: أخرجوني إلى الصحراء لعلي أتفكر أنظر في ملكوت السماوات يعني الآيات ، فلما أخرج به قال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعز الأنفس عليَّ ، وكان مما صنع الله له أنه أحتسب نفسه. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن رقبة لم يسمع من الحسن فيما أعلم ، وقد سمع من أنس فيما قيل .

من آيات وروايات عالم الخزائن
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَئٍْ مَوْزُونٍ . وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ . وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ . الحجر : 19 ـ 21
الصحيفة السجادية:1/71: (اللهم يا منتهى مطلب الحاجات ، ويا من عنده نيل الطلبات ، ويا من لا يبيع نعمه بالأثمان ، ويا من لا يكدر عطاياه بالإمتنان ، ويا من يستغنى به ولا يستغنى عنه، ويا من يرغب إليه ولا يرغب عنه ، ويا من لا تفني خزائنه المسائل ، ويا من لا تبدل حكمته الوسائل ، ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين ، ويا من لا يعنيه دعاء الداعين... .
مصباح المتهجد/467: (سبحان الحي القيوم ، سبحان الدائم الباقي الذي لا يزول ، سبحان الذي لا تنقص خزائنه ، سبحان من لا ينفد ما عنده ، سبحان من لا تبيد معالمه ، سبحان من لا يشاور في أمره أحداً ، سبحان من لا إله غيره .
مصباح المتهجد/578: (الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده ، الظاهر بالكرم مجده ، الباسط بالجود يده ، الذي لا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلا كرماً وجوداً ، إنه هو العزيز الوهاب .
مستدرك الحاكم:1/525: (عن رسول الله(ص)أنه كان يدعو: اللهم احفظني بالإسلام قائماً ، واحفظني بالإسلام قاعداً ، واحفظني بالإسلام راقداً ، ولا تشمت بي عدواً حاسداً. اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك ، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك. هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
هذا ماتيسر لنا تتبعه من الأحاديث الدالة على وجود الإنسان في عوالم قبل الدنيا. وفيها بحوث شريفة في عدد هذه العوالم وترتيبها وصفاتها ، قلما تعرض المتكلمون والمفسرون لبحثها .
وفيهابحوث أخرى في امتحان الإنسان فيها واختياره الكفر أو الإيمان قبل وصوله إلى عالم الأرض. وقد بحثها المفسرون والمتكلمون في باب الجبر والاختيار ، والقضاء والقدر .
قال المجلسي(رض) في بحار الأنوار:5/260: (بيان: إعلم أن أخبار هذا الباب من متشابهات الأخبار ومعضلات الآثار ، ولاصحابنا رضي الله عنهم فيها مسالك:
منها ، ما ذهب إليه الأخباريون ، وهو أنا نؤمن بها مجملاً ، ونعترف بالجهل عن حقيقة معناها ، وعن أنها من أي جهة صدرت ، ونرد علمها إلى الأئمة^.
ومنها ، أنها محمولة على التقية لموافقتها لروايات العامة ، ولما ذهبت إليه الأشاعرة وهم جلهم ، ولمخالفتها ظاهراً لما مر من أخبار الإختيار والإستطاعة .
ومنها ، أنها كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون ، فإنه تعالى لما خلقهم مع علمه بأحوالهم فكأنه خلقهم من طينات مختلفة .
ومنها ، أنها كناية عن اختلاف استعداداتهم وقابلياتهم ، وهذا أمر بين لا يمكن إنكاره ، فإنه لا شبهة في أن النبي(ص)وأبا جهل ليسا في درجة واحدة من الإستعداد والقابلية ، وهذا لا يستلزم سقوط التكليف ، فإن الله تعالى كلف النبي (ص)حسب ما أعطاه من الاستعداد لتحصيل الكمالات ، وكلف أبا جهل حسب ما أعطاه من ذلك ، ولم يكلفه ما ليس في وسعه ، ولم يجبره على شئ من الشر والفساد .
ومنها ، أنه لما كلف الله تعالى الأرواح أولاً في الذر وأخذ ميثاقهم فاختاروا الخير والشر باختيارهم في ذلك الوقت ، وتفرع اختلاف الطينة على ما اختاروه باختيارهم كما دل عليه بعض الأخبار السابقة ، فلا فساد في ذلك .
ولا يخفى ما فيه وفي كثير من الوجوه السابقة ، وترك الخوض في أمثال تلك المسائل الغامضة التي تعجز عقولنا عن الاحاطة بكنهها أولى ، لا سيما في تلك المسألة التي نهى أئمتنا عن الخوض فيها. ( مسألة القضا والقدر ) .
ولنذكر بعض ما ذكره في ذلك علماؤنا رضوان الله عليهم ومخالفوهم .
فمنها: ما ذكره الشيخ المفيد قدس الله روحه في جواب المسائل السروية حيث سئل: ما قوله ـ أدام الله تأييده ـ في معنى الأخبار المروية عن الأئمة الهادية^ في الأشباح وخلق الله تعالى الأرواح قبل خلق آدم(ع) بألفي عام ، وإخراج الذرية من صلبه على صور الذر ، ومعنى قول رسول الله(ص): الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
الجواب: وبالله التوفيق ، إن الأخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها ، وتتباين معانيها ، وقد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة ، وصنفوا فيها كتباً لغوا فيها ، وهزئوا فيما أثبتوه منه في معانيها ، وأضافوا ما حوته الكتب إلى جماعة من شيوخ أهل الحق وتخرصوا الباطل بإضافتها إليهم ، من جملتها كتاب سموه كتاب ( الأشباح والأظلة ) نسبوه في تأليفه إلى محمد بن سنان ، ولسنا نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه.
وإن كان صحيحاً فإن ابن سنان قد طعن عليه وهو متهم بالغلو ، فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال لضال عن الحق، وإن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك.
والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقاة بأن آدم(ع) رأى على العرش أشباحاً يلمع نورها فسأل الله تعالى عنها ، فأوحى إليه أنها أشباح رسول الله(ص)وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم ، وأعلمه أنه لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماءً ولا أرضاً. والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لادم أن دله على تعظيمهم وتبجيلهم ، وجعل ذلك إجلالاً لهم ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم ، ودليلاً على أن مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بهم ، ولم يكونوا في تلك الحال صوراً مجيبة، ولا أرواحاً ناطقة ، لكنها كانت على مثل صورهم في البشرية ، يدل على ما يكونوا عليه في المستقبل في الهيئة ، والنور الذي جعله عليهم يدل على نور الدين بهم وضياء الحق بحججهم. وقد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش ، وأن آدم(ع) لما تاب إلى الله عز وجل وناجاه بقبول توبته سأله بحقهم عليه ومحلهم عنده فأجابه ، وهذا غير منكر في العقول ولا مضاد للشرع المنقول ، وقد رواه الصالحون الثقاة المأمونون ، وسلم لروايته طائفة الحق ، ولا طريق إلى إنكاره ، والله ولي التوفيق. انتهى .
ويدل كلام المفيد+أن الغلاة في عصره كانوا استغلوا أحاديث الأشباح والظلال وبنوا عليها أباطيل تخالف مذهب أهل البيت^، فشنع بسببها الخصوم على المذهب ، فنفى المفيد دعوى الخصوم ، وفي نفس الوقت أثبت أحاديث الأشباح والظلال ، ثم فسرها بتفسير يفهمه العوام ولا يثير الخصوم .
وقال في هامش الكافي:2/3: (الأخبار مستفيضة في أن الله تعالى خلق السعداء من طينة عليين ( من الجنة ) وخلق الأشقياء من طينة سجين ( من النار ) وكل يرجع إلى حكم طينته من السعادة والشقاء ، وقد أورد عليها: أولاً: بمخالفة الكتاب. وثانياً: باستلزام الجبر الباطل .
أما البحث الأول ، فقد قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ، وقال: وبدأ خلق الإنسان من طين ، فأفاد أن الإنسان مخلوق من طين ، ثم قال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا . . الآية. وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلا فِى أَنْفُسِكُمْ إِلا فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا.. الآية. فأفاد أن للإنسان غاية ونهاية من السعادة والشقاء ، وهو متوجه إليها سائر نحوها. وقال تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ . . الآية. فأفاد أن ما ينتهي إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاء هو ماكان عليه في بدء خلقه وقد كان في بدء خلقه طيناً ، فهذه الطينة طينة سعادة وطينة شقاء ، وآخرالسعيد إلى الجنة وآخرالشقي إلى النار ، فهما أولهما لكون الآخر هو الأول ، وحينئذ صح أن السعداء خلقوا من طينة الجنة والأشقياء خلقوا من طينة النار. وقال تعالى: كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.. الآيات. وهي تشعر بأن عليين وسجين هما ما ينتهي اليه أمر الأبرار والفجار من النعمة والعذاب ، فافهم .
وأما البحث الثاني، وهو أن أخبار الطينة تستلزم أن تكون السعادة والشقاء لازمين حتميين للإنسان ، ومعه لا يكون أحدهما اختيارياً كسبياً للإنسان وهو الجبر الباطل . والجواب عنه ، أن اقتضاء الطينة للسعادة أو الشقاء ليس من قبل نفسها بل من قبل حكمه تعالى وقضائه ماقضى من سعادة وشقاء ، فيرجع الإشكال إلى سبق قضاء السعادة والشقاء في حق الإنسان قبل أن يخلق ، وإن ذلك يستلزم الجبر. وقد ذكرنا هذا الإشكال مع جوابه في باب المشيئة والإرادة في المجلد الأول من الكتاب/150 ، وحاصل الجواب: أن القضاء متعلق بصدور الفعل عن اختيار العبد فهو فعل اختيارى في عين أنه حتمى الوقوع ، ولم يتعلق بالفعل سواء اختاره العبد أو لم يختره ، حتى يلزم منه بطلان الإختيار. وأما شرح ما تشمل عليه هذه الأخبار تفصيلاً فأمر خارج عن مجال هذا البيان المختصر ، فليرجع فيه إلى مطولات الشروح والتعاليق والله الهادي .( الطباطبائي ) انتهى .
ونختم بالقول: إن مسألة وجود الإنسان في عوالم قبل عالم الأرض ، أوسع مما بحثه المتكلون والفلاسفة ، وهي تحتاج إلى تتبع كامل وبحث دقيق في أحاديثها الشريفة ، للتوصل إلى عدد تلك العوالم وصفاتها ، ولا يبعد أنها تحل كثيراً من المشكلات ، ومنها مشكلة الجبر والاختيار ، وقد تبين من مجموعها أن أخذ الميثاق تم من الذر المأخوذ من طين آدم كما في بعضها ، وفي عالم الظلال كما في بعضها ، ومن المحتمل أنه حصل في أكثر من عالم .
كما لا يصح استبعاد أن تكون الذرة إنساناً كاملاً عاقلاً بعد ما سمعنا عن عالم الذرة والجينات .
ولا يصح القول بأن عالم الذر هو عالم الملكوت وإن كان جزء من عالم الملكوت إلا من باب تسمية الجزء باسم الكل. والملكوت كما رأيت في آياته وأحاديثه شامل لعوالم الشهادة والغيب ، والبعد عن الله تعالى والحضور ، وعالم الذر أو الظلال واحد من عوالم الحضور .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page