طباعة

في بيت المختار الثقفي

 لم تكن زعامة الكوفة ولا التلفع بالمكارم العظيمة ولا الإعتصمام بالقبيلة قصرا على المختار بن أبي عبيد الثقفي يومئذ ، فإن في « حاضرة الكوفة » رجالات يكافئون « أبا اسحاق » في العظمة والنفوذ إن لم نقل بأنهم ينيفون عليه ، و إنما وقع اختيار مسلم ـ عليه السلام ـ على المختار حيث عرفه منذ نعومة أظفاره من خاصه البيت العلوي وممن أخلص للعلويين بالمفادات.
 وذلك يوم جاء به أبوه إلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فأجلسه على فخذه وهو صبي وقال له وهو يمسح على رأسه : « يا كيّس يا كيّس » (1) ، فكانت هذه الكلمة من سيد الوصيين العالم بما كان ويكون درسا بليغا للواقف عليها تفيده فقها بما يظهر على يد المختار من مظاهر السداد ، وأفعال ذوي الحجى من الأخذ بحقهم ، وطلب تراتهم مشفوعا ذلك بالجزم والكيس ، و ان هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من مختبئات المستقبل نعرف من تدوين العلماء لها وتحمل روايتها الاهتمام بها ، و أنها اشربت رمز المستقبل وألمعت الى الحوادث التي يقوم بها ، وكشفت حاشية من الستر المرخى على ذلك الستر المصون.
 وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ويحدث بها نفسه ، والأحاديث التي أوردها الشيخ الجليل ابن نما الحلي من أعيان القرن السادس في رسالته « أخذ الثار » تدلنا بكل وضوح على اعتقاد المختار بمغزى تلك الكلمة الغالية التي فاه بها باب مدينة علم الرسول.
 ومن تلك الأحاديث :
 (أ) ان المختار لقي معبد الجدلي فقال له : يا معبد أن أهل الكتب ذكروا أنهم يجدون رجلا من ثقيف يقتل الجبارين وينصر المظلومين ويأخذ بثأر المستضعفين ، ووصفوا صفته فلم يذكروا صفة إلا وهي فيّ غير خصلتين أنه شاب وقد جاوز الستين ، وأنه رديّ البصر وأنا أبصر من عقاب ، فقال له معبد : أما السن فإن الستين والسبعين عند أهل ذلك الزمان شاب وأما بصرك فما تدري ما يحدث الله فيه ولعله يكل.
 فقال المختار : عسى أن يكون ذلك إن شاء الله.
 (ب) إن ابن زياد حبس المختار وميثم التمار وعبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب الملقب « ببه » فطلب عبدالله حديدة يزيل بها بدنه وقال : لا آمن من ابن زياد القتل ، فأكون قد ألقيت ما على بدني من الشعر . فقال المختار : لا يقتلك ، ولا يقتلني ، ولا يأتي عليك إلا القليل . فتلى البصرة وميثم التمار يسمعها فقال للمختار ؛ وأنت تخرج ثائرا بدم الحسين ـ عليه السلام ـ فتقتل هذا الذي يريد قتلنا وتطأ بقدميك على وجنتيه ، فكان الأمر كما قالا ؛ ولّي عبدالله البصرة وخرج المختار طالبا بثأر الحسين (2).
 (ج) سائر المختار المغيرة بن شعبة أيام ولايته الكوفة من قبل معاوية فمر بالسوق فالتفت المغيرة الى المختار يقول : يا لها من غارة ويا له جمعا إني لأعلم كلمة لو نعق لها ناعق لاتبعوه ولا سيما الأعاجم الذين اذا ألقي اليهم الشيء قبلوه ، فقال له المختار : وما هي يا عم ؟ قال المغيرة : يستأدون بآل محمد ، فأغضى عليها المختار (3).
 لم تزل هذه الكلمة تتردد في نفس المختار حتى أصاب لها موقعا فانه بعد ان قتل سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ أخذ ينشر فضل آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ويتوجع لما أصابهم ، وكان على يقين من تحقق تلك البشائر معتقدا أن المولى سبحانه وتعالى سيولّيه تلك المكرمة مؤيدا بالنصر عندما يرفرف على رأسه طائر الظفر ويخفق أمامه علم الفتح.
 هذا هو السبب الوحيد في اختيار مسلم النزول في دار المختار (4) عند ما ورد الكوفة لخمس خلون من شوال (5) وقيل : نزل على مسلم بن عوسجة الأسدي (6) وكان دار المختار تدعى دار سلام بن المسيب (7).
 ولم يكن انتقاله الى دار هاني بن عروة لموجدة وجدها عليه ، و إنما كان ذلك بعد خطبة ابن زياد بعد دخوله الكوفة ، ووقوع الهرج في المصر خشية من بادرة ابن مرجانة ، فارتأى مسلم أن يستبدل بمحله لعله أمنع فان هانيا كان شيخ مراد ومذحج ، وزعيمها المقدم لا يفتات رأيه ، ولا يعصى أمره ، على أنه كان من الرجال المخلصين لآل الرسول ـ عليهم السلام ـ باشر الحروب معهم وحنكته التجارب ، ولكن قاتل الله الخذلان وأبعد الله الكوفيين عن الخير .
____________
1) رجال الكشي ص84.
2) رسالة أخذ الثأر ، وشرح النهج الحديدي ج1 ص110.
3) أنساب الأشراف ج5 ص223 طبع ليدن.
4) إعلام الورى للطبرسي ص132.
5) مروج الذهب ج2 ص86 ، وشرح الشريشي على مقامات الحريري ج1 ص192.
6) البداية لابن كثير ج8 ص152.
7) روضة الواعظين للفتال ص148.