• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

من أصول المناظرة

 

من أصول المناظرة

للمناظرة أصول، منها أن يلتزم المناظر صفة التجرد، ويقف موقف الحياد، لا يتعصب ولا يتحامل أو يبالغ ويهوّل، ولا يغش ويضلل أو يستجيب لميل أو هوى، ولا يتقصد المباهاة وعرض العضلات أو يتخذ من نفسه معصوماً (الراد عليه راد على الله) أو أستاذاً يلقي الدروس على تلاميذه.
وان قال قائل: هذا محال ومجرد خيال. ومن الذي يستطيع أن ينسلخ من ذاته وعاطفته، وحبه وكراهيته؟. قلنا في جوابه أجل، لا أحد يستطيع أن لا يحب ولا يكره، وإن حرص وبالغ،
ولكن في مقدوره وطاقته أن يزم عطفه وهواه، ولا ينطلق معه من غير فكر وروية تماماً كمن يقهر طبعه على ترك الأكل أو الجنس ـ وهو أقدر الناس عليه وأحوجهم إليه ـ لغاية تدعو إلى ذلك، وكالذي يبتلع غيظه تحلماً لا حلماً أو يخمد حسده بدينه وعقله.
ومنها أن يكون المناظر على علم بالقضية التي يناقشها ويناظرها لأن الجهل لا يكون مصدراً للعلم، قال فيلسوف يوناني قديم: مناظرة العالم بالجهل كمناظرة الجاهل بالعلم. وقال قوم نوح لنبيهم وهو يحاورهم: (إنا لنراك في ظلال مبين) (60 ـ الأعراف) وقال قوم هود لهود (إنا لنراك في سفاهة) (66 ـ الأعراف) وقال مشركو مكة لنبي العقل والعدل والرحمة: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنون) (6 ـ الحجر). ولا برهان بعد هذا الكلام إلا الصواعق أو الحسام.

أنا والمناظرة
ومنذ أكثر من خمسين عاماً ـ وبالضبط من سنة 1925م ـ وأنا مع المجادلات والمناظرات دراسة وتدريساً وقراءة وكتابة ومذاكرة.. درست النحو والمنطق والمعاني والبيان في الكتب القديمة، ثم الفقه وأصول الفقه، وكلها متخمة بـ (ان قلت قلت) وكان الأستاذ، ألبسه الله من ثياب الجنان، لا يكتفي بنقاش الماتن والشارح والمحشي والمعلق حتى يجهد نفسه، ويعصر فكره، ويضيف إلى نقاشهم كل ما يمر بخياله لا لشيء إلا ليدلي بدلوه بين دلاء العلماء.. ووعاء العلم لا يضيق بما جعل فيه خاصة علم النجفيين والأزهريين.
ثم تركت الأستاذ والنجف إلى لبنان، ولكن بقيت في دنيا النقاش والحوار في الكتب والأسفار فقهاً وأصولاً وفلسفة وكلاماً، مطالعة وتأليفاً، ووقفت طويلاً مع المشككين من شباب العصر، والمتعصبين من خصوم الشيعة، والخائنين من عملاء الصهيونية والاستعمار.. وانتهى المطاف بشعوري وإحساسي إلى التقدير والاحترام لمن يجادلني ويناظرني إذا تجاوب عقلي مع حجته ودليله، أو تجاوب عقله مع حجتي ودليلي، أو اضطرني إلى المراجعة واعادة النظر فيما كنت قد ارتضيته وآمنت به، وإلا شفيت غيظي منه بتجاهلي له.
ومن لا يبتغي من النقاش إلا الظهور وعرض العضلات فهو بالوحش أشبه، ومن يقطع الطريق على صاحبه بكلام تافه وباهت مثل هذا فهو أحمق، ولماذا هو مخطئ وغيره مصيب، وكل ما يجري على أحدهما يجري على الآخر مع العلم بأن كلاً منهما من أولاد الذي أكل من الشجرة المعلومة؟. قيل لأينشتين: إن الفيلسوف الفلاني يرفض نظريتك. قال: هو على حق لأن النسبية العامة لا تعرف على حقيقتها إلا بعد سنوات. وهذا هو منطق العلماء حقاً وصدقاً، وشأن الأقوياء الواثقين من أنفسهم.
وكفى بربك عالماً وهادياً، فلقد قال سبحانه للذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر: هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. وقال عن الذين يعبدون العديد من الآلهة: لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن.. وهذا هو الأسلوب العلمي والوحيد في كل المناقشات التي تهدف إلى تسوية الخلافات بصورة سلمية، أما فلتات اللسان أثناء الجدال والنقاش فهي تماماً كتناطح الثيران.
وضمني مجلس مع جماعة من الاخوان، فطرح أحدهم للبحث مسألة فقهية، وما إن أبدى شيخ من الشيوخ رأيه حتى تصدى له شيخ آخر وقال: هذا خطأ!. فأجابه صاحب الرأي: لو كنت
من أهل العلم بكتاب الله لقلت كما قال سبحانه: (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (11 ـ البقرة).
وجرت مذاكرة علمية في مجلس ثان، وأصر أحدنا على رأيه، فقال له عالم متمكن: المرجو أن تراجع المسألة من جديد، وتعيد فيها النظر. فقال له صاحبه: سأفعل لأن قولك هذا هو قول الحق والفصل.
وبعد، فان الجدال والنقاش محك للإنسان في جبلته وأخلاقه كما أنه المختبر لعلمه وعقله.. ولكن العالم أحوج إلى الأخلاق من الجاهل إلى العلم، فمهما انحرف أهل الجهل في سلوكهم فهم أيسر وأهون على الإنسانية مليون مرة من أصحاب الأدمغة الذين اخترعوا ويخترعون أسلحة الفناء والإبادة.

الصفح
كل إنسان يشعر بالمقت والكراهية لمن أساء إليه بطبيعة الحال، ولكن الغيظ إذا استمر تفاقم وارتد أثره على صاحبه المعتدى عليه لا على المعتدي حيث يقلق راحته، وينغّص عيشه، ويذهب بتوازنه، ومعنى هذا أنه قد أساء إلى نفسه بنفسه.. ولا سبيل للخلاص من هذا الشعور المدمر إلا التناسي والصفح، لأنه إن أعلن الحرب على المسيء ولم ينتصف منه لعجزه، عظم الخطب، واتسع الخرق، وشاع الفشل، وتشجع المسيء، وشمت العدو، وعتب الصديق.
وان انتصر عليه فاتته فضيلة الصفح والحلم، بعد أن سنحت الفرصة لها ولم ينتهزها. وروي أن فيثاغورس الفيلسوف الكبير أساء إليه خادمه فضحك، ولما سئل عن ذلك قال: لقد مهد لي السبيل إلى الصبر والحلم. وقال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام؟ فيقال لي: لو صبرت، أو حين أقدر فيقال لي: لو غفرت)). وأيضاً قال: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.
وقال سبحانه: (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم) (4 ـ التغابن) والمراد واحد من العفو والصفح والمغفرة، والقصد من هذا الترادف، التوكيد والترغيب والتنبيه إلى أن الله تعالى يرحم من رحم ويعفو عمن عفا.. وليس الصفح عن المسيء بالأمر اليسير على أبناء آدم إلا أن يكون ذا عقل كبير، وخلق عظيم.. والعديد من الفلاسفة وعلماء النفس يعتبرون الصفح والتسامح أساساً من أسس الحياة الاجتماعية تماماً كالتضامن والتعاون. والبديهة تشهد بهذه الحقيقة.

المعاملة
اشتهر عن الرسول الأعظم(ص) أنه قال: ((الدين المعاملة)) وإذا عطفنا على قوله هذا حديث (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ساغ لنا أن نقول: مكارم الأخلاق هي المعاملة، ويكون معنى الحديثين معاً أنه لا دين ولا أخلاق لمن أساء أو يسيء في معاملته مع أي إنسان كان ويكون.
وقد شاهدنا بالحس والعيان أن الصدق والوفاء رصيد ضخم وثروة كبرى في الحياة الدنيا قبل الآخرة، فكم من صادق مخلص سعت إليه الرياسة دون ان يسعى اليها، وتغلب على أنداده وحساده، وأصبح له صوت مسموع بطيب السريرة وحسن السيرة والعديد من تجار الشرق
والغرب يتجنبون الغش والخيانة، ويلتزمون النصح والأمانة لا لشيء إلا لأنهما متجر رابح.
وقد يقول معترض: ان هذا ليس من الأخلاق في شيء لأن صاحب الاخلاق الكريمة يتصرف بوحي من قلبه وضميره لا بدافع من جيبه ومعدته.
الجواب:
أجل، ليس ذلك من الأخلاق بالنسبة إلى هذا التاجر بالخصوص، ولكن النصح في المعاملة حسن وراجح في ذاته، والغش قبيح ومكروه بالطبع، والمفروض أن هذا التاجر صدق ولم يخدع، فيخرج، وهذي حاله، عن العهدة والمسئولية، ولذا لا يجد في صدره أي حرج من قول قائل: أنت تتاجر بالصدق، بل قد يعلن ذلك صراحة عن نفسه ولا يستحي منه.
وبعد، فان المعاملة الحسنة هي كل شيء ديناً وأخلاقاً، ودنيا وآخرة، أما من يعامل الناس بالغش والكذب والخداع فهو أخزى من الخزي لأنه في صورة إنسان وهو في سلوكه وتصرفه ضد الله والإنسانية، هو مزيج من الغدر والاغتيال، والمكر والاحتيال، ومن كانت هذه حقيقته فعاقبته إلى وبال لا محالة.

التفكير في الرأس واليد
قال الإمام أمير المؤمنين(ع) في وصيته لولده الإمام الحسن (ع): ((من كانت مطيته الليل والنهار فانه يسار به وان كان وافقاً، ويقطع المسافة وان كان مقيماً وادعاً)) وفي الخطبة 186 من خطب النهج: ((ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر)).
ومعنى هذا أن العمر هو الساعات، وما من شك أنه لا شيء أغلى من العمر وأثمن، ولو كان يباع لاشتراه أهل الثراء بكل ثمن.. ولا غرابة في ذلك فكلنا يحب الحياة، ومكان الغرابة أن يفرط أحدنا في ساعات عمره، ثم يحرص على فلسه وقرشه!.. ومن الحكم البالغة: ((الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما)). لو بحثنا عن السر لفشل الفاشلين في هذه الحياة لألفيناه الكسل وعدم الصبر على الأتعاب والصعاب.
ان الحياة تتطلب الحركة بطبيعتها، والإنسان الحي بعزمه وثباته أقوى مخلوق على الحركة والعمل، يقهر الصعاب بارادته وعقله، ويبني الحضارات بنشاطه وعضلاته، ويتقبل القيم والمثل الإنسانية بضميره وفطرته، أما الرجل الساكن الجامد فيتخاذل ويتكاسل، ويتكلف الثرثرة في انتحال الأعذار، ويلقي التبعة والمسئولية على الحظ والأقدار.
وبعد، فلا جدوى من العلم والعقل ما لم تتحرك اليد وتعمل، ومتى عملت شقت الطريق إلى الفوز والنجاح، والعمل يفتح آفاقاً جديدة إلى علوم كثيرة ومفيدة. وقرأت من جملة ما قرأت: ((ان التجربة لتشهد بأن اليد ذاتها عاقلة حاسة ملهمة، وليس من النادر أن يقال عن بعض أصحاب المهارات انهم يملكون الذكاء في أطراف أصابعهم.. إن ثمة أناساً كثيرين قادرون على التفكير في أيديهم)(1).
وقيل: ان هذا يختص بالفن والرسم فقط.. وما من شك أنه أكثر انطباقاً على الفن وخاصة الرسم، ولكن يصح أيضاً أن يكون كناية أو اشارة إلى الصلة الوثيقة ين العلم والعمل، وانها تماماً كالصلة بين العين والرؤية (أنظر فصل حول الأخلاق فقرة علم الأخلاق منه نظري ومنه عملي من هذا الكتاب).
وعلى أية حال ومقال فان الحجر الجامد خير من العاطل المهمل، لأن الحجر لا يستهلك شيئاً، وقد ينتفع به، أما الكسول المخنث فانه يستهلك ولا ينتج، وينتفع ولا ينفع اطلاقاً، ومن كان كذلك فموته خير من حياته، وعدمه خير من وجوده.



(1) في كتاب الإنسان ذلك المجهول للدكتور أليكسيس كاريل: (كل جزء من الجسم يعرف واجباته الحالية والآتية، ويعمل على ضوء معرفته لهذا الجسم.. فالجسم بما فيه يدرك كل ما هو قريب وبعيد) أي ما يطلب منه قريباً كان المطلوب أم بعيدا.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page