• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الحادي عشر;العصمة والمعصومون في القرآن

الفصل الحادي عشر
العصمة والمعصومون في القرآن


المعصومون ثمرة الوجود البشري
يتصور البعض أن القرآن لايرى عصمة الأنبياءوالأوصياء(عليهم السلام)  ، لأنه يتحدث عن(معصية)آدم(ع) ويذكر(مؤاخذات)على بعض الأنبياء(عليهم السلام)  كطلب نوح(ع) من ربه أن ينجِّي ابنه مع أنه كان كافراً ، وما يبدو من تحيُّر إبراهيم(ع)في ربه هل هو النجوم أو القمر أو الشمس ، ومن قتل موسى للقبطي ، وغضبه على أخيه هارون (ص). ونحو ذلك من(ذنوب الأنبياء) التي أكثرَ اليهود فيها الكلام والإتهام وتمسك بها المخالفون لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)  ، فحصروا عصمة الأنبياء(عليهم السلام) في التبليغ فقط ، ونفوها في الأمور الشخصية والعامة ، بل نسبوا اليهم أخطاء ومعاصي فظيعة حتى في التبليغ كما تقدم !
لكنَّ النظرة الفاحصة ترينا أن العصمة والمعصومين في القرآن ظاهرةٌ بارزةٌ من أول مشروع خلق آدم(عليهم السلام) وذريته ، وقد وردت في القرآن ببضعة عشر عنواناً:
فالمعصومون هم النخبة الذين من أجلهم كان مشروع إسكان آدم في الأرض، وبهم ستصل الحياة الإجتماعية إلى هدفها الرباني الحكيم الذي لم يعرفه الملائكة: قَالَ إِنِّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ .   وهم الذين تحدى الله تعالى عدوه إبليسَ أن يؤثرَ عليهم فقال له: إِنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.
وهم العباد المكرمون عنده الذين: لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ .
وهم الذين يخصهم بالإطلاع على غيبه ، ويحيطهم برصد لحفظ الغيب ضمن خطه المقرر ، كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحداً. إلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا .
وهم الذين يورثهم الكتاب عبر الأجيال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .
وهم الذين وعد أن يغلب بهم: كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إن الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ .
ووعد أن تتجلى هذه الغلبة بعد خاتم رسله وأنبيائه(ص): هُوَ الَّذِي أرسل رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وهم الذين سيورثهم الأرض بعد عهود الجبابرة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أن الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ.
وهم عباد الرحمن الخاصون الذين خصهم بصفات وافية من سورة الفرقان .
وهم الذين أعطاهم عنده عهداً فلن يخلفه: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عهداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ... إلى آخر الآيات التي تتحدث بيقين عن نجاح المشروع الإلهي في آدم وذريته. وليس نجاحه إلا بهؤلاء المعصومين(عليهم السلام)  ، الذين هم لبُّ هذا المشروع وضمانه ، وهدفه الأسمى !

آيات العصمة في القرآن
في القرآن الكريم طوائف من الآيات تتحدث عن نخبة من البشرية ، وتصفهم بصفات تدل على عصمتهم ، وهذه أهمها:

الطائفة الأولى: آيات الإستخلاف
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؟ قَال:َ إِنِّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاءِ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا: سُبْحَانَكَ لاعِلْمَ لَنَآ إلا مَا عَلَّمْتَنَآ ، إنك أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ: ياآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ! فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعلم غَيْبَ السَّمَوَاتِ والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ).(البقرة:30–33)

لايكون خليفة الله في الأرض إلا معصوماً
قالت أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) إن المستخلف في الآية هو بعض المعصومين وهم آدم(ع)وبعض الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)  وليس كل نوع الإنسان .
وذهب أغلب المفسرين السنة المتأخرين وتبعهم بعض مفسري الشيعة ، إلى أن المستخلف في الآية نوعُ الإنسان ، وأكثروا في توجيه ذلك بلا طائل.
والصحيح أن هذا الجعل الإلهي مختص بآدم والمعصومين من ذريته(عليهم السلام) ، لأنه جعلٌ تشريعي لولاية من الله على الأرض وأناسها ، وإعطاؤها لغير المعصوم يستوجب نفي الحكمة عن الله ونسبة الظلم اليه ، سبحانه وتعالى !
ذلك أن قوله تعالى للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ، ليس إخباراً عن مجرد إسكان آدم وذريته في الأرض ، بل عن جعل خلفاء لله منهم .
وعندما تساءل الملائكة كيف تصلح ذرية آدم للخلافة مع أنهم سيفسدون ويسفكون الدماء ؟ خطَّأهم الله تعالى لأنهم حكموا على جميع ذرية آدم ، وجميع مدتهم على الأرض! وأخبرهم سبحانه أن مشروع استخلافهم لايضر به ما تفعله ذرية آدم من إفساد وسفك الدماء اى حين ! وأن آدم والمستخلفين من ذريته(عليهم السلام) أفضل من الملائكة فهم يصلحون ولا يفسدون ، وأثبت الله لهم ذلك فعلم آدم(ع)ما لايعلمونه ، وأراهم سيرة خلفائه من ذرية آدم(عليهم السلام)  ، فاعترف الملائكة واستغفروا !
نعم ، يصح القول إن الإنسان خليفة الله في الأرض ، باعتبار أن خلفاء الله الشرعيين من نوعه ، لكنه لايعني شمول الخلافة لغير المعصومين(عليهم السلام) بحال. وذلك كقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبياءوَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)(المائدة:20) فعبَّر بجعلهم ملوكاً بالعموم ، لأنهم منهم.
ولا نطيل في ذكر أقوال المفسرين في المسألة ومناقشتها ، فإن أحداً منهم لم يأت بدليل من الآية أوخارجها على أن هذه الخلافة تشمل كل ذرية آدم(ع) ، اللهم إلا الإستحسانات والظنون ، وهي لا تنهض دليلاً !
ولعل القائلين بعموم الخلافة لكل بني آدم غفلوا عن أن الجاعل لها هو العالم الحكيم المطلق عز وجل ، وأن أحدنا لايعطي هذا المقام الخطير للمفسدين ولا للعاديين فكيف بالله تعالى ! وإذ انتفت خلافة المفسدين بالفعل أو بالقوة ، لم يبق إلا المعصومون(عليهم السلام)  ، وهذا مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .
ولعله اختلط عليهم هذا الإستخلاف التشريعي بالإستخلاف التكويني بمعنى أن الله جعل الإنسان أجيالاً يخلف بعضها بعضاً ، كما قال نبي الله هود(ع)لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.(الأعراف:69) ، فهذا استخلافٌ لكن ليس فيه ولاية ولا مقام ، بل امتنَّ الله عليهم بخلقهم بعد قوم نوح وتوريثهم حضارتهم ، رغم كفرهم.
لأجل ما تقدم فإن مقام خليفة الله لم يثبت في القرآن إلا لآدم وداود(ص):يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. (سورة صاد:26).
أما قوله تعالى:أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض أإلَهٌ مَعَ اللهِ قليلاً مَا تَذَكَّرُونَ ، (النمل:62) وقوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (النور:55) ، فهو وعدٌ إلهي باستخلاف المعصومين وختامهم الإمام المهدي(ع) ، خليفة الله الموعود ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً !
في الكافي:1/193، عن الإمام الرضا(ع)قال: ( الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه). وعن الإمام الصادق(ع)، في قوله تعالى:وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قال: هم الأئمة).

أما في السنة فثبت إسم خليفة الله لنبينا وآله(ص) ، وربما لكبار الأنبياء(عليهم السلام) . ففي من لايحضره الفقيه:2/611 ، في رواية الزيارة الجامعة: (ورضيكم خلفاء في أرضه ، وحججاً على بريته) .
وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي(رض)ص105: في حديث كميل بن زياد(رض) في وصف الأئمة(عليهم السلام)  عن أمير المؤمنين(ع)قال: ( اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهراً مشهوراً ، أو خافياً مغموراً ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته.... أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه). انتهى.
أما الزيدية فقد توسعوا في إعطاء لقب خليفة الله لكل من اجتمعت فيه شروط الإمامة عندهم فكان فقيهاً من ذرية علي وفاطمة(ص) وقام بالسيف.(الأحكام:2/505)

تكريم بني آدم لايعني استخلافهم
لأنه تكريمٌ تكويني واقتضائي !
استدل بعضهم على عموم الإستخلاف في الأرض بآية تكريم بني آدم ، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. (الإسراء:70-71 ).
لكن لا علاقة لهذا التكريم بالإستخلاف ، لأنه أعم منه محمولاً وموضوعاً ، فهو يشمل المؤمن والكافر ، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. (الفجر:15-17). فالإكرام هنا دنيوي يشمل حتى الكفار والفجار والطغاة ، ولا يصح القول إنهم مكرمون ، فهم خلفاء الله في أرضه !
والمقصود بالتكريم التكويني خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ومنحه قدرات وظروفاً تمكنه من التكامل ونيل التكريم الحقيقي إن أراد ، كما قال تعالى عن مؤمن آل ياسين: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ. (يس:26-27). فوصل بتكريمه التكويني إلى تكريمه الحقيقي.
وأخيراً ، فإن جعل التقوى ميزاناً للكرامة والتكريم ، في قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. (الحجرات:13) يؤكد أن ماتحقق لكل بني آدم في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ، تكريمٌ عامٌّ بنعم الله التي وسعت الكافر والمؤمن ، أما الإستخلاف فهو تكريمٌ خاص ومنصبٌ لعباد خاصين لايثبت إلا بدليل ، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.(الأنبياء:26-27).

خلفاء الله في الأرض ليس بالضرورة أن يكونوا حكاماً
من الواضح أن خليفة الله في أرضه وحجته على عباده ، ليس بالضرورة أن يكون حاكماً ، فأكثر أنبياءالله وأوصيائهم(عليهم السلام) كانوا محكومين مضطهدين ، ولم ينقص ذلك من مقامهم العظيم وخلافتهم عن الله تعالى في أرضه .
وهذا معنى ما رووه ورويناه من أن الخلفاء الذين بشر بهم النبي(ص)لايضرهم تكذيب من كذبهم. فقد روى الكافي:1/529 ، وكمال الدين ص299 ، واللفظ له: (عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات ، و شهدت عمر حين بويع وعليٌّ جالس ناحية ، إذ أقبل عليه غلام يهودي عليه ثياب حسان وهو من ولد هارون ، حتى قام على رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟ قال: فطأطأ عمر رأسه ، فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول ! فقال له عمر: ما شأنك؟ فقال: إني جئتك مرتاداً لنفسي شاكاً في ديني ، فقال: دونك هذا الشاب قال: ومَن هذا الشاب ؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ، وهو أبو الحسن والحسين ابني رسول الله ، وهذا زوج فاطمة ابنة رسول الله. فأقبل اليهودي على علي فقال: أكذلك أنت؟ قال: نعم ، فقال اليهودي: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة..... إلى أن قال: أخبرني عن محمد كم بعده من إمام عدل وفي أي جنة يكون ، ومن الساكن معه في جنته؟ فقال: يا هاروني إن لمحمد (ص)من الخلفاء اثنا عشر إماماً عدلاً ، لايضرهم خذلأن من خذلهم ، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم ، وإنهم أرسب في الدين من الجبال الرواسي في الأرض. ومسكن محمد (ص)في جنة عدن معه أولئك الإثنا عشر الأئمة العدل. فقال:صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتاب أبي هارون كتبه بيده ). انتهى .
وفي معجم الطبراني الكبير: 2/196، و213 و214 ، و256 ، والأوسط:3 /201، ومجمع الزوائد:5/191:( عن جابر بن سمرة عن النبي(ص)قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لايضرهم من خذلهم ). انتهى .
وقد روى بعضهم زيادة في حديث الأئمة الإثني عشر (كلهم تجتمع عليه الأمة) وأراد حصر تطبيقه بالحكام ، وأنه لايشمل من أهل البيت إلا علياً(ع) ، لكن الألباني رد هذه الزيادة في سلسلته برقم 376 ، وقال عنها إنها منكرة !
وقد بحثنا في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال- مسألة 162) لقب خليفة الله تعالى وخليفة النبي  (ص) ، واستغلال القرشيين له وأعطاءه لحكامهم ! وأن أبا بكر استكثر على نفسه لقب خليفة الله فنهاهم عنه ( ابن أبي شيبة في المصنف:8/572 ، وصححه في الزوائد:5/184 عن أحمد. وكذلك عمر: شرح النهج:12/94)
بينما سمى معاوية نفسه (خليفة الله) فاعترض عليه صعصعصة بن صوحان(رض)!
(مروج الذهب للمسعودي:3/52) ثم تمادى حكام بني أمية في استغلا لقب خليفة الله لأنفسهم ، ففضلوا الحاكم الأموي بذلك على نبينا’ بحجة أن خليفة المرأ خير من رسوله في حاجته ! (الصحيح السيرة:1/29)
ونقل النووي في الأذكار ص360 ، عن البغوي أنه قال: (ولا يسمى أحد خليفة الله تعالى بعد آدم وداود عليهما الصلاة والسلام ).
ونقل عنه الشربيني في مغني المحتاج:4/132، قوله: (ولا يجوز تسميته بخليفة الله تعالى ، لأنه إنما يستخلف من يغيب ويموت ، والله تعالى منزه عن ذلك).انتهى .
ودليل البغوي ضعيف ، والدليل الصحيح: أن خليفة الله وخليفة الرسول منصب يحتاج إلى نص من الله تعالى أو رسوله ’، وإلا كان ادعاءً وافتراءً.
والنتيجة: أن نظام الإستخلاف في الأرض ومقام الخلافة الذي نصَّت عليه الآية يدل على أن من ثبت له هذا المنصب ، فقد ثبتت له العصمة .
وقد اتضح أن توسيع إسم (خليفة الله) لكل بني آدم ، إنما قال به بعض المتأخرين تأثراً بفكر بعض المتصوفة ، أو بفكر الغربييين الذي يؤكد على أصالة الإنسان إلى حد تأليهه ! فجعلوا التكريم بمعنى الإستخلاف وعمموه لكل إنسان ! وأن معاوية أول من ابتدع تعميمه للحاكم أيُّ حاكم ! بحجة أن الله أعطاه الحكم فيكون استخلفه في أرضه !

تعليم آدم(ع)الأسماء دليلٌ على عصمة خلفاء الله تعالى
في آية استخلاف آدم(ع)بحوثٌ مهمة تتعلق بموضوعنا ، فقد أوضحت أن ملاك خلافة الله تعالى والأفضلية على الملائكة هو العلم الإلهي الذي يعطيه لخليفته ، ودرجة العبودية التي يوفقه لها.
فالإنسان رغم أن فيه قابلية الإفساد وسفك الدماء ، فيه إيجابيات وقابليات عظيمة لم يعرفها الملائكة ، هي التي أوجبت جعله خليفة في الأرض ، وهي تغلب في مصلحتها على إفساد المفسدين منه ! وأنها ستتحق في المعصومين(عليهم السلام)  ويتحقق على يدهم إقامة دولة العدل الإلهي في الأرض ، التي لا إفساد فيها ولاسفك دماء ، والتي تمتد حتى يرث الله الأرض ومن عليها !
وقد أثبت عز وجل للملائكة أن آدم(ع)يستطيع أن يتلقى من العلم الإلهي فيصل إلى درجة أعلى من الملائكة ، وأن خلفاء الله من ذريته سيكونون أهلاً للتلقي والطاعة بأفضل من الملائكة !
لقد علَّم الله آدم أسماء خلفائه من ذريته وبين له مقامهم ، ثم عرض سيرتهم على الملائكة ، وامتحنهم في معرفة(أَسْمَاءِ هؤُلاءِ) العظماء فلم يعرفوهم ، وعرفهم آدم(ع)فأخبرهم بهم ، فاقتنع الملائكة وقالوا: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إلا مَا عَلَّمْتَنَآ ، إنك أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ).
وقد أكثر المفسرون في بحث الأسماء التي علمها الله لآدم(ع) ، ثم في معنى (عرضهم) على الملائكة ، لكنهم ذهبوا بها بعيداً مع أنها لابد أن تكون معلومات عن مستقبل أبناء آدم(ع) في الأرض ، لتكون جواباً مقنعاً للملائكة الذين تصوروا أن كل حياة الإنسان على الأرض إفسادٌ وسفك للدماء !
لذلك لانجد تفسيراً معقولاً لها ، إلا أن الله علَّم آدم(ع)علماً استطاع به أن يرى مستقبل ذريته في الأرض ، ويرى أن مرحلة السماح بالإفساد وسفك الدماء في الأرض ستنتهي ، ثم تبدأ مرحلة دولة العدل الإلهي على يد خلفاء الله من عترة خاتم أنبيائه محمد’ ، وتمتد إلى آخر حياة الإنسان !
فهذا هو الجواب الوحيد الذي يقنع الملائكة بجدارة آدم للخلافة ، وجدارة الخلفاء من أبنائه ، وانهم لا يُفسدون في الأرض ولا يَسفكون الدماء ، بل سيصلحونها ويعمرونها ، صلوات الله عليهم !
فيكون معنى قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ.. أنه عرض عليهم شريطاً لسيرة شخصيات ربانية أعظم مقاماً من الملائكة ، فتعجبوا لهم ولم يعرفوهم ، فأخبرهم آدم(ع)بأنهم من ذريته ، وأنهم ديرون بخلافة الله في الأرض !
وبهذا المعنى فقط تصح الشرطية في قوله تعالى: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاءِ أن كُنْتُمْ صَادِقِينَ. أي إن كنتم مصيبين في قولك إنهم سيفسدون !
وقد يسأل: هل إن صور مايكون محفوظة عند الله تعالى ، ليعلمها لمخلوق قبل أن تكون ؟
والجواب: أن هذا من بدائه عقيدتنا في الغيب والنبي وآله ’ ، وأحاديثه عندنا صحيحة مستفيضة بل متواترة ، وأن الله تعالى علم نبيه’علم ما يكون إلى يوم القيامة ، فعلمه لعلي والأئمة من عترته(عليهم السلام)  .
قد يقال: روي أن الله تعالى علم آدم أسماء الأشياء ، مما تحتاجه حياته على الأرض مثل إسم الماء والهواء والشجر والحيوان والجبال ؟
والجواب: أن هذا لو صح لا يكون جواباً على إشكال الملائكة ، إذ لاتلازم بين معرفة أسماء الأشياء ، وعدم الإفساد وسفك الدماء !
ثم لو صح أن يكون جواباً لاستخلاف آدم(ع) ، فلا يصح جواباً لاستخلاف ذريته ، فإن الملائكة أخبروا عن إفساد ذريته وليس عن إفساده هو ! فهم بحاجة إلى جواب يثبت عدم إفساد الذرية ، أو وجود مصلحة في استخلافهم تغلب ما يقع من إفساد بعضهم ، وليس ذلك إلا مرحلة حكم خلفاء الله في أرضه(عليهم السلام) .
وبذلك يتضح قوة ما ورد في مصادرنا في تفسير الآية الكريمة ، كالذي في تفسير فرات الكوفي ص56 بسنده عن الإمام الصادق(ع)قال: (إن الله تبارك وتعالى كان ولا شئ ، فخلق خمسة من نور جلاله ، وجعل لكل واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة ، فهو الحميد وسمى النبي محمداً ، وهو الأعلى وسمي أمير المؤمنين علياً ، وله الأسماء الحسنى فاشتق منها حسناً وحسيناً ، وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه إسماً ، فلما خلقهم جعلهم في الميثاق فإنهم عن يمين العرش ،وخلق الملائكة من نور ، فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون فلما خلق الله تعالى آدم نظر إليهم عن يمين العرش فقال: يا رب من هؤلاء ؟ قال: يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي ، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسماً من أسمائي ، قال: يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم ، قال: يا آدم فهم عندك أمانة سر من سري ، لايطلع عليه غيرك إلا بإذني ، قال: نعم يا رب ، قال: يا آدم أعطني على ذلك العهد فأخذ عليه العهد ، ثم علمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم..علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضل بالعلم ، وأمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة لله). انتهى. (والبحار:37/62)

الطائفة الثانية: آيات الإصطفاء الإلهي
الإصطفاء الإلهي ، والإستخلاص ، والإجتباء ، والإختيار ، أوصاف قرآنية ، وصف الله تعالى بها نخبة عباده.
والمتحصل من كلمات اللغويين أن أعلاها درجة الإصطفاء ، لأنه اختيار الصفو بذاته من البشرية ، ويليه الإستخلاص وهو تخليص الشئ من الشوائب واختياره ، ويليه الإختيار وهو انتخاب الشئ الأفضل من غيره .
قال الراغب في المفردات ص154:( الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه ، ويقال خلصته فخلص... وقوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً ، أي انفردوا خالصين عن غيرهم....فإخلاص المسلمين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث ، قال تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... فحقيقة الإخلاص التبري عن كل ما دون الله تعالى). انتهى .
وقال في ص283: (أصل الصفاء خلوص الشئ من الشوب ، ومنه وذلك إسم لموضع مخصوص، والاصطفاء تناول صفو الشئ كما أن الإختيار تناول خيره والإجتباء تناول جبايته. واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافياً عن الشوب الموجود في غيره ، وقد يكون باختياره وبحكمه وإن لم يتعر ذلك من الأول ، قال تعالى: الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس - إن الله اصطفى آدم ونوحا - اصطفاك وطهرك واصطفاك - اصطفيتك على الناس- وإنهم عندنا لمن المصطفين الإخيار ) .
واصطفيت كذا على كذا أي اخترت ( أصطفى البنات على البنين- وسلام على عباده الذين اصطفى. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. والصفي والصفية ما يصطفيه الرئيس لنفسه....
والصفوان كالصفا الواحدة صفوانة ، قال:صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ، ويقال يوم صفوان ، صافي الشمس ، شديد البرد). انتهى .
وقال في ص160: (الخير ما يرغب فيه الكل ، كالعقل مثلاً والعدل والفضل والشئ النافع ، وضده الشر....فالخير يقابل به الشر مرة والضر مرة نحو قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ....
وقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ، يصح أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خياراً ، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم). انتهى .
أقول: لاشك أن الإستخلاف الإلهي درجةٌ أعلى من الإصطفاء والإستخلاص والإختيار ، لكن التفاضل بين هذه الثلاثة لا دليل عليه من اللغة أو استعمالات القرآن والسنة ، بل المصطفون هم المستخلصون وهم المختارون.
واستعمالات القرآن ليست لبيان درجاتها ، بل لبيان أنواع فاعلياته تعالى في الإصطفاء والإستخلاص والإختيار، المتناسبة مع أبعاد شخصية الإنسان ومجتمعه.
فالإصطفاء ، وهو أخذ الصفو ، يتناسب مع جوهر نفوسهم الصافية ، ويشير إلى كدورة أنفس البشر الإخرين.
والإستخلاص ، يتناسب مع جهادهم لتصفية نياتهم وأعمالهم وتخليصها مما هو لغير الله تعالى ، حتى صاروا مخلِصين ، فاستخلصهم الله وجعلهم مخلَصين بالفتح. بينما بقي غيرهم في شوائب الشرك العقدي ، وشوائبه العملية.
والإختيار ، يتناسب مع انتخاب الله تعالى لخير البشر وصفوتهم ومخلصيهم ، في مقابل من اختاره البشر ، أو مقابل من لم يستحق اختيار الله تعالى .
ولهذا ورد تفسير آيات هذه الصفات بالنبي وآله الأطهار(ص) ، كما ورد وصفهم بها في أحاديث عديدة.
فقد ورد وصفهم بخلفاء الله تعالى ، وبالمصطفين ، كما في الزياة الجامعة:
(ورضيكم خلفاء في أرضه ، وحججاً على بريته....
وأشهد أنكم الأئمة الراشدون ، المهديون المعصومون ، المكرمون المقربون المتقون الصادقون المصطفون....اصطفاكم بعلمه ، وارتضاكم لدينه ، واختاركم لسره ، واجتباكم بقدرته ) .
وفي المقنعة ص32: ( وأن الأئمة بعد رسول الله(ص)حجج الله تعالى وأولياؤه ، وخاصة أصفياء الله...). وفي فقه الرضا/128: (اللهم صل على محمد وآل محمد المصطفين ، بأفضل صلواتك.. )
وفي علل الشرائع:1/18: (عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله(ع)عن بدء النسل من آدم كيف كان وعن بدء النسل عن ذرية آدم فإن أناساً عندنا يقولون إن الله عز وجل أوحى إلى آدم يزوج بناته ببنيه ، وإن هذا الخلق كله أصله من الإخوة والإخوات ! فقال أبو عبد الله(ع): تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ، يقول من قال هذا بأن الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، من حرام ؟! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال ، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب ؟!! ). (ورواه في الفقيه:3/381).
كما ورد وصفهم بالمخلصين بفتح اللام وكسره ، ففي الزيارة الجامعة: ( السلام على الدعاة إلى الله ، والأدلاء على مرضات الله ، والمستقرين في أمر الله ، والتامين في محبة الله ، والمخلصين في توحيد الله ). ( من لا يحضره الفقيه:2/610).
وفي من لايحضره الفقيه:1/513:(وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك المخلصون).
وورد وصفهم بالمختارين: ففي الزياة الجامعة:(اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه ، واختاركم لسره ، واجتباكم بقدرته....
السلام على الأئمة الدعاة ، والقادة الهداة ، والسادة الولاة ، والذادة الحماة ، وأهل الذكر وأولي الأمر ، وبقية الله وخيرته...).
وفي الكافي:1/199، في حديث الإمام الرضا (ع)عن الإمامة: ( إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم ، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل(ع)بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره ، فقال: إني جاعلك للناس إماماً فقال الخليل(ع)سرورا بها: " ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين ". فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: ووهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين لم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبي’فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين فكانت له خاصة فقلدها علياً).
وليس غرضنا هنا شرح هذه الصفات العظيمة وبيان الفروق بينها ، وفيها بحوث مفصلة ، بل الغرض أن كلاً من الإصطفاء والإستخلاص والإختيار ، يستلزم العصمة كالإستخلاف ، لأن أياً منها لايتم إلا لخيرة البشر المطيعين لربهم عز وجل ، الورعين عن محارمه ومعاصيه.
ولأن من اصطفاه الله واستخلصه واختاره ، يمده بالحماية والعناية والألطاف ، التي تعني عصمته عن المعاصي ، بل وما فوق العصمة العادية .
لذلك نكتفي بإيراد آيات هذه الصفات ، وبعض الأحاديث الموضحة المؤكدة لدلالتها على العصمة.

آيات الإصطفاء الإلهي
نص القرآن على أن الله تعالى اصطفى عدداً من عباده من الأمم الماضية ، ومن هذه الأمة ، منهم أشخاص ومنهم أسر ، وهوكالإستخلاف يدل على عصمة المصطفيْن صلوات الله عليهم. وهذه عناوين آيات الإصطفاء:

قانون الإصطفاء الإلهي لمهمات وأدوار
اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رسلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمور. (الحج:75-76)
ابتدأ الإصطفاء الإلهي من آدم(ع)
إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (آل عمران:33-34 )
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. (آل عمران:42 )
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ. (البقرة:130)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأبصار. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الإخيَارِ. وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الإخيَارِ. (صاد:45-48)

اصطفاء موسى(ع)مشروع مستقل
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِى وَبِكَلامِى فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. (الأعراف:144).

اصطفاء طالوت ملكاً
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا إني يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (البقرة:247-248).

المصطفوْن(عليهم السلام) أهل السلام والأمن الإلهي
قُلِ الْحَمْدُ لله وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللهُ خَيْرٌ أما يُشْرِكُونَ. (النمل:59 (

اصطفاء الإسلام ديناً
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (البقرة:131-132)

معنى الإصطفاء وأنواعه
غرض الإصطفاء: نَصَّ قوله تعالى:(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رسلاً وَمِنَ النَّاسِ) على أن الإصطفاء يكون لمهمة عظيمة كحمل الرسالة الإلهية ، فهو عمل إلهي يكشف عن مقام لغرض اجتماعي في الدنيا: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).
وقد يكون هدفه أن يكون أصحابه قدوة للأجيال فيتبعوا ملتهم وسيرتهم ، كما في إبراهيم(ع)وذريته: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ ). (البقرة:130)

أنواع الإصطفاء: فمنه اصطفاء عام على العالمين كاصطفاء آدم ونوح ، والأسر المصطفاة من آل إبراهيم(عليهم السلام) : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ). (آل عمران:33)
ومنه اصطفاء لموجودين أو لآتين ، علم الله ما سيعملون فاصطفاهم قبل ولادتهم: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (آل عمران:33-34 )
ومنه اصطفاء على أناس معينين كاصطفاء طالوت للملك على بني إسرائيل: (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
ومنه اصطفاء بمنصب أو ميزة: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) ، أو بالتطهير المناسب للشخص: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ)
ومنه اصطفاء لشخص على أهل عصره: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) .

والإصطفاء لايكون إلا باستحقاق:
ففي علل الشرائع:1/56 ، عن الإمام الباقر(ع)قال:( أوحى الله عز وجل إلى موسى(ع): أتدري لما اصطفيتك لكلامي دون خلقي؟ فقال موسى: لا ، يا رب ، فقال: يا موسى إني قلبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذلً لي منك نفساً. يا موسى انك إذا صليت وضعت خديك على التراب ).
وعن الصادق(ع)قال: (وكان موسى(ع)إذا صلى لم ينفتل حتى يلصق خده الأيمن بالأرض والأيسر ). انتهى .
أما الذين اصطفاهم الله تعالى قبل أن يولدوا (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض)ٍ ، فقد علم الله ما هم عاملون فاصطفاهم قبل ولادتهم. على أنه قد امتحن جميع الخلق في نشأة سابقة قبل نشأتهم في الدينا ، ففي الكافي:2/10:(عن أبي عبد الله(ع)أن بعض قريش قال لرسول الله’: بأي شئ سبقت الأنبياءوأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ فكنت أنا أول نبي قال: بلى ، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل). انتهى .

تفسير آية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
قال الله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ .الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ. (فاطر:31-36 ).
الآية من متشابهات القرآن
فما معنى توريث القرآن للمصطفيْن؟ ومن هم؟ وما معنى التقسيم بعدها إلى ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات ، فهل يمكن أن يكون الظالم من المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب؟ وهل يدخل الجميع الجنة بمن فيهم الظالمون ؟!
والموقف الشرعي والعلمي عندما يواجه الباحث المتشابه ، أن يرده إلى المحكم ، وأن يرد الجميع إلى أهل البيت(عليهم السلام) الذين قرنهم النبي(ص)بالقرآن فقال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) ، فأوجب بذلك أخذ القرآن وتفسيره منهم.
لكن هل يفعل ذلك مفسرو قريش؟ كلا ! بل يتبعون ما تشابه منه ، ويهيمون في كل واد ! فقد كثرت احتملاتهم واتسع تحيرهم وتخبطهم في هذه الآيات ، حتى وصل إلى بعض مفسري الشيعة !
وأصل الموضوع عندهم أن عمر وكعب الأحبار قالا: إن الله ورَّث القرآن للأمة كلها بمن فيها الظالمون ، وكلهم في الجنة ! فتبعهما أكثر المفسرين ، وحاولوا جعل تفسيرهما مسنداً إلى رسول الله(ص)! وقارب آخرون وباعدوا ، وحاولوا ترقيع ما يستلزمه هذا التفسير من مشكلات عقدية !
قال السيوطي في الدر المنثور:5/251: ( وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية:ثم أورثنا الكتاب... قال: ألا إن سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له !!
وفي تفسير النحاس:5/458: (وقال كعب: هذه الأمة على ثلاث فرق ، كلها في الجنة ، ثم تلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..إلى قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ، فقال: دخلوها ورب الكعبة ) ! انتهى. (ونحوه تفسير ابن كثير:3/564)
وفي تفسير الطبري:22/160 ، عن كعب: (قال: كلهم في الجنة ، وتلا هذه الآية: جنات عدن يدخلونها). انتهى .
وفي تفسير عبد الرزاق:3/136: (عن عبد الله بن الحارث عن كعب قال: قرأ هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ حتى بلغ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا... فقال كعب: دخلوها ورب الكعبة ) ! (ورواه في تفسير الثوري ص246)
ورووا ذلك عن عمر وكعب بطرق عديدة ، وعن عثمان وعائشة أيضاً ، كما في تفسير ابن كثير:3/564 ، عن عثمان قال: (هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا وسابقنا أهل الجهاد ). وقال ابن كثير في تفسيره:2/79: (والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة ) .
وفي المعجم الأوسط للطبراني:6/167: (عن عقبة بن صهبان قال قلت لعائشة: أرأيت قول الله جل ذكره: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية؟ قالت: أما السابق فقد مضى في حياة رسول الله(ص)وشهد له بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع آثارهم فعمل بمثل أعمالهم حتى يلحق بهم ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك ومن اتبعنا. قالت وكلهم في الجنة). (والحاكم:2/426، وصححه)

القرطبي يرفض التفسير الرسمي
وقال القرطبي في تفسيره:14/346: (هذه الآية مشكلة ، لأنه قال جل وعز: اصطفينا من عبادنا ثم قال: فمنهم ظالم لنفسه ! وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم !! قال النحاس: فمن أصح ما روى في ذلك ما روي عن ابن عباس: فمنهم ظالم لنفسه ، قال: الكافر ، رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضاً. وعن ابن عباس أيضاً: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات قال: نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ، أي كافر. وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في يدخلونها ، يعود على المقتصد والسابق ، لا على الظالم....
وقيل: الضمير في يدخلونها يعود على الثلاثة الأصناف لى ألا يكون الظالم ها هنا كافراً ولا فاسقاً. وممن روي عنه هذا القول عمر ، وعثمان ، وأبو الدرداء ، وابن مسعود ، وعقبة بن عمرو ، وعائشة ، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر....
قال النحاس: وقول ثالث يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ، فيكون: جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
قلت: القول الوسط(أنه يعود على المقتصد والسابق)أولاها وأصحها إن شاء الله ، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفيَ دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك. وسنزيده بياناً وإيضاحاً في باقي الآية). انتهى .
وأهم ما عمله القرطبي أنه ذكر التفسير الرسمي بصيغة: (قيل) وحاول تخفيف وقعه بتضييق دخول الظالمين الجنة ! فهو من المفسرين القلائل الذين لم يدخل في قلبهم تفسير عمر وكعب ، بل اختار أن آية: جنات عدن يدخلونها... تختص بالسابقين والمقتصدين ولاتشمل الظالمين !
لكنك تجد قول عمر وكعب صار عندهم حديثاً نبوياً ! فقالوا إن عمر قال: (سمعت رسول الله(ص)يقول: سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ، وقرأ عمر: فمنهم ظالم لنفسه...الآية) انتهى. (الدر المنثور:5/251 ، عن العقيلي وابن لآل وابن مردويه والبيهقي، وأضاف كنز العمال:2/485 عن الديلمي ).

وقال الرازي في تفسيره:26/24:
(اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى هذا فالذين اصطفينا هم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون ، والظالم والمقتصد والسابق ، كلهم منهم. ويدل عليه قوله تعالى: جنات عدن يدخلونها ، أخبر بدخولهم الجنة ، وكلمة: ثم أورثنا ، أيضاً تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث. والإيراث المراد منه الأعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطى..... ويصحح هذا قول عمر عن النبي(ص): ظالمنا مغفور له ). انتهى
وهكذا صار التفسير الذي وضع أساسه عمر وكعب الأحبار ، الرأي الرسمي لأجيال مفسري الدولة ، اتبعه أكثرهم على تحيُّر ، ومال عنه بعضهم على وجل ! ولكنه كان سداً إمام تفسير أهل البيت(ع) !

تفسير أهل البيت(عليهم السلام)
نورد فيما يلي نماذج من أحاديثنا المتواترة في أن أهل البيت(عليهم السلام) هم ورثة القرآن ، وأنهم الذين عندهم علم الكتاب ، دون غيرهم !
ففي شرح الأخبار:3/472: (قال أبو جعفر محمد بن علي(ع): ما يقول من قِبلكم في هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ .جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا...؟ قال قلت: يقولون نزلت في أهل القبلة. قال: كلهم؟ قلت: كلهم. قال: فينبغي أن يكونوا قد غفر لهم كلهم. قلت: يا ابن رسول الله في من نزلت؟ قال: فينا. قلت: فما لشيعتكم ؟ قال: لمن اتقى وأصلح منهم الجنة ، بنا يغفر الله ذنوبهم وبنا يقضي ديونهم ، ونحن باب حطتهم كحطة بني إسرائيل).
وفي الثاقب في المناقب ص566 ، عن أبي هاشم الجعفري(رض)قال: (كنت عند أبي محمد(ع)فسألته عن قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ؟ فقال(ع): كلهم من آل محمد(عليهم السلام) ، الظالم لنفسه الذي لا يقر بالإمام ، والمقتصد العارف بالإمام ، والسابق بالخيرات بإذن الله الإمام. قال: فدمعت عيناي وجعلت أفكر في نفسي عظم ما أعطى الله آل محمد(عليهم السلام) ، فنظر إليَّ وقال: الأمر أعظم مما حدثتك به نفسك من عظم شأن آل محمد(عليهم السلام) فاحمد الله فقد جعلك متمسكاً بحبلهم ، تدعى يوم القيامة بهم إذا دعي كل أناس بإمامهم ، فأبشر يا أبا هاشم فإنك على خير). انتهى .
وفي بصائر الدرجات ص135: (حدثنا العباس بن معروف عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر(ع)إن العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع ، والعلم يتوارث ، وكان علي(ع)عالم هذه الأمة ، وإنه لن يهلك منا عالم إلا خلفه من أهله من يعلم مثل علمه ، أو ما شاء الله ).
وفي بصائر الدرجات ص134: ( حدثنا محمد بن الحسن عن حماد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأول(ع)قال قلت له: جعلت فداك النبي(ص)ورث علم النبيين كلهم؟ قال لي: نعم ، قلت: من لدن آدم إلى أن انتهى إلى نفسه؟ قال: نعم ، قلت: ورثهم النبوة وما كان في آبائهم من النبوة والعلم؟ قال: ما بعث الله نبياً إلا وقد كان محمد(ص)أعلم منه ، قال قلت: إن عيسى بن مريم كان يحيى الموتى بإذن الله ؟ قال: صدقت ، وسليمان بن داود كان يفهم كلام الطير ، قال وكان رسول الله(ص)يقدر على هذه المنازل ، فقال إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في أمره: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ، وكانت المردة والريح والنمل والإنس والجن والشياطين له طائعين ، وغضب عليه فقال: لأُعَذِّبَنَّهُ عذاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، وإنما غضب عليه لأنه كان يدله على الماء ، فهذا وهو طير قد أعطيّ ما لم يعطَ سليمان ! وإنما أراده ليدله على الماء ، فهذا لم يعط سليمان ، وكانت المردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكانت الطير تعرفه !
إن الله وتعالى يقول في كتابه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لله الأمر جميعاً ، وقد ورثنا هذا القرآن ، ففيه ما تقطَّع به الجبال وتقطَّع المداين به ويحيا به الموتى ، ونحن نعرف الماء تحت الهواء ، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلى أن يأذن الله به ، مع ما فيه أذن الله ، فما كتبه للماضين جعله الله في أم الكتاب ، إن الله يقول في كتابه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، فنحن الذين اصطفانا الله فورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شئ). انتهى .

وروى في كتاب بصائر الدرجات ص65 ، أكثر من خمسة عشر حديثاً في هذا الموضوع ، وفيها صحيح السند بدرجة عالية ، منها: (عن أبي جعفر(ع)قال في هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..الآية ، قال: السابق بالخيرات الإمام ، فهي في وُلد علي وفاطمة(عليهم السلام)  ).
وفي عيون أخبار الرضا(ع):2/207: (عن الريان بن الصلت قال: حضر الرضا (ع)مجلس المأمون بمرو ، وقد اجتمع في مجلسه جماعه من علماء أهل العراق وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا؟ فقالت العلماء: أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها ، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا(ع): لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا(ع): إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ، الآية. فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم فقال المأمون: من العترة الطاهرة ؟ فقال الرضا(ع): الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وهم الذين قال رسول الله’:إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إلا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفون فيهما أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل ؟
فقال الرضا(ع): هم الآل ، فقالت العلماء: فهذا رسول الله (ص) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لايمكن دفعه آل محمد أمته ! فقال أبو الحسن(ع): أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل ؟ فقالوا: نعم ، قال: فتحرم على الأمة؟ قالوا: لا ، قال: هذا فرق بين الآل والأمة ! ويحكم أين يذهب بكم ؟ أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون! أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟ قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال من قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، فصارت وراثه النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين). انتهى .
وفي معاني الأخبار للصدوق ص104: (عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر‘قال: سألته عن قول الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ؟ فقال: الظالم منا من لا يعرف حق الإمام ، والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق بالخيرات بإذن الله هو الإمام. جنات عدن يدخلونها ، يعني السابق والمقتصد).انتهى .

اختصاص أهل البيت(عليهم السلام) بعلم الكتاب لايلغي حجيته
قال السيد الخوئي(رض)في البيان ص268: (فإن معنى ذلك أن الله قد خص أوصياء نبيه(ص)بإرث الكتاب ، وهو معنى قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا(35:32 )فهم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معنى المرسلة ، وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئاً من كتاب الله حتى مثل قوله تعالى: قل هو الله أحد ، وأمثال هذه الآية مما يكون صريحاً في معناه. والأخبار الدالة على الإختصاص المتقدم كثيرة جداً). انتهى.

أبناء فاطمة وأتباع أهل البيت(عليهم السلام)  ورثةٌ مجازيون للكتاب
في تفسير العياشي:1/70: (عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله(ع):إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ ، يقول لا حرج عليه أن يطوَّف بهما ، فنزلت هذه الآية ، فقلت: هي خاصة أو عامة قال: هي بمنزلة قوله: مَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، فمن دخل فيهم من الناس كان بمنزلتهم يقول الله: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ). انتهى .

الظالم لنفسه درجات متفاوتة
(الظالم لنفسه) مفهوم واسع في القرآن ، يشمل الكافر والفاسق والظالم لغيره ، لأن الجميع ظلم للنفس ، وقد نص القرآن على أن بعض أنواع الظالمين لأنفسهم يدخلون جهنم ، قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ. (النحل:28-29).
وبعضهم يدخل الجنة ، قال تعالى: وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. (آل عمران:133-136).
وبعضهم ظالمون لأنفسهم فكرياً وعملياً بترك عقيدة التوحيد واتخاذ عقيدة الكفر ، كقوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَئٍْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. (هود:101 ).
وبعضهم ظالم لنفسه عملياً فقط بتعدي حدود الله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. (الطلاق:1).
أو بعمل سوء يتبعه بالإستغفار: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا
. (النساء:110).
وعلى هذا ، فحتى لو جعلنا الظالم لنفسه من أبناء فاطمة÷قسماً ملحقاً بالمصطفين ورثة الكتاب(عليهم السلام) فالمقصود به ليس الظالم للناس بل لنفسه بسلوكه الشخصي المحض يتبعه بالإستغفار ، كما تقدم .
على أنك عرفت رواية الصدوق في معاني الأخبار ص104 عن الإمام الباقر(ع)قال: (جنات عدن يدخلونها ، يعني السابق والمقتصد). انتهى .

رأي علماء الشيعة
قال المفيد(رض)في المسائل العكبرية ص111: (وقوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه بعد وصفه الوارثين للكتاب بالصفوة ، فإنه عير ما ظنه السائل أنه لم يرد بقوله: فمنهم من أعيانهم ، وإنما أراد من ذوي أنسابهم وذراريهم. فأما المصطفون فقد حرسوا بالاصطفاء من الظلم ووفقوا به للعدل. وكذلك قوله: ومنهم مقتصد ، يريد به من نسلهم وأهلهم وذوي أنسابهم. وقوله: ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله كذلك. ولم يرد بالأصناف الثلاثة أعيان من خبر اصطفائه وتوريثه الكتاب ).
ةقال السيد المرتضى(رض)في رسائله:3/102: (والذي أعتمده وأعوِّل عليه أن يكون: فمنهم ظالم لنفسه ، من صفة عبادنا ، أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، أي فليس كل عبادنا ظالماً لنفسه ، ولا كلهم مقتصداً ولا كلهم سابقاً بالخيرات ، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما ).
وقال الشيخ الطوسي(رض)في التبيان:8/430: (إن الله تعالى أورث علم الكتاب الذي هو القرآن ، الذين اصطفاهم واجتباهم واختارهم على جميع الخلق من الأنبياءالمعصومين والأئمة المنتجبين ، الذين لا يجوز عليهم الخطأ ولا فعل القبيح لا صغيراً ولا كبيراً. ويكون قوله: فمنهم ظالم لنفسه ، راجعاً إلى عبادنا وتقديره فمن عبادنا ظالم لنفسه ومن عبادنا مقتصد ومن عبادنا سابق بالخيرات ، لأن من اصطفاه الله لايكون ظالماً لنفسه ، فلا يجوز أن ترجع الكناية إلى الذين اصطفينا ).
وقال الطبرسي(رض)في مجمع البيان:8/245: ( اختُلف في أن الضمير في منهم إلى من يعود على قولين ، أحدهما: إنه يعود إلى العباد ، وتقدير الكلام: فمن العباد ظالم. وروى نحو ذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، واختاره المرتضى قدس الله روحه من أصحابنا ، قال: والوجه فيه أنه لما علق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده ، بين عقيبه أنه إنما علق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأن فيهم من هو ظالم لنفسه ، ومن هو مقتصد ، ومن هو سابق بالخيرات.
والقول الثاني: إن الضمير يعود إلى المصطفيْن من العباد ، عن أكثر المفسرين).

بعض مفسري الشيعة وافق على تفسير عمر وكعب !
قال في تفسير الميزان:17/45:(واختلفوا في هؤلاء المصطفيْن من عباده من هم ؟ فقيل هم الأنبياء، وقيل هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وقيل هم أمة محمد(ص)فقد أورثوا القرآن من نبيهم. وقيل وهو المأثور عن الصادقيْن’في روايات كثيرة مستفيضة ، إن المراد بهم ذرية النبي(ص)من أولاد فاطمة (س)).
وقال في:17/50: (واعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في كون الآية خاصة بولد فاطمة(س) ، كثيرة جداً ). انتهى .
أقول: بل وصلت هذه الروايات إلى حد التواتر ، وفيها عدد صحيح السند قطعي الحجية بنفسه ، فقد قال السيد ابن كاووس في سعد السعود ص108: (أقول: وروي تأويل هذه الآية من عشرين طريقاً ). انتهى .
لكن صاحب الميزان(رض)أعرض عنها مع الأسف ، ولم يصل حتى إلى مستوى تفسير القرطبي ، بل أخذ بالتفسير القرشئ الرسمي تبعاً لكثرة المفسرين القائلين به ! فخفف معنى وراثة الكتاب ، وأدخل الظالمين الجنة !
قال في الميزان:17/45: (وقوله: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " يحتمل أن يكون ضمير منهم راجعاً إلى الذين اصطفينا ، فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات شركاء في الوراثة وإن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب والحافظ له هو السابق بالخيرات.
ويحتمل أن يكون راجعا إلى عبادنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله: فمنهم مفيدا للتعليل والمعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا وهم المصطفون لا جميع العباد ، لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولا يصلح الكل للوراثة.
ويمكن تأييد أول الإحتمالين بأن لامانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى: وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (المؤمن:54) ، وما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات ، يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شئ من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى ووارثاً ! والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق. والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلى درجات القرب ، فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات ، قال تعالى: والسابقون السابقون أولئك المقربون. (الواقعة: 11).
وقوله تعالى: ذلك هو الفضل الكبير، أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله ، لادخل للكسب فيه. هذا ما يعطيه السياق وتفيده الأخبار من معنى الآية ! وفيها للقوم اختلاف عجيب ) ! انتهى .
وتبعه صاحب تفسير الأمثل فقال:14/87: (ثم تنتقل الآية إلى تقسيم مهم بهذا الخصوص فتقول: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير. ظاهر الآية هو أن هذه المجاميع الثلاثة هي من بين الذين اصطفينا أي ورثة وحملة الكتاب السماوي. وبتعبير أوضح إن الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمة حفظ هذا الكتاب السماوي بعد الرسول الأكرم((ص))الى هذه الأمة ، الأمة التي اصطفاها الله سبحانه...
وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) في تفسير:سابق بالخيرات بالمعصوم ، وظالم لنفسه: بمن لايعرف الإمام ، والمقتصد:، العارف بالإمام. وهذه التفسيرات شاهد واضح على ما اخترناه لتفسير الآية ، وهو أنه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي ! ولا نحتاج إلى التذكير بأن تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية ، وهم الأئمة المعصومون ، إذ هم الصف الأول ، بينما العلماء والمفكرون وحماة الدين الإخرون في صفوف أخرى ). انتهى .

أهم الإشكالات على التفسير الحكومي

أهم الإشكالات عليه: أنه يخرِّب معنى توريث القرآن للمصطفيْن ، فيجعل كل الأمة مصطفاة بمن فيها الظلمة والقتلة والجبابرة والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار! فهو يخرب معنى الإصطفاء الإلهي ويطعن في حكمة الله تعالى!
وعندما يحكم بأن الظالم يدخل الجنة يصل تخريبه إلى قانون استحقاق الثواب والعقاب ، لا يبقى لطاعة الله معنى لأنها تتساوى في النتيجة مع الظلم والمعصية !

1- معنى توريث الكتاب الإلهي:
قال الراغب الأصفهاني ، وهو من أفضل علماء العربية في تجذير الكلمات ، قال في المفردات ص518: (الوراثة والإرث: انتقال قُنْيَةٍ إليك عن غيرك ، من غير عقد ولا ما يجرى مجرى العقد. وسمي بذلك المنتقل عن الميت ، فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث ، وتراث. أصله وُراث ، فقلبت الواو ألفاً وتاء ، قال: وتأكلون التراث... ويقال: ورثت مالاً عن زيد وورثت زيداً ، قال: وورث سليمان داود.. وورثه أبواه.. وعلى الوارث مثل ذلك....ويقال لكل من حصل له شئ من غير تعب: قد ورث كذا. ويقال لمن خَوَّل شيئاً مهنئاً: أوْرث ، قال تعالى: وتلك الجنة التي أورثتموها.. أولئك هم الوارثون الذين يرثون.....وقال لعلي رضي الله عنه: أنت أخي ووارثي ، قال: وما أرثك؟ قال: ما ورَّثت الأنبياءقبلي، كتاب الله وسنتي).

وموضوعنا: وراثة الكتاب الإلهي ، وقد وردت في القرآن بثلاث صيغ:
الصيغة الأولى: الذين ورثوا الكتاب ، وأورثوا الكتاب.
ومعناها مطلق الوراثة للأمة ، كقوله تعالى عن اليهود: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ...فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ..(الأعراف:168-170).
وقوله تعالى عن النصارى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. (الشورى:14). فلم ينسب فيها التوريث إلى الله تعالى ، وجاءت في سياق ذم ورثة الكتاب لأنهم لم يعملوا به ، ومدح الذين عملوا به .

وشبيه بها صيغة: (الذين أوتوا الكتاب ، وأوتوا نصيباً من الكتاب) بالمبني للمجهول ، بدون نسبة الإيتاء صريحاً إلى الله تعالى. وسياقها أيضاً الذم ، كقوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. البقرة:101
وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. البقرة:144
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. البقرة:145
وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. آل عمران:19
وقوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالآمِّيِّينَ أأسْلَمْتُمْ ؟ آل عمران:20
وقوله تعالى: وَإِذْ أخذ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ. آل عمران:187
وقوله تعالى: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ .(الحديد:16)
وقوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. (البيّنة:4) 

وينبغي أن نسجل ثلاث ملاحظات على هذا الآيات:
الأولى ، أن تعبير(ورثوا الكتاب ، وأورثوا الكتاب ، وأوتوا الكتاب) ، وإن كان فيه مدح بأن الله تعالى آتاهم الكتاب ، لكنه مدحٌ بنعمة أنعمها الله عليهم فلم يحفظوها ، فهو في جوهره ذمٌّ لهم ، مضافاً إلى صفاتهم الأخرى التي نصت عليها الآيات ، كالكفر والفسق ، ولذا قلنا إن سياق الآيات هو الذم.
والثانية ، أن الذين(أوتوا نصيباً من الكتاب) هم نفس(أوتوا الكتاب) أو بعضهم وهذا التعبير يدل على أنهم استوعبوا شيئاً من الكتاب ، أو طبقوه ، بينما ضيعوا الباقي ! فهو أيضاً ذم لهم وليس مدحاً .
قال الله تعالى:أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. آل عمران:23
وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا. النساء:51-52
والثالثة ، أن إيتاء الكتاب في هذه الآيات عام لكل الأمة ، ومجمل لم يحدد فيه الأنبياءأو الأوصياء(عليهم السلام) أو العلماء الذين آتاهم الكتاب ، ولا مستواهم العلمي لكن يوجد آية أخرى كشفت أن وصف هؤلاء المذمومين بأنهم ورثوا أو أورثوا أو أوتوا الكتاب ، كان بسبب وجود الصالحين المصطفيْن منهم الذين أورثهم الله الكتاب ، وإنما وصف به المذمومون لأنهم أممهم وقومهم !
قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ). (الأنعام:83-89 )
وتعبير: أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ، يكشف عن أن هؤلاء هم أهل الكتاب وأصحابه وورثته الحقيقيين ، وأن وصف غيرهم به مجازٌ بسبب وجودهم فيهم .

الصيغة الثانية: أورثنا الكتاب. وقد وردت في آيتين فقط:
إحداهما ، توريث الكتاب لبني إسرائيل ، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ. (غافر:53-54) ، فذكرت أن إيتاء الكتاب وتنزيله كان لموسى(ع) ، بينما توريثه لبني إسرائيل .
والثانية ، توريث القرآن للمصطفيْن من هذه الأمة ، وهي الآية موضوع البحث:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. (فاطر:32) .
وهذه الصيغة شبيهة بصيغة: آتيناهم الكتاب في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. (الجاثية:16)
وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
(البقرة:146).
ومن الملاحظات في الصيغتين:
الأولى ، أن المورِّث في الآيتين هو الله تعالى ، لكن المورَّث مختلف ، فتوريث التوراة والإنجيل كان لبني إسرائيل عامة ، أما توريث القرآن فكان للمصطفيْن فقط ! فقد تحدث سبحانه في سورة فاطر من آية 27 ، في سياق متصل عن العلم والعلماء ، ثم عن التالين لكتاب الله ، ثم عن تنزيل هذا الكتاب على رسوله’ مصدقاً لما بين يديه ، ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، ولم يقل: ثم أورثناكم الكتاب ، أو ثم أورثنا الأميين الكتاب ، كما قال: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ؟!
فما هو السر في هذا العموم والخصوص في التوريث الإلهي ؟
الثانية ، أن توريث الكتاب الإلهي يختلف معناه حسب المورَّثين ، فتوريثه للأمة يعني توريثه لأشخاص معينين منها مجازي للأمة وحقيقي لأفراد منها ، أما توريثه لأشخاص فهو توريث حقيقي يعني تعليمهم تفسيره وعلومه ليكونوا معلمين له. كما تقول إن فلاناً ورَّث علم الطب للشعب الفلاني ، أو ورثه للأطباء الفلانيين ، فلا بد من في تفسيره من مراعاة التناسب بين التوريث والمورث !
والفرق الذي يبدو صغيراً هو كبير جداً ، فتوريث الكتاب لبني إسرائيل يعني توريث علومه لأنبياءوأوصياء منهم وجعله في متناول كل الأمة.
أما توريث الكتاب للمصطفيْن من أمة النبي’فيعني توريث علومه لأئمة معينين ، وجعله في متناول من تبعهم .

الثالثة ، لايمكن تفسير المصطفيْن ورثة الكتاب الإلهي ، إلا بملاحظة الصفات المشابهة التي وصف بها القرآن حملة العلم الإلهي في هذه الأمة ، كالذين عندهم علم الكتاب ، والراسخين في العلم ، وأهل الذكر ، في قوله تعالى عن وصي سليمان(ع): قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)    وقوله تعالى عن وصي النبي(ص): وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرسلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(الرعد:43)    وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ). (آل عمران:7)
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أهل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43) .
وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أهل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء:7) وهي نفس الآية المتقدمة بدون كلمة: (مِن) !
وآية الشهود التالين للنبي(ص)في قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إماماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود:17)    فهذه الآيات وغيرها ، تعرفنا من هم المصطفوْن الذي خصهم الله في هذه الأمة بوراثة القرآن. وكذلك أحاديث النبي(ص)، ومثلها أحاديث أهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)  ، لأن النبي(ص)أرجع أمته إليهم وجعلهم عدل القرآن في مثل قوله المتواتر (ص): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فقولهم قوله وحديثهم حديثه ، ومنهم يجب أن تأخذ الأمة كتاب الله وتفسيره .

2- الظالم مطلقاً يستحيل أن يكون من المصطفيْن !
القاعدة العامة في التفسير وكل بحث علمي ، بل في كل الحياة ، أن لا نبيع اليقين بالشك ، ولا المحكم بالمتشابه. ومن اليقين المحكم أن المصطفيْن من الله أشخاص اختارهم الله لأدوار في الشعوب والأمم والعالم ، لأنهم أهل لذلك ، وأعطاهم ما يحتاجونه في عملهم من علم وتأييد .
وهذا يقتضي طهارتهم وعصمتهم ووجوب اتباعهم .
وعندما نجد نصاً ظاهره أن المصطفيْن فيهم ظالمون عاصون لربهم ، فيجب أن نتوقف فيه ، لأن قبول ظاهره يعني تخريب قانون الإصطفاء الإلهي ، والطعن في حكمة الله تعالى !
لهذا لا بد في آية توريث الكتاب للمصطفين من أحد أمرين:
إما أن نجعل الظالم لنفسه قسماً من عبادنا وليس من المصطفين كما اختاره الشريف المرتضى(رض) ، وغيره. قال في مجمع البيان:8/245: (اختلف في أن الضمير في منهم إلى من يعود ، على قولين ، أحدهما: إنه يعود إلى العباد ، وتقدير الكلام: فمن العباد ظالم. وروى نحو ذلك عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، واختاره المرتضى قدس الله روحه ، من أصحابنا ).انتهى .
وإما أن نجعل دخول الظالم لنفسه في المصطفيْن مجازاً ، لأنه منهم نسباً أو اتباعاً ، كما فسره الإمام الرضا(ع)وهذا الذي أرجحه لأنه روي عن المعصوم (ع) ، ولعل المرتضى لم يطلع عليه ، وقد استدل له الإمام الرضا (ع)بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. (الحديد:26) فكما أن جعل النبوة والكتاب في بعض ذرية نوح وإبراهيم ، لم يمنع أن يكون بعضهم الآخر فاسقين ، فكذلك توريث الكتاب لعترة محمد’لم يمنع أن يكون بعض آخر منهم ظالم لنفسه.
وقد تقدمت روايته من عيون أخبار الرضا(ع):2/207 وفيها: (فقالت العلماء: أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها ، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا(ع): لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة. فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا(ع): إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ، الآية. فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم فقال المأمون: من العترة الطاهرة ؟ فقال الرضا(ع): الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وهم الذين قال رسول الله’:إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إلا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفون فيهما. أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. إلى أن قال: أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟ قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال من قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، فصارت وراثه النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين). انتهى .

3- تعميمهم للمفردات الخاصة ، وتمييعهم للقوانين الحاسمة !
ليست محاولة علماء السلطة في التعميم والتمييع في تفسير الآية ، إلا واحدة من منهج ابتدعوه في التفسير ، كشفنا جانباً منه في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال- المسألة163) ، وقد ارتكبوا هنا تعميمين للكتاب والمصطفيْن ، وتمييعين لتوريث الكتاب ، وقانون الثواب والعقاب:
فقد عمموا الكتاب في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، فجعلوه كل كتاب إلهي ، مع أن السياق يتحدث عن القرآن ، فالآية التي قبلها: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..الآية. فعدلوا عن السياق بلاحجة!
وكأن هدف كعب الأحبار من توسيع المصطفيْن وتوسيع الكتاب ، أن يعطي الشرعية للتوراة والثقافة اليهودية وأنها مورَّثة لهذه الأمة ، ويعطي لنفسه مقام مستشار الخلافة في علم الكتاب كله التوراة والإنجيل والقرآن ! وإلا فأين التوراة والإنجيل اللذين ورثتهما الأمة ، وعند مَنْ يوجدان ؟!
أما لو اعترف كعب بأن القرآن هو المورَّث لفئة من هذه الأمة ، فلا بد أن تكون عترة النبي’، فيكون أخرج نفسه وعلمه من الساحة ، وأوجب على الأمة أن ترجع إلى العترة ورثة القرآن ومعادله ، كما أمرها نبيها’!
وقد استطاع كعب أن يقنع عمر بذلك وبأشياء كثيرة ، لا يتسع لها هذا الكتاب !
ولا نطيل الكلام في وقوف كعب وراء هذه التعميمات والتمييعات ودوافعه ، ونكتفي بالقول إن المقصود بالكتاب في الآية هو القرآن بحكم السياق ، ولا دليل إلا التحكم لمن ادعى تعميمه لكل كتاب إلهي .
وأما جعله الظالمين من المصطفيْن وأهل الجنة ، فهو جزءٌ من خطته في فتح أبواب الجنة لجميع الناس ، وهو أمر عمل له كعب وأطاعه فيه عمر حتى قال بشمول الشفاعة لجميع الخلق ، ثم قال إن النار تفنى وينقل أهلها إلى الجنة ! (راجع المسألة155 من كتابنا ( ألف سؤال وإشكال) ، والمجلد الثالث من العقائد الإسلامية ).
وأما معنى المصطفيْن الذين أورثهم الله الكتاب ، فلا يصح أن يكونوا إلا جماعة خاصين بحكم الظهور المستحكم للكلمة ، وهم عترة النبي’الذين قرنهم بالقرآن وجعلهم عدلاً له ، وسماهما الثقلين ! وتؤيد ذلك الأدلة الكثيرة لاصطفاء العترة النبوية ، التي رواها المؤالف والمخالف .
ولا دليل من عقل ولا نقل على زعم كعب أنهم كل الأمة ، ولا زعم غيره أنهم الصحابة ، إلا الإستحسان الظني ، أو التحكم ، لمصادرة ما خص الله به عترة نبيه’وأعطاؤها لغيرهم !
فلو كان الصحابة هم المصطفوْن ورثة الكتاب ، لَمَا أوجب النبي ’على أمته التمسك بالثقلين الكتاب والعترة في حديث الثقلين المتواتر عند الجميع ، ولَمَا أمر الأمة أن يقرنوا العترة بالنبي’والصلاة عليهم معه في صلواتهم !
ثم لو سلمنا أن المقصود بهم الصحابة ، لكان أهل البيت أولى بوراثة الكتاب أيضاً ، لأنهم صحابة وعترة !
وخامساً ، كيف يكون الصحابة مصطفيْن ، وقد أخبر النبي’في أصح كتب أتباعهم بأن أكثرهم يدخلون جهنم ، ولا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النعم !
قال البخاري:7/208: (عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال: بينا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ ، فقلت أين؟ قال إلى النار والله ! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ! ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ ! قلت: أين؟قال: إلى النار والله ! قلت: ماشأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم) ! انتهى.
ولم تصرح رواية البخاري هذه بإسمهم ، لكن صرحت روايته الأخرى بالصحابة وفسرها شراحه بهم! قال في صحيحه:2/975: (يرد على الحوض رجالٌ من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول يارب أصحابي ! فيقول: فإنه لاعلم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى) ! (وشبيهاً به في: 8/86 .و:7/195و207ـ210 وص84 و87 و:8/86 و87 ، ونحوه مسلم:1/150 و:7/66 وابن ماجة:2/1440وأحمد:2/25و408 و:3/28 و:5/21 و24 و50 و:6/16 ، والبيهقي في سننه:4/ 14، وغيرهم).
أما دعوى كعب وعمر ومن وافقهما بأن المصطفيْن كل الأمة ، فيرد عليها:
أولاً، أنه لادليل عليها من عقل ولا نقل ، فإن الله تعالى قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، وظاهره أنه انتخب عباداً خاصين فأورثهم الكتاب ، ولا دليل لهم على أنهم كل الأمة إلا التحكم المحض ، أو الإستحسان والتخرص !

وثانياً ، كيف يتجرأ مسلم أو عاقل على القول إن كل المسلمين مصطفوْن يدخلون الجنة بمن فيهم الظالم والمنافق ! ويرفع يده عن آيات القرآن التي تنص على دخول أصناف من هذه الأمة جهنم ؟!
فأين قول الله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.(المؤمنون:103)وعشرات الآيات التي تدفع هذا الزعم وتردهذه الأماني ، ومنها قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أهل الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا. (النساء:123)
وأين قول رسول الله’الذي تقدم في أكثر أصحابه: (قلت: ماشأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم) !
إنه لامناص لمن جعل المصطفيْن ورثة الكتاب كل الأمة ، من تخريب قانون الجزاء والعقاب الإلهي ! كما لامناص له من تمييع معنى التوريث ، وجعله توريثاً شكلياً لايتعدى توريث أوراق القرآن ، لأنه لايعترف بمركز لهذا التوريث ، وإن سألته عن علم القرآن الذي ورثه الله للأمة أين هو ؟ لقال عند جميع الأمة ! وهو يعرف أن كبير الصحابة عمر لايعرف معنى مفردات القرآن مثل(وفاكهةً وأبَّا)؟!
وثالثاً ، إن روايات أهل البيت (عليهم السلام)

التوريث الإلهي للكتاب مقامٌ عظيم !
قال أمير المؤمنين(ع): (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم! بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم ، ولاتصلح الولاة من غيرهم). (نهج البلاغة:2/27 ) .
وقال(ع): (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيِّزنا ، فكانوا كما قال الأول:
أدمتَ لعمري شُرْبَك المحْضَ صابحاًوأكلك بالزبد المقشرةَ البُجْرا ونحن  وهبناكَ  العلاءَ  ولم  تكن علياً وحُطنا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا ) .(نهج البلاغة:1/82)
وقال الإمام الباقر(ع):في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً: نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين ! فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عظيماً ، يقول: جعلنا منهم الرسل والأنبياءوالأئمة ، فكيف يقرُّون به في آل إبراهيم(ع)وينكرونه في آل محمد’؟!
قال الراوي بريد العجلي: قلت: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً؟ قال: الملك العظيم أن جعل فيهم أئمةً مَن أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله ، فهوالملك العظيم). ( الكافي:1/205)

الطائفة الثالثة: آيات الإستخلاص والإجتباء الإلهي
إخلاص الدين لله تعالى

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَكَاذِبٌ كَفَّارٌ. (الزمر:2-3).
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لأن أَكُونَ أَوَلَ الْمُسْلِمِينَ. وَأُمِرْتُ لأن أَكُونَ أَوَلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. (الزمر:11-15).

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَرَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ. (البقرة:139).

إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. (النساء:146)

وَمَاتَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة.(البيّنة:4- 5).  

دعاء الله بانقطاع وإخلاص
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (الأعراف:29).

فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. (غافر:14 ).

هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (غافر:65 ).

وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. (يونس:22).

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. (العنكبوت:65 ).

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ. (لقمان:32 ).

المخلصون المستخلصون
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. (يوسف:24).

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. (يوسف:54 ).

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنْ أَبَاكُمْ قَدْ أخذ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَاذَنَ لِي أبي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَخَيْرُ الْحَاكِمِينَ. (يوسف:80 ) .

ابراهيم وموسى وغيرهما من المخلصين(عليهم السلام)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِى وَالأبصار. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الإخيَارِ. (صاد:45-47 ).

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رسولاً نبياً. (مريم:51) .

المخلصون ناجون من الضلال والهلاك
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:71-74 ).

أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأولينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:125-128).

المخلصون مقربون من الله وليسوا أبناءه
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:158-160 ).

المخلَصون ناجون من العذاب مكرمون في الجنة
إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ. وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ. (الصافات:38-42).

يتمنى غير المخلصين أن يكونوا منهم
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:167-169)

معنى الإخلاص والمخلص
قال الراغب في المفردات ص154:( الخالص كالصافي ، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه ، ويقال خلصته فخلص....وقوله: ونحن له مخلصون. إنه من عبادنا المخلصين، فإخلاص المسلمين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث ، قال تعالى: مخلصين له الدين، وقال: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، وقال: وأخلصوا دينهم لله ، وهو كالأول ، وقال: إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً. فحقيقة الإخلاص: التبري عن كل ما دون الله تعالى ). انتهى .
والظاهر أن تسمية الشئ خالصاً ليس بسبب تخليصه من الشَّوْب ، بل بسبب أنه في معرض الشَّوْب ، وإن كان من أصله خالصاً لم يمَسَّه شَوْب في وقت ما.

ومعنى إخلاص الدين لله تعالى:توحيده توحيداً كاملاً ، قال أمير المؤمنين(ع):
(وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ). (نهج البلاغة:1/14)
هذا هو الإخلاص النظري العقدي ، أما الإخلاص العملي فهو الطاعة الكاملة لله تعالى بالقيام بما أوجبه وترك مانهى عنه ، وإخلاص النية له في كل ذلك.
في تحف العقول لابن شعبة الحراني ص86 ، عن أمير المؤمنين(ع)قال: (رأس الدين صحة اليقين ، وتمام الإخلاص تجنبك المعاصي ) .
وفي معاني الأخبار للصدوق ص260:(أن جبرئيل(ع) جاء إلى النبي’ فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك ، قال رسول الله’: قلت: وما هي؟ قال: الصبر وأحسن منه ، قلت: وما هو؟ قال: الرضا وأحسن منه ، قلت: وما هو؟ قال قال: الإخلاص وأحسن منه ، قلت: وما هو؟ قال: اليقين....الى أن قال:
قلت: يا جبرئيل فما تفسير الإخلاص؟ قال: المخلص الذي لا يسأل الناس شيئاً حتى يجد ، وإذا وجد رضي ، وإذا بقي عنده شئ أعطاه في الله ، فإن من لم يسأل المخلوق فقد أقر لله عز وجل بالعبودية ، وإذا وجد فرضي فهو عن الله راض والله تبارك وتعالى عنه راض ، وإذا أعطى لله عز وجل فهو على حد الثقة بربه عز وجل. قلت: فما تفسير اليقين؟ قال: الموقن يعمل لله كأنه يراه فإن لم يكن يرى الله فإن الله يراه ، وأن يعلم يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وهذا كله أغصان التوكل ومدرجة الزهد ). انتهى .

وفي الكافي:1/181:(عن الإمام الصادق(ع)قال: إنكم لاتكونون صالحين حتى تعرفوا ، ولا تعرفوا حتى تصدقوا ، ولا تصدقوا حتى تسلموا. أبواباً أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها ، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً. إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود ، فمن وفى لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده ، واستكمل ما وعده ، إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون ، فقال: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ، وقال: إنما يتقبل الله من المتقين ، فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمناً بما جاء به محمد’، هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا ، وأشركوا من حيث لا يعلمون.
إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى ، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله ، وطاعة رسوله بطاعته ، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله ، وهو الإقرار بما انزل من عند الله عز وجل ، خذوا زينتكم عند كل مسجد ، والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، فإنه أخبركم أنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار .
إن الله قد استخلص الرسل لأمره ، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نذره ، فقال: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. تاهَ من جهل ، واهتدى من أبصر وعقل ، إن الله عز وجل يقول: فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وكيف يهتدي من لم يبصر؟ وكيف يبصر من لم يتدبر؟
إتبعوا رسول الله وأهل بيته’ ، وأقروا بما نزل من عند الله ، واتبَّعوا آثار الهدى ، فإنهم علامات الأمانة والتقى ). انتهى .

دلالة الإستخلاص الإلهي على العصمة
يدل لقب المُخْلَص بالفتح ، على عصمة صاحبه ، لأن الله تعالى استخلصه ، أي أنه استحق بعمله وتخليصه لفكرَه ونياته من الشوائب ، أن يتقبله الله تعالى لنفسه فيجعله من المخلَصين له ، وذلك يقتضي أنم يحميه حماية تامة من شوائب نية المعصية فضلاً عن فعلها.
وهذا معنى المعصوم فقد قال الإمام الصادق(ع)في تعريفه: (المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). انتهى .(معاني الأخبار للصدوق: ص132).
وقد بيَّن الله تعالى أن عباده المخلَصين لهم علاقة خاصة معه ، لكن ليست علاقة نسب ومصاهرة كما يتصورها بعض الناس ! قال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:158-160 ).
وقال تعالى عن موسى(ع): وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رسولاً نبياً. (مريم:51) .
وقال عن يوسف (ع):وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. (يوسف:24).
فقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ، تعليلٌ لصرف السوء والفحشاء عنه ، ومعناه أن يوسف(ع)لمَّا كان عبداً مخلَصاً مستخلصاً لنا ، فقد صرفنا عنه الضرر والمعصية ، فمقام

الإستخلاص يستوجب هذه الدرجة العالية من العصمة والرعاية !
ومع هذا النص الإلهي ، فلا قيمة لكل ما رووه من أن يوسف(ع)قد همَّ بالمعصية وفكر بالزنا ، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ! معاذ الله !
فكل ذلك إسرائيليات اليهود وطعنهم بيوسف(ع) ، تلقفها عنهم رواة السلطة!
بل همَّت به لنفسها ، وهمَّ بها أن يضربها ، فرأى برهان ربه يقول له: أهرب ولا تضربها ! فلو ضربها لرآه زوجها الذي كان لدى الباب ، ولادَّعت عليه بأنه أرادها فلم تقبل فضربها ! وللحق به السوء أي القتل ! فدفع الله عنه بإخلاصه واستخلاصه السوء والضرر من زوجها ، كما دفع عنه الفحشاء من أول ما راودته عن نفسه ، وبقيت نيته خالصة لله تعالى ، لم يشبها عمل ولا تفكير ولا نية بالفحشاء والزنا .
وقد تقدم قول الإمام الرضا(ع)من العيون:2/170: (وأما قوله عز وجل في يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ، فإنها همت بالمعصية وهمَّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله عز وجل: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.(يوسف: 24) يعني القتل والزنا).

أما جواب من تخيل أن معنى (همَّ بها) فكَّر بالمعصية ، فهو:
أن معنى فعل(همَّ به) في اللغة: أراد به الضرر ، فإن وُجدت قرينة صُرف عن معناه بحسبها ، وإلا بقي عليه. ومراودة زليخا ليوسف(ع)قرينةٌ على أن معنى (همَّتْ به) أرادته لنفسها ، لكن لاقرينة توجب صرف (همَّ بها) في يوسف(ع) عن معناها الأصلي ، فيبقى معناه: هم أن يضربها كما ورد به الحديث.
وينبغي الغلفات إلى أن نوع الضرر المقصود بـ(همَّ به)قد يُصَرَّح به كقوله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ،(التوبة:13) ، وقد يعرف بالقرينة كقوله تعالى:يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَاقَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا. (التوبة:74) أي بقتل النبي’كما دل الحديث .
وفي مسند أحمد:2/416 والبخاري3/61: (أن رجلاً أتى رسول الله يتقاضاه فأغلظ له قال فهمَّ به أصحابه ، فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً). انتهى.
أي همَّ المسلمون بطرده أو ضربه أو إيذائه ، حيث لم يرد أن المسلمين هموا بقتل أحد في حضور النبي’بدون أمره .
وفي البحار:30/85 ، في قصة يهودي مع أبي بكر: (فوقف عليه وقال: إني أريد أن أسألك عن أشياء لايعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال أبو بكر: سل عما بدا لك؟ فقال اليهودي: أخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لايعلمه الله ؟ فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة! يا يهودي أو في السماء شئ لا يعلمه الله؟ وهمَّ به المسلمون ، وكان في القوم ابن عباس فقال: ما أنصفتم الرجل! قال أبو بكر: أوَما سمعت ما تكلم به ؟! فقال ابن عباس: إن كان عندكم جواب ، وإلا فاذهبوا به إلى من يجيبه ، فإني سمعت رسول الله(ص)يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه...). انتهى.
فقوله (وهم به المسلمون) أي هموا بضربه ، أو إيذائه .
على أن قوله تعالى: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ، كافٍ لتفسير معنى همَّ بها ، فمَن استخلصه الله تعالى لايمكن أن يهمَّ بالفحشاء !
وهنا يأتي دور فهم الفعل الإلهي في الإستخلاص وغيره ، وأنه فعلٌ من عالم حكيم رحيم ، بالعلم المطلق والحكمة المطلقة والرحمة الشاملة ، فلا يصح أن نتصوره كأفعالنا القاصرة المحدودة !
وقد كشف لنا عز وجل أن استخلاصه عز وجل ليوسف(ع)يستوجب صرف السوء عنه ، أي منع الغير من الإضرار به ، وصرف الفحشاء عنه ، أي جعل عقله وتقواه(ع)هما المسيطرين الحاكمين على نوازعه الجسدية .
ولئن صح الإستثناء في صرف الله للسوء عن الأنبياءوالأوصياء(عليهم السلام)  أو السماح به تجاههم لحِكَمٍ يعلمها سبحانه ، فإن الإستثناء في صرف الفحشاء لايمكن ، لأنه أمر يتعلق بفعل المستخلص فهومن لوازم الإستخلاص دائماً .
أما كيف تتم عصمة المستخلَص ، فقد يكون من وسائلها (رصد الملائكة) ، وقد يكون البرهان الذي أراه الله ليوسف(ع)أن الملك هتف به كما في الرواية.
وقد بيَّن الله تعالى أنه يستعمل رصد الملائكة لحفظ معلومة عن الغيب يخبر بها رسوله ، فقال: قُلْ إن أدري أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أم يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحداً. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أن قَدْأَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَئٍْ عدداً. (الجنّ:25-28)
والإستخلاص مقامٌ أعظمُ من حفظ ما يخبر به الله رسوله من الغيب ، فلا بد أن تكون وسائل حفظ المستخلص أكثر تفصيلاً من حفظ الغيب المخبر به .
هذا ، وفي هذه الآيات أبحاث أخرى لايتسع المجال لاستيفائها .

آيات الإجتباء تشبه آيات الإستخلاص
اجتبى الله آدم(ع)وعصمه

قال تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى. (طَهَ:121-122).

إبراهيم’أبو المجتبين وأبو الأنبياء
قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَداهُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. (النحل:120-121).

المجتبون الهداة(عليهم السلام) شخصيات وأسر هم قدوات البشرية
قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ. (الأنعام:83-90 ).

وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا. (مريم:58).

إجتباء يوسف(ع)وتعليمه من علم الغيب
وقال تعالى: قَالَ يَا بُنَىَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (يوسف:5-6 )

اجتباء بعض الأنبياء(ع)يعني رفع درجتهم
وقال تعالى: لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَمَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. (القلم:49-50).

إجتباء المؤمنين مستمر في هذه الأمة بعد النبي(ص)
قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ .( الشورى:13).

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَمَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. (الحج:77-78 ).

وقال تعالى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. (آل عمران:179).

في مفردات الراغب ص87: (واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد وذلك للأنبياءوبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى: وكذلك يجتبيك ربك. فاجتباه ربه فجعله من الصالحين. واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. وقال عز وجل: يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. وذلك نحو قوله تعالى: إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ).

وفي أساس البلاغة لزمخشري ص172: (واجتباه: اختاره. مستعار منه لأن من جمع شيئاً لنفسه فقد اختصه واصطفاه ، وهو من جبوة الله وصفوته ). انتهى.
والإجتباء على مقام عظيم لكنه أعم من الإستخلاص في موضوعه ، لأنه يشمل غير الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كالمؤمنين من هذه الأمة ، قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ولا بد أنه أعم من الإستخلاص في وسائله أيضاً ، ولذلك لا يدل على العصمة إلا بقرينة ، كما في آدم وغيره من الأنبياء(عليهم السلام).
ونكتفي بغيراد بعض الأحاديث في الإجتباء والمجتبيْن:
ففي الكافي:1/444: من خطبة للإمام الصادق(ع):(فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم ، أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله ’في حومة العز مولده ، وفي دومة الكرم محتده ، غير مشوب حسبه ولا ممزوج نسبه ، ولا مجهول عند أهل العلم صفته ، بشرت به الأنبياء في كتبها ، ونطقت به العلماء بنعتها ، وتأملته الحكماء بوصفها...الخ.)

وفي الكافي:8/370: (عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (ع)يقول: إن إبراهيم(ع)كان مولده بكوثى ربا وكان أبوه من أهلها وكانت أم إبراهيم وأم لوط سارة وورقة أختين وهما ابنتان للاحج وكان لاحج نبياً م نذراً ولم يكن رسولاً ،وكان إبراهيم في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها ، حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه ، وإنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته ، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة ، وكانت قد ملَّكت إبراهيم(ع)جميع ما كانت تملكه ، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثى ربا رجل أحسن حالاً منه ) .

وفي الإحتجاج:1/133 ، من خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(س)قالت:
(وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله تعالى بما يلي الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بموقع الأمور. ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه ).
وفي تفسير الثعالبي:1/221: (قوله تعالى: وعصى آدم ربه فغوى ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان ، وقيل بل أكلها ، وهو متأول ، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله تعالى عن شجرة مخصوصة لاعلى الجنس ، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة ، وقيل: تأول أن الله تعالى لم ينهه عنها نهي تحريم).

وفي تفسير الثعالبي:3/102:
(وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس ، ولم أقف بعد على صحة ما روي في هذه القصص ، ولو صح لوجب تأويله ، نعم روى الترمذي عن سمرة بن جندب ، عن النبي(ص)قال: لما حملت حواء ، طاف بها إبليس وكان لايعيش لها ولد ، فقال لها سميه عبد الحارث ، فسمته عبد الحارث فعاش ذلك ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ! قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب انفرد به عمر بن إبراهيم عن قتادة ، وعمر شيخ بصري. انتهى. وهذا الحديث ليس فيه أنهما أطاعاه ، وعلى كل حال: الواجب التوقف والتنزيه لمن اجتباه الله وحسن التأويل ما أمكن ، وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه: وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره ، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات ، ولا يعول عليها من له قلب ، فإن آدم وحواء وإن كانا غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من حجر مرتين ، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحاً ولا يسمعاً له قولا ، والقول الأشبه بالحق: أن المراد بهذا جنس الآدميين ). انتهى .

الطائفة الرابعة:
آيات نفي سلطان الشيطان على المخلصين


قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ. (الحجر:39-42) .

وقال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين. إِلاعِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.(ص:82-83) .

وقال تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فإن جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً. (الإسراء:63-65 ) .

وقال تعالى:فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إنما سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ. (النحل:98-100).

وقال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا. لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. (النساء:117-118).

وجه دلالتها على العصمة
نصت الآيات الكريمة على أن عباد الله المخلصين لاسبيل للشيطان عليهم ، وهذا يعني عصمتهم. أما الإشكالات التي قد تورد على هذا الإستدلال فهي مردودة ، وهذه خلاصة لها ولأجوبتها:
الأول:

أن مصادر الشر ثلاثة: الشيطان والنفس والناس ، فنفي تأثير الشيطان عن إنسان لايعني نفي تأثير مصادر الشر الأخرى ، فيبقى في معرض المعصية.
وجوابه: أن المفهوم من آيات نفي تأثير الشيطان وأحاديثها ، أن هذه الدرجة لاتعطى لإنسان إلا بعد أن يكون غالباً لهواه قوياً إمام تأثير الناس ، فبها تكتمل نعمة الله على الإنسان المخلَص بالعصمة. وسنورد طرفاً من أحاديثها .
والإشكال الثاني:

أن نفي سلطان الشيطان في قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ، وقوله تعالى: إِلاعِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، يعني نفي سلطنته الكاملة على سلوك الإنسان ولاينفي بقاء تأثيره إلى حد ، وهذا ينافي العصمة .
وجوابه: أن الله تعالى نفى سلطان الشيطان عن جميع الناس في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، (ابراهيم:22) وقوله تعالى: فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ.. (سبأ:20-21). ثم نفاه في الآية عن عباد الله الخاصين المستخلصين ، فدل ذلك على أنه معناه نفي مطلق التأثير ، وإلا لكان تخصيصه بعباده الخاصين لغواً .
والإشكال الثالث:

أن عبادي في قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الحجر:42والإسراء:65) ، لاتعني عباد الله الخاصين بل كل العباد ، فلا تبقى ميزة للمخلصين في نفيها عنهم لتدل على امتيازهم بها ، فضلاً عن عصمتهم.
قال صاحب الميزان:12/166: (فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، من ثلاث جهات أصلية:
إحداها ، أنه حصر عباده في المخلصين منهم ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه على الباقين. والله سبحانه عمم عباده على الجميع ، وقصر سلطان إبليس على طائفة منهم ، وهم الذين اتبعوه من الغاوين ، ونفى سلطانه على الباقين.
والثانية ، أنه لعنه الله ادعى لنفسه الإستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله لأغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالإنتقام. والله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمةٌ باطلة وإنما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه ، وإنما ملكه إغواء من اتبعه وكان غاوياً في نفسه وبسوء اختياره ، فلم يأت إبليس بشئ من نفسه ، ولم يفسد أمراً على ربه ، لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه.
وقد اعترف لعنه الله بذلك بعض الإعتراف بقوله رب بما أغويتني ولا في استثنائه المخلصين فإنه أيضاً بقضاء من الله نافذ فلا حكم الا لله. وهذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في أنفسهم من كيده ، كل ذلك بقضاء من الله مبني على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى: إن الحكم إلا لله ،(يوسف:67) وقوله: وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ، (القصص:70) وقوله: الحق من ربك (آل عمران:60) وقوله: ويحق الله الحق بكلماته ، (يونس:82) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذٌ بقضائه.
ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله: إلا من اتبعك من الغاوين ، من المسامحة فإنهم قالوا إنه إذا قبل من إبليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغي ، وظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه ، ولا بجعل من الله سبحانه.
وجه الفساد: أن فيه أخذ الإستقلال والحول الذاتي من إبليس وإعطاؤه ذوات الأشياء ، ولو كان إبليس لايملك شيئاً من عند نفسه وبغير إذن ربه ، فالأشياء والأمور أيضاً لاتملك لنفسها شيئاً ولا حكماً حتى الضروريات ولوازم الذوات ، إلا بإذن من الله وتمليك فافهمه.
والثالثة ، إن سلطانه على إغواء من يغويه وإن كان بجعل وتسليط من الله سبحانه ، إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء والإضلال الإبتدائي غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه ، بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي أنفسهم. والدليل على ذلك قوله تعالى: إلا من اتبعك من الغاوين فإبليس إنما يغوي من اتبعه بغوايته ، أي أن الإنسان يتبعه بغوايته أولاًفيغويه هو ثانياً ، فهناك غواية بعدها إغواء والغواية إجرام من الإنسان والإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه. ولو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائياً من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان ، كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. إبراهيم: 22 ، فاللوم على الإنسان المجرم وهو مسؤول عن معصيته دون إبليس. نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الإغواء الذي سلطه الله عليه ، مجازاةً لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به. فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ، الأعراف: 27 ، وقال تعالى وهو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: كتب عليه انه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير .(الحج:4 ). ). انتهى .
وجوابه: أن كلمة عبادي في الآية وأمثالها كقوله تعالى:يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إرْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي. (الفجر:27-30) تعني عباد الله الخاصين ، وإضافة العباد اليه تعالى إضافة تشريف من قبيل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر:29) فهي روح مخلوقة نسبها الله سبحانه إلى نفسه. كما نسب البيت الحرام والمسجد اليه.
وقد أجمع المفسرون واللغويون وأحاديث النبي وآله’ على ذلك ، لكن الأمر اشتبه على صاحب الميزان(رض)فعمم كلمة عبادي ! لأنه تصور أن تخصيصها يعطي لإبليس سلطاناً على الباقين ، وهذا ينافي توحيد الله تعالى بالفاعلية ، وينافي قانون حرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله.
والصحيح أنه لايلزم شئ من ذلك. أما السلطان الذي أعطي لإبليس ونصَّ عليه الله تعالى بقوله: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.(النحل:100) وقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ. (الحجر:42). فلم يقل أحد إنه سلطان ابتدائي بلا أرضية من نياتهم وعملهم تجعلهم مستحقين لتسلطه عليهم ، فيزدادون غواية إلى غوايتهم ، ومعنى نفي سلطانه عن عباد الله الخاصين أنهم بلطف ربهم لاتوجد فيهم أرضية استعمار للشيطان.
فقوله (رض): (وجه الفساد: أن فيه أخذ الإستقلال والحول الذاتي من إبليس وإعطاؤه ذوات الأشياء ، ولو كان إبليس لايملك شيئاً من عند نفسه وبغير إذن ربه ، فالأشياء والأمور أيضاً لاتملك لنفسها شيئاً ولا حكماً حتى الضروريات ولوازم الذوات ، إلا بإذن من الله وتمليك) انتهى.
هذا القول ، يصلح رداً على الثنوية القائلين بشراكة إبليس مع الله تعالى ، أو على الماديين القائلين بألوهية الأسباب والأشياء أو شراكتها مع الله تعالى!
أما الأحاديث وعامة المفسرين الذين فسروا الآية بوجود سلطان ما للشيطان على قسم من الناس ، وعدم وجوده على عباد الله الخاصين ، فإنما قصدوا سلطانه الذي نص عليه الله تعالى ، وهو سلطان مترتب على غواية الإنسان نفسه وليس في عرضها ، وسلطان تحت سيطرة الله تعالى وليس في عرضها .
والإشكال الرابع:

أن تفسير الآية بعصمة المخلَصين ، ونفي سلطان الشيطان وكل أنواع تأثيره عليهم ، يستوجب نفي نزغه ووسوسته ومسِّه لهم ، مع أن القرآن نص على وسوسة الشيطان لآدم وزوجه فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى. (طَهَ:20).
وقال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ. (البقرة:36).
ووصف آدم وحواء بأنهما تأثرا بوسوسة الشيطان: فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. (طـه:121) .   ونص على مسِّ الشيطان لأيوب(ع)فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ إني مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابِ. اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. (صاد:41-42).
ووصف يوسف بأنه أنساه الشيطان فقال: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا أذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. (يوسف:42 ).
ووصف إنساءه لموسى(ع)فقال: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. (الكهف:63).    ووصف قتل موسى(ع)لعدوه بأنه من عمل الشيطان ، فقال: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهلها فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلأن هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أنه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ أنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (القصص:15-16) .

وأخبر أن النبي(س)قد يصيبه نزغٌ من الشيطان ، وطائفٌ منه فقال له: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ أنه هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (فُصِّلَتْ:36).
وقال له: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. (الأعراف:201).
وقال له: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.(الأنعام:68).

وجوابه: مع ما سنذكره من تفسير الآيات ، أنا لو سلمنا أن الشيطان يمكنه أن يوسوس أو ينزغ أو يمس المعصوم(ع) ، فلا يدل ذلك على تأثيره عليه وتسبيبه وقوعه في المعصية ، فلا يقدح في عصمته .
فالنزغ هو محاولة تخريب الأمر ، قال الراغب ص488: (النزغ دخول في أمر لإفساده ، قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). انتهى. فالسماح له بالنزغ لايعني تأثيره على المعصوم(ع) إلى حد إيقاعه في المعصية .

ومسُّ الشيطان يعني أذاه أو محاولته الأذى ، ولا يدل أيضاً على تسبيبه وقوع المعصوم في المعصية ، قال الراغب ص467: ( المس كاللمس لكن اللمس قد يقال لطلب الشئ ، وإن لم يوجد كما قال الشاعر: وألمسه فلا أجده. والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس. وكنَّى به عن النكاح فقيل: مسها وماسها....وكنى بالمس عن الجنون قال:كالذي يتخبطه الشيطان من المس. والمس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى نحو قوله: وقالوا لن تمسنا النار. مستهم البأساء والضراء. ذوقوا مس سقر. مسني الضر. مسني الشيطان. مستهم إذا لهم مكر في آياتنا. وإذا مسكم الضر). انتهى.

وكذلك الوسوسة ، فهي تعني أن الشيطان يُحدث في ذهن الإنسان خطورات رديئة ، ولو سلمنا إمكان ذلك في ذهن المعصوم فلا نسلم أن المعصوم(ع) يخضع لها بل يطردها. قال الراغب ص522: (الوسوسة: الخطرة الرديئة ، وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي ، قال: فوسوس إليه الشيطان. وقال: من شر الوسواس. ويقال لهمس الصائد: وسواس). انتهى .

على أن التفسير الذي افترضه الإشكال للآيات غير دقيق ، وقد تقدم جواب الإمام الرضا(ع)عن وسوسة الشيطان لآدم وحواء‘ومعصيتهما وأنها كانت في الجنة وليست في الأرض ، قال(ع):(فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ، وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله ، فلما أهبطه إلى الأرض وجعله حجة وخليفة عصمه بقوله عز وجل: إن الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. (آل عمران: 33) انتهى.
وفي مسند الإمام الرضا(ع):2/125: (وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبياً كان معصوماً ، لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عز وجل:وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه ، فتاب عليه فهدى ). انتهى .
أقول: إن صح الحديث بأن الأنبياء(عليهم السلام) غير معصومين عن الصغائر قبل البعثة فهو يصح في بعضهم كآدم(ع) ، ولا يصح في كبارهم كنبينا وأوصيائه(س) ، لأنه ثبت أن عصمتهم اعلى درجة من عصمة جميع الأنبياء(عليهم السلام).

وأما قول أيوب(ع): وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ إني مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابِ ، فلا يدل على تأثيره عليه في معصية ، بل هو كقوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.(الأنبياء:83).
قال في مجمع البيان:8/364: (أي بتعب ومكروه ومشقة. وقيل: بوسوسة فيقول له: طال مرضك ولا يرحمك ربك ، عن مقاتل. وقيل: بأن يذكره ما كان فيه من نعم الله تعالى من الأهل والولد والمال ، وكيف زال ذلك كله ، وحصل فيما هو فيه من البلية ، طمعاً أن يزله بذلك، ويجد طريقاً إلى تضجره وتبرمه فوجده صابراً مسلماً لأمر الله).انتهى.

وأما قوله تعالى: أذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ، فمعناه أن يوسف (ع)قال للناجي من السجن: أذكرني عند سيدك ، أي عزيز مصر ، فنسي الناجي أن يذكره عنده ، فلا علاقة له بإنساء الشيطان ليوسف(ع) .

وأما قوله تعالى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، فالذي أنساه الشيطان أن يذكر قصة الحوت لموسى(ع) ، هو فتاه المرافق له ، وليس موسى(ع).
وقال في الميزان:13/31: (ولاضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي والأنبياءفي عصمة إلهية من الشيطان ، لأنهم معصومون مما يرجع إلى المعصية ، وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). انتهى .

وأما قوله تعالى عن موسى(ع): قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان ، فقد تقدم جواب الإمام الرضا(ع)للمأمون:(إن موسى دخل مدينه من مدائن فرعون عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهلها ، وذلك بين المغرب والعشاء ، فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلأن هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ، فقضى موسى على العدو ، وبحكم الله تعالى ذِكْره فَوَكَزَهُ ، فمات! قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان ، يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين ، لا ما فعله موسى(ع)من قَتْلِهِ. أنه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ، يعني الشيطان. فقال المأمون: فما معنى قول موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ؟ قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة ، فَاغْفِرْ لِي ، أي أسترني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ، فَغَفَرَ لَهُ أنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قال موسى(ع): قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ، من القوة حتى قتلت رجلاً بوكزة ، فَلَنْ أكون ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ، بل أجاهد سبيلك بهذه القوة حتى ترضى.فَأَصْبَحَ موسى(ع)فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ على آخر ، قَالَ لَهُ مُوسَى إنك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ، قاتلت رجلاً بالأمس وتقاتل هذا اليوم ، لأوذينك ، وأراد أن يبطش به فَلَمَّا أن أراد أن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا وهو من شيعته قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نفساً بِالأَمْسِ أن تُرِيدُ إلا أن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ .
قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيراً يا أبا الحسن، فما معنى قول موسى لفرعون: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ؟قال الرضا(ع): إن فرعون قال لموسى لما أتاه: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، بي ! قال موسى: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ ، عن الطريق بوقوعي إلى مدينه من مدائنك ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد (ص): أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ، يقول: ألم يجدك وحيداً فآوى إليك الناس. وَوَجَدَكَ ضَالاً ، يعني عند قومك ، فَهَدَى ، أي هداهم إلى معرفتك. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ، يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً). (العيون:2/177والإحتجاج:2/218 ).

وأما مجرد خطاب الله تعالى لنبيه(ص)في الآيتين: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ، وقوله له: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، فهو من باب مخاطبة المسلمين من خلال النبي’ ، ولايدل على أن النبي’ في معرض النزغ والإنساء من الشيطان .
فتبين بذلك ، أن كل ما يتصور أنه تسليط للشيطان على المعصومين صلوات الله عليهم ، لا يصحُّ ، وإن صحَّ فهو محدودٌ لايؤدي إلى وقوعهم في المعصية ، فتبقى آية: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الحجر:42والإسراء:65) ، على ظهورها في تحقق عصمتهم ، ومنع تأثيره عليهم (عليهم السلام)  .

الحكمة من نزول آيات متشابهة في عصمة الأنبياء(عليهم السلام)
سؤال يرد في الذهن: لماذا جعل الله تعالى بعض الآيات المتعلقة بعصمة أنبيائه(عليهم السلام) من المتشابهات التي توهم وقوعهم في المعاصي ؟
والجواب: نعم ، لقد تضمنت الآيات المتعلقة بسلوك الأنبياء(عليهم السلام) آيات محكمة كقوله تعالى عن نبينا(ص): وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى ، والذي يعصم الله منطقه فلا يفتح فمه عن كلمة إلا بوحي وعصمة إلهية ، لايمكن أن يصدر منه فعلٌ ولا حركةٌ ولا سكونٌ إلا بعصمة إلهية !
وفي نفس الوقت توجد آيات تُوهم وقوعه في الذنب والمعصية كقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. (الفتح: 2).

والحكمة المتصورة من ذلك:
أولاً، لعله سبحانه أراد أن يؤكد بشريتهم حتى لايعبدوا من دونه ، وأن يبين أن عصمتهم الكاملة محاطة بغلاف وحجاب. ويؤيد ذلك ما رواه الطوسي في كتاب الغيبة ص324 ، قال(رض) ( وأخبرني جماعة ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني(رض) قال: كنت عند الشيخ أبي القإسم الحسين بن روح رضي الله عنه مع جماعة منهم علي بن عيسى القصري ، فقام إليه رجل فقال: إني أريد أن أسألك عن شئ ؟ فقال له: سل عما بدا لك ، فقال الرجل: أخبرني عن الحسين(ع)أهو وليُّ الله؟ قال: نعم ، قال: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله ؟ قال: نعم ، قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عز وجل عدوه على وليه ؟
فقال له أبو القإسم قدس سره: إفهم عني ما أقول لك ، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ، ولا يشافههم بالكلام ، ولكنه جلت عظمته يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشرا مثلهم ، ولو بعث إليه رسلاً من غير صفتهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم ، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتوا بشئ نعجز عن أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه ، فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها .
فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإعذار والإنذار ، ففرق جميع من طغى وتمرد.  
ومنهم: من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً.
ومنهم: من أخرج من الحجر الصلد الناقة وأجرى من ضرعها لبناً.
ومنهم: من فلق له البحر ، وفجر له من الحجر العيون ، وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون.
ومنهم: من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله ، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم .
ومنهم: من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك.
فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم أن يأتوا بمثله ، كان من تقدير الله جل جلاله ولطفه بعباده وحكمته ، أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين وأخرى مغلوبين ، وفي حال قاهرين وأخرى مقهورين ، ولو جعلهم عز وجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم ، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عز وجل ! ولما عُرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختبار ! ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ، ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين ، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين ، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين ، وليعلم العباد أن لهم(عليهم السلام) إلهاً هو خالقهم ومدبرهم ، فيعبدوه ويطيعوا رسله ، ويكونوا حجة لله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم وادعى لهم الربوبية ، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ! قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه: فعدت إلى الشيخ أبي القإسم الحسين بن روح قدس سره من الغد ، وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه ؟! فابتدأني فقال: يا محمد بن إبراهيم لئن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق ، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي ! بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه). (ورواه في الاحتجاج:2/284).
ثانياً ، ابتلاء المسلمين لكي يتوفق بعضهم فينفذ من حجاب المتشابه ويصل إلى نور المحكم ، ويبقى المتخلف يعيش في خطأ تصوره عن مقام النبي’.

معجزة الجغرافية القرآنية
لماذا تكلم القرآن في هذا الموضوع ، ولم يتكلم في ذاك ؟
ولماذا تكلم في هذا مرتين ، وفي ذاك مرة واحدة ؟
وأطال في هذا ، واختصر في ذاك ؟
وأجمل في هذا ، وبين في ذاك ؟
وذكر هؤلاء بأسمائهم ، ولم يذكر أولئك ؟
واستعمل التصريح هنا ، والكناية هنا ؟
وقال هنا كذا ، وهناك كذا ؟
وهذا الأسلوب ، وذاك الأسلوب ، وهذا التعبير وذاك ، وهذه الكلمة وتلك ؟
ولماذا أقيم بناؤه على المحكم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمجمل والمبين والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ؟
الجواب على ذلك: أن القرآن بناءٌ ربانيُّ يحير عنده الذهن ، ويخشع له العقل ! وكما يتميز عن كل ما قرأت وسمعت ببلاغته ، فكذلك بمقاصده وأهدافه !
لقد أتقن الله تعالى بناء القرآن بدقة متناهية وإعجاز كبناء السماء! (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). (سورة الواقعة: 75ـ77)
والتناسب القرآني بين عناصر القسم يدل على التشابه في دقة بناء السماء ومواقع نجومها ، ودقة سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه !
وإلى اليوم لم يكتشف العلماء من بناء الكون إلا القليل ، وكلما اكتشفوا جديداً خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل ! ولم يكتشفوا من بناء القرآن إلا القليل ، وكلما اكتشفوا منه جديداً خضعت أعناقهم لمعماره عز وجل !!
والحديث التالي يكشف لنا عجائب في البناء القرآني، ففي دعائم الإسلام:2/ 146:
(عن علي(ع)قال: اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه ، فاحتملته فاطمة فأتت به النبي (ص)مستغيثة مستجيرة فقالت: يارسول الله أدع الله لابنك أن يشفيه ، ووضعته بين يديه ، فقام(ص)حتى جلس عند رأسه ، ثم قال: يا فاطمة يا بنية ، إن الله هو الذي وهبه لك ، هو قادر على أن يشفيه. فهبط على جبرئيل فقال: يا محمد ، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء وكل فاء من آفة ، ما خلا (الحمد لله) فإنه ليس فيها فاء ، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه فإن الله يشفيه ، ففعل ذلك فكأنما أنشط من عقال)! (وجامع أحاديث الشيعة:15/83).

يعني ذلك: أن ما يبدو لنا من القرآن عادياً بسبب سذاجتنا ، كله تابعٌ لحساب بل حسابات ، إلهية لا بشرية ، وأن هذه الحروف الثمانية والعشرين في القرآن عوالم من الرياضيات والعلوم والحقائق ، وليست حروف كتاب بشري !
فوجود الحرف له دلالة بل دلالات ، وعدم وجوده ، وعدده ، وتوزيعه في الآية ، وفي السورة ، وفي كل القرآن !
الله أكبر.. فحيثما كانت الفاء في سورة أو موضوع ، فهي تدل على وجود آفة ! وحيثما وجدت الباء ، والسين ، وكل الحروف ، تدل على حقائق أخرى !
ثم ما معنى الآفة ؟ وما معنى خلو سورة الحمد منها ؟ وما معنى قراءة كلام الله الذي ليس فيه آفة على قدح ماء ؟ وماذا يؤثر تكرار القراءة ؟ وهل يتغير تركيب الماء بذلك ؟ ثم هل تؤثر فيزياؤه المطورة في بدن المريض وتذهب منه الآفة ؟ !
من المؤكد أنه يوجد ارتباط بين النظام الفيزيائي والروحي للكون ، وبين نظام القرآن ، وأن للقرآن إمكانات تأثير متنوعة على عالمي الروح والمادة ، هي لون أو ألوان من فاعليات الله تعالى في الكون ، لأن القرآن كلامه سبحانه !
ومن المؤكد أن النبي(ص)أعطي من معرفة ذلك أقصى ما يمكن أن يعطاه إنسان ويحتمله ، لأنه(ص)أفضل بني الإنسان ، بل أفضل المخلوقات والمصطفى منها جميعاً ، ولقد أجاد الشاعر الأزري بقوله:
قلَّبَ العالمين ظهراً لبطن فرأى ذات أحمد فاصطفاها
ولكن النبي(ص)لم يكن يستعمل ذلك إلا بأمر الله تعالى أو إجازته ، وهذه قضية مهمة في شخصيته وسلوكه(ص)، حيث أعطي وسائل العمل الإعجازي ، ومع ذلك كان يعمل في كل أموره بالأسباب والقوانين الطبيعية العادية ، ولا يستعمل الإعجاز إلا عندما يؤمر ، أو عند (الضرورة).
إن الفرق بينه وبين موسى والخضر أن الخضر أعطي العلم اللدني أو علم الباطن فهو يعمل بموجبه ، وموسى أعطي الشريعة أو علم الظاهر فهو يعمل بموجبها. أما نبينا(ص)فقد أعطي العلمين معاً ، ولكنه يعمل بالظاهر إلا عندما يؤمر أو عند الضرورة ! وهذه هي سنة الله تعالى ، فهو لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضاه ، ولا يرتضيه حتى يستوعب مسألة العمل بالقوانين الطبيعية والغيبية ويسلم لإرادة الله فيها ! ثم يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا !
والقرآن أكبر ، أو من أكبر ، تلك الوسائل التي أعطاها الله تعالى لنبيه(ص)، وقد كان له ترتيب نزل به منجماً في بضع وعشرين سنة ، وكان يؤدي فيه إدارة أحداث النبوة وصناعة الأمة وتوجيه النبي والأمة ، وتسجيل كل ذلك للأجيال. ثم صار له ترتيب ككتاب تقرؤه الأجيال ، كتاب له مقدمة وفصول وفقرات. أحدث من كل ما أنتجه وينتجه المؤلفون في منهجة التأليف والأسلوب !
فما المانع أن يكون للقرآن ترتيب ثالث ، ورابع ، وخامس ، أملاه النبي (ص) على علي(ع)وادخره عنده مع وصيته المحفوظة وعهده المعهود إلى ولده المهدي الذي بشر به الأمة والعالم ؟ والذي يظهر الله على يديه صدق دين جده على الدين كله ، فتخضع لبراهينه العقول والأعناق !
أرواحنا فداه وعجل الله ظهوره.
وإذا كان نظام حروف القرآن كذلك ، فما قولك في جغرافيته العلمية ، وما ذكره الله فيه وما لم يذكره ، ومحكمه ومتشابهه ، ومجمله ومبينه...؟!



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page