طباعة

تأويلات أُخرى في الآية

مما تقدم يتبين أن آية المودة واضحة وصريحة في وجوب محبة أهل البيت عليهم السلام ، وهو المعنى المتبادر من الآية كما ذكره العلماء كالكرماني (1)، والعيني (2) وغيرهما ، فضلاً عن الاَحاديث المفسّرة للآية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وعن جمعٍ من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث (3).
ورغم أن الآية واضحة الدلالة وضوح الشمس في رائعة النهار إلاّ أن البعض حاول إزالة الحقّ عن موضعه متأولاً كلام الله بما تشتهي نفسه مبتدعاً بعض الاَقوال التي لا تستند إلى دليل علمي أو هي قائمة على دليل واهٍ لا يصلح حجة ولا ينهض برهاناً وافياً في بيان المراد من الآية الكريمة ، وفيما يلي أهم هذه الاَقوال :
القول الاَول : قيل إن الخطاب لقريش والاَجر المسؤول هو مودتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقرابته منهم ، وذلك لاَنهم كانوا يكذّبونه ويبغضونه لتعرضه لآلهتهم على ما في بعض الاَخبار ، فأُمِر صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم في حال عدم إيمانهم المودّة ، لمكان قرابته منهم ، وأن لا يؤذوه ولا يبغضوه .
ومستند هذا القول هو رواية عن طاووس قال : (سأل رجل ابن عباس عن قول الله عزَّ وجل : ( قُل لا أسألكم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) فقال سعيد بن جبير : قربى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال ابن عباس : عجّلت ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة فنزلت : ( قُلْ لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) إلاّ أن تصلوا قرابة مابيني وبينكم من القرابة) (4).
وفي هذا القول أمور ، منها :
1 ـ إنّ نظرة أولية لسند هذه الرواية تسقطها من الاعتبار ، ففي سندها شعبة بن الحجاج وهو معروف بالوضع والكذب ، وفيه يحيى بن عبّاد الضبعي وهو من الضعفاء ، كما صرح بذلك ابن حجر عن الساجي (5).
ولم يعقّب الذهبي على كلام الساجي في تضعيفه (6). وفيه محمد بن جعفر (7) وقد ذكره ابن حجر مع من تكلم فيه ، وذكر قول ابن أبي حاتم : (..لايحتج به) (8).
وفيه محمد بن بشار وهو أيضاً ممن تكلم فيه علماء الجرح والتعديل ، وذكروا أنه ضعيف (9).
ومما تقدم يتبيّن أن سند الرواية يدل على أنها ساقطة من الاعتبار ولا تكون محلاً للاحتجاج .
2 ـ إنّ هذه الرواية معارضة لما تواتر من الاَحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكرنا بعضها آنفاً ، ومعارضة لحديث آخر صحيح عن ابن عباس (10) ، وآخر لسعيد بن جبير ، يصرّحان بأن المراد من القربى في الآية هم : (الاِمام علي، و الزهراء، و الحسن، و الحسين عليهم السلام ) (11).
3 ـ إنّ الآية مدنية لا مكية كما جاء في سبب نزولها ، وإنّ الخطاب فيها لكافة المسلمين لا لخصوص قريش .
القول الثاني : معنى القربى في آية المودة التقرب إلى الله ، والمودة في القربى هي التودد إليه تعالى بالطاعة والتقرب ، فالمعنى : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودّوه وتحبوه تعالى بالتقرب إليه .
ومستند هذا القول رواية منسوبة إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « قُلْ لا أسألكم عليه أجراً على ما جئتكم به من البينات والهدى إلاّ أن تتقربوا إلى الله بطاعته » (12).
وفي هذا القول عدة أمور ، منها :
1 ـ إنّ الرواية التي يستند إليها هذا القول ضعيفة السند كما صرّح بذلك ابن حجر (13) .
2 ـ لم يرد في لغة العرب استعمال لفظ القربى بمعنى التقرب .
3 ـ إنّ التقرب إلى الله سبحانه هو محتوى ومضمون الرسالة نفسها ، فكيف يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقرب إلى الله تعالى لاَجل التقرب إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يعقل ولا يرتضيه الذوق السليم لاَنّه يؤدي إلى أن يكون الاَجر والمأجور عليه واحد .
على أن في هذه الآية قولين آخرين هما أبعد مما ذكرناه ، فلا يُعبأ بهما، ومن مجمل ما تقدم يتبين أن المراد بالمودة في القربى ، مودة قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم عترته من أهل بيته عليهم السلام ، وقد تكاثرت الروايات من طرق العامّة والشيعة في تفسير الآية بهذا المعنى على ما بيناه في أول الفصل ، ويؤيده الاَخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليهم السلام ومحبتهم .
وقال الزمخشري بعد اختياره لهذا الوجه : فان قلت : هلاّ قيل : إلاّ مودة القربى ، أو إلاّ المودة للقربى ؟ وما معنى قوله : إلاّ المودة في القربى ؟
قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد ، تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله .
قال : وليست (في) بصلة للمودة كاللام ، إذا قلت : إلاّ المودة للقربى ، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلاّ المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها (14).
إنّ التأمل في هذا التأكيد على ثبوت المودة في القربى وتمكنها فيهم وكونهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، والتأمل في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لارجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه إلى أهل البيت كحديث الثقلين وحديث السفينة وغيرهما ، لا يدع ريباً في أن إيجاب مودتهم عليهم السلام على كل مسلم وجعلها أجراً للرسالة ، إنّما كان وسيلة لاِرجاع الناس إليهم ، لما لهم من المكانة العلمية ولبيان دورهم الرسالي والريادي في حياة الاُمّة .
______________________
1) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري | الكرماني 18 : 80 ، دار الفكر ـ بيروت ط1.
2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري | العيني 19 : 157 ، دار الفكر ـ بيروت .
3) روى حديث نزول الآية في محبة أهل البيت عليهم السلام ستة من الاَئمة المعصومين عليهم السلام وأكثر من عشرة من الصحابة والتابعين ، وورد الحديث في نحو سبعة وخمسين مصنفاً من مصنفات أئمة الحديث . راجع تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات | السيد الميلاني 1 : 236 ـ 239 . والغدير| العلاّمة الاَميني 3 : 172
4) مسند أحمد 1 : 229 و 286 . وصحيح البخاري 6 : 231 | 314 كتاب التفسير . والمطالب العالية| ابن حجر 3 : 368 .
5) مقدمة فتح الباري | ابن حجر العسقلاني : 452 ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ط2 .
6) ميزان الاعتدال 4 : 387 .
7) محمد بن جعفر في رواية البخاري .
8) الجرح والتعديل 7 : 222 . وراجع : مقدمة فتح الباري : 437 .
9) مقدمة فتح الباري : 437 . وميزان الاعتدال 3 : 490 .
10) البحر المحيط 7 : 516 . وذخائر العقبى : 35 . ومناقب ابن المغازلي : 192 | 263 ، دار الاضواء ـ بيروت .
11) ينابيع المودة 1 : 215 ـ 216 | 1 و 2 و 3 .
12) تفسير الرازي 27 : 165 . وفتح الباري | ابن حجر العسقلاني 8 : 458 ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت ط2 .
13) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 458 .
14) الكشاف 4 : 219 .