• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني عشر ;العصمة وقاعدة اللطف

الفصل الثاني عشر
العصمة وقاعدة اللطف


معنى العصمة في القرآن واللغة والحديث
وردت العصمة في القرآن بمعنى المنع من عذاب الله في الدنيا: ( قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلا مَنْ رَحِمَ) (هود:43).
والمنع من عذابه في الآخرة: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً. (الأحزاب:17). وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ (يونس:27). والأعم منهما: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ. (غافر:33).
وفي الإمتناع عن الحرام: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. (يوسف:32).
أما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. (المائدة:67) ، فقد بينا في كتاب (آيات الغدير) أن العصمة فيها ليست بمعنى عصمة الأنبياء المصطلحة ، فهي عصمة من الناس وليست عصمة عن المعاصي ، وقد نزلت في آخر سورة قبل وفاة النبي(ص)بنحو ثمانين يوماً ، و كان(ص)قبلها معصوماً عن المعاصي .
فلا بد أن يكون المقصود فيها عصمته(ص)من أن يطعن الناس بنبوته أو يرتدوا عن الإسلام ، إن بلغ ما أنزل اليه في علي(ع).
وقال الراغب في مفرداته: (العَصْمُ: الإمساك ، والإعتصام: الإستمساك...والعصام ما يعصم به أي يشد. وعصمة الأنبياء(عليهم السلام) حفظه إياهم أولاً بما خصهم به من صفاء الجوهر ، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم ، ثم بإنزال السكينة عليهم ، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق ، قال تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .
قال الخليل في كتاب العين: العصمة أن يعصمك الله من الشر ، أي يدفع عنك. واعتصمت بالله أي امتنعت به من الشر ، واستعصمت أي أبيت ، وأعصمت أي لجأت إلى شئ اعتصمت به... وأعصمت فلاناً: هيأت له ما يعتصم به. والغريق يعتصم بما تناله يده ، أي: يلجأ إليه... والعصمة: المنع. يقال عصمه الطعام ، أي منعه من الجوع. والعصمة: الحفظ. يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت بالله ، إذا امتنعت بلطفه من المعصية ). انتهى
وفي الفروق اللغوية ص464: الفرق بين اللطف والتوفيق: أن اللطف هو فعل تسهل به الطاعة على العبد ، ولا يكون لطفاً إلا مع قصد فاعله وقوع ما هو لطف فيه من الخير خاصة ، فأما إذا كان ما يفعل عنده قبيحاً وكان الفاعل له قد أراد ذلك ، فهو انتقاد وليس بلطف.
والتوفيق فعل ما تتفق معه الطاعة ، وإذا لم تتفق معه الطاعة لم يسم توفيقاً ولهذا قالوا إنه لايحسن الفعل...
واللطف قد يتقدم الفعل بأوقات يسيرة يكون له معها تأثير في نفس الملطوف له ، ولا يجوز أن يتقدمه بأوقات كثيرة حتى لايكون له معها في نفسه تأثير ، فكل توفيق لطف وليس كل لطف توفيقاً....
والعصمة هي اللطيفة التي يمتنع بها عن المعصية إختياراً، والصفة بمعصوم إذا أطلقت فهي صفة مدح وكذلك الموفق ، فإذا أجري على التقييد فلا مدح فيه ، ولا يجوز أن يوصف غير الله بأنه يعصم.
ويقال عصمه من كذا ووفقه لكذا ولطف له في كذا ، فكل واحد من هذه الأفعال يعدَّى بحرف ، وهاهنا يوجب أيضاً أن يكون بينهما فروق من غير هذا الوجه الذي ذكرناه ، وشرح هذا يطول فتركته كراهة الإكثار. وأصولهما في اللغة واشتقاقاتهما أيضاً توجب فروقا من وجوه أخر فاعلم ذلك ).
وفي مجمع البحرين:1/241: (روي أن إبليس لعنه الله تمثل ليحيى(ع)فقال له: أنصحك. قال: لا أريد ذلك ولكن أخبرني عن بني آدم. قال: هم عندنا على ثلاثة أصناف: صنف منهم وهم أشد الأصناف عندنا نقبل على أحد منهم نفتنه عن دينه ونتمكن منه ثم يفزع إلى الإستغفار والتوبة فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك حاجتنا فنحن معه في عناء. وأما الصنف الآخر منهم فهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا ، قد كفونا مؤنة أنفسهم !
وأما الصنف الثالث فهم معصومون لا نقدر منهم على شئ ).
وفي مجمع البحرين:3/393: (وفي الحديث: ما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحد من خلقي إلا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته. قال بعض الشارحين: هاتان الفقرتان كناية عن الخيبة والخسران. وفيه: أعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم ، وهي كما روي عن الصادق (ع): شرب الخمر، واللعب بالقمار ، وفعل ما يضحك الناس من المزاح واللهو ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب.
والمعصوم: الممتنع من جميع محارم الله ، كما جاءت به الرواية.
وعن علي بن الحسين(ع)الإمام منا لايكون إلا معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف ، قيل: فما معنى المعصوم ؟ قال: المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ، لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قوله تعالى .( أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ). وفي الدعاء إن عصمة أمري كذا ، أي وقايتي وحافظي من الشقاء المخلد. واعتصمت بالله: امتنعت به. وفي حديث رسول الله (ص):أربع من كن فيه كان في نور الله الأعظم وعد ، منها: من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله " أي ما يعصم من المهلك يوم القيامة. والمعنى: من كانت الشهادتان ويعني بهما الإيمان ، عصمة ووقاية له من المعاصي تحجزه وتمنعه من اقتراف سخط الله وسخط رسوله. ومنه قول أبي طالب: ثمال اليتامى عصمة للأرامل ، أي حفظ لهم ووقاية يمنعهم من الضياع والحاجة ).
وفي نهج البلاغة:2/49:(وعليكم بكتاب الله ، فإنه الحبل المتين والنور المبين ، والشفاء النافع ، والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق ، لايعوج فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرد ، وولوج السمع ) .

وفي نهج البلاغة:2/23: (وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيره ببلواه... ).

وفي الصحيفة السجادية ص90: (اللهم صل على محمد وآله ، وقني من المعاصي ، واستعملني بالطاعة ، وارزقني حسن الانابة ، وطهرني بالتوبة ، وأيدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وأذقني حلاوة المغفرة ). انتهى .

وقد تقدم قول الإمام الصادق(ع)في تعريف المعصوم: (المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله ، وقال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). (معاني الأخبار: ص132) .

وفي الصراط المستقيم:1/116: قالوا: معصوم إسم مفعول ، فيكون مجبوراً على ترك العصيان في كل آن ولافخر في ذلك على إنسان. قلنا: العصمة الملجئة من الله إنما هي من الغلط والنسيان وأما العصمة التي لايقع منها عصيان فهي لطف يفعله الله ، لايوجب الإجبار ، بل يجامع الإختيار ، والإنسان يعلم أنه يترك ذنوباً بحسب اختياره فالمعصوم يترك الجميع كذلك ).

من تعريفات المتكلمين للعصمة
قال المفيد(رض)في النكت الإعتقادية ص45: (فإن قيل: ما حدُّ العصمة؟
الجواب: العصمة لطف يفعله الله بالمكلف ، بحيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ).
وقال في تصحيح الإعتقادص128: (العصمة من الله تعالى لحججه هي التوفيق واللطف ، واعتصام من الحجج بها عن الذنوب ، والغلط في دين الله تعالى).
وقال في أوائل المقالات ص164: (العصمة في موضوع اللغة هي: المنع ، وقد خُصت في اصطلاح المتكلمين بمن يمتنع باختياره عن فعل الذنوب والقبائح عند اللطف الذي يحصل من الله تعالى في حقه .
وعرفه صاحب كتاب (الياقوت) من قدماء الإمامية بأنه: لطف يمتنع من يختص به عن فعل المعصية ، ولا يمنعه على وجه القهر ، أي إنه لا يكون له حينئذ داع إلى فعل المعصية وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ). انتهى .

وقال الشريف المرتضى(رض)في رسائله:3/326:(إعلم أن العصمة هي اللطف الذي يفعله تعالى ، فيختار العبد عنده الإمتناع من فعل القبيح ، فيقال على هذا إن الله عصمه بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح ، ويقال إن العبد معتصم ، لأنه أختار عند هذا الداعي الذي فعل الإمتناع عن القبيح ). انتهى .

قاعدة اللطف الإلهي التي استدل بها علماؤنا على العصمة
قاعدة اللطف عقلية وشرعية
معنى قاعدة اللطف: أن العقل يحكم بأن الله تعالى لم ولن يترك عباده سدى ، فلا بد أن يلطف بهم فيبعث فيهم أنبياء ويجعل لهم أوصياء ، ويكون له على الأرض حجة في كل عصر ، وأن يكون هذا الحجة هادياً مهدياً معصوماً.
وقد ورد هذا المعنى صريحاً وضمناً ، في آيات وروايات عديدة ، منها قوله تعالى:أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدًى. (القيامة:36). وقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. (المؤمنون:115).
وفي الكافي:1/169: (علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن يعقوب قال:كان عند أبي عبد الله(ع)جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ، ومحمد بن النعمان ، وهشام ابن سالم ، والطيار ، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله(ع): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته ؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله إني اجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك ، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشئ فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف ، وشملة مرتد بها والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة ؟ فقال لي: نعم ، فقلت له: ألك عين؟ فقال يا بني أيُّ شئ هذا من السؤال؟ وشئ تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء ! قلت: أجبني فيه قال لي سل: قلت ألك عين ؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع بها ؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص ، قلت: فلك أنف؟ قال: نعم قلت: فما تصنع به ؟ قال: أشم به الرائحة قلت: ألك فم ؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع به ؟ قال: أذوق به الطعم ، قلت: فلك إذن؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت ، قلت: ألك قلب ؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع به ؟ قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس.
قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟ فقال: لا ، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ، قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك .
قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم ، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح ؟ قال: نعم.
فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك ؟! قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً ! ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم ؟ فقلت: لا ، قال: أمن جلسائه ؟ قلت: لا ، قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة قال: فأنت إذا هو ، ثم ضمني إليه ، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت .
قال: فضحك أبو عبد الله(ع)وقال: يا هشام من علمك هذا ؟ قلت: شئ أخذته منك وألفته ، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى). انتهى .

ومعنى كون اللطف قاعدة عقلية: أن العقل يدرك بقطع النظر عن نصوص الدين أنه يستحيل على العليم الحكيم القدير عز وجل ، أن يترك مخلوقاته بدون هداية بل إن من أفعال الله الثابتة ، بمقتضى صفاته ، أنه يلطف بعباده فيبعث الأنبياء والأوصياء لهدايتهم ، وهذا معنى قولهم: يجب اللطف على الله تعالى. وتعبيرهم وإن كان ثقيلاً وكأنه يفرض شيئاً على الله تعالى ، لكنه يعني أن ذلك مما يدركه العقل من قوانين فعله تعالى .
ومعنى كونها قاعدة شرعية: أن القرآن والسنة يدلأن على أن الله لطيف بعباده ، فلا يتركهم بدون أنبياء وهداية ، كما نبهت إلى ذلك آيات القرآن ، وأحاديث النبي وأهل بيته (ص) ، وبينت حدودها وتفاصيلها التي لايدركها العقل وحده .
وينبغي الإلفات إلى أن الشرع قد ينبه العقل البشري إلى بعض الأمور المركوزة فيه فيصل اليها ، فتكون من المدركات العقلية ولايضر بذلك أن الشرع ألفته اليها وأثار فيه كامنها. وقد قلنا في العقائد الإسلامية:1/26: (سمى الله عز وجل القرآن الكريم: الذكر ، ووصف عمل النبي(ص)بأنه تذكير ، واستعمل مادة التذكير في القرآن للتذكير بالله تعالى ، والتذكير باليوم الآخر ، والتذكير بالفطرة والميثاق .
ووصف أمير المؤمنين(ص)عمل الأنبياء(عليهم السلام) بأنه مطالبة الناس بالإنسجام مع ميثاق الفطرة ، فقال(ع)في خطبة طويلة في نهج البلاغة:1/23،يذكر فيها خلق آدم(ع)وصفته: (فأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية. اصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع...). انتهى .
وعلى هذا يمكن أن نعتبر قاعدة اللطف عقلية ، لأن العقل البشري يدرك بقطع النظر عن الدين ، أن هذا الخالق العظيم سبحانة لايمكن أن يترك خلقه سدى ، بل يجب بمقتضى حكمته أن يعرفهم ما يريده منهم لتحقيق هدفه السامي فيهم .
وقد ذكر أبو الفتح الكراجكيرحمه الله في كنز الفوائد ص195 أن لأفلاطون كتاباً إسمه (كتاب اللطف) ونقل عنه قوله: (نقل الطبع عسير الإنتزاع) ، وقد يكون موضوع الكتاب اللطف الإنساني ، ولكنه على أي حال من جوِّ اللطف الإلهي .

اللطف الإلهي في القرآن
ورد هذا الإسم المقدس في القرآن في سبعة مواضع ، تشمل لطف ذاته المقدسة ، وأنواع ألطافه بمخلوقاته:
1- لطف الذات الإلهية
قال الله تعالى: لاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَيُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. (الأنعام:103).
وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع)أن الله تعالى لطيف لكن لايوصف باللطف ، ومعناه أن ذاته تعالى من غير نوع المادة والمخلوقات ، لكن لايوصف باللطف حتى لاستصور أن ذاته المقدسة مادة شفافة !
ففي التوحيد للصدوق/305 ، من خطبة لأمير المؤمنين(ع): (ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت ، مكيها ومدنيها ، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم !
فقام إليه رجل يقال له ذعلب وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب ، شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاةً صعبة ، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟
قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباه لم أره ، قال: فكيف رأيته صفه لنا ؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ، ولا بالسكون ، ولا بالقيام قيام انتصاب ، ولا بجيئه ولا بذهاب ، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لايوصف بالكبر ، جليل الجلالة لايوصف بالغلظ ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة ، مؤمن لا بعبادة ، مدرك لابمجسة ، قائل لاباللفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مباينة ، فوق كل شئ فلا يقال شئ فوقه ، وإمام كل شئ فلا يقال له إمام ، داخل في الأشياء لا كشئ في شئ داخل ، وخارج منها لا كشئ من شئ خارج ! فخرَّ ذعلب مغشياً عليه ، ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب ، والله لا عدت إلى مثلها ). انتهى .
2-لطفه في إدارة الطبيعة
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِير. (الحج:63)
3- لطفه في التخطيط لأنبيائه(عليهم السلام)وعباده المؤمنين
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. (يوسف:100 )
4- لطفه في إدراة أرزاق عباده
اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَالْقَوِىُّ الْعَزِيزُ. (الشورى:19 ).
5- لطفه في مراقبة عمل نساء النبي(ص)والناس
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا.(الأحزاب:34).
6- لطفه في الإطلاع على خفايا خلقه
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَاللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. (الملك:13-14).
7- لطفه في الحساب يوم القيامة
يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. (لقمان:16).

وفي التوحيد للصدوق ص217: (اللطيف معناه أنه لطيف بعباده ، فهو لطيف بهم بار بهم ، منعم عليهم. واللطف البر والتكرمة يقال: فلأن لطيف بالناس بار بهم يبرهم ويلطفهم إلطافاً. ومعنى ثان: أنه لطيف في تدبيره وفعله يقال: فلأن لطيف العمل ، وقد روي في الخبر أن معنى اللطيف هو أنه الخالق للخلق اللطيف كما أنه سمي العظيم لأنه الخالق للخلق العظيم ). انتهى .

وفي كل واحدة من هذه الآيات بحث مفصل لايتسع له المجال .
اللطف في أحاديث النبي وآله (ص)
في الكافي:1/159: أن رجلاً سأل الإمام الصادق(ع)(أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا ، قلت: ففوض إليهم الأمر ؟ قالقال: لا ، قال: قلت فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك).

وفي عيون أخبار الرضا(ع):2/113: ( عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى رضي الله عنه عن إبراهيم بن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا(ع)عن قول الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ. (البقرة:17) فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلى بينهم وبين اختيارهم). انتهى .

وفي المقنعة 339 ، من دعاء كل يوم من شهر رمضان: (وكذلك نسبت نفسك يا سيدي باللطف ، بلى إنك لطيف فصل على محمد وآله ، والطف لما تشاء). انتهى .

وفي الكافي:1/120 ، عن الإمام الرضا(ع)أنه قال: (إعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم ، والقدم صفته التي دلت العاقل على أنه لا شئ قبله ولا شئ معه في ديموميته ، فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه لا شئ قبل الله ، ولا شئ مع الله في بقائه ، وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شئ ، وذلك أنه لو كان معه شئ في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له ، لأنه لم يزل معه ، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه ! ولو كان قبله شئ كان الأول ذلك الشئ لا هذا ، وكان الأول أولى بأن يكون خالقاً للأول .
ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها فسمى نفسه سميعاً ، بصيراً ، قادراً ، قائماً ، ناطقاً ، ظاهراً ، باطناً ، لطيفاً خبيراً ، قوياً ، عزيزاً ، حكيماً ، عليماً ، وما أشبه هذه الأسماء. فلما رأى ذلك من أسمائه القالون المكذبون ، وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شئ مثله ولا شئ من الخلق في حاله ، قالوا: أخبرونا إذا زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له ، كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها ! فإن في ذلك دليلاً على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض ، إذ جمعتم الأسماء الطيبة !
قيل لهم: إن الله تبارك وتعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني وذلك كما يجمع الإسم الواحد معنيين مختلفين. والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع ، وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ، ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا ، فقد يقال للرجل: كلب وحمار وثور وسكرة وعلقمة وأسد ! كل ذلك على خلافه وحالاته. لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليها ، لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب ، فافهم ذلك رحمك الله.
وإنما سمي الله تعالى بالعلم ، بغير علم حادث علم به الأشياء استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره ، والروية فيما يخلق من خلقه ، ويفسد ما مضى مما أفنى من خلقه ، مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلاً ضعيفاً ، كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا فيه جهلة ، وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلى الجهل. وإنما سمي الله عالماً لأنه لايجهل شيئاً ، فقد جمع الخالق والخلوق إسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت.
وسمي ربنا سميعاً لا بخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به ، (الخِرْت: ثقب الإبرة والأذن والعين ونحوها وجمعه خروت (العين:1/236) كما أن خرتنا الذي به نسمع لا نقوى سبه على البصر ، ولكنه أخبر أنه لايخفى عليه شئ من الأصوات ، ليس على حد ما سمينا نحن ، فقد جمعنا الإسم بالسمع واختلف المعنى.
وهكذا البصر لا بخرت منه أبصر ، كما أنا نبصر بخرت منا لا ننتفع به في غيره ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه ، فقد جمعنا الإسم واختلف المعنى. وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم يخبر أنه حافظ كقول الرجل: القائم بأمرنا فلأن ، والله هو القائم على كل نفس بما كسبت ، والقائم أيضاً في كلام الناس: الباقي والقائم أيضاً يخبر عن الكفاية كقولك للرجل: قم بأمر بني فلأن ، أي أكفهم ، والقائم منا قائم على ساق ، فقد جمعنا الإسم ولم نجمع المعنى.
وأما اللطيف فليس على قلة وضآلة وصغر ، ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك ، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلأن في مذهبه وقوله: يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف. واللطافة منا الصغر والقلة ، فقد جمعنا الإسم واختلف المعنى). انتهى .

من كلمات علمائنا في قاعدة اللطف
قال المفيد في النكت الإعتقادية ص35: ( فإن قيل: ما الدليل على أن نصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة ؟ فالجواب: الدليل على ذلك أنه لطف واللطف واجب في الحكمة فنصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة.
فإن قيل: ما حد اللطف؟ فالجواب: اللطف هو ما يقرب المكلف معه من الطاعة ويبعد عن المعصية ولاحظ له في التمكين ولم يبلغ الالجاء.
فإن قيل: ما الدليل على أن اللطف واجب في الحكمة؟ فالجواب: الدليل على وجوبه توقف غرض المكلف عليه فيكون واجباً في الحكمة وهو المطلوب.
فإن قيل: من نبي هذه الأمة ؟ فالجواب: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (ص). فإن قيل: ما الدليل على نبوته ؟
فالجواب: الدليل على ذلك أنه ادعى النبوة وظهر المعجز على يده وكل من ادعى النبوة وظهر المعجز على يده فهو نبي حقاً ). انتهى .
وقال في ص39: فإن قيل: ما الدليل على أن الإمامة واجبة في الحكمة ؟
فالجواب: الدليل على ذلك أنها لطف واللطف واجب في الحكمة على الله تعالى فالإمامة واجبة في الحكمة.
وقال في ص161: ( عرف المتكلمون اللطف بما أفاد هيئة مقربة إلى الطاعة ومبعدة عن المعصية بحيث لم يكن له حظ في التمكين ولا يبلغ حد الإلجاء.....
والقول بوجوب اللطف يختص به العدلية من المعتزلة والإمامية والزيدية ويخالفهم فيه الأشعرية ، وقد نسب الخلاف فيه أيضاً إلى بشر بن المعتمر من قدماء المعتزلة وإن حكى رجوعه عن ذلك أخيراً بعد مناظرة سائر المعتزلة إياه ، لكن تعليل المعتزلة بوجوبه من جهة أنهم أوجبوه من جهة العدل وأن الله تعالى لو فعل خلافه لكان ظالماً ، والإمامية إنما أوجبوه من جهة الجود والكرم وأنه تعالى لمَّا كان متصفاً بهاتين الصفتين اقتضى ذلك أن يجعل للمكلفين ما دام هم على ذلك الحال أصلح الأشياء لهم ، وأن لا يمنعهم صلاحا ولا نفعاً ). انتهى .
لكن يبدو أن المحقق الحلي(رض)يقول به من باب العدل وليس من باب الكرم ، فقد قال في المسلك في أصول الدين ص301: (ومن الواجب في الحكمة اللطف للمكلفين ، وهو أن يفعل معهم كل ما يعلم أنه محرك لدواعيهم إلى الطاعة ، لأنه لو لم يفعل ذلك لكان ناقضاً لغرضه ، إذ لا مشقة عليه في فعله ، وهو مفض إلى غرضه). انتهى .

وقال الشريف المرتضى(رض)في الشافي:1/39: (والنبوة طريق وجوبها أيضاً اللطف لم يجب عندهم أن تكون المعرفة نبوة ، ولا النبوة معرفة لاستبداد كل واحدة منهما بصفة لا يشركها فيها الأخرى ، والنبي لم يكن عندنا نبيا لاختصاصه بالصفات التي يشرك فيها الإمام بل لاختصاصه بالأداء عن الله تعالى بغير واسطة ، أو بواسطة هو الملك ، وهذه مزية بينة ).

وقال الشيخ الطوسي(رض)في الإقتصاد ص77: (وأما الكلام في اللطف فيحتاج أن نبين أولاً ما اللطف وما حقيقته. واللطف في عرف المتكلمين: عبارة عما يدعو إلى فعل واجب أو يصرف عن قبيح ، وهو على ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع فيسمى توفيقاً ، والآخر ما يكون عنده أقرب إلى فعل الواجب أو ترك القبيح.....
واللطف على ثلاثة أقسام: أحدها من فعل الله تعالى ، والثاني من فعل من هو لطف له ، والثالث من فعل غيرهما. فما هو من فعل الله تعالى على ضربين: أحدهما يقع بعد التكليف للفعل الذي هو لطف له فيوصف بأنه واجب ، والثاني ما يقع مع التكليف للفعل الذي هو لطف فيه فلا يوصف بأنه واجب ، لأن التكليف ما أوجبه ولم يتقدم له سبب وجوب ، لكن لا بد أن يفعل به لأنه كالوجه في حسن التكليف.
وأما ما كان من فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه ، فإن كان واجباً فاللطف واجب وإن كان لطفاً في فعل نفل فهو نفل.
وإذا كان اللطف من فعل غيرهما فلا بد من أن يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك الفعل على الوجه الذي هو لطف في الوقت الذي هو لطف فيه ، ومتى لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل لطف فيه.
هذا إذا لم يكن له بدل من فعل الله يقوم مقامه ، فإن كان له بدل من فعل الله تعالى جاز التكليف لذلك الفعل إذا فعل الله تعالى ما يقوم مقامه ).

وقال ابن البراج الطرابلسي(رض)في جواهر الفقه ص
247: (اللطف على الله واجب ، لأنه خلق الخلق ، وجعل فيهم الشهوة ، فلو لم يفعل اللطف لزم الإغراء ، وذلك قبيح ، والله لا يفعل القبيح ، فاللطف هو نصب الأدلة ، وإكمال العقل ، وإرسال الرسل في زمانهم ، وبعد انقطاعهم إبقاء الإمام ، لئلا ينقطع خيط غرضه).

وقال المحقق الحلي(رض)في المسلك: ص101
: (وهل يجب على البارئ سبحانه فعل اللطف أم لا؟ الأكثرون يقولون بوجوبه ، واحتجوا على ذلك بوجوه:
أحدها: أن اللطف مفض إلى غرض المكلف ، وليس فيه وجه من وجوه القبح ولا يؤدي إلى ما لا نهاية له ، وكل ما كان كذلك فهو واجب في الحكمة.
أما أنه مفض إلى غرض المكلف ، فلأنا نتكلم على هذا التقدير ، وأما أنه ليس فيه وجه من وجوه القبح ، فلأن وجوه القبح مضبوطة ، وليس فيه شئ منها.
وأما أن كل ما كان كذلك كان واجباً في الحكمة ، فلأن داعي الحكمة متعلق به ، والصوارف منتفية عنها ، وكل ما تعلق به الداعي وانتفى الصارف عنه ، فإنه يجب أن يفعل.
الوجه الثاني: لو لم يفعل البارئ سبحانه وتعالى اللطف على هذا التقدير ، لكان ناقضاً لغرضه ، ونقض الغرض قبيح.
بيان أنه يكون ناقضاً لغرضه ، أن من دعا غيره إلى طعام له وعلم أنه يحضر إن أرسل رسولاً إليه لا غضاضة عليه في إرساله ، ولم يرسل رسوله ، فإنه يكون غير مريد لحضوره ، والعلم بذلك ظاهر.
الوجه الثالث: لو لم يجب فعل اللطف ، لكان البارئ مخلاً بما يجب عليه في الحكمة ، إذ لا فرق بين منع اللطف وعدم التمكين.
احتج المخالف بأنه: لو وجب اللطف لوجب أن يفعل بالكافر.
والجواب: لا نسلم أن للكافر لطفاً. وتحقيق ذلك أن اللطف هو ما يعلم المكلف أن المكلف يطيع عنده ، أو يكون أقرب إلى الطاعة ، مع تمكنه في الحالين ، والكافر قد لا يكون له لطف يحركه إلى فعل الطاعة. ويجري هذا مجرى رجل له ثلاثة أولاد ، أحدهم يطيعه بالإكرام ، والآخر بالإهانة ، والثالث لا يؤثر فيه أحد الأمرين ، فلا يكون لذلك لطف ، فالكافر الذي لا يطيع يجري مجرى الثالث ). انتهى .

رد الفقهاء للإستدلال بقاعدة اللطف في الفقه
رأينا أن أصل قاعدة اللطف الإلهي ثابتٌ بحكم العقل والكتاب والسنة ، وأن موردها بعثة الأنبياء ونصب الأوصياء(عليهم السلام) وعصمتهم .
وقد توسع فيها بعض علمائمنا فاستعملوها في حجية خبر الواحد (رسائل المرتضى:1/74). وفي حجية الإجماع (فرائد الأصول:1/188، ومنية الطالب:2/337 ومصباح الفقاهة للخوئي:2/170، و:5/645).
وفي نفي الحرج في الأحكام: (هداية المسترشدين:2/737، وعوائد 196).
وفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ( جواهرالكلام:21/358 ومصباح الفقاهة للسيد الخوئي:1/298) .
وفي وجوب القضاء بين الناس (جواهرالكلام:40/10، والقضاء للسيد الكلبايكاني:1/14) ، وغيرها .
وفي كل هذه الموارد رد العلماء الإستدلال بها إلا نادراً ، مثل أصل القضاء كما هو عند السيد الكلبايكاني ، وعدم خلو الواقعة من حكم كما عند الشهيد الصدر (دروس في علم الأصول:1/148)
وقد توسع بعضهم في ردها حتى لحق الحيف بأصل قاعدة اللطف ، وتحامل بعضهم عليها وكأنها من مبتدعات الشيخ الطوسي & ، مع أن أستاذه المرتضى استدل بها ، وأستاذهما المفيد ، وغيرهم ، رحمهم الله.
نعم يصح القول إن الشيخ الطوسي أكثر فقهائنا استدلالاً بقاعدة اللطف في الفقه والتفسير ، كما نلاحظ ذلك في مبسوطه وتبيانه&.
وقد نبه السيد الخوئي(رض)الى ضرورة أن لايسبب الهجوم على موارد القاعدة في الفقه مساساً بها في العقائد ، فقال في أجود التقريرات:2/37:
(الجهة الثانية في بيان أن العقل هل يدرك الحسن والقبح بعد الفراغ عن إثبات أنفسهما أم لا ؟ والتحقيق أن يقال إن العقل وإن لم يكن له إدراكُ جميع المصالح والمفاسد ، إلا أنَّ إنكار إدراكه لهما في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية مناف للضرورة أيضاً، ولولا ذلك لما ثبت أصل الديانة ، ولزم إفحام الأنبياء(عليهم السلام)! إذ إثبات النبوة العامة فرع إدراك العقل لقاعدة وجوب اللطف ، كما أن إثبات النبوة الخاصة بظهور المعجزة على يد مدعيها فرع إدراك العقل قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ومع إنكار إدراك العقل للحسن والقبح بنحو السالبة الكلية ، كيف يمكن إثبات أصل الشريعة فضلاً عن فروعه ). انتهى .
وكلامه (رض)واضح في أنه لايقبل قاعدة اللطف في الفقه ، ولكنه يقبلها في العقائد ، غير أن موقفهم العام منها في الفقه يبقى أكثر تأثيراً على الفقيه ، ولذا قال السيد الخوئي(رض)في جواب سؤال كما في صراط النجاة:2/445:
(سؤال 1403: قاعدة اللطف التي ناقشتموها في الأصول صغرى وكبرى ، على ما في مصباح الأصول ، في مناقشتكم لشيخ الطائفة التي استدل بها جمع من أصحابنا على وجوب الإمامة ، لأنها من صغرياتها ، هل يمكن الإستدلال على هذه الكبرى ، بما دل من القرآن الكريم على أنه لطيف بعباده ، فتكون الإمامة من صغريات ما دلت على الكبرى المستفادة من الكتاب العزيز ، أم أن اللطف المشار إليه في القرآن الكريم غير اللطف المصطلح الذي تكون مسألة وجوب الإمامة من صغرياته ؟
الخوئي: نعم هو كما كتب ، لايدل على صحة الإستدلال بالقاعدة إن تمت القاعدة ، ولا دلالة للآية الشريفة في أدلة الأحكام كما زعم ). انتهى .

ولعل أهم إشكالاتهم على تطبيقات قاعدة اللطف في الفقه أن اللطف الواجب على الله تعالى ، إنما هو اللطف الواقعي وليس ما نتصوره لطفاً !
ثم إن اللطف الواجب هو اللطف التي تمت مقتضياته وفقدت موانعه ، ولا علم لنا بتحقق ذلك ، بعكس الأمر في أصل النبوة والإمامة والعصمة. (راجع هداية المسترشدين للشيخ محمد تقي الرازي:2/737).

ضرر الإغراق في التأصيل بقاعدة اللطف
كان الطابع العام لخطاب علماء المسلمين سنة وشيعة الإستدلال بـ(النقل) ، أي بنصوص الكتاب والسنة ، إلى أن ظهر في مطلع القرن الثالث الأسلوب الكلامي الفلسفي ، بسبب اتساع ترجمة الكتب اليونانية ، خاصة في عهدي الرشيد والمأمون ، فأخذ علماء السنة يستعملونه في خطابهم ، ويكتبون فيه مؤلفاتهم ، في الكلام والفقه والتفسير!
وقد بقي علماء الشيعة متمسكين في تآليفهم وخطابهم بالأسلوب التقليدي فحفظوا مؤلفاتهم وخطابهم لقرنين بعيدةً عن التأثر بالأسلوب الفلسفي اليوناني .
لكن بحلول القرن الخامس حدثت ثلاثة تطورات على أسلوب علماء الشيعة:
الأول ، ظهر على المفييد (رض)الذي كان يعيش في العاصمة بغداد ، حيث رأى أن اللازم أن يكتب علماء الشيعة بأسلوب العصر ، ويردُّوا الشبهات عن المذهب بنفس أسلوبها الذي كتبها فيه علماء السنة في عصره وقبلهم !
من هنا اتجه هو وتلاميذه الكبار كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهم الله إلى التأصيل بلغة عصرهم ، وكان (رض)ينتقد مَن قبله بأنهم اقتصروا على النقل فقلدوا ولم يتعمقوا ولم يحتهدوا !
قال عن الشيخ الصدوق(رض)في مسألة الإرادة والمشيئة: (قال الشيخ أبو جعفر(رض): نقول: شاء الله وأراد ، ولم يحب ولم يرض ، وشاء عز اسمه ألا يكون شئ إلا بعلمه ، وأراد مثل ذلك.
فعلق عليه المفيد(رض)بقوله: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر(رض)في هذا الباب لايتحصل ، ومعانيه تختلف وتتناقض ، والسبب في ذلك أنه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق منها والباطل ، ويعمل على ما يوجب الحجة ، ومن عول في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه. والحق في ذلك: أن الله تعالى لا يريد ) (تصحيح اعتقادات الإمامية ص48 ) .

وقد اشتبه الأمر على المفيد (رض)فإن الصدوق(رض)لم يقل ذلك تقليداً ، بل عمل بأحاديث غفل عنها المفيد ، وهي تجعل الإرادة الإلهية أنواعاً منها الإرادة بمعنى السماح التكويني ، وهذا معنى أنه لايكون شئ في الكون إلا بإرادة.
ففيالكافي:1/150: (عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله(ع): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم ، قلت: وأحب؟ قال: لا ، قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب؟قال: هكذا خرج إلينا).(راجع: تعليق الطباطبائي على الحديث ، والكافي:1/157، والمحاسن للبرقي:1/244، والحدائق الناضرة:13/452 ، وتفسير الميزان:13/74 و: 19/90).

فالملاحظة الأولى على المتجددين ، أن التقليديين أكثر إحاطة منهم بأحاديث النبي وأهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا ما ينبغي ملاحظته عند إشكالاتهم عليهم.
والملاحظة الثانية ، أن المتجددين مع جهدهم المشكور في التأصيل ، واستعمالهم لغة الخطاب العصرية ، إلا أنهم قد يبالغون في الإعتماد على ما أصَّلوه ، ثم يكررونه حتى يتخيل المخالف أن هذا كل دليلهم في المسألة !
وهذا ماحدث في قاعدة اللطف حيث تراها في مؤلفات المفيد وتلاميذه(رض) ،
أبرز ما استدلوا به على بعثة الأنبياء والأوصياء وعصمتهم(عليهم السلام) ، حتى جاء بعدهم الفخر الرازي فتخيل أنه إن رد قاعدة اللطف فقد رد مذهب الشيعة بكامله !
قال في المحصول ص124: (فهذا ما على هذه الطريقة من الإعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولاً وفروعاً ، لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة ، ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع. والله أعلم) انتهى.
طبعاً نحن لانصدق ما زعمه الفخر الرازي ، وقد ظهر شكه هو في تعميمه بقوله( والله أعلم) ، لكنه قرأ للسيد المرتضى والشيخ المفيد فوجد قاعدة اللطف محور استدلالهم على الإمامة والعصمة ، فدبَّج صفحات في مناقشتهما دون أن يسميهما ، وطمع في أن يصدق القارئ كلامه هذا .
ولو وجد أن المحور في استدلالهم الآيات والأحاديث كآية التطهير وحديث الثقلين وحديث علي مع القرآن والقرآن مع علي ، والعشرات من أمثالها ، ، وأن قاعدة اللطف ليست إلا تأصيلاً عقلياً مكملاً للدليل ، لما طمع بذلك !
والنتيجة: أن قاعدة اللطف قاعدة عقلية ، يدرك أصلها العقل ويقطع به ، لكنه لايدرك تفاصيلها ، ولذلك لا بد من الإقتصار في الإستدلال على القدر المتيقن منها ، وعدم تجاوزه إلى الإستحسانات والإحتمالات .
أما ما دل عليه القرآن والسنة من أصلها أو تفاصيلها ، فيرتقي عن كونه استحساناً واحتمالاً عقلياً ، ويكون وحياً من خالق العقل سبحانه.
أما التطور الثاني ، على أسلوب علماء الشيعة ، فهو تأثير احتكاكهم بثقافة الروم عن طريق علماء حلب ، والذي ورثه علماء جبل عامل بشكل خاص .
والتطور الثالث ، تأثير الفلسفة اليونانية بعد أن اجتهد فيها المسلمون وحاولوا إخضاعها لثقافة الإسلام ، واستعملوا أسلوبها في خطابهم ومؤلفاتهم ، واتجاهاتهم العقدية والعرفانية .
ولايتسع المجال لبسط الكلام في صفات وإيجابيات وسلبيات هذه الإتجاهات في أسلوب الفهم والخطاب ، وتأثيرها أحياناً على المضمون .

كيف يلطف الله تعالى بالمعصوم
اتفق علماؤنا على أن النبي(ص)والأئمة(عليهم السلام)معصومون ، عن كل معصية وكل ما يشين شخصيتهم الربانية السامية .
وبحثوا في حدود العصمة ، وأدلتها ، والموارد التي فيها إشكال أو سؤال .
ثم بحثوا في ماهية العصمة فاتفقوا على أنها من فعل الله تعالى ، وبما يحفظ حرية اختياره ومسؤوليته عن عمله.
وعندما تأملوا في كيفية حصولها للمعصوم(ع) ، والوسائل التي يستعملها الله تعالى لتحقيقها ، وجدوها متعددة وأكثرها مجهولاً لنا ، فقالوا إنها ألطافٌ إلهية من الله تعالى لعبادة المكرمين ، وعرَّفوا العصمة بأنها لطفٌ إلهي بالمعصوم يمنعه من الوقوع في المعصية وما يشين .
وهذا موقف علمي صحيح من كيفية عصمة الله تعالى لخاصة عباده(عليهم السلام) ، لكنا لانعدم نصوصاً تعطينا أضواءً مهمة على الوسائل الربانية في العصمة ، منها:

1- ينبغي أن نتذكر السلطة الإلهية والهيمنة الكاملة على كل الوجود ، وهي سلطة أعمق ، وأكثر تنوعاً ، من كل ما نعرف من سلطات .
قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لايَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَهُوَالَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ. (الأنعام:59-62).

وقال تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. (الرعد:10-11).
وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الْغُيُوبِ. (التوبة:78).

وفي حديث النبي وأهل بيته(ص)من تفصيل هذه الآيات وتفسيرها ما يخشع له العقل القلب. قال الشريف المرتضى في الأمالي:2/2: (إن سأل سائل عن الخبر المروي عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت النبي(ص)يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء ثم يقول قال رسول الله(ص)عند ذلك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك. وعما يرويه أنس قال قال رسول الله(ص) ما من قلب آدمي إلا وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالى فإذا شاء أن يثبته ثبته وان شاء أن يقلبه قلبه .
وعما يرويه ابن حوشب قال قلت لأم سلمة زوج النبي(ص): ما كان أكثر دعاء النبي(ص)؟ قالت: كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقالت قلت: يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال: يا أم سلمة ما من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل ، ما شاء أقام ، وما شاء أزاغ. فقال ما تأويل هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟ أوليس من مذهبكم أن الأخبار التي يخالف ظاهرها الأصول ولا تطابق العقول ، لا يجب ردها والقطع على كذب راويها ، إلا بعد أن لا يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل....
ثم استعرض معنى الإصبع وأنها تستعمل بمعان مجازية في لغة العرب وشعرهم ، وقال:(فكأنه(ص)لما أراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقة ولا كلفة ، وإن كان غيره تعالى يعجز عن ذلك ولا يتمكن منه ، فقال إنها بين إصبعين من أصابعه ، كناية عن هذا المعنى واختصاراً للفظ الطويل ، وجرياً على مذهب العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعنى ).انتهى.
وفي قصص الأنبياء للجزائري ص471:(بينما عيسى بن مريم جالس وشيخ يعمل بمسحاة ويثير الأرض ، فقال عيسى(ع): اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع ، فلبث ساعة فقال عيسى(ع): اللهم أردد إليه الأمل ، فقام يعمل بمسحاته ، فسأله عيسى عن ذلك فقال: بينما أنا اعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير! فألقيت المسحاة واضطجعت ، ثم قالت لي نفسي: والله لابد لك من عيش ما بقيت ، فقمت إلى مسحاتي). (وتاريخ دمشق:47/468 ، ومستدرك سفينة البحار:1/185 ، عن مجموعة ورام ).

2- إن كل شخص منا يحيط به بضعة ملائكة يعملون بأمر الله تعالى ، فكيف بالمعصوم؟ قال الله تعالى: إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَئٍْ حَفِيظٌ. (هود:57 ) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ. (الإنفطار:10-12). إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ .(الطارق:4). لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ (الرعد:11).

3- وسائل الفعل الإلهي كثيرة ، وهي أوسع وأعمق مما نتصور ! قال الله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. (الفتح:4) ، وقد ذكر في الآية إنزال روح السكينة على قلوب المؤمنين ، وهي كما في الأحاديث روح خاصة ترافق المؤمن وتوجب اليقين في فكره والطمأنينة في نفسه ، وهي نوع من أنواع جنود السماوات والأرض ، التي تشمل أنواعاً كثيرة من المخلوقات ، والقوى المنظورة وغير المنظورة ، المتصورة لنا وغير المتصورة !

4- من وسائل العصمة أن الله يبعث ملكاً يرافق المعصوم ويكلمه ويرشده ، قال علي(ع)يصف رسول الله(ص):(ولقد قرن الله به(ص)من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره). (نهج البلاغة:2/157).
وفي حلية الأبرار للسيد البحراني:1/34: (قرن جبرائيل بنبيه محمد(ص)ثلاث سنين ، يسمع حسه ولا يرى شخصه ، ويعلمه الشئ بعد الشئ ، ولا ينزل عليه القرآن فكان في هذه المدة مبشراً بالنبوة غير مبعوث إلى الأمة).(عن المناقب:1/43).

5- ومن وسائل العصمة أن الله تعالى يلقي حالة خاصة على شخصية المعصوم من الخشوع والإحساس بوجود الله تعالى ، فيعيش كل حياته حالة استحضار لربه عز وجل وحضور بين يديه ، وكفى بذلك عاصماً له عن معصيته. وتحدث هذه الحالة له في آخر دقيقة من حياة المعصوم السابق (عليهم السلام).
ففي بصائر الدرجات ص497: (باب الوقت الذي يعرف الإمام الأخير ما عند الأول. حدثنا محمد بن الحسين ، عن علي بن أسباط ، عن الحكم بن مسكين ، عن عبيد بن زرارة وجماعة معه قالوا: سمعنا أبا عبد الله(ع)يقول: يعرف الإمام الذي بعده علم من كان قبله في آخر دقيقة تبقى من روحه ). (وروى حديثين آخرين مثله. وروى الكليني في الكافي:1/274، ثلاثة أحاديث ):

وفي بصائر الدرجات ص486: (باب في الإمام متى يعلم أنه إمام. حدثنا محمد بن الحسين عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن الرضا(ع): أخبرني عن الإمام متى يعلم أنه إمام حين يبلغه أن صاحبه قد مضى أو حين يمضي؟ مثل أبي الحسن(ع)قبض ببغداد وأنت هاهنا؟ قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه. قلت: بأي شئ؟ قال: يلهمه الله ذلك.....
حدثنا محمد بن عيسى....قال: بينا أبو الحسن(ع)جالس مع مؤدب له يكنى أبا زكريا وأبو جعفر(ع)عندنا أنه ببغداد وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدبه ، إذ بكى بكاء شديداً ، سأله المؤدب ما بكاؤك؟ فلم يجبه ، فقال: إئذن لي بالدخول فأذن له ، فارتفع الصياح والبكاء من منزله ، ثم خرج إلينا ، فسألناه عن البكاء فقال: إن أبي قد توفي الساعة. فقلنا: بما علمتَ؟ قال: دخلني من إجلال الله ما لم أكن أعرفه قبل ذلك ، فعلمت أنه قد مضى ! فتعرفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر ، فإذا هو قد مضى في ذلك الوقت....
عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن (ع)في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر(ع)فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضى أبو جعفر ! فقيل له: وكيف عرفتَ ذلك ؟ قال: تداخلَني ذلةٌ لله لم أكن أعرفها ). انتهى .

6- أن المعصوم تحدثه الملائكة وتوجهه عند اللزوم ، ففي الكافي:1/271:
(عن محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا الحسن(ع)يقول: الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون..... عن محمد بن مسلم قال: ذكر المحدث عند أبي عبد الله(ع) فقال: إنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص. فقلت له: جعلت فداك كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطي السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام ملك.....
ثم روى عن الإمام الباقر(ع)أن علياً(ع)كان محدَّثاً فسأله حمران:من يحدثه؟ فقال: يحدثه ملك، قلت: تقول: إنه نبي؟ قال: فحرك يده هكذا: أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين، أوَما بلغكم أنه (ص) قال: وفيكم مثله).

7- أن الله يؤيد المعصوم بملك خاص. والأحاديث في ذلك عديدة ، منها ما رواه في الكافي:1/273: (عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع)عن قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان ؟ قال:خلقٌ من خلق الله عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله(ص) يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده...
عن أسباط بن سالم قال: سأله رجل من أهل هيت وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا؟ فقال: منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد ،(ص)ما صعد إلى السماء وإنه لفينا....
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع)عن قول الله عز وجل: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله(ص)وهو مع الأئمة وهو من الملكوت .
عن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله(ع)عن العلم ، أهو علمٌ يتعلمه العالم من أفواه الرجال ، أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب ، أما سمعت قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان؟ثم قال: أيُّ شئ يقول أصحابكم في هذه الآية ، أيقرون أنه كان في حال لايدري ما الكتاب ولا الإيمان؟فقلت: لا أدري جعلت فداك ما يقولون ، فقال: بلى قد كان في حال لايدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب ، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم ، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء ، فإذا أعطاها عبداً علمه الفهم....
عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله(ع)يقول: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممن مضى ، غير محمد(ص)وهو مع الأئمة يسددهم ، وليس كل ما طلب وجد ). انتهى.
وفي الكافي:1/274:(عن سعد الإسكاف قال أتى رجل أمير المؤمنين(ع)يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟فقال له أمير المؤمنين:جبرئيل من الملائكة والروح غير جبرئيل ، فكرر ذلك على الرجل فقال له: لقد قلت عظيماً من القول ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل فقال له: أمير المؤمنين: إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله تعالى لنبيه(ص): أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ، والروح غير الملائكة صلوات الله عليهم ).انتهى.

وفي الكافي:1/271: (عن جابر الجعفي قال: قال أبو عبد الله(ع): يا جابر إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون.(الواقعة:7-11) فالسابقون هم رسل الله(عليهم السلام)وخاصة الله من خلقه ، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء ، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عز وجل ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله ، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عز وجل وكرهوا معصيته ، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون. وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله ، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله ، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون....
عن جابر ، عن أبي جعفر(ع)قال: سألته عن علم العالم فقال لي: يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة ، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى ، ثم قال: يا جابر إن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب...
عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله(ع)قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره ؟ فقال: يا مفضل إن الله تبارك وتعالى جعل في النبي(ص)خمسة أرواح:روح الحياة فبه دب ودرج ، وروح القوة فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال ، وروح الإيمان فبه آمن وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة فإذا قبض النبي(ص)انتقل روح القدس فصار إلى الإمام. وروح القدس لاينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو. والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو ، وروح القدس كان يرى به ). انتهى .

8- قلنا في دلالة الإستخلاص الإلهي على العصمة: وقد بيَّن الله تعالى أنه يستعمل رصد الملائكة لحفظ معلومة عن الغيب يخبر بها رسوله ، فقال: قُلْ إن أدري أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أم يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحداً. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أن قَدْأَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَئٍْ عدداً. (الجنّ:25-28)
والإستخلاص مقامٌ أعظمُ من حفظ ما يخبر به الله رسوله من الغيب ، فلا بد أن تكون وسائل حفظ المستخلص أكثر تفصيلاً من حفظ الغيب المخبر به .

9- وردت أحاديث عديدة في صفات ومقامات للنبي والأئمة(ص)، تُعتبر كل واحدة منها من وسائل الله تعالى في عصمتهم ، صلوات الله عليهم ، ويطول الكلام لو أردنا عرضها ولو إجمالاً ، لذا نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
فمنها: عرض الأعمال على النبي(ص)والأئمة(عليهم السلام)، فقد روى الكليني في الكافي تحت هذا العنوان:1/219، عدة أحاديث ، منها: (عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله(ع)قال: تعرض الأعمال على رسول الله(ص)أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها ، وهو قول الله تعالى: إعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ. وسكت.... عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله(ع)عن قول الله عز وجل: إعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ؟قال: هم الأئمة....
عن عبد الله بن أبان الزيات وكان مكيناً عند الرضا(ع)قال: قلت للرضا(ع): أدع الله لي ولأهل بيتي ، فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة ! قال: فاستعظمت ذلك فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عز وجل: إعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ؟ قال: هو والله علي بن أبي طالب(ع)). انتهى .
وفي الكافي:1/387: (عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله(ع)يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه ، فإذا ولد خط بين كتفيه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عموداً من نور ، يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة ). انتهى .

ومنها: أن الله تعالى أعطاهم من إسمه الأعظم أضعاف ما أعطى غيرهم ، ففي الكافي:1/ 230: (عن علي بن محمد النوفلي ، عن أبي الحسن صاحب العسكر (ع)قال: سمعته يقول: إسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيَّره إلى سليمان ، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفه عين ! وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً. وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب ). انتهى .

ومنها: أن قوة نفس المعصوم(ع)وقربه من الله تعالى ، يجعل رغبته وتوجهه النفسي إلى الشئ كافياً لأن يكشفه الله له: ففي الكافي:1/258: (عن أبي عبد الله (ع)قال: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك ).
ومنها: أنهم أصحاب ليلة القدر الذين تتنزل عليهم الملائكة بأمر الله فيها. ففي الكافي:1/247 ، عن الإمام الصادق(ع)في حديث: (إن ليلة القدر في كل سنة ، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، وإن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله(ص) فقلت: من هم؟ فقال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون ). انتهى .

أقول: وهذا باب واسع ، يفهم منه الكثير من عطاءات الله وأفعاله عز وجل في عصمة أنبيائه وأوصيائهم(عليهم السلام)، وإن كان الكثير منه منه مختصاً بالنبي وآله(ص) لايشركهم فيه غيرهم ، فالمعصومون درجات .

درجات العصمة واللطف بالمعصومين(عليهم السلام)
نص القرآن الكريم على أن الله تعالى جعل مخلوقاته درجات ، وفضَّل بعضها على بعض ، لأسباب وحكم وأسرار يعلمها عز وجل. وهذه أهم آيات التفضيل:

تفضيل بني آدم على كثير من المخلوقات
قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. (الإسراء:70).

تفضيل بعض الناس على بعضهم في الرزق والتكوين
( وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ). (النحل:71).
(وَهُوَالَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ). (الأنعام:165).
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ .وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخرة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ). (الزخرف:32-35).

تفضيل الرجال على النساء
(أَلرِّجَالُ قَوَامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب). (النساء:34).
(وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا ).( النساء:32).

تفضيل المجاهدين على القاعدين
(فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. النساء:95 دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء:96
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. المائدة:54

تفضيل العلماء على غيرهم
(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). (المجادلة:11).

التفضيل في الآخرة أكبر منه في الدنيا
0وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً. (الإسراء:19-21 ).
( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا. (النساء:69-70 ).
( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. (النساء:175).
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَوَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ. (الشورى:22).
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ. كَذَلِكَ وَزَوَجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ .لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (الدخان: 51-57).
(سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. الحديد:21

تفضيل بعض الأنبياء(عليهم السلام)على بعض
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا. (الإسراء:55)

تفضيل بعض الرسل(عليهم السلام) على بعض
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. (البقرة:253).

تفضيل إبراهيم وآل إبراهيم ومن معهم(عليهم السلام)
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. (الأنعام:83-84 )

تفضيل آل إبراهيم عامة
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا. (النساء:54-55 ).
تفضيل داود وسليمان(ص)خاصة
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ علماً وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَئٍْ إِنَّ هَذَا لَهُوَالْفَضْلُ الْمُبِينُ. (النمل:15-16).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. سبأ:10
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. سبأ:11
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. (سبأ:10-12).

تفضيل نبينا (ص)
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ). (الشرح:1-4 ) (إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا). ( الإسراء:87).
( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَئٍْ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ). (النساء:113).
تفضيل آل محمد(ص)
(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). (الشورى:23).  
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ). (الأحزاب:33).
(سَلامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ ). (الصافات:130).
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ). (فاطر:32).

تفضيل اليهود على الأمم المعاصرة لأنبيائهم
(يَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). (البقرة:47 و122) (قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). (الأعراف:140).
تفضيل أمة رسول الله (ص)
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الآمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ). (الجمعة:2-5).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .لِئَلا يَعْلَمَ أهل الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَئٍْ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).(الحديد:28-29). (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ). (آل عمران:73 –74)

عصمة نبينا وآله(ص)أرقى أنواع العصمة
أجمع المسلمون على أن نبينا محمداً(ص)أفضل الخلق عند الله تعالى ، وأنه صاحب لواء رئاسة المحشر يوم القيامة ، وقد روى ذلك جميعهم .
لكن رواة السلطة وقعوا في التناقض ، فرووا ذلك ورووا ضده أيضاً ! وفضلوا بعض الأنبياء على نبينا(ص) كما في البخاري ! وقد بحثنا ذلك في كتاب (ألف سؤال وإشكال على المخالفين لأهل البيت الطاهرين(عليهم السلام)) ، مسألة 137.
فقد امتاز الشيعة بالقول إنه(ص)أفضل الخلق على الإطلاق ، وإن درجة عصمته أعلى من درجة عصمة جميع الأنبياء(عليهم السلام) ، فالأفضلية استحقاق بالعمل وبعمق الوعي والعبودية ، والعصمة استحقاق يتناسب مع مستوى العمل.
ويكفي دليلاً عليه قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى ، فهذه رتبة عظيمة لم تثبت لأحد من الأنبياء(عليهم السلام) ، ومَن عصم الله منطقه عن الهوى فجعله وحياً يوحى ، فقد عصم فعله أيضاً ، أو بطريق أولى ! حيث لا يمكن تصور عصمة لسان أحد عن المعصية والخطأ بدون عصمة بقية جوارحه !
هذا مضافاً إلى الآيات الأخرى ، والأحاديث الصحيحة المتواترة ، التي نصَّت على مقامه الفريد(ص)ودرجة عصمته الخاصة ، ودلت على أن درجة عترته الطاهرين^تلي درجته(ص)مباشرةً .
وقد رواها معنا رواة الخلافة أيضاً ، ولكنهم عملوا على تأويلها أو تضعيفها ، ومنها الحديث الصحيح المعروف: (نحن ولدَ عبد المطلب سادةُ أهل الجنة ، أنا ، وعلي أخي ، وحمزة عمي ، وجعفر بن عمي ، والحسن ، والحسين ، والمهدي). وقد استوفينا مصادره وتصحيحه عند الطرفين في معجم أحاديث الإمام المهدي ×:1/198 ، ومن ذلك تصحيح الحاكم له على شرط مسلم:3/211 .
وينبغي الإلفات إلى أن مقام حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب ، يلي مقام المعصومين من العترة(عليهم السلام) ولا يتقدم على أحد منهم ، كما قد يُتوهم من ظاهر الحديث ، فهما مرضيَّان غير معصوميْن رضي الله عنهما ، والعصمة عندنا مختصة بمن دل عليهم النص النبوي فقط ، وهم العترة ، أو أهل البيت بالمعنى الأخص: علي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي^. وهم المعنى النبوي المصطلح لأهل البيت ، وآل محمد ، والعترة ، في مقابل المعنى اللغوي الأوسع منهم .
ومنها ، حديث النبي(ص) لفاطمة الزهراء(س) ، الذي رواه الصدوق في كمال الدين ص662، عن سلمان قال: (كنت جالساً بين يدي رسول الله(ص)في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة ÷فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها ، فقال لها رسول الله(ص): مايبكيك يا فاطمة؟ قالت:يارسول الله أخشى على نفسي وولدي الضيعة بعدك ! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال: يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة على الدنيا ، وأنه حتم الفناء على جميع خلقه ، وأن الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض إطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبياً ، ثم اطلع إلى الأرض إطلاعة ثانية فاختار منها زوجك ، وأوحى إليَّ أن أزوجك إياه ، وأتخذه ولياً ووزيراً ، وأن أجعله خليفتي في أمتي. فأبوك خير أنبياء الله ورسله ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت أول من يلحق بي من أهلي.
ثم اطَّلع إلى الأرض إطلاعة ثالثة فاختارك وولديك ، فأنت سيدة نساء أهل الجنة وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة كلهم هادون مهديون ، وأول الأوصياء بعدي أخي علي ، ثم حسن ، ثم حسين ، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي ، وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم ! أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي ، وخير أهل بيتي ، أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً. فاستبشرت فاطمة ÷وفرحت بما قال لها رسول الله(ص)...الحديث). (ورواه في شرح الأخبار: 1/122، عن أبي سعيد الخدري ، والطبري في المسترشد ص613، بتفصيلات أخرى..الخ.).
وروت منه مصادر الخلافة فقرات مهمة بسند صحيح ، كالطبراني في الكبير:3/57 والصغير:1/67، وابن عساكر:42/130، والطبري في ذخائر العقبى ص135،وابن الأثير في أسد الغابة:4/42 ، والهيثمي في مجمع الزوائد: 8/253 ، ولم يضعفه أحد منهم غير الذهبي في القرن الثامن ! بحجة ضعف أحد رواته (الهيثم بن حبيب) الذي قال عنه الهيثمي في الزوائد:3/190: وأما الهيثم بن حبيب فلم أرَ من تكلم فيه غير الذهبي اتهمه بخبر رواه ، وقد وثقه ابن حبان).انتهى.
بل وثق الهيثم هذا كبار أئمة الجرح والتعديل عندهم كأحمد وأبي عوانة وشعبة وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم ، كما بيناه في (جواهر التاريخ:1/115) ووقع الهيثمي والذهبي فيه في التناقض أو الكذب !
ونكتفي بهذا القدر في تفضيل نبينا (ص) على بقية الأنبياء(عليهم السلام)، وقد تعرضنا له في مؤلفاتنا الأخرى ، وبينا أن مقام عترته وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) يلي مقامه مباشرة ، بل هو ملحق به ، وجزءٌ لايتجزأ منه.

النبي(ص)وعترته المعصومون(عليهم السلام) منظومة خاصة لا يُقاس بهم أحد
العصمة هي الإمتناع بالله تعالى عن جميع معاصي الله ، على حد تعبير الإمام الصادق(عليه السلام) ، وهي مقام ربانيٌّ عظيم دون شك ، غير أن مقام النبي وآله(ص) أعلى منها بكثير ! ويكفي لذلك قوله تعالى عن نبيه(ص): وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى ، وهي أعلى مرتبة يمكن أن يصل اليها إنسان .
وقول النبي(ص)في الحديث المتواتر عن أهل بيته(عليهم السلام): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. فقد جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، فهم مثله لايأتيهم الباطل ، وهم ورثة القرآن ، وحجة الله في بيانه وهداية الأمة به .
وقد روت مصادر الخلافة قليلاً ، وروت مصادرنا كثيراً ، من الأحاديث التي تكشف عن مقامهم العظيم ، وأنهم مشروع رباني مميز ، منذ تكوين الكون ، وفي مسيرة وجوده ، إلى ختامها بالحياة الآخرة.
ولا يتسع المجال لبحث مفرداتها ولا لعرضها ، فنكتفي بالإشارة إلى أهمها:

1- صحت الأحاديث بأن الله تعالى أول ما خلق أنوارهم(عليهم السلام) من نور عظمته قبل خلق الخلق.
2- وأن وجود المعصوم على الأرض ضرورة ، ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً ، وإلا لساخت الأرض بأهلها .
3- وأن الله تعالى جعلهم واسطة في فيض عطائه على الوجود .
4- وأعطاهم ما شاء من الولاية التكوينية والتشريعية .
5- وفرض ولايتهم على الأنبياء والأوصياء السابقين (عليهم السلام)  .
6- وفرض ولايتهم على هذه الأمة ، فلا يقبل من أحد عملاً إلا بها .
7- وأن دولة العدل الإلهي ستقوم على يدهم ، وتستمر إلى يوم القيامة .

درجة شيعة النبي وآله(ص)في أحاديث الطرفين
بل دلت الأحادث الصحيحة على أن شيعة أهل البيت ومحبيهم(عليهم السلام) ملحقون بدرجتهم يوم القيامة ، ومن ذلك الحديث المشهور الذي رواه أبو داود والترمذي ، وأحمد ، والطبراني وغيرهم ، وهو حديث صحيح لايمكن لأحد أن يطعن في أحد من رواته. وقد رويناه نحن بنفس السند كما في كامل الزيارات ص117: (عن أبي سعيد قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر قال: أخذ رسول الله(ص) بيد الحسن والحسين فقال: من أحب هذين الغلامين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة). (ورواه الصدوق في الأمالي ص299، وغيره) .

ورواه منهم كثيرون كالترمذي:5/305 ، قال: (حدثنا نصر بن علي الجهضمي أخبرنا علي بن جعفر بن محمد بن علي قال أخبرني أخي موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن النبي(ص)أخذ بيد حسن وحسين وقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة. هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه ).
ورواه الطبري في الكبير:3/50 ، والصغير:2/70 ، وابن عساكر:13/195و196، وفي هامشه:مسند أحمد:1/77 ، وأسد الغابة:4/29.
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد:13/289 وقال: قال أبو عبد الرحمن عبد الله: لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي أمر المتوكل بضربه ألف سوط ، وكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة ، ولم يزل به حتى تركه ، وكان له أرزاق فوفرها عليه موسى ). انتهى.
ورواه المزي في تهذيب الكمال:20/354 ، وقال: (رواه عن نصر بن علي ، فوافقناه فيه بعلو ، وقال: غريب لا نعرفه من حديث جعفر إلا من هذا الوجه. وقد كتبناه من وجه آخر عن نصر بن علي في ترجمة الحسين بن علي). انتهى .
(ورواه المزي في:29/360 ، وذكر قصة المتوكل. وأسنده القاضي عياض في الشفا:2/49 ، بنحو القطع إلى النبي(ص)، ورواه كنز العمال:12/103 ، و13/639، عن مصادر أخرى .وأسنده البيهقي في لباب الأنساب:1/ 26 بنحو القطع إلى النبي(ص)).
ورواه الهيتمي في الصواعق:2/406 ، وقال: (وليس المراد بالمعية هنا المعية من حيث المقام بل من جهة رفع الحجاب نظير ما في قوله تعالى: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً).

ورواه الذهبي في سيره:12/135، وشهد بوثاقة رواته ، لكنه رده بخلاً بدرجة النبي(ص)على الذين يحبون عترته ! قال: ( قلت: هذا حديث منكر جداً.... ثم ذكر قصة المتوكل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وقال: قلت: والمتوكل سني ، لكن فيه نصب. وما في رواة الخبر إلا ثقة ! وما كان النبي(ص)من حبه وبث فضيلة الحسنين ليجعل كل من أحبهما في درجته في الجنة ، فلعله قال: فهو معي في الجنة. وقد تواتر قوله(عليه السلام): المرء مع من أحب. ونصر بن علي ، فمن أئمة السنة الأثبات). انتهى.
والعجيب أن الذهبي قَبِلَ أن يكون محب العترة مع النبي (ص) ، ولم يقبل أن يكون في درجته ! وكان عليه كما وسَّع معنى المعية ، أن يقبل توسيع الدرجة !
ولم يطعن الذهبي في علي بن جعفر الصادق(ع) ، لكنه شكك في حفظه بدون دليل ! إلا أنه لم يعجبه حديثه فشكك في حفظه !
كما ارتكب الذهبي تضعيف هذا الحديث في سيره:3/254 ، فقال: ( إسناده ضعيف والمتن منكر). انتهى. ولم يبين سبب حكمه بضعفه ، لأنه لايستطيع أن يضعف أياً من رواته ! فهل هذا إلا هوى !
وتبعه الألباني فضعفه في ضعيف الترمذي ص504 ، والضعيفة 3122 ، وتخريج المختارة392 ، تقليداً بإسم الإجتهاد ، وتعصباً بإسم البحث العلمي!
ومن عسى أن يضعف الألباني والذهبي من رجال رواته ، التي تبدأ بنصر الذي اتفقوا على وثاقته وأنه من أئمة السنة ، عن علي بن جعفر الصادق(ع)الذي هو من رجال الترمذي ، ولم يجرحه أحد من علماء الجرح ، ثم يصل إلى سلسلة الذهب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين قال أحمد بن حنبل عن إسنادهم: ( لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه) !!
قال في هامش مسند زيد بن علي ص440: (أورد صاحب كتاب تاريخ نيسابور أن علياً الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ، لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء وقد شق بها السوق ، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو مسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث ما لا يحصى فقالا: يا أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة ، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك أن نذكرك به. فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلايق برؤية طلعته ، وإذا له ذؤابتان معلقتان على عاتقه ، والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصارخ ، ومتمرغ في التراب ، ومقبل حافر بغلته وعلا الضجيج ، فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس ، أنصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم ، وكان المستملي أبا زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي ، فقال علي الرضا رضي الله عنه: حدثني أبي موسى الكاظم ، عن أبيه جعفر الصادق ، عن أبيه محمد الباقر ، عن أبيه زين العابدين ، عن أبيه شهيد كربلا ، عن أبيه علي المرتضى ، قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله(ص)قال حدثني جبريل(ع)قال حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال: لا إله إلا الله حصني ، فمن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي. ثم أرخى الستر على المظلة وسار ، قال فعد أهل المحابر وأهل الدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفاً. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه )! انتهى .
وقال أبو نعيم في الحلية:3/191 ، بعد أن رواه بتفاوت يسير: (هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيبين ، وكان بعض سلفنا من المحدثين إذا روى هذا الإسناد قال: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق ).
وقال ابن الشجري في الأمالي ص25، والقزويني في التدوين:3/481 ، بعد حديث بسند مشابه: (قال علي بن مهرويه: قال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي: لو قرئ هذا الاسناذ على مجنون لأفاق). وقال الزمخشري في ربيع الأبرار ص673: ( كان يقول يحيى بن الحسين الحسني في إسناد صحيفة الرضا: لو قرئ هذا الإسناد في أذن مجنون لأفاق ).

وقال الإربلي في كشف الغمة:1/134: (هذا الحديث نقله أحمد في مواضع من مسنده ، وهو حديث خطره عظيم ، ومجده كريم ، ووجده وسيم ، وشرفه قديم فإنه جعل درجة محبيهم مع درجته ، وهذا محل يقف دونه الخليل والكليم ، وههنا ينقاد المنقول والمعقول ، وهو(ص)أعلم بما يقول ).انتهى .
وأغرب من الألباني والذهبي: ابن تيمية الذي قال في منهاجه:7/397: (فصل. قال الرافضي: الحادي عشر ، ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته. روى أحمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله(ص)أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة… وأورد عدة أحاديث أوردها العلامة الحلي&في كتابه منهاج الكرامة الذي ألف ابن تيمية كتابه للرد عليه ، ثم قال:
(والجواب من وجوه: أحدها ، المطالبة بتصحيح النقل وهيهات له بذلك !
وأما قوله رواه أحمد فيقال: أولاً ، أحمد له المسند المشهور وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة روى فيه أحاديث لايرويها في المسند لما فيها من الضعف ، لكونها لا تصلح أن تروى في المسند لكونها مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال .
ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات ، ثم إن القطيعى الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات ، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة. وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال ، فهم ينقلون من هذا المصنف فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه احمد نفسه ، ولا يميزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي ، ثم يظنون أن أحمد إذا رواه فقد رواه في المسند ، فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط ، كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما ، بسبب هذا الجهل منهم! وهذا غير ما يفترونه من الكذب فإن الكذب كثير منهم .
وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث ، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به ، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليُعرِّف ويبين للناس ضعفها ، وهذا في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط ، لاسيما في مثل هذا الأصل العظيم.
مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي ، رواه عن نصر بن علي الجهضمي ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر .الخ.). انتهى .

وأول سؤال يرد في الذهن: لماذا افترض ابن تيمية أن راوي الحديث ابن حنبل وحده ؟ ألا يعرف أن له رواة آخرين عديدين ؟!
والجواب: أن هذه عادة ابن تيمية ! فهو يعرف أن للحديث مصادر عديدة غير مسند أحمد ، وأنه لايمكنه تضعيف سنده ! لكنه تصور أن نقل العلامة الحلي له عن مسند أحمد نقطة ضعف ، لأن الحديث من زيادات عبد الله بن أحمد وتلميذه القطيعي على مسند أحمد تحت نظره ، فركز هجومه عليها ! وصوَّر الأمر كأنه: هل كتب أحمد هذا الحديث بيده ؟ أو أضافه ولده أو تلميذه ؟
فلو قلنا لابن تيمية: حسناً ، إعتبره من رواية ابن أحمد أو القطيعي ، فما رأيك فيه ؟ هل تطعن في واحد منهما ، وهل تستطيع تضعيف رواة الحديث ؟!
ثم نلاحظ أن ابن تيمية قال: (فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط ! كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما ، بسبب هذا الجهل منهم ). انتهى .
وهذا يعني أنه قرأ الطرائف لابن طاوس& ، وقرأ العمدة لابن البطريق& ورأى أنهما نقلا الحديث عن مسند أحمد !
أما في الطرائف ص111فقال:( ومن ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده) انتهى ، فقد اقتصر في روايته على أحمد ، ونسبها اليه كغيره من علماء السنة !
لكن ابن البطريق رواه في العمدة في ص274 عن عبد الله بن أحمد عن الجهضمي..الخ. ورواه بعده في ص283، فقال: (ومن الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري في الجزء الثالث في باب مناقب الحسن والحسين(ص)، وبالإسناد المقدم من سنن أبي داود قال: عن علي (ع)قال: كنت إذا سألت رسول الله (ص)أعطاني وإذا سكت ابتدأني وأخذ بيد الحسن والحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات ، كان متبعاً لسنتي كان معي في الجنة ). انتهى .
فقد قرأ ابن تيمية روايته عن الجمع بين الصحاح أيضاً ، فلماذا أهملها ؟!
إنه لايريد أن يبحث بحثاً علمياً ، لافي سند الحديث ولا في متنه ! بل همه أن يفتش عن شئ يتصوره نقطة ضعف ليهرج به ويترك كل ما سواه !
وهو حاضر لذلك أن يطعن في أحمد ومسنده وعبدالله بن أحمد والقطيعي ، من أجل أن يردَّ فضيلة للنبي وعترته(ص)، لمجرد أن عالماً شيعياً استدل بها !

زيادة رزين العبدري عن أبي داود
قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة:2/500: (من أحبني وأحب هذين يعني حسناً وحسيناً ، وأباهما وأمهما ، كان معي في الجنة في درجتي. زاد أبو داود (ومات متبعاً لسنتي). وبها يعلم أن مجرد محبتهم من غير اتباع للسنة كما يزعمه الشيعة والرافضة من محبتهم مع مجانبتهم للسنة ، لا يفيد مدعيها شيئاً من الخير بل تكون عليه وبالاً وعذاباً أليما في الدنيا والآخرة ). انتهى .
أقول: بقطع النظر عن تفسير ابن حجر المتوتر لهذه الزيادة ، فقد أخذها هو وغيره من رزين العبدري ، صاحب كتاب الجمع بين الصحاح ، حيث نسبها هو إلى سنن أبي داود ، ولا وجود للحديث في سنن أبي داود !
قال السيد البحراني في غاية المرام:6/48: (الخامس عشر: الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري في الجزء الثالث ، في باب مناقب الحسن والحسين من سنن أبي داود عن علي ، قال: كنت إذا سألت رسول الله أعطاني وإذا سكت ابتداني ، وأخذ بيد حسن وحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات متبعاً لسنتي كان معي في الجنة ). انتهى .
ونص صاحب البحار:37/76 ، على أن الزيادة من رزين نفسه ، فقد نقل الحديث عن ابن الأثير عن الترمذي ، ثم قال: (وذكر رزين بعد قوله: وأمهما: ومات متبعا لسنتي غير مبتدع ). انتهى.
وكذا السيد المرعشئ في شرح إحقاق الحق:9/178 ، قال: ( رزين العبدري في الجمع بين الصحاح(مخطوط) قال: إن النبي أخذ بيد حسن وحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات متبعاً لسنتي كان معي في الجنة ).انتهى.
وأدق ما وجدناه قول الأذرعي في بشارة المحبوب بتكفير الذنوب ص66 ، بعد نقل الحديث: (رواه الترمذي. زاد رزين: ومات متبعاً لسنتي غير مبتدع).انتهى.
فكيف يصح نسبة الزيادة إلى أبي داود والحديث لايوجد في سننه أصلاً ! وحتى لو قلنا بنقص نسخة أبي داود الموجودة فلا يمكننا نسبة الزيادة اليه ، فيتعين أن تكون لرزين تعليقاً منه على رواية الترمذي ، كما ذكر الأذرعي .
على أن هذه الزيادة لو ثبتت لا تغير من الأمرشيئاً ، ولا تحتمل ما حملها إياه ابن حجر فجعل اتباع سنة النبي(ص)بمعنى اتباع أبي بكر وعمر ! لأن اتباع سنة النبي(ص)لايتحقق إلا بحب أهل بيته(عليهم السلام) ولايتحقق حبهم إلا بطاعتهم دون من خالفهم ، وأخذ سنة النبي(ص)منهم دون ما خالفهم .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page